جدلية البنية والدلالة
"في مقامة حضرة الارتياح المغنية عن الراح"
- من انجاز: ادي بن آدب موربطانيا
- إ دريس فضوالي المغرب fadoili2004@yahoo.fr
مقدمة:
لقد كانت النية أن يكون عنوان هذا العرض هو "الخصائص السردية في المقامة الأندلسية" إلا أن صعوبة الإلمام بهذا الموضوع وبمجالاته الفضفاضة، وخوفا من أن تضيع توجيهات الأستاذة الفاضلة وآراء الزملاء الطلبة، فقد ارتأينا بأن نغيره إلى (جدلية البنية والدلالة) في مقامة حضرة الارتياح المغنية عن الراح.
هذا حتى نتمكن من الإحاطة ولو جزئيا بالموضوع، مستثمرين بذلك كل ما يقدم أثناء هذه الحصة من معلومات وتوجيهات وتصويبات، لأن هدفنا الأول هو: أن نستفيد وان نفتح باب النقاش للجميع حتى تكون الفائدة عامة.
وما دمنا نسعى إلى دراسة هذه المقامة على ضوء جدلية البنية والدلالة، فإننا سنحاول الاشتغال على هذا النص المقامي والنفاذ إلى ما يشتمل عليه من بنيات محاولين بذلك تفكيكها وتحليلها للوصول إلى دلالتها العامة .
ولعل اختيار (جدلية البنية والدلالة) واجدا ما يبرره في كون المناهج النقدية قد حاولت دراسة النص من زاوية البنية وحدها ففشلت في ذلك، وحاولت دراسته من زاوية الدلالة المستقلة ففشلت أيضا لسبب بسيط هو أن النص بنيات متكاملة لا تقبل سلخ بعضها عن بعض، لشدة تفاعلها الذي يبرر وجود النص، ويحقق ماهيتها، وهذا ما أنتهت إليه المناهج التفاعلة التي تحاول استغلال جميع المنافذ إلى النص، دون الاقتصار على زاوية محجرة.
كما أن التفكير الجدلي بين الثنائيات فرض نفسه على الفلسفات والمناهج في العصر الحديث خصوصا على يد "هيكل" إلا أنه يكاد يكون منهجا وجوديا يتحكم في نظام الكون، مما يجعله معترفا به منذ أن وجد هذا الكون.
"فالتفكير الجدلي يقر مسألة وجود ثنائية تقابلية بين عناصر الكون، متمثلة في جدلية الوجود والعدم أو المالميلاد والموت أوالماضي والمستقبل أو الجدلية المكانية كالطبيعي والظاهراتي، أو الجدلية المتضادة بين الإنسان وذاته أو بينه وبين المجتمع، وقد رأى هرقليطس أن العالم مركب من الأضداد حيث يحمل الوجود في طياته العدم، وكذلك نجد هذه الثنائية أيضا عند كل من أفلاطون، وأرسطو، أي أن هذه الثنائية متأصلة في النشاط الفكري للإنسان حيث ظلت الازدواجية تهيمن على الفكر الإنساني منذ خمسة وعشرين قرنا على الأقل، حيث الليل والنهار أو البياض والسوداء أو الخير والشر، أو الذكر والأنثى والحياة والموت والشباب والشيخوخة والعلم والجهل... وهلم جرا فالبنيتان معا تمثلان تجسيدا لواقع الحياة الإنسانية وسيرة نظام الكون"1.
ومن هذا المقتبس الذي يختزل تاريخية مفهوم الجدلية ويؤصله، سننطلق إلى آفاقه وتجلياته ضمن مقامتنا المختارة، مستعرضين في ضوئه ما اكتنف نسيجها من ثنائيات فرضت عليها نفسها بدءا من العنوان حتى الختام.
ومن هنا سوف نتناول الموضوع وفق تسلسل وحداته في بنائها الهرمي السردي دون أن ننسى تتبع مظاهر هذه الجدلية عبر أفقية المقامة محترمين بذلك ثنائية كبرى تتوزع النص هي الأخرى ونعني بها جدلية البناء العمودي والأفقي للمقامة.
وقبل الولوج إلى عالم النص نشعركم ونحن على العتبة أننا قد رجعنا إلى كثير من الدراسات حول المقامة ووجدناه تتسم بخاصيتين: التنظير للمقامة انطلاقا من النموذج الهمداني الحريري من ناحية، ومن جهة أخرى تتسم بكونها تحوم حلو النص المقامي ولا تقتحمه، وما دامت سمات النموذج المقامي التقليدي قد لا تنطبق كليا على النص المدروس، كما أنها قد أنجزت، ولم تعد بحاجة إلى الإجترار، ومادامت النصوص المقامية قد سئمت من الطواف حول كعبتها دوم استلام الركن وتقبيل الحجر، وهي الآن أحوج ما تكون إلى ملامستها المباشرة و التجرؤ على اقتحام عالمها الخصب، فإننا نعدكم بأن نقوم معكم وأمامكم بهذه المغامرة الصعبة والسعيدة، راسمين علاقتنا بمراجع المقامة بحدود علاقة الغواص مع عالمه الخارجي، فنحن نغوص إلى درر النص في الأعماق، متزودين ذاتيا من هذه الدراسات ما نحتاج إليه من أكسجين تحت الماء، وإذ وجدنا في النص جوهرة تتطلب أخذ نفس من الهواء الخارجي، فإننا نطل برؤوسنا لنأخذ هذا النفس الضروري المقتبس بسرعة. ونغوص به إلى أعماق النص، ونظل نسبح فيه ونستخرج منه، دون أن نقف على الحافة نتسلى برمي الطوب والأحجار إلى قاع البحيرة، لأن هذا الموقف عبثي وعدائي اتجاه الأعماق ومخزوناتها الثمينة، والموقف الإيجابي والفعال هو مآلفة النص ومحاورته النص لأن النصوص لا تعطي أسرارها إلا لمن ألفته وألفها.
