الضّاد (منقول)

السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ،
في الحقيقة أنّ الشّعور بوجود مشكلة خطوة أولى في طريق الحلّ ؛ لذلك – واللغة العربيّة قديما وحديثا – تلاقي حربا أعدّ لها الأعداء كلّ العدّة ، كما أعدّ لحمايتها الحماة كلّ أسباب الحماية تنظيرا وتطبيقا ، تنظيفا وتهذيبا ، تحسينا وتطويرا وتيسيرا ومسايرة لروح العصر ...، وأثناء عمليّة تصفّح لكتاب ( النّظرات لمصطفى لطفي المنفلوطيّ ) لفتت انتباهي نظرة من نظراته لواقع اللّغة العربيّة ، في مقال عنوانه ( الضّاد ) وهو حرف ميّز لغة القرآن ومقياس فصاحة النّاطقين بها . ولعلّ المقام يقتضي الاقتضاب ؛ ممّا جعل ما سيأتي ملخَّصا للمقال المذكور مع كتابة ما يَظْهَرُ مفتاحا بلون مخالف للدّلالة علىالمقصود ، واللّه أعلى و أعلم وأهذى سبيلا ..
كان العرب الأوّلون أحرارا في لغتهم ، يضعون لكلّ ما يخطر ببالهم من المعاني لما يريدون من الألفاظ ، لا يتقيّدون بقاعدة ولا شرط ، ونحن عرب مثلهم تجري في عروقنا دماؤهم ، كما تجري في عروقهم دماء آبائهم من قبل ،فسهمنا في الضّاد سهمهم وحقّنا فيها حقّهم ، فَلِمَ يضعون الألفاظ للتّفاهم والتّخاطب ولا نضعها مثلهم لمثل ما وضعوا وحاجاتنا أكثر من حاجاتهم ، ومرافقنا أوفر عددا من مرافقهم ...؟؟أين باديتهم الخلاء المقفرة الّتي لا يعمّرها إلاّ القليل من الخيام المبعثرة من مدائننا الفاخرة بصنوف الموجودات ؟ أليس من الظّلم المبين أن تضيق حاجانهم عن لغتهم فيتفكّهوا بوضع خمسمئة اسم للأسد ، وأربعمئة للدّاهية ، وثلاثمئة للسّيف ومئتين للحيّة ...؟وتضيق عن حاجتنا ، فلا نعرف لأداة واحدة من آلاف الأدوات الّتي يضمّها المعمل اسما عربيّا واحدا ؟ اللّهمّ إلاّ القليل التّافه من أمثال المسبر والمبرد ، والمنشار والمسمار ؟ أيكون لسفينة البرّ –وهي لا تحمل إلاّ الرّجل ، أو الرّجل ورديفه – مئتا اسم ومئتان من الأسماء لأعضائها وأوصالها ...ولا يكون لسفينة البحر ؟– وهي المدينة المتنقّلة في الماء- القليل من ذلك الحظّ الكثير ؟
فقد كان لعرب الجاهليّة مؤتمر يعقد في كلّ عام بالحجاز بين نخلة والطّائف تعرض فيه الأشعار و الخطب والمساجلات والمحاورات على قضاة و جهابذة تصدر أحكامهم فلا تردّ ؛ ولقد شعروا بضرورة عقد هذا المؤتمر عندما أحسّوا بتشعّب لغتهم بين اليمن والشّام ونجد وتهامة لصعوبة التّواصل في تلك البقاع و بُعد ما بين قاصيها ودانيها فكان مطمح أنظارهم في ذلك المجنمع توحيد لغتهم وجمع شتاتهم و الرّجوع بها إلى لغة قريش الّتي هي أفصح اللّغات و أقربها مأخذا و أسهلها مساغا و أحسنها بيانا .
أيقدر هؤلاء العجَزَةُ الضّعفاء في جاهليّتهم الأولى على ما نعجز عليه نحن ؟ ونحن إلى مؤتمرهم أحوج منهم إليه ؛ لأنّ تشعّب اللّغة في عصرهم لا يمكن أن يبلغ مبلغه في عصرنا بين لغة الأدباء ولغة العلماء ولغة الدّواوين ولغة المتصوّفين ولغة المترجمين ولغات العامّة الّتي لا حصر لها .
إن كان الجاهليّون في حاجة إلى مجتمع لتوحيد اللّغات المتشعّبة ؛ فنحن في حاجة إلى مجتمعات كثيرة ، مجتمع لجمع المفردات العربيّة المأثورة و ضرح أوجه استعمالها الحقيقيّة والمجازيّة في كتاب واحد يقع الاتّفاق عليه والإجماع على العمل به ، و مجتمع دائم لوضع أسماء المسمّيات الحديثة بطريق التّعريب أو النّحت أو الاشتقاق ، وآخر للإشراف على الأساليب العربيّة المستعملة ، وتهذيبها وتصفيتها من المبتذل السّاقط و المستغلق السّافر ، و الوقوف بها عند الحدّ الملائم للعقول والأذهان ، وآخر للمفاضلة بين الكتّاب والشّعراء و الخطباء ، و مجاراة المبرّز منهم والمقصّر ، إن خيرا فخير و إن شرّ فشرّ .
وأرجو أن يتفضّل المطّلع بملحوظاته و لكم الشّكر الجزيل