بسم الله الرحمن الرحيم


هو في سطور مضيئة..

#هو القاص والكاتب والناقد والمفكر الأستاذ الكبير محمود توفيق حسين آل عمر المحافيظ

# ينتسب لإحدى قبائل العرب ببلدة قفط بمحافظة قنا بصعيد مصر .. و بلدة ( قفط ) هذه تكلمت بلغة نصف عربية من قبل الفتح الإسلامي نتيجة لهجرة العرب إليها من زمن بعيد .

# وُلِد بنجع عمر الشرقي بقفط في العام 1968 الميلادي
مال للكتابة وللتفكير بالكتابة منذ طفولته ، ( أود أن أكون كاتبا ) جملة رددها بدءًا من السابعة ، أثارت إعجاب واستعجاب ذويه .

#في سن الرابعة عشر ، عرض عليه مدرس الفصل الاشتراك في مسابقة للقصة على مستوى مدارس المحافظة الإعدادية والثانوية ، وقد تعجَّب المسؤولون من أن يخطف الجائزة طالب في الإعداية على غير المتوقع .


#تخرج من كلية التجارة بجامعة القاهرة ، وشغلته الحياة العملية عن التعبير عن موهبته الأدبية لفترة طويلة ، لكن لم تشغله عن القراءة في عدة مجالات .

#وبجانب الحياة العملية فقد اختار أن يقرأ ويتطور ويحدد توجهاته ، حتى يرضى عن نفسه قبل أن يشرع في التعبير عن نفسه بشكل جدِّي ككاتب إسلامي .

#في العام 2006 الميلادي ، فاز بالمركز الأول في مسابقة موقع الألوكة ( انصر نبيك وكن داعيا ) في فرع المقالة الصحفية عن مقالته ( رسول السلام ) .

#كاتب بموقع الألوكة ، ومشرف قصة بموقع رواء للأدب الإسلامي .
بجانب الإبداع الروائي والقصصي ، يكتب البحث العلمي في الأديان المقارنة ، والمقالة الفكرية والمقالة النقدية الأدبية ، ويفكِّر في طبع أعماله ورقيًا بالسعودية .
له اهتمام خاص بتأسيس ما يسميه ( أدب مكافحة التدخين ) ، يشارك في لجان تحكيم المسابقات القصصية ، وله اهتمام خاص بتطوير السرد القصصي الإسلامي .

#متزوج ، وله ابن واحد هو ( مروان ) ، وبانتظار لمولود آخر . يعمل بالمملكة العربية السعودية بمدينة الرياض ، بوظيفة إدارية ..

شىء من جلال قلمه...






الخبء
محمود توفيق حسين

***


خيالاتٌ من الظل والضوء المشوَّش تهلُّ عليّ فجأة في شرودي وتغمرني، مثلما كانت تهلُّ كلَّ مدَّة، تتحرك حولي حركةً شبحيَّة، وتمرّ من جسدي وتخرج، محملة بوشيشٍ يأتي من بعيد، أسمع فيه ولا أكاد أسمع صوت هدهدةٍ، من هدهدٍ سابحٍ في خلاءٍ مرسلٍ، يَبعث صوتَه في عالم الشهادة، وتلك رائحةٌ معتَّقةٌ للماضي فيها شيءٌ من الصندل وحنوطِ الموت.

عُقِد قِرانُ أختي في الشتاء القديم، أول شتاءٍ أعيه، هناك خلف سور البيت العتيق. هذا خفيت دَردابِ الدُّفوف يأتي من داخلٍ، أقتربُ، أدلف مع الذكرى، في البيت فرحٌ ونساءٌ كثيرٌ يباركْنَ، يُنشدنَ الأناشيد المتوارثة في الحوش الفسيح، وقد اتكأنَ على جذوع النخل الذي يرنو للجالسات تحته ويهزُّ طلعَه. وفي علِّيةٍ، انزوَتْ عروستُنا حياءً، حتى لا يرى الصبيةُ الذين أتَوا مع أمهاتهم زينَتها، فصعد النسوة إليها تباعاً بلا أطفالهن، وأحطْنَها، وصعدتْ عجوزٌ بشوشةٌ في تَؤدَةٍ، ودخلت ونقشت على يديها أزهاراً من الحنَّاء، وهي فيهن كفراشةٍ بين أوراق شجرٍ كثيفة، تراها ولا تراها. ولمّا قُمنَ من على الزَّرابيِّ وانصرفنَ، وتركن من ورائهنّ خلوفاً من الطِّيب، وطنيناً مما يتبقّى قليلاً بعد انفضاض الهرج، صعدتُ أطالع الحنَّاء في يديها، وثوبها الحريري، وأسمع وسوسة حُلِيِّها الكثيرةِ، وقد بدت في الحِليَة خَجْلَى ومرتبكةً.