ونحن في هذا السياق سنكون قد أفشينا سرا بيننا مع النص إذا قلنا أنه حتى الآن قد باح لنا بما لم نكن نتوقع أبدا، إنه موجود فيه وما زال يخبئ لنا المزيد، ومازلنا ننتظر منه المزيد فانتظرونا على الضفة الأخرى (العدوة القصوى) عند نهاية المغامرة المتعبة الشيقة، وهناك عند الموعد سوف نتحفكم بما أتحفنا به النص من درر، أو يرمي إليكم بجثث أحياء أو أمواتا لا قدر الله، فالمهم هو المغامرة والنتيجة منتظرة، والرهان مفتوح على بابيه، كما هو حاله في نص مقامتنا، ومن حسن الحظ أن لقاءها هذا فتح لنا باب المغامرة في البحث وأكسبنا مناعة قوية جعلتنا نتغلب على كل ما يعوق القدرات ويحجر الأدوات، فإلى الأمام على بركة الله نغوص.
1-جدلية العنوان:
-مدخل نظري لقراءة العنوان:
إن صياغة العنوان لم تعد اعتباطية، بل أصبحت تمثل مفتاحا سحريا للعمل المعنون باعتبارها صياغة مركزة لأي عمل تأليفي تختصره في حروف قليلة، ولعل القدماء لم تغب عن أذهانهم هذه الملاحظة حيث كانوا يسمون العنونة ترجمة، فهذا أسمامة بن منقد يقوم عن كتاب له " وترجمته بكتاب العصا"1 ونفس الشيء نراه عند الإمام بن علي المطرزي حيث يقول عن كتابه "وترجمته بكتاب المغرب لغرابة تصنيفه..."1 وهكذا يصدق القول " أن كتابا بدون عنوان هو كالقفل بلا مفتاح"2.
بقراءة هذا العنوان قراءة متأنية، نجد أنه يختزن مبرر اختيارنا لعنوان العرض، لأنه عنوان ينبني على هذه الجدلية الثنائية ولو بشكل مضمر، حيث يقيم في بنيته العميقة تقابلا مسكوتا عنه بين الإبداع (الحضرة) والخمر (الراح) اللذين يجمع بينهما الارتياح، فإذا كان بعض الحضرات أو المجالس تبتغي الارتياح المنشود في الكاس والطاس، فإن هذا المجلس يحاول تحقيق الارتياح بخمرة الإبداع المغنية عن الراح.
الحضرة (الإبداع) الارتياح الراح
وهذه الثنائية النواة نربطها بثنائية عنوان مقامة النخلة والكرمة للبناهي3 المتعايش مع العاملي، حيث أن الارتياح الحلال تمثله النخلة والارتياح الحرام تشير إليه الكرمة، وقبل هذين الإثنين كتب ابن حزم مقامة المفاضلة بين التمر والزبيب4 مع ما توحي به هذه الثنائيات من دلالات رمزية عميقة يمكن أن نمثل لها بثنائيا تتناسخ من أحشائها على شكل الخطاطة التالية:
الحضرة (الإبداع) الارتياح الراح
الحلال الحرام
النخلة الكرمة
الثمر الزبيب
الأصالة المعاصرة
الوطن الغربة
العروبة العجمة
الجد الهزل
الرسوخ القوة الصمود الضعف، عدم الاستقلالية
ويزداد اقتناعنا بتجدر هذه الجدلية التي اكتنزها العنوان المختزل في طياته من خلال حضورها الطاغي عبر كل محطة من محطات هذا النص المقامي.
التمهيد وثنائياته:
أ-التمهيد:
يمتد هذا التمهيد منذ بداية المقامة إلى نهاية الصفحة الثانية، متدرجا من (يحكى.... إلى.... وكان يقال... وكان يقال... قال المحدث.... حتى .... فأخذوا مجالسهم بعد أن قبلوا يده.... (ص3).
وهذه البنية السردية، تمثل بنية الافتتاح، وهي تقوم على سارد مجهول... سواء على مستوى صيغ الفعل المبني للمجهول (يحكى-يقال)وحتى في صيغة الفعل المبني للمعلوم.. (وقال اتلمحدث) ... لأن معلومها مجهول، إذ لا نعرف من هو "المتحدث... كما أن المسرود عنه وله في هذا المفتتح مجهول هو الآخر (ملك) بالتنكير كما أن فضاء بنية الافتتاح مطلق زمانيا ومكانيا...
فالفضاء الزماني يبدأ بالماضي المجهول ... كان... وينتقل إلى الحاضر بواسطة لما الحاجزة بين الزمنين والرابطة بينهما في نفس الوقت ... "فلما طال عليه الأمد... أمر... وحضر... فأخذوا مجالسهم ...) ص 3 وهي أفعال ماضية من حيث البناء الصرف،ي ولكنها حاضرة من حيث زمن السرد...
أما الفضاء المكاني فهو الآخر مجهول، فكما أن الزمان غير محدد بالتاريخ ولا بالليل والنهار... فإن المكان لا يحدد بكونه فضاءا مفتوحا أو مغلقا.. فنحن نعرف أنه في حضرة ملك... ولكن لاندري هل هو في قصر؟ أم في حديقة؟ أم في الصحراء؟ فكل ما في الأمر أنه (أمر بالتماس من في مملكته.. فأخذوا مجالسهم....)
وهذا الغلاف التعميمي الذي يلف عناصر هذا الافتتاح السردي يرشح المقامة لمستوى من التخييل والرمزية، حيث أن جهل السارد يوهن سندها، وجهل المسرود له وعنه وجهل الفضاء الزماني والمكاني يبعدها من التوثيق التاريخي، وذلك هو ما يقربها من السرد الخيالي.
ويعزز هذا المنحى في المقامة غياب تسمية الراوي والمروي له وغياب تسمية الزمان والمكان...
