أرسطـــــو عندمـا قولــــب نظرية التراجـيــــــدي اعتمـــــد شعــراً كتب منذ آلاف السنين
الشعر الصافي أمل ابليس في الجنة ولا أعرف كيف نصل لشعر متجرد عن الذات والموضوع؟!
الماغوط في "حزن في ضوء القمر" قارب كثيراً الشعرالصافي؟!
زمن عمالقـــة الأدب انتهى وأدونيس في تنظيراتــــه أســـــاء كثيــــراً إلى نفســــه؟!
سعدي يوسف شعـره جميـــل جـــــداً وإذا كان هذا رأيــــه فلمـــــاذا يكتب الشـــــعر؟!
نازك الملائكة لم تخرج عن التفعيلة
وما حصل معها في قصيدة الكوليرا لا يتعدى الخطأ غير المقصود؟!
لا أجامـــــل أبــــــــداً.. ولســـــــت نادمــــــــاً على المقدمــــــــة التي كتبتهــــا لأحـــــد طــــلابي؟!
طه حسين لم يكن ناقداً ودراسته للشعر العذري اعتمد فيها على نظرية "الشك" لديكارت؟
السيـــادة للنص أولاً وما يقـــــال حوله يأتي في المرتبـــــة الثانيـــــة!!
مخطوط عربي قديم لايتواجد إلا في الجامعة العبرية... هذه صفعة للمثقف العربي ؟!

ذات يوم اتصل جبرا ابراهيم جبرا بالدكتور عبد الواحد لؤلؤة، وطلب منه أن يقرأ مقالة كتبت على أنها تحليل بنيوي لشعر عبد الوهاب البياتي، في إحدى الدوريات العراقية المتخصصة، وعندما أجابه لؤلؤة بأنه قد قرأها، ضحك جبرا وقال وهل فهمت شيئاً؟! قال لؤلؤة لا، وهل فهمت أنت شيئاً، قال لا!! تبادلا ضحكة مليئة بالأسى وأقفلا السماعة على قناعة مفادها: أنه إذا كان هذا حالهما وهما المختصان في هذا المجال، فما هو حال القارئ المسكين الذي عليه أن يفهم هذه الطلاسم؟!
من هذه الحادثة العميقة في مدلولاتها أردت لحواري مع الدكتور لؤلؤة، أحد أعمدة النقد العربي الحديث، أن يمتد ويتشعب ليطال ذاكرة عمرها تجاوز نصف قرن، كانت شاهدة على أحداث كثيرة وشخصيات ثقافية مهمة عبرت تاريخنا العربي، مشكلة ذاكرة جيل بأكمله..
< قلت للؤلؤة ما حصل بينك وبين جبرا بخصوص نقد شعر البياتي، ذكّرني بقول لزكريا تامر" النقد منوّم والنقاد نائمون"؟!
<< في كلام تامر الكثير من الحقيقة.. لأنك عندما تأتين بكلام مستورد من الخارج وتلبسينه للنص، ما الذي سيحصل حينها غير أن يضيع النص وتضيع النظرية، فهل من الضروري مثلاً لكي أحلل نصاً للجواهري أن أستشهد "برولان بارت"؟! هذا كلام فارغ!! فالنص سابق على النقد، وبتدقيق بسيط نرى أن من كتب في النقد في القرن الرابع الهجري قد أخذ أمثلته من الشعر الجاهلي وما بعده، هذا في تراثنا العربي، أما عند الغرب، فإذا عدنا إلى أرسطو نجد أنه في كتابه " فن الشعر" قد استند في دراسته إلى شعراء أتوا قبله كهوميروس، وسوفوكليس، واسخيليوس، وسافو شاعرة الإغريق الجميلة، وكذلك عندما قولب نظريته التراجيدي فقد اعتمد على نصوص شعرية كُتبت منذ آلاف السنين.. ما أود قوله: إن النقد يأتي بعد النص وهو ابن عم "النقر" حيث الناقد هنا يعمل كخبير الدراهم الذي ينقرها ليرى كم فيها من ذهب وكم فيها من شوائب!!.. ولكن دون أن يحاول إقحام النظرية على النص، لأن مهمته كدارس للنص تتحدد في إضاءة جمالياته مع تبيان العيوب التي تعتريه, وكل هذا يدعمه المهاد الثقافي للناقد.. مثلاً لا يمكننا الحديث بذكاء عن "مالارميه" دون أن تكون لدينا ثقافة كافية عن شعراء فرنسيين أو أوروبيين سابقين لهذا الشاعر.