وأذكر كيف ارتحلتْ في الغد إلى المدينة الإقليمية التي كنت أنطق اسمها مغلوطاً؛ ودّعناها طويلاً عند مدخل البيت حتى استقلّت سيارة (بيجو)، وهي دامعةُ العينين خلْفَ نِقابها، وخلفَ زجاج السيارةِ تُشيرُ لنا. كانت هنا، واحدةً من الغَرَابِيبِ، ذهبتْ من بيتنا وأخذت معها المرح الهذيبَ والحنان وأمومة وُلِدت بها.

أخذتُ أبكي يومها بَعد أن تحركَتِ السيارة وأنا أكاد انفطرُ؛ مِن أجْلِ أختي التي ذهبتْ بعيداً، وأنكرْتُ البيتَ والنخل والجدرانَ العتيقة، ولمْ أتوقف يومها عن الاحتجاج وعن طلبِ الذهاب إليها حتى أضجرتُهم، وذقت مرارةَ الليلة الأولى للفراق، كان صعباً جدًّا.

في الأسبوع الأخير من شهرِ العسل حملَني الخالُ إليها هناك، وكنت طوال الطريق البرّيِّ الطويل متحرقًا لرؤياها بعد هذه الغَيبة، ووجهُها الصبوح يطلُّ عليّ من خلف كل كثيبٍ، وعندَ كلّ شجرةٍ رعويةٍ، وأستمع من عزيف الرّمالِ لشيءٍ مثل وشوشَتِها. أنظرُ للهدايا التي حملناها إليها، وكأنّني أنا الذي جمع هذه الأشياءَ ليهديَها إيّاها ، وعيناي دامعتانِ من الشوق والفرحة. ولم أعدّ شيئًا مما يعدُّه المحبُّ من حديثٍ لحبيبهِ حين يلتقيانِ؛ كانت الكلمات عندي قليلةً، وبسيطةً، وخضراءَ، فقط عندي رغبةٌ في احتضانها، والجلوس في حجْرها، واللعبِ بين يدَيها، ورؤية غمّازتَيها اللّتَين تُنيرانِ وجهَها.

استقبِلتُ أنا وخالي استقبالاً كريماً، وتشبَّثتُ بها أنا طويلاً وجعلتُ اتشمَّمُها وأبكي، حتى هدأتُ قليلاً، وخالي يسألُها: ما كلُّ هذا الحبّ؟!

ووضعتْ أختي بين يديَّ كميةً من الحلوى، آكلُ حيناً، وأقبّلها حيناً. ثم غابت في المطبخ لتأتينا غداءنا فذهبتُ معها تاركاً الرجُلينِ لكلام الرجال، مُسائلَها عن ذهاب الحنَّاء من يديها إلاّ قليلاً، فأجابتْ بان الحنَّاء لطيفةٌ لا تُعمَّر.

بعد الغداء وشرب الشاي، قام الخال لينصرف على أن يعود هو وأمّي بعد أسبوعٍ ليحملَني، فتمسّكَ به العريسُ وأختي كثيراً، إلاّ أنّه أصرَّ على الانصراف، بيْنَا أنا كنت أداري نفسي تحت السريرِ خوفاً من أنْ يطْلبَني للرحيلِ معَهُ، ولمّا مضى تنفَّستُ الصُّعَداء وخرجتُ.