ثنائيات التمهيد:
لعل أول ثنائية تصادفها في المقامة هي ثنائية
المحاضرات الإحماض
وهما تمثلان نمطين من الخطاب، يندرجان ضمن إطار خطاب أوسع هو "المناظرات" التي تحمل في بنيتها الدلالية نوعا من التفاعل الثنائي من الواضح أن "المحاضرات"... والإحماض تتولد منها ثنائية (الجد / الهزل) الذين يعتبران وجهين لعملة واحدة هي الحياة، ومن تم تتأكد ملازمتهما لكل خطاب، ولعل هذه الثنائية واجدة مسوغها في البنية الدلالية العميقة لنص هذا الإفتتاح السردي الذي يبدو فيه ذلك الملك المسرود عنه متنازعا بين عدة ثنائيات تقسم حياته وهويته وكينونته محكومة بالإنتقال من حال إلى حال.
العروبة العجمية
ماض غير ملكي حاضر ملكي
ما قبل الخلافة ما بعد الخلافة
الطيش الحكمة السياسة
الهزل الجد
الزمان يساعده الزمان يحسده
اللهو والترف فقدان الشكل والساحة
محاورة بلسان قومه الفصيح / أناس أحوجه إلى ترجمان
فراق مألوف ثقل التكليف
وإذا كانت ثنائية (المحاضرات/الإحماض) تمثل سمتين في خطاب الإفتتاح السردي وهذه الثنائيات الأخرى تتحدد في الفضاء الحياتي في شموليته وعمقه، فإن الثنائية على مستوى شخصيات السرد في هذا المفتتح وجدت توزعها في
السارد المسرود له
وكذلك في:
الملك ووفود العرب
2-فاتحة الحوار:
وقد مهد لها الرؤى بالجمع بين ساردين هما الملك ووفود العرب حسب نهاية الفقرة السابقة، حيث تأتي هذه الفقرة اللاحقة عبر محطتين أساسيين.
أ-التعرف:
وهو هنا يأتي لإضاءة العلاقة بين المتحاورين، ونظرا لأن المسرود له "ملك" فقد كان من الضروري أنه يكون التعرف في بداية المقامة خلافا للمألوف، لأن فضاءها فضاء رسمي وليس شعبيا كما هو حال أغلب مقامات الهمداني والحريري والسرقسطي، ولذلك كانت ظوابط الرسميات الملكية تتطلب الابتعاد عن الخداع والحيل لأن العلاقة بين السارد والمسرود له علاقة وفادة أكثر منها علاقة كدية واحتيال وهكذا انطلق شيخ الوفود فور مثولهم بين يدي الملك منشدا.
نحن قوم من العرب منتهى من لـــه أرب
فرقتنــــــا بلادنـــا واجتمعنا على الطلـب
إذ حذونا حروفنــــا بحروف مــــن الأدب
ورجونـــا بأن يكـــو ن لنا في الغنا سبــــب
ونجيـب الملـوك مــن هو كهف لمن نجــــب
ولدينـــــا سرائــــــر كامنات فسل تــــجب
وبمجرد ذكر العرب يبدأ التفاعل البنائي الإيجابي بين السار وشيخ الوافدين والمسرود له الملك الجائع للعروبة والمحاورة والسرد العربيين، إلا أنه يطلب المزيد التعرف إشباعا لحسه الأمني الملكي، أو إمعانا في إشباع رغبة التعارف وصلا لهويتين كانتا منفصلتين، وفتحا لأفاق السرد المهيمن والمحاورة بينهما ولذلك عقب قائلا : فممن القوم... هاتوا من التعريف ما هو رشاد الضال ... وهكذا يضيف شيخ الوافدين مزيدا من الضوء على هويات الوافدين ويتطرق إلى المحطة الثانية من فاتحة الحوار وهي:


ب-عرض المنهجية:
وفيها يرسم منهجية التعرف والتعريف التي ستحكم مسار السرد بين الوافدين والملك، ملقيا مزيدا من الضوء على هوية الوافدين العرب ونوعية العمل الذي سيقومون به، فاكا شفرة رمزية الحروف الألفبائية العربية في تماهيها مع ذوات الساردين العرب الوافدين، أسماء ومنتمى وأوطانا وإبداعا وفلسفة ومهنة وتعبيرا ووجدانا.
وهو بذلك يذلل قنوات التفاعل الحميم مع الملك الجائع للعروبة، من خلال لعبة الحروف العربية الرمزية الموحية ولو بطرف خفي بأن العروبة هوية لغوية أكثر منها عرقية، وبالتالي تتحقق ماهيتها بالممارسة التداولية، وتقعد هذه الماهية عندما يخنق فضاء العجمة مجال تداولها، وحتى لو كان الدم الجاري في العروق عربيا... وهكذا (نشر مطوي الأنس نشرا)، مع ازدياد التعارف حميمية، ومع انفتاح آفاق التحدي في لعبة الإبداع العربي الموعودة لعبة (سر الحرف) الصعبة، فدب الارتياح في الملك وقبل الإنسياق مع هذا التحدي السردي، واعدا بالمكافأة في حالة الوفاء بالمنهجية الصعبة الموعودة، وبالمسامحة في حالة العجز عنها، وهو تشكيك ضمني في إمكانية تحقيقها سوف يرفع وتيرة التحدي.
وخلال هاتين المحطتين المشكلتين لفاتحة الحوار، كانت الثنائيات تفعل فعلها متحكمة في نسيج السرد، مشكلة امتدادا طبيعيا لثنائيات التمهيد الأول، حيث جاءت ثنائيات التعرف من خلال:
التعرف
الجهل التعرف
الملك شيخ الوافدين
ممن القوم نحن قوم من العرب
فرقتنا جمعتنا
البلاد الطلب
حروف الإسم حروف الأدب
الواقع المأمول
الأسرار الكامنة الكشف-التعرف
السؤال الجواب
الماضي الحاضر
أدكرتم موارد فارقتها لم يفارقني العطش
فقدتها فقدت النشاط
الملك
الجهل التعرف
هاتوا من التعريف
الضال رشاد
الصائم فطار
الشيخ
نحن فئة العجب
اجتمعنا في ثلاث افترقنا في ثلاث
ب- ثنائيات عرض المنهجية:
وهي تتجلى من خلال مسرد (وأعجب من ذلك أننا قسمنا حروف التهجي بددا إذ نحن مثلها عددا، فاختص كل واحد منا بواحد منها، فمن طلب معرفتنا فليبحث عنها، فمتى أصغى إلى حرف... أخبره عن صاحبه بأمور تسعة... وبهن يكمل التعريف عشرا) ص 4-5.