< إذاً كما يقول المثل الفرنسي " النمر خراف مهضومة"؟!
<< يضحك ويقول بالطبع، وإلا كيف أصبح ( نمراً) لولا الخراف الكثيرة التي أكلها؟! فالناقد لا يصبح ناقداً إلا إذا كان قد قرأ كثيراً واستوعب ما قرأه، وهنا يحضرني ما قاله الشاعر الانكليزي ماثيو أرنولد في القرن التاسع عشر في بحث مطوّل تحت عنوان " دراسة الشعر" وضعه في مقدمة إحدى مجموعاته الشعرية، يقول فيها: إن على الشاعر أن يكون ملماً بما كُتب من أفضل الشعر من "هوميروس" حتى وقته الحالي، وأن يتخذ من "المحك" حجر الفيلسوف مقياساً لفرز رديء الشعر عن جيده..
< هذاالكلام يقارب ما قاله الشاعر الانكليزي ت.س اليوت في مقالته "التراث والموهبة الفردية" والتي قال فيها: ان على الشاعر الذي يريد أن يبقى شاعراً بعد الخامسة والعشرين من عمره، عليه أن يكتب وفي دمه أفضل ما كُتب من شعر من هوميروس إلى زمنه الحالي وبلغاته الأصلية بالإضافة طبعاً إلى ما كُتب في لغته هو؟
<< هذا صحيح لأن اليوت قد أتى بعد أرنولد مباشرة أي عام /1882/ ويعتبر أكثر من تمثّل نظريته في قراءة من سبقوه من الشعراء، وإذا عدنا إلى حياة هذا الشاعر، أقصد اليوت، نجده قد درس في أهم الجامعات العالمية التي تدرّس الأدب والفكر، كهارفرد، ومالبورن، والسوربون، كما درس الفلسفة الصينية والأدب الصيني، إضافة للغة السنسكريتية التي برر دراسته لها لكونها تمثل أول أمثلة الفكر الفلسفي في العالم.. لقد عاد اليوت إلى أصول الأدب بلغاته الأم، وإذا تذكرت ملحمته المشهورة " الأرض الخراب" تلك القصيدة التي نشرها عام /1922/ ستجدين أنها مجرد انعكاس لهذه الرؤية.. لقد ترجمت هذه القصيدة وقدمت دراسة لها عام /1980/، قدمتها للمثقف العربي على طبق من فضة مع الكثير من الشروح والتفسيرات والتعليقات، ولأهميتها فقد طُبعت للآن ست مرات رغم مرور أكثر من ربع قرن عليها..
< هذا الواقع، أقصد ثقافة الشاعر الشعرية، الذي يكاد يغيب عن عالمنا العربي حالياً، هل كان الدافع وراء قولك في أحد حواراتك بأن "زمن عمالقة الشعر العربي قد انتهى"؟!
<< للأمانة .. أنا قلت بأن زمن عمالقة الأدب العربي وفراعنته انتهى، وبالنسبة للشعر فقد قلّ عددهم كثيراً.. خذي مثلاً في سورية: كان هناك عمر أبوريشة، بدوي الجبل، وكان هناك نزار قباني أكبر شاعر معاصر على مستوى العالم العربي كله، وفي المغرب العربي لم نسمع سوى بأبي القاسم الشابي، هذا الشاعر الذي لم يتواجد حوله من يوازيه أو يقاربه في مكانته الشعرية، وربما كان هذا أحد أسباب " عملقته" وفي لبنان هناك سعيد عقل، في فلسطين محمود درويش وسميح القاسم، في العراق كان هناك في الستينيات والسبعينيات ضوءان كبيران محمد مهدي الجواهري وأحمد صافي النجفي هذا الشاعر الكبير الذي لم يُعط حقه!!
وللأسف فإن معظم هذه القامات غاب أو أوشك بسبب التقدم في العمر والساحة الشعرية العربية تكاد تصبح خالية من هكذا عمالقة..
مع احترامي لكمال أبو ديب؟!