لمّا مضى لحال سبيله، وبدأت أتعرف إلى المكانِ وهذه الأسرةِ الصغيرة، شعرتُ شيئاً فشيئاً بعدها بأنّي ضيفٌ ثقيلٌ على العريس، بدا هذا في عينَيه الصريحتينِ. وأنا أيضاً كنت أستثقله، وأغاظُ منه ومن قربه منها وتلطّفها معَه، وأعجب مِن أبي كيف ترك أختي مع هذا الرجل!

ولأنني غِرتُ منه وهو استثقلَني، انسحبتُ معظمَ وقتي إلى الشُّرفة ذاتِ الطرازِ العتيق، ألعبُ باللُّعَبِ الّتي قدّمتْها لي أختي، وأنظرُ إلى أطواقِ البامية الجافّة التي تخزنها في الشرفة، وواضعاً رأسي حيناً بين برامقِ سُورها، أُطِلُّ على السابلة مِن الطابق الثاني وأتسمَّع لأصوات الباعة الجائلين، وأنظر للمقهى الشعبيِّ وعاملُه يحملُ الطلباتِ الساخنةَ وينادي عليها ويتبادل مع الزبائن كلماتٍ لاذعةً، أو إلى صاحب فرنِ الخبز العصبيِّ الذي لا يكفّ عن السّبابِ ورمي يمينِ الطلاق، منشغلاً بهذا العالم الغريب عنَّا؛ وقد اعتدنا على أن نسكن بين أهلٍ، وهنا مدينةٌ لا نعرفها ولا تعرفنا، هذا العالم الغريب الموحش لي، ولتلك التي لا تعرف الصخب ولا اللِّعان ولا الفظاظةَ، الكتومِ التي كانت تخبِّئ فرحها وحزنها.

ظلِلْتُ مؤمّلاً أن تُفيقَ أختي من غفلتها وألاّ تتوازن بيني وبين هذا الغريب الذي أخذها منَّا، وأن تلفظه والمدينةَ وتلتفت لي وحْدي، وتعود معي لبيت العائلة، والمصطبة الداخلية، وللعُلِّية، وللهداهدِ التي كانت تلتقط الغلال في حوشنا، أتذكرينها الهداهد؟ طبعُها السّترُ والإخفاء، وكانت تألفك أنتِ وحدَكِ، ولا تهرب إذا ما خرجتِ إليهن حتى حين كانت تخبِّئ بيضها، كأنك منهنّ!.. عودي؛ فأنا أنا، وأنتِ أنتِ، ولا بيت إلاّ بيتُنا، فلمَ نتغيَّر؟!.. وصبرتُ منتظراً إفاقتها طويلاً.

بعد ستّة أيامٍ، مرّت وهي تتوازَنُ بيننا، وكلٌّ منّا في عينَيه شيءٌ عن هذا الذي يدور، وهي المسكينة كان عليها أن تتحمَّل صامتةً، وألاّ تُغضب أحداً، سواءٌ أنا الطفل الصغير، أو ذاك الطفل الكبير قريبُنا، اللذان يتنازعانها عاطفيًّا.

حتى رضي كلٌّ منّا بنصيبه، أدركتُ أنا أنّ له منزلةً أكبر ممّا كنت أظنُّ في اليوم الأول، عندما تمنَّيت أنْ تنكره تماماً وتعود لي وحدي، إنه الزوج!. وأدرك هو أنني ضيفٌ، وأنني طفلٌ قبل أي شيء. أدركَ هذا وسلَّم به بعد أن سمعتها تردّ عليه بلطف لمَّا قال لها: الولد يغار مني!:
- أستنزل بعقلك لعقل طفلٍ!.. هذا طفلٌ صغير..
صفعتني كلمةُ (طفل)، وكرهتُها هذه الكلمة،كأنّني لأول مرةٍ أسمعها تقال عني، وشعرت بغصَّةٍ ورغبةٍ في البكاء. ولم تعطني عينايَ إلاّ القليل، هناك في الشُّرفة. ثمّ مسحتُ الدمع، وشرعتُ في تقبُّل الأمر الواقع، وأنا على وجه سفر.