وهنا تستمر ثنائية الجهل والتعرف:
الجهل - التعرف (التهجي)
تهجي الحروف تهجي الأشخاص
------ الإسم النسب
------ الرجل المرأة
------ الحرفة البلدد
------ المثل الغزل
------ الفلسفة الوجدان
------ العقل القلب
------ النثر الشعر
------ الجد الهزل
ولكي تفعل لعبة التعرف فعلها بين السارد (الشيخ) و المتلقي (الملك) فيدب الارتياح في حضرته ويتحقق بذلك الاغتناء بخمرة الإبداع الأدبي العربي عن سلافة الراح وتغني نشوة ذلك عن هذا، تنتهي هذه الثنائية إلى ثنائية النتيجة حين يحدث التحول من:




مطوي الأنس إلى منشور الإنس.
وينفتح فضاء لعبة السرد المتحدية بمنهجيتها الصعبة على احتمالين ترتب عليهما نتيجتان:
-بالنسبة للسارد = الوفاء بالمنهجية العجز عنه
-بالنسبة المالك = المكافأة السماح
فكيف سيكون ذلك؟.


3-هيكل المقامة وثنائياته:
أ-الهيكل: بعد انفتاح أفق التحدي على المنهجية الصعبة الموعودة من خلال الخطوة السابقة بدأت آليات التلقي تشرئب متنازعة بين احتمالي التحقق أو العجز... (أفق الإنتظار)، بالمقابل بدأت آليات الإنجاز (الإبداع) تستنفر طاقاتها لتحقيق الوعد الصعب، وكسب الرهان من خلال الوفاء بالتصميم المقترح لهيكل المقامة.
فجاء على شكل ثمانية وعشرين حلقة قصيرة، تشكل في مجملها هيكل قطار المقامة، فكانت عبارة عن ثمان وعشرين مقامة في مقامة واحدة، حيث أن لكل فقرة استقلاليتها بحسب مواصفاتها العشر (الحرف البطل اسمه، اسم أبيه، قبيلته، حبيبته، اسم أبيها، قبيلتها، مثله، حرفته، بلده، قصيدته)، وكل واحدة من هذه الحلقات المغلقة على ذاتها تتسلسل بالتتابع مع أختها بتوجيه وتنسيق من المسرود له، الملك الذي لايبدو متلقيا سلبيا كما هو المألوف بل يبدو مركزيا وفاعلا مهيمنا في الحكي والتصميم.
وهنا نلاحظ أن إلتزام هذا النموذج السردي المقتضب الثابت المغلق، قد وسم حركة الهيكل بنوع من الاقتضاب، في الثرثرة السردية، وشكل رتما ثابتا يتناسب مع رسميات الفضاء الملكي المغلق بروتوكوليا، وأعطى لقطار الهيكل حركية متسارعة، وهو تجديد في بناء المقامة جعل عددها الواحد يتحول إلى ثمان وعشرين مقامة، وتعدد أبطالها ال 28 يساوي تنوع البطل الواحد في المقامات المتعددة.
كما أن اختلاف الخطاب من الشعر إلى النثر إلى المثل وتنوع الأسماء، والقبائل والحرف والتعليقات حول الرتابة إلى تجدد وحول المتوقع إلى المفاجئ.
ب-ثنائيات الهيكل:
كثيرة هي الثنائيات المتحكمة في هذا الهيكل، فقد امتدت عبره أغلب الثنائيات المركزية السابقة وانضافت إليها إلى ثنائيات جديدة اتسمت بحركتين (عموديا وأفقيا)، ولصعوبة ملاحقة وتتبع مسار هذه الثنائيات بشكل مفصل، فإننا سنختصر بناءها العمودي في الثنائيات الكبرى التالية:
الشعر النثر
التقديم التعليق
الشعراء الملك
الرتابة التنوع
النمطية التجدد
الوحدة التعدد
المتوقع المفاجئ
ج-تفكيك الهيكل وثنائياته:
إن صعوبة السباحة في أعماق لجج هذا الهيكل العميقة والشاسعة الضفاف يفرض علينا أن نقوم بعملية تفكيك لأجزائه، حيث يزداد عادة فهمك لكل بنية بمدى قدرتك علىتفكيك وتركيب وحداتها، حتى تعرف كنه طبيعة العلاقات الرابطة بين ذراتها والتي بها تكون حقيقة المجموع.
فتعدد عناصر كل فقرة من فقرات هيكل هذه المقامة وتعدد الحقول التي تتناولها، كل على حدة، أو تتناولها جميع الحلقات في مجموعها، يقتضي منا فرزا لحقول فقرات هذا الهيكل، على مستوى الحروف والأسماء والقبائل والمهن والبلدان والأمثال والأشعار والتعليقات.