يرى الدكتوركمال أبو ديب أن أهم نتاج نقدي عربي كان وليد النصف الأخير من القرن العشرين في حين يرى د. لؤلؤة أن أهم تراث نقدي عربي كان في القرن الرابع الهجري مؤكداً في مناسبات كثيرة أنه لايوجد - بالمعنى الدقيق للكلمة - من يُصنّف من بين العرب المعاصرين على أنه ناقد، فكيف نقرأ هذا التناقض بين كلا الناقدين!! يقول لؤلؤة:" مع احترامي للدكتور كمال أبو ديب، فإن كلامه غير صحيح، وقد كنّا زملاء في الجامعة الأردنية، وأسأله هل ما كُتب من دراسات نقدية في القرن العشرين هي صنعة نقاد؟! أقول لا.. لأن ليس لدينا في العصر الحالي من يمتلك نظرية نقدية خاصة به.. ونحن إذا عدنا إلى ابن سلام الجمحي، وقدامة بن جعفر مثلاً سنجد أن لديهم نظريات نقدية تحدثوا فيها عن التخييل مثلاً، عن الصدق والكذب، وعن أشياء أخرى كثيرة.. لكن في القرن العشرين لم يظهر أي صاحب نظرية نقدية، فحتى عميد الأدب العربي طه حسين اعتمد في دراساته النقدية على نظرية ديكارت "في الشك" طبّقها مثلاً على الشعر الجاهلي ليصل إلى الحقيقة، حقيقة وجود الشعراء العذريين، أو حقيقة الشعر المنحول.. من هنا ترين أن طه حسين على عظمته لم يكن ناقداً، لكنه عندما تكلّم عن الشعر العذري أو المنحول، كان كلامه منطقياً جداً..
< تحضرني هنا ذكرى ديك الجن الحمصي، هل قصيدته في حبيبته " قولي لطيفك.." يمكننا اعتبارها شعراً منحولاً؟!
<< بالطبع.. وهذه القصيدة جميلة جداً كتبها لحبيبته التي أحبها إلى حدّ الجنون فقام بإحراقها ووضع رمادها في كأس وبدأ يشرب منه حتى ثمل ومات، ونحن لا نعرف إن كانت هذه أسطورة أم حادثة حقيقية ، وهل هو من كتب تلك القصيدة التي خلدت الجارية أم لا؟
انظري لهذا الكلام الجميل:" قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام / كي استريح وتنطفئ نارٌ تأجج بالعظام../
وفي الأدب العربي قصائد كثيرة منحولة تضاهيها جمالاً كقصيدة "اليتيمة" تقول أسطورتها بأن امرأة من نجد بالغة الحسن، كانت قد أعلنت أنها لن تتزوج إلا بمن يصفها شعراً أجمل وصف، وقد كتبت ذلك على طرف ثوبها، ولم يكن دارجاً يومها أن تعلن المرأة عن رغبتها في الزواج، يضحك ويقول الوضع الآن تغيّر وبتنا نقرأ يومياً الكثير من إعلانات الرغبة في الزواج على صفحات المجلات والجرائد.. على كل حال فقد تبارى الشعراءللفوز بهذه الحسناء، ومن بين هؤلاء شاعران التقيا في حانة، فأسمع أحدهما قصيدته للآخر وكانت مدهشة في وصفها لجسد المرأة رغم كونه لم يشاهدها قبلاً، ويبدو أن هذه القصيدة أعجبت كثيراً الشاعر الآخر فقام بقتل صاحب القصيدة وسرقها منه، ليذهب في اليوم الثاني إلى منزل الحسناء ليلقي قصيدته، ولكن ما أن قال : "إن تُتهمي فتهامة بلدي.." حتى صرخت المرأة من الداخل، هذا قاتل زوجي، لقد عرفته من لهجته أنه ليس من "تهامة".. قد تكون هذه القصيدة أسطورة ولكن من الذي صنعها!! أو منحولة من الذي نحلها؟! أعتقد أن هذا غير مهم، إذ ما يهمنا هو النص الأصلي وليس قائله.. جميع المؤلفين يموتون في النهاية.. شكسبير مات وبقي نصه حياً نابضاً على مدى مئات السنين..
< نفهم من كلامك أنك كناقد لا تعير أهمية للمهاد الفكري للشاعر؟!