رضينا سويًّا، وهو شعر بأني مغادرٌ بالغد، فأسرف في تدليلي وأُعطياته، حتى لا أحملَ معي انطباعاً سيئًا عنه قد أحمله للأسرة. وربّما صفا لي هو أكثر مما صفوتُ له؛ كيف أصفو وقد أخذها للأبد؟! وسأعود بدونها غدًا معلناً هزيمتي أمامَهُ، بل أمام زوج.

انتابتني نوبةُ قلقٍ بعد منتصف الليلِ رُغم عذوبة النوم في البرد الشديد، قلق المرتحلين، سمعت هسهسةً تصدر من الصالة، كأنّها حديثٌ خافتٌ جدًّا، لكنّ الليلَ حملَهُ. غلبني الفضول، واستفزتني شهوةُ المعرفة. وظلّ الفضول والكسل يتنازعانني، حتى قمت متثاقلاً من تحت اللّحاف الثقيلِ، متشوِّقاً لأعرف فيمَ الهسهسةُ بعد منتصف اللّيل. وأدرتُ مقبض الباب ببطءٍ وحذرٍ متجنباً أن أحْدثَ أيّ صوتٍ، وسحبت البابَ شيئاً قليلاً، وأخرجت منه رقبتي وحدها، وأسندت خدِّي عليه. وزممتُ شفتيّ، ورفعت حاجبيّ، وشعرت بنوعِ إثارةٍ مما أرى:
كانت واقفةً تتهجَّد وفي يديها المصحف تقرأُ منه، وأنا عن يسارها أطلُّ من الباب المفتوح قليلاً ولا تراني، ولو كنت قبالتها ما أظنها قد تلاحظني. طيرٌ بريءٌ أرّقه السهاد في الضوء القليل والغمام، وإسدالُها الفضفاض واسع الكمّين، فإذا رفعتْ يديها لتكبير ثم أخفضتهما، كانت كأنها طيرٌ أقام الليل يجنِّح مسبِّحا للهِ {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. والصالةُ غمرها ضوءٌ غَيرُ الضوء، وفاحَ فيها عطرٌ ليس كالعطر، وغشيتنا السكينة، وشعرت أنني أُغسل بالبَرَد.

انسحبت إلى الغرفة وأنا أنشجُ مثلَها وأكتم صوتي وبكائي كما تكتم، وذقتُ حلاوة الإيمان من قبل أن أعرف ما الإيمانُ، ووضعت رأسي وأنا أشعرُ بأني خفيفٌ جدًّا ومرتاحٌ تماماً وراضٍ كلَّ الرضا، وقد أدركتُ ساعتَها فيم كان يُسرَج القنديل ليلاً بالعُلِّية والناس نيام، الآن عرفت سرَّك، كان لله خبْءٌ واطَّلعتُ عليه، وسأحدِّث به.

استيقظنا جميعاً مبكراً في هذا الصباح الشتويّ. وأعدّت لنا أكواب الشاي بالحليب، وأخذنا نغمس فيها (البقسماط) ونحن جلوسٌ على الأرض، وأنا أراقب البُخار الذي يتصاعد من أفواهنا، وأراقب الصمتَ والعيون، وهذه البسمةَ العجيبة التي ثبتت على وجه أختي في هذا الصباح، وأنا في كنزتي الصوفية التي يكسوها حولَ الرقبة فراءٌ كثيفٌ، وتحتها طاقم النوم من (الكستور)، وهذه الطاقية الصوفية تغطي أذنَيَّ اللّتَينِ لسعَهما الصقيع.

قليلاً، ودخل هو الحمّام وخرج مسرعاً يلبس في عجالة لينزلَ لأوّل يومِ عملٍ بعدَ زواجه، أمّا هي فدخلتْ لتستحم، وأنا جلست على الأرض وقد خبّأت نفسي بالبطانية إلاّ وجهي الذي يبدو منها، وقد أحمرّت وجنتاي تماماً. ناداها أنه نازلٌ الآن، وذهب إلى باب الشقّة وفتحه، ثم أغلقه بعنفٍ وهو بالداخل محْدِثاً صفقةً عاليةً، لم يَخرج... التفتَ إليّ، وغمز لي بعينه الساذَجةِ، وتوجّه إلى خزانة الملابس وفتحها، ثم نظر لي ووضع إصبعَه على فمه لأسكُتَ، وطلبَ منّي أن أتناومَ مكاني، واختبأ خلْف ملابسِها، وأخذ بيديه درفتَي باب الخزانة وردَّهما. وأدركتُ أنه يعدّ لها دعابةً ثقيلةً.