جدول بأغلب المصفوفات السابقة
الحرف
الإسم
إسم الجارية
البلد
الحرفة
المثل
الألف
أنس ابن أفلح الأوسي
أسماء بنت أيمن الأسدية
الأبنار
أبار
انظر ما به تذكر من معروف أو منكر
الباء
بشر بن بكر البكري
بثينة بنت بسام البجلية
البصرة
************
بر الكريم طبع وبر البخيل دفع
التاء
تميم بين تمام الثعلبي
تمو بنت توبة
تونس
تاجر
تامير الاراذل تذمير الأفاضل
الثاء
ثابت بن تعلبة الثقفي
الثريا بنت ثوبان الثورية
الثغر
ثقاب الدار
الثبات يكسر سورة الوثبات
الجيم
جعفر بن جابر الجذامي
جمل بنت جميل الجمحية
جرجان
جنان
جرب ثم باعد أو قرب
الحاء
الحسن ابن حاتم الحارثي
حواء بنت الحكم الحضرمية
حلب
حصار
الحر إذا خودع تخادع وإذا عظم تواضع
الخاء
خلف بن خالد الخروجي
خولة بنت خولان الخزاعية
خبير
خياط
خيال العمر خبال الغمر
الدال
داوود بن دينار الدوسي
دعد بنت دهاق الدارمية
دمشق
دقاق
دار الفسوق جدث وحديثه حدث
الذال
ذر بن ذنين الدبياني
الذلفاء بنت دريج الذهلية
دمياط
ذهبي
ذكر ما فات يكدر الأوقات
الراء
رافع بن الربيع الريحاني
رحمونة بنت رجاء الربيعية
الرقة
رفاء
رقة ينتحها دنب خير من حسنة يتبعها عجب
الزاي
الزبير بن زيد الزهري
الزهراء بنت زهير الزيادية
الزاب
زواق
زيادة الأمل تقتضي نقصان العمل
الطاء
طاهر بن طلحة الطائي
طروب بنت طارق الطسمية
الطائق
طبيب
طوفان الجور سريع الغور
الظاء
ظاهر بن ظالم الظاهري
ظلوم بنت ظفر الضفرية
ظفار اليمن
ظرفي
ظهر الخلاف مطية الأخلاف
الكاف
كعب بن كيسان الكلبي
كريمة بنت كنان الكلاغية
الكوفة
كاتب
الكيس نومه سهاد والعاجز نومه رقاد
اللام
لبيد بن الليث اللخمي
ليلى بنت لبيد اللهبية
اللاذقية
لحام
ليل الكمد بعيد الأمد
الميم
مسلمة بن مصعب المدلجي
مريم بنت مالك المازنية
مصر
مثق
من عفا غلب من اشتفا
النون
النضر بن النعمان النيري
نوار بنت نصر النهشلية
النهروان
نجار
الناس بكمالهم لا بكلامهم
الصاد
صفوان بن صاعد الصدفي
صفية بنت صالح العربجية
صور
هيرفي
صلاح راي النساء فساد نفاقة كساد
الضاد
ضرار ابن ضبع الضبي
ضباعة بنت خمام الضريبة
ضهاء
ضرب الخط
الضيق للسقة يؤل والشدة للرخاء تحول
العين
عمرو بن عطية العدوي
علوا بنت العباس العامرية
عسقلان
عطار
عدل ولاتبدل
الغين
غانم ابن غالب الغافقي
غنيمة بنت غياب الغفارية
غزة
عماد
الغريب مستحقر مريب
الفاء
فرج بن الفتح الفهري
فتحون بنت الففل الغزاوية
فرغانة
فلاح
في التقي دفع ما يتقى
القاف
قاسم بن قيس القضاعي
قمر بنت قصي القيسية
القامرة
قين
القياس الفاسد يحيل المقاصد
السين
سلام بن سهل السلمي
سلمى بنت سعد السندوسية
سمرقند
سراج
سداد في كفاف أفضل من غنى مع إسراف
الشين
شعيب بن شداد الشبياني
شمس بنت شاكر الشرعبية
شهر ستان
شماع
شوك المسعود نور وجوز المحروم خور
الهاء
هلال بن همام الهاشمي
هند بنت هداج الهلالية
هرات
هناد
الهدى بالتوفيق لا بالتلفيق
الواو
الوليد بن واثلة الواثقي
ولادة بنت وضاع الوادعية
واسط
وراق
وافق وارافق
الياء
يزيد بن يوسف اليزني
يمن بنت يسار اليعمورية
اليمامة
يلبي
يضحك الأجل المعدود من الأمل الممدود

مصفوفة الهوية:
فمن خلال استحضار حروف الألفائية بالإضافة إلى الكثير من أسماء الإعلام العربية وأسماء القبائل والبلدان، نجد أن هذه المصفوفات تخدم سياق الهوية العربية وتأتي تأصيلا لكيان في ظل زحف العجمة على الحضارة العربية، وخلق تفاعل بين المشرق والمغرب قد جاء على عكس المألوف متوازنا، فكان توجها بالإرادة من المغرب إلى المشرق واستقداما للمشرق ليكون هو الساعي إلى المغرب، ولا يخفى ما تكتنزه مصفوفات هذا الحقل (الهوية) من ثنائيات:
الهوية
العروبة العجمة
المشرق المغرب
الأطراف المركز
الوافد الموفود عليه
أما مصفوفة المهن (الحرف):
فمن خلال المقارنة بين المهنة قبل الوفادة، و دور البطل في المقامة، نجد مؤشرا خطيرا على انهيار بنية القيم، والاقتصاد، حيث نرى أن هؤلاء الأبطال الثماني والعشرين، كانوا شعراء، فلما أفلس الشعر، ولم يعد له قيمة، ولا مردود في المشرق، انتقلوا إلى هذه الحرف المتنوعة والمختلفة المستويات، تعففا من الإبتذال، كما هو شأن أكثر العلماء، مثل الناقد أبي أحمد العسكري صاحب كتاب المصون الذي كان يتبزز أي يبيع البز من الثياب احترازا من الدناءة والتبذل، وكان الغالب عليه الأدب والشعر1 ، ثم أفلست المهن نفسها في المشرق فاضطروا للعودة إلى الأدب الذي منه فروا، ولكنهم وفدوا به إلى المغرب لعل الخط هناك يكون أفضل، وربما يكون لذلك الانهيار الشمولي والتذبذب السائد علاقة بتحكم الأعاجم في المشرق والمغرب، وانصرافهم عن الثقافة والأدب، وهذا ما يشجع على رحلة الشعراء بحثا عن آخر بصيص للعروبة ولو في أقاصي التخوم علىمشارف العجمة.