<< لا .. ليس بالضبط، ما قصدته أن النص أولاً، ثم المهاد الفكري، لأنني أحاكم النص وليس صاحبه، أي السيادة للنص..
< لكن هل يمكن أن نفصل النص عن صاحبه، أقصد حتى نقاداً مهمين كالدكتورة يمنى العيد عندما أرادت تطبيق البنيوية، حاولت تطبيقها مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي و..و ..لكاتب النص؟!
<< أسألك كم هذا يضيء النص؟!يعني لا د. يمنى العيد ولا غيرها إلا أشخاص أعادوا تقديم نظريات غربية كنوع من التماهي مع الغرب، وأذكر هنا أن أحد " أدعياء البنيوية" قال بأنه طوّرها وأن «مسيو» لم أعد أذكر اسمه" في باريس قال له بأننا نحن من أنتجنا البنيوية وأنك أنت من طوّرها.. هذا الكلام فارغ!! لأن هذا الشخص عندما تكلم عن " البنيوية" في أكثر من كتاب لم يفهم عليه أحد!!
< لماذا برأيك غاب عنّا حالياً الناقد العربي صاحب النظرية النقدية الخاصة به؟!
<< يمكن لكوننا استنفدنا الإمكانات النقدية.. لكن هذا لا ينفي وجود كتّاب دراسات نقدية ممتازين كالدكتور جابر عصفور الذي حاول أن يطبق نظرية الجرجاني على النص الشعري بالإضافة لدراسته للنظرية البنيوية ومحاولة تطبيقها، لكن لا أعتقد أن د. عصفور قد يتبادر لذهنه ولو للحظة أن يقول مثلاً:" أنا رب البنيوية في الشرق الأوسط كما فعل صاحبنا دون ذكر أسماء..
< ما رأيك بتنظيرات أدونيس؟!
<< " تلك بضاعتنا ردت إلينا!!.. "يا ريت يعطوه جائزة نوبل ويخلصونا".. لأن هذا همه الأكبر.. أدونيس لا يمتلك نظرية نقدية، هو قرأ نظريات غيره وحاول تطبيقها على شعره أي مثل " الذي طبخ طبخة وقال هكذا تؤكل".. للأسف لقد أساء أدونيس إلى نفسه من خلال تنظيراته التي هو في غنى عنها، وأذكر هنا أنه حين كتب عن قصيدة النثر في مجلة "شعر" تبين فيما بعد أن كل ما كتبه مسروق من كتاب سوزان برنار من " بودلير إلى أيامنا هذه," وكان سامي مهدي -وهو شاعر ومترجم- قد قرأ صدفة هذا الكتاب فاكتشف السرقة، وهكذا كتب عنها فاضحاً أدونيس.. هذا عيب لأن أدونيس شاعر كبير وليس بحاجة لأن يسرق.. إن شعر أدونيس يرغمك كقارئ على إعمال الذهن والتفكير ولا يعود المرء يسأل عن الوزن والقافية لأن فيه منهما الشيء الكثير، فيه إيقاع عجيب، وصور وأخيلة بشكل مذهل وهذا هو الذي يصنع الشعر يقول:
متدثراً بدمي أسير / تقودني حمم/ ويهديني دخان/.. هذا كلام غير مسبوق وجميل جداً بعكس تنظيراته البالية..
< بعض النقاد يرونه قد توقف عند " مهيار الدمشقي"؟!
<< هذا " تجني"، هو شاعر كبير ومستمر حتى الآن، وأعتقد أن وراء هذه الآراء تقبع أسباب شخصية.. بعض الأشخاص لا يحبونه، لكن ما يهمني أنا هو النص وليس صاحبه.
< من هو الشاعر " الخلاّق" برأيك؟ !
<< هو الشاعر الذي يستوعب البيت الشعري، ويستوعب الفكرة ويخرجها ثمرة جديدة.. مثلاً أغلب الشعراء تحدثوا عن الحب، عن الروح، عن التقرب لله، لكن هناك فرقاً بين شاعر وآخرٌ، فثمة من استطاع بلغة بسيطة أن يوصل ما يريد خذي مثلاً الشعرالصوفي: رق الزجاج ورّقت الخمر/ وتماثلا فتشاكل الأمر.. فكأنما خمرٌ ولاقدح/ وكأنما قدحٌ ولاخمر, هذه لغة ذات صفاء مطلق ليس فيها جناس أو طباق, بل بساطة.. هذا هو الإبداع في الشعر..