خرجتْ حبيبةُ القلب، تمشِي على مهلٍ، فأسندتُ رأسي على الحائط خلفي وأرخيتُ جفوني قليلاً ممثِّلا للنوم.. كأنّي أراها الآن أمامي. خرجتْ ترتدي البُرْنُسَ الأبيضَ، وخرجَ معها البخارُ، أمالتْ رأسها على جانبٍ، فتجمّع شعرُها في ناحيةٍ، وأخذتْ تضربه بيدها لتنثر منه الماء. كنت أودُّ أن أناديَ وأشيرَ لها لأفسدَ مفاجأته، ولكنّ شيئاً ما عقدَ لساني، فتركتُ الأمور تأخذ مجراها؛ خوفاً من أنْ أفسدَ اللعبة.. أخذتْ تقتربُ شيئاً فشيئاً وهي تبتسم لي، وأنا أبدو أمامها وكأنّي نائمٌ في جلسَتي، وقلبي الصغيرُ يتحرّكُ استعداداً لوقْع الدُّعابة، حتى وضعتْ يدَها على باب الخزانة لتأتي بملابس، فخرجَ لها خبْءُ الشيطان وقفز في وجهِها وقال: ها..!

فشهقتْ شهقةً عظيمةً، ووقعتْ على الأرض. ارتَمى عليها الرجُل يحاول أن يُفيقها، وهو ينادي فيها بصوتٍ أخناهُ النّدمُ، ثمّ أخذَ يهزُّها ويصفعُها. و أنا انخلع قلبي وتقافز في صدري، وبللتُ ثيابِي من الفزع، وجفّ حلقي، وثقلتْ رجلاي فلم أستطع أن أقوم، وحاولتُ ثمّ لم أستطع أن أقوم، ثم إني حاولتُ ولم أستطع، فأخذتُ أهز دماغي عاجزاً، كمن ضُرِب على أمّ رأسه.. أخذَ يصرخ بعد أن وضعَ يده على مِعصمها ليجسّ نبضها:
- ماجدةُ ماتت.. ماتت.

لم أشأ أن أصدّقه، قمتُ بصعوبةٍ وخلّصت نفسي من البطّانية التي شعرتُ من انهيار أعصابي وخوارِ أعضائي أنها شبكةٌ معقَّدة، وأخذتُ ألمس وجهَها وأنا أبكي: قُومي يا ماجدةُ.. قومي.. حرام عليكِ..! قومي.. قومي.

ثم انهرتُ وخبأت وجهي في وجهها وشعرِها طويلاً. بلّل شعرُها وجهي، وبللتها دموعي.

غاب الشتاء هذا، لم يبقَ منه إلا تلك الخيالات، وصورةُ أمي المسكينةِ التي أتتْ ضحًى، وكادت أن تُجنَّ وهي تنظر لبنتها العروسِ الميْتةِ وتقول وهي تضحك:
- مبروك.. مبروك يا ماجدة.. اللهم صلِّ على النبي.. قمرٌ.. قمر!!
حتى اصطكّت أسنانها، وارتعدت ركبتاها، فحملتها امرأتانِ من جناحيها حتى أضجعتاها وهي بين العقل والجنون.

مضَتِ السّنونُ، وعاشَ معنا هذا الجرح الذي لا يندمل مِن دعابةٍ، دعابةٍ روَّعت أختي فقتلتْها، فكسرتْ ظهورنا. وتكهَّل الأطفالُ وشابَ شعرُ الصَّبايا والفتيان، ومات من مات، ولازالت ماجدةُ كما كانت، تطل عليّ شابّةً مِن ممرٍّ يغشاهُ الضبابُ وهي تُميل رأسَها وتضربُ شَعرَها بيدِها باسمةً.