ومن خلال هذه النظرة على مصفوفة المهن (الحرف) نستخلص الثنائيات الكامنة وراءها:
المهنة
الماضي الحاضر
الشعر الحرفة
الحرفة الشعر
المشرق المغرب
الحبيبة الرزق
أما مصفوفة الأمثال: فهي تتمركز في هيكل المقامة على شكل 28 مثلا تخلق نوعا من الحوار الطبيعي مع الحكم والأمثال الموجودة في التمهيد وفاتحة الحوار، بالإضافة إلى الحكم الواردة في القصائد الختامية، وهي جميعا تمثل خلاصة تجارب وفلسفة الأبطال والحاكي، المتداولة بين السارد والمسرود له، باعتبارها درسا في الأخلاق والسياسة وهذا ما يشكل نواة للثنائيات من السارد إلى المسرود له.
السارد المسرود له
الأمثال العبرة والخبرة
وثنائيات متحاورة مثل:
النثر الشعر
المثل القطعة
العقل القلب
الفلسفة الأدب
الفكر الوجدان
مما يعني خلق تكامل بين مختلف قطاعات الحياة ومختلف أبعاد النفس البشرية، وإشباعا لجميع حاجات المتلقي الملك المتجاذب هو الآخر بين نوازع الشباب و نوازع الملك.
وعندما نرجع البصر كرتين في مصفوفة هذه الأمثال نجدها تتحكم في بنيتها الثنائيات، باعتبارها صياغة لثنائيات الحياة المتجذرة مابين السلبي والإيجابي، نجد مثلا الحكم المنبثة في التمهيد تقابل بين :
عشرة عشرة
المبتدأ الخبر
المسند إليه المسند
الموصوف الصفة
المطالب المطالب به

مثل: المجلس بالتوقير
المال بالتوفير
الأولياء بالانتفاع
الأعداء بالدفاع
الخاصة بالأرزاق
العامة بالإشفاق
الخصماء بالإقساط
الندماء بالإنبساط
المحسن بالمنح
المسيء بالصفح
وحتى داخل هذه المصفوفات العشر الأفقية تتولد ثنائيات صغرى عمودية بين :
الأولياء الأعداء
الخاصة العامة
الخصماء الندماء
المحسن المسيء
وباختلاف طبيعة هذه الثنائيات في العشر الأوائل، تترتب ثنائيات جدلية في العشر الأواخر، باعتبارها نتائج للأولى، والجزاء من جنس العمل، كما أننا نجد الحكم الثلاث في آخر التمهيد المستقاة من الذاكرة الجماعية للتاريخ تحت مسرد (وكان يقال وكان يقال) محكومة هي الأخرى بروح الثنائية:


الاحتطاب على الظهر تولي أمور أبناء الدهر
سهر الملوك نوم المملوك
ولاية في غير مكانك محاورة بغير لسانك
أما بالنسبة لمصفوفة الأمثال المنبثة في الهيكل فقد تميزت بالاختزال في الصياغية والانسجام مع سياق الأحداث وروح المضامين، حيث ركزت في مسارها العمودي حسب تتابع الأبطال 28 على التدرج من الحث على المعروف والكرم الطبيعي، واختيار تأمير الأفاضل، والتواضع وذم الجور والخلاف وتمجيد الكياسة والعفو والعدل وشكوى الغربة....
بينما حكمت هذه لمصفوفة في بنائها الأفقي ثنائية:
السلبي الإيجابي
معروف منكر
بر الكريم طبع بر البخيل دفع
تأمير الأراذل تدمير الأفاضل
ما يتقي دفعه بالتقى
الأجل المحدود الأمل المدود
قرب باعد
رقاد سهاد
الرخاء الشدة
الكفاف الإسراف
وأخيرا نترك الأمثال المنبثة في الشعر حتى نتناول مصفوفة القصائد باعتبارها جزءا من نسيج الشعر وليست كيانا مستقلا عنه.
أما مصفوفة القطع الشعرية:
فتتمركز هذه المصفوفة داخل هيكل المقامة بشكل أساسي، حيث تمثل حركية وتتابعا وتعاقبا على رتم ثابت، وكم محدد ومسافات متقاربة، ومتناغمة، وموضوع غزلي موحد، أما المقطوعة الافتتاحية على لسان شيخ الوافدين فهي تدخل في الافتتاح، وبذلك تدخل في خانة "أما قبل" بينما تأتي قصيدة المدح، وقصيدة السياسة والخمرية المخمسة والموشح في خانة (أما بعد)، فقد جاءت امتدادا خارج النسق المغلق، ومثلت حوارا يخلق تعادلا بين الغزل المركزي والمدح والسياسة والتشفع من جهة أخرى، لتنشأ عن ذلك ثنائية تنبثق من الغزل على الشكل التالي:
الغزل
تعبير عن الشاعر عن المتلقي (الملك)
الحبيبة الرزق (القلب)
المشرق المغرب
الوطن الغربة
وكذلك ثنائية :
الغزل المديح
الهزل الجد
القلب الجسد
حيث تنبثق من هذه الثنائيات الثنائية التالية:
الغزل السياسة
الشاعر الملك
الحاكم المحكوم
هذه ثنائية تمثل العلاقات الدلالية الكبرى بين النصوص ولكن داخل كل نص من المقطوعات 28 تنبث ثنائيات لا حصر لها قمنا بتتبعها بشكل دقيق ولكننا نكتفي بإشارات عابرة من خلال نصوص موزعة داخل المقامة.