ولكن لكي يحافظ الشاعر على إبداعه عليه أن يقرأ ويقرأ وأن يطّلع على تجارب الثقافات الأخرى وكذلك عن طريق الانخراط بالحياة بشكل كبير.
< كثيراً ما نسمع ان « العراق ينبوع الشعر» .. لماذا برأيك؟!
<< لأن الكلام «العادي» في العراق هو شعر... ففي عام /1985، استضاف العراق وفداً مصرياً يضم ادباء وصحفيين، وكان بينهم ناقد اعرفه لا أريد ذكر اسمه، طلب مني راجياً مرافقته الى النجف، وعندما طلبت تفسيراً، قال: لأن بها /300/ شاعر وهي بلدة صغيرة، فاعتذرت منه، وهكذا ذهب برفقة زملائه، وعند عودته مساءً.. قال ياناس أكاد أجن« يقولون إن بها 300 شاعر «دي فيها مليون شاعر» وبدأ يحكي لنا كيف دخل الى السوق العتيق في النجف قاصداً مقام الامام علي « الذي لا يسأل عن منائره لأنها ظاهرة للعيان» فاقترب من بائع تمر فقير وسأله ممازحاً عن المقام فقال له : أمامك فاختر أيّ نهجيك تنهج/ طريقان شتّا مستقيم وأعوج/... واشار له بيده على المقام فذهل الرجل من انسيال الشعر على لسان هذا الرجل البسيط ، ولا يقتصر تواجد الشعر بهذه الكثرة على النجف فقط بل يتعداها الى مناطق العراق كلها، خذي مثلاً منطقة الاغوار فالناس فيها «يكادون يتكلمون شعراً» واذكر انه في الخمسينيات ظهر فيها شاعر امي اسمى نفسه بودلير العراق وكان عامل بناء قام باصدار مجموعة شعرية يصف المرأة بشكل فاحش وقد حوكم على ذلك، ولم تنقذه الا شهادة الجواهري به بأن ما كتبه هذا الرجل هو شعر جميل ...
< هل صحيح ان مشكلة الجواهري مع السلطة كانت لاعتقاده ان النظام الملكي هو افضل وسيلة للحكم في العراق ؟!
<< رحم الله هذا الرجل ، لقد بقي ملكياً حتى آخر ايامه ، وقد طورد وحورب كثيراً لاعتقاده هذا ، واذكر - وقد كنا شباباً- أنه قد كتب قصيدة رائعة الجمال في ذكرى مولد الملك فيصل الثاني يوم /4 نيسان/ وكان وقتها مديراً للبلاط الملكي قال فيها:
ته ياربيع بزهرك العطر الندي / وبصنوك الزاهي ربيع المولد/ ما كان إلا أن جعلتك مقصدي / حتى هوت عزر النجوم على يدي /.. فرد عليه شاعر نجفي يكره النظام الملكي بقوله:
صه يارقيع فمن شفيعك في غدي/ فقد صدأت وبان معدنك الردي/ لو مت قبل اليوم كنت مخلداً/ مت بعد هذا اليوم غير مخلد...الخ
وأذكر اننا كجيل شاب قد حفظنا القصيدتين عن ظهر قلب ... لقد كان الجواهري شاعراً عظيماً يعتقد ان النظام الملكي هو الانجع لقيادة البلاد... إنه شاعر عظيم مدحه يوماً طه حسين في مهرجان المعرة الشعري على إثر قصيدة ألقاها بتلك المناسبة قائلاً: « صدق الرسول الكريم إن في البيان لسحراً».
< هذا المناخ من الانتقاد الادبي المتبادل لم يعد موجوداً لأنه سرعان ما يتحول أي انتقاد الى هجوم شخصي يطال عقيدة المرء وانتماءه الديني وليس فكره كما كان سابقاً وهذا ما حدث منذ مدة بين كل من عابد الجابري وجورج طرابيشي حيث تحول الانتقاد الى تهجم يطال انتماء طرابيشي الديني ؟!.
<< للأسف هذا شيء يحدث فعلاً ، ولكنه يتعلق بشكل اساسي بشخصيتي الناقد والمنقود ، فأنا لا يمكنني تغيير لا الجابري ولا الطرابيشي، كل شيخ بطريقته الا ان هناك من يبين العيوب بشكل جميل وهناك من لا يفعل، ..هذا مرهون بطبيعة الشخص!!
كل المثقفين استفادوا من جبرا؟!
من علاقته بجبرا ابراهيم جبرا يمتد بحر الذكريات، ذكريات مملوءة بالحب ، والتقدير لهذا الرجل ، الذي كان في الخمسينيات محرك الثقافة العربية الاول، فلسطيني مشبع بالثقافة الاوروبية، رسام من الطراز الاول وكاتب دراسات نقدية كثيرة عن مختلف الفنون من الرسم الى الشعر والرواية... الخ، ليشكل ما يشبه الموجه الاول لكل من عاصره في تلك الفترة، يقول لؤلؤة: اول من استفاد من جبرا كان بدر شاكر السيّاب...
< أقاطعه- هل صحيح انك قلت ان السيّاب محدود الثقافة؟!
<< هذا صحيح ..لقد كان محدود الثقافة، إلا ان موهبته الشعرية كبيرة جداً، ولأن موهبته مميزة استطاع ان يستفيد من مصادر الثقافة التي تيسرت له... كان يأتي الى منزل جبرا و«يلزق» يسأل جبرا، وجبرا يجيب ويشرح له ويفسر ، والسيّاب يستوعب !!
صحيح ان السيّاب درس سنتين في قسم اللغة الانكليزية لكن في الجامعة آنذاك لم يكونوا يدرسونا سوى مقتضبات من الادب الانكليزي في القرن التاسع عشر، بضعة قصائد لبايرون، قليل من الرومانسية لكن هذا لا يساهم بتأسيس ثقافة كبيرة... من هنا ترين ان ما ساهم بتأسيس ثقافة السيّاب، وغيره ، هي تلك الاجتماعات التي كان يوفرها مناخ صحي متوافر في تلك الفترة كان محوره منزل جبرا، واستمر هذا الوضع مع مجيء نزار قباني الى العراق سنة 1976، فكانت تلك أيام لا تنسى...
< هذه العلاقة العميقة مع جبرا تدفعني الى سؤالك عن رواية طالما أدهشتني وهي رواية «عالم بلا خرائط» التجربة المشتركة بين جبرا وعبد الرحمن منيف وكيف تسنى لكاتبين ان يؤلفا رواية بدون ان تقدر على التمييز في الاسلوبين لكلا الكاتبين ؟!.
<< هذا هو التحدي الذي راهن عليه كلاهما... أي كتابة رواية تبدو انها كتبت بقلم واحد... الآن عندما أتذكر... أتذكر منزلي ببغداد القريب من منزل جبرا بحي المنصور، وكيف أتى منيف وسكن في منتصف المسافة بين منزلينا ، وكيف أصبحت لقاءاتنا تتم على التوالي كل مرة في منزل احدنا... وذات يوم قدم اليّ جبرا وسألني هل تذكر تجربة كتابة رواية مشتركة حصلت بين كاتبين في الادب العالمي، قلت رواية لا أذكر لكن مسرحية نعم ، فشكسبير اشترك مع مؤلفين آخرين في كتابة بعض مسرحياته...أما الرواية فلا يوجد سوى أن يموت كاتب فيأتي آخر ويكملها له، لكن أن يقرر كاتبان عمل مشروع روائي سوية فهذا لم يحصل قبلاً، وسألته مستفسراً لماذا هذا السؤال فقال لي إنه يفكر ومنيف بكتابة رواية مشتركة يتحديان من خلالها القارىء في معرفة اسلوب كل منهما، وهكذا صرت نقطة توقف وقراءة لكل فصل ينجزه احدهما ، ريثما أقرؤه وأمرره للآخر، ليعود بعدها جبرا ويعيد صياغتها جميعاً ، يداخل التراكيب والجمل ببعضها، ولتولد بعد ذلك «عالم بلا خرائط» كتجربة مدهشة، ومحيرة فعلاً للقارىء كما أراداها تماماً!!
< في مناخ ثقافي فاعل ومتحرك ومع وجود علامات فارقة في مسيرة الادب العربي، هذا الواقع كيف انعكس عليك شخصياً، بماذا افادك كبنية ثقافية؟!.