جدول لثنائيات القطع الشعرية

رقم النص
الحرف
الثنائية
الصفحة
1
ألف
الشفاء الداء
الحور في الجنات الجنات في الحور
5
2
الباء
بعيد قريب
الخلو الرقيب
5
3
التاء
ظل وصال لظى هجر
رفقة فرقة
6
4
الثاء
الثبات النفار
الصحيح السقيم
6
5
الجيم
جاءت رجعت
الرقيب الحبيب
الروض الشوك
7
6
الحاء
وجه شعر
صباح مساء
صحاح مريضات
7
7
الخاء
المحكم المنسوخ
8
8
الدال
النفار اتئدي
فؤاد الجسد
8
9
الذال
الجيرة الهجر
عز ذل
9
10
الراء
رائح مبتكر
بها حور يردي وبي خور
9
11
الزاي
الجمع بين الوصفين (الحسن والكرم)
العجر عن الجمع بينهما
10
12
الطاء
الأرض تضحك الغيم بكى
10
13
الظاء
الورد الظمأ
ظننت أني أنال فلم أنل
11
14
الكاف
إدراك فوت
الصباح (الشيب) الإحلاك (الشباب)
11
15
اللام
لاهية انت أنا سهران (سهادي)
ظبية (الارض) سهيل (نجم في السماء)
12
16
الميم
الفرات العذب عاد حميما
جنة جيحم
12
17
النون
العذب الملح
إمساك بمعروف تسريح بإحسان
13
18
الصاد
الوصل الهجر
الوفاء الصدود
الصبا الشيب
13
19
الضاد
بي صبوة وارتياض بحبيبي جفوة واعتراض
14
20
العين
عفت رسومك لكني أجددها
علو القدر أوضاع
14
21
الغين
أنحل صورتي (لم تكن ناحلة)
15
22
الفاء
لك الوفاء مني لي الجفا منك
15
23
القاف
قالوا قلنا
16
24
السين
ذكر العهد نسي
16
25
الشين
أسد قنص لرشا
العز الهوى
شمس سميتها
ليلي مجلي دجاك غشا
17
26
الهاء
الجمع الافتراق
17
27
الواو
العشاق في شرك الهوى الخلي يلعب
نار الغضى نار الجوى
18
28
الياء
يروع تجنيه يروق جماله
أمسى به صبا اصبح ساليا
18
تعليقات مصفوفة الشعر:
وتبدو الثنائية في مصفوفة القطع الشعرية حاضرة بقوة عبر جميع القطع 28 المتوزعة داخل المقامة في نسقها المغلق حسب خطاطتها الصارمة المعلنة في منذ البداية، وقد برزت فيها الثنائية في شكل تجليات إما صريحة وإما ضمنية من خلال السياق واستنطاق المفردات في دلالتها العكسية بحيث يذكر المعنى أحيانا ويسكت عن نقيضه المضمر.
ويمكن أن نستخلص من هذه الثنائية أنها محكومة بنسيج الصورة الشعرية إما طباقا مفردا بين الكلمات وإما مقابلة بين التراكيب، وبين المشبه والمشبه به في التشبيهات والاستعارات، مما يؤكد أن جميع مظاهر الثنائيات اللفظية ما هي إلا إفراز أو تعبير عن الثنائيات والكونية المتحكمة في الوجود نفسه، فالطباق بمفهومه الواسع لا يعكس إحساسا إنسانيا بما في الكون من أضداد، وأي جانب من جوانبه يخلوا من التضاد؟.
في الطبيعة نجد الموجب والسالب والحي والميت والمتحرك والساكن... وفي الحياة الاجتماعية نجد الخير والشر والثراء والبؤس والسيادة والتبعية... وفي الحياة النفسية ونجد الشعور واللاشعور، والعقل والعاطفة، والضمير والشهوة، والحب والكراهية، واللذة والألم*.
وإذا كان التضاد الذي يمثل عندنا الثنائية واجد ما يبرره في هذا المقبس، فإن الجدلية هي الأخرى حاضرة تفرض نفسها على الطرفين النقيضين عبر أنماط من التفاعل مختلفة، "فلعظم إحساس الإنسان بالتضاد يرتبط في ذهنه الشيء بضره، ويستدعي أحدها الآخر، بل ربما يقول أحدنا شيئا وهو يقصد العكس، وهذا ما لاحظه فرويد وغيره من علماء النفس، فقد لاحظ "فرويد" أن الأضداد لا تظل منفصلة أحدها عن الآخر"**.