<< اغتنت ثقافتي كثيراً جراء ذلك إذ عرفني على اسماء مهمة درست اغلب اعمالها ...لقد عايشت روّاد الشعر الحديث الاربعة الكبار: كنازك الملائكة، السيّاب ، البياتي ، بلند الحيدري ، وكذلك يوسف الصايغ، وكانت تربطني بهم علاقات حميمة، صحيح أنني تركت كتابة الشعر منذ كان عمري /16/ سنة اي لم أكن في موقع منافس لكني تفرغت للدراسات النقدية والترجمة...
< ترجمت في الثمانينيات أهم موسوعة للمصطلحات النقدية لماذا لم تكملها؟!
<< اولاً أنا لم اتوقف، «الدينا هي التي توقفت» ... لقد بدأت العمل بهذه الموسوعة بتكليف من وزارة الثقافة في العراق وأنجزت /16/ عدداً طبعت بثمانية مجلدات يضحك ويقول: كانوا حينها يغدقون على المترجم «مئة قرية عامرة ومثلها غامرة» ولكن مع بدء الحرب ذهبت انا الى عمان وتوقف المشروع، لأنني لم أجد الناشر المشجع مادياً ومعنوياً، فالناشر ينظر الى المؤلف على انه ذبيحة يريد امتصاص دمها، وأنا لست مستعداً لأن أكون هذه الذبيحة!!
فالناشرون للأسف لا يعطون الكاتب او المترجم الا الفتات؟! والترجمة، وخاصة فيما يتعلق بالمصطلح النقدي والنحت مسألة صعبة فيها مزالق كثيرة، ومراجعة لموسوعات وكتب في التاريخ والموروث، وهذا عمل متعب جداً ويحتاج لتشجيع، وقد وصلت الى الآن للعدد الخمسين ولكن قولي لي اين الناشر؟! صحيح انني اقوم بمفاوضات الآن مع اكثر من جهة ناشرة لكن حتى هذه الساعة لم احصل على نتيجة، اتمنى ان يتم هذا قريباً؟!
وبخصوص ترجمتي لبعض المصطلحات دون تعريبها فذلك لأن بعض الكلمات لا نجد لها مرادفات في العربية، مثلاً كلمة الكوميدي لها مفهوم خاص في الادب الاغريقي فهي ليست الملهاة ولا الضحك او العبث، لأن الكوميدي فيها من الجدية اكثر مما في «يوليوس قيصر»...
< إذا أنت تتفق مع اركون حول عدم استيعاب اللغة العربية لمسألة المصطلح؟!
<< هذا صحيح ...هناك اشكالية حقيقية لأن هناك ثقافة مختلفة، فنحن لا نفهم الكوميديا الاغريقية، مثلاً لأنها غير موجودة في تراثنا لذلك ننقل المصطلح تعريباً وليس ترجمة وكذلك التراجيديا ، واعتقد ان هذه الاشكالية وقع فيها اثنان من كبار المترجمين في ثقافتنا العربية «البعلبكي»، و«ابن متّى» عندما ترجموا كتاب «فن الشعر» لارسطو حيث لم يقدروا على فهم ما هو الكوميدي وما هو التراجيدي بالضبط !!
فاللغة العربية لا تستوعب بعض المصطلحات هذا صحيح لاختلاف الثقافتين، لكن المترجم المطلع على الثقافتين بعمق يستطيع ان يولد من لغته مفردات تدل على المعنى أي ينحت من اللغة ما يلبي حاجته.... صحيح أنها عملية صعبة وتحتاج لجهد وبحث لكنها ممكنة....
< وبخصوص الترجمات عن غير اللغة الاصلية هل توافق على انها كثيراً ما أساءت الى الثقافة العربية اكثر مما افادتها؟!
<< « أحسن من بلاش»!! واكثر ما يسيء فيها هم أولئك الذين يترجمون النص عن لغة غير لغته الاصلية ويدعون ترجمتها عن النص الاصلي هذا معيب ... واستغرب لماذا يفعلون ذلك ، فطه حسين عندما ترجم المسرحيات الاغريقية عن اللغة الفرنسية قال بأنه ترجمها عن الفرنسية ولم يخجل من ذلك، ولم يقل عن الاغريقية وهو رجل

موقع وزارة الثقافة السوري