جدول مصفوفة تعليقات الملك
رقم النص
الحرف
تعليق الملك
الصفحة
-
-
لله دركم فما انفس دركم * لقد اذكرتم موارد لم يفارقني العطش منذ فارقتها * ولا وجدت نشاطا من لدن فقدتها * فممن القوم * هاتوا من التعريف ماهو رشاد الضال وفطر الصوم
1
ألف
إن وفيتم فما في وجب حقكم مختلف * ومن قصر فمحلنا بالسمح عرف هات يا صاحب الألف
5
2
الباء
ابتدأت فسهلت صعبا * وتعرفت فكشفت حجبا * وتمثلت فذكرت قلبا * وتغنيت فهجيت صبا هات يا صاحب البا
5
3
التاء
نعم الفتى * تعريف افتا * ومثل تاتي وغناء نحت الفؤاد نحتا هات يا صاحب التا
5
4
الثاء
بحثت بحثا * ونفثت نفثا * واثرت بثا هات يا صاحب الثا
6
5
الجيم
خيم غير وخيم * ومثل يا لتسجيع زعيم * ونسيم هب عليه نسيم تنجيم هات يا صاحب الجيم
7
6
الحاء
أوضحت شرحا * ونصحت نصحا * وحركت برحا هات يا صاحب الحا
7
7
الخاء
لله ابوك المشهور بالسخا * ومثلك المحسن للاخا * وغناؤك المساعد للفتخا هات يا صاحب الخا
8
8
الدال
منتمى ليس في فضله جدال * وحكمة تنهى عن الاعتداء وتامر بالاعتدال * وشعر ينادي لا تطلبن لي الابدال هات يا صاحب الدال
8
9
الذال
وصف مذال * ومثل يخزي الانذال * وغناء يرق افئدة الوشاة والعذل هات يا صاحب الذال
9
10
الراء
ما رأيت كاليوم نسبة زهرا * وحكمة غرا * وقافية تبهر الشهرا هات يا صاحب الرا
9
11
الزاي
اما التعريف فقد بلغ اجتزاي * وأما التمثيل فقد أفقد عزاي * وأما الانشاد فنشد جزاي هات يا صاحب الزاي
10
12
الطاء
سعيك إلى المجد ما فيه ابطاء * ومثلك في الصدق ما عليه عطاء هات يا صاحب الطا
10
13
الظاء
هذا لمكان حرفته احظا * وان لحكمته من القبول لحظا * وان لربيعه في الفؤاد لغيظا هات يا صاحب الظا
11
14
الكاف
حال فيه اختلاف * ما بين سرج واكاف * لكن البيان في التفضيل كاف هات يا صاحب الكاف
11
15
اللام
اعلام باعلام * ومحابر واقلام * وغناء يستخف الأحلام * ما عنك منام ولا فيك ملام هات يا صاحب اللام
12
16
الميم
نسب في الصميم * وسجع للنظم حميم * ولمزوم وتصميم هات يا صاحب الميم
12
17
النون
يا فنن الفنون * وعطن القرطاس والنون * بلغت الامل إذ لاح من محاسنك المكنون هات يا صاحب النون
13
18
الصاد
من يلمه ساد وصاد وملك البلاغة فأبى الاقتصاد * ما أعرفه بعروق دم الاصابة عند إرادة الفصاد هات يا صاحب الصا
13
19
الضاد
ما بينكم تضاد * وصلتم رحم البلاغة وصل السواعد بالاعضاد هات يا صاحب الضا
14
20
العين
انت للأعيان عين * ولثوب البيان طراز وزين * وإنما اسمك عوذة من العين هات يا صاحب العين
14
21
الغين
نسب وأدب ألبساك درعين سابغين وأكسباك عضبين للحسود دامغين هات يا صاحب الغين
15
22
الفاء
أوضحت تعرفا * وأنشدت تظرفا * فحسبك ما قلت وكفى هات يا صاحب الفا
15
23
القاف
نعم إذا ذكرت ميادين الفخر فلقريش فيها الثقاف * أو منازل الفصاحة فعليهم وقفت الأوقاف هات يا صاحب القاف
16
24
السين
ما أنباك في الموانسين * وأكملك في الكيسين * وأجملك لراية مخترع التحسين هات يا صاحب السين
16
25
الشين
إن السلطان من دون هذه المحاسن ليشين * وإن ترقيق المكافاة عنها لتخشين هات يا صاحب الشين
17
26
الهاء
هذه أيضا أوجه صباح لا يعذر من سلا عنها أو سهى * منتهى ربيع ومثل أعلى وأبهى * وغناء ألذ في الإسماع وأشهى هات يا صاحب الها
17
27
الواو
أهلا بك فما أشرف مجدك * وأعلى في ربا الأدب نجدك وأنت يا صاحب الواو
17
28
الياء
رعاك الله رعيا * لقد وعيت مقولات العلم وعيا * وفليت طرق الأدب فليا هات يا صاحب اليا
-
-
أهلا بك يا خاتمة أصحابك * وبحال إليها جدك انتهى بك * وأنكم لدائرة مجد ليس لها طرف * وما فيكم إلا ملازم شرف * ومنادم ظرف * قد عرف ذلك من عرف.
-
-
-
وأيم الله ما استمرطتم جهاما * ولا هززتم كهاما * وإن لكم فيما أفاء الله علينا السهاما * وقد صدق برقكم * فلزم حقكم * وكرمت آثاركم * فوجب إيثاركم فصل أيها الشيخ جناح أبياتك وصلا * فلقد سللت على فرسان اللسان نصلا * وحزت من دونهم خصلا * وانتقل إلى الحكمة عن التجليه * فنحن أحوج للتوصية منها للتزكية * ومتى مرضت القلوب فالمواعظ أدوية.
-

وهذه آخر مصفوفة نقف عندها داخل هذه المقامة وهي مصفوفة تعليقات الملك، التي كانت تنسيقا بين المتدخلين وتراوحا بين التذوق والتوجيه، وقد خضعت هذه الأخيرة للتناغم مع روح المقامة وتسلسل وحداتها، وتغلغلت بتعليقاتها داخل جميع المصفوفات السابقة، فيعلق على الحلقة الأولى من تنفيذ التحدي الصعب المتمثل في تصميم هيكل المقامة حسب بنيته المعقدة السابقة، فيقول " ابتدأت فسهلت صعبا وعرفت فكشفت حجبا وتمثلت فذكرت قلبا، وتغنيت فهيجت صبا"ص5.
فخلال هذا التعليق يبدو التبشير المبكر بنجاح بنية الافتتاح وبنية التعرف والكشف في المقامة، ومدى فاعلية وتأثير البعد الفلسفي الوعظي في الأمثال والبعد التعبيري الفني الشعري: ململما بهذا التعليق المقتضب أغلب مكونات البنية العشرية لوحدات المقامة المدروسة، ومختزلا ضمن ذلك ثنائية :
تسهيل الصعب
كشف العجب
تذكير القلب (الناسي)
تهييج الصب (الصابر)
ويشمل التعليق مكون النسب من هذه المصفوفات حيث يقول "منتمى ليس في فضله جدال" ص 8، وحين يقول "نسب في الصميم..." ص 12.
وأخيرا يشير في تعليقه إلى ما يوحي بنهاية التصميم المقترح لهيكل المقامة كما أشار للبداية الموفقة، وذلك بقوله "أهلا بك يا خاتمة أصحابك وبحال إليها جدك انتهى بك" ص 18، وهنا تنحشر هذه التعليقات بين ثنائية:
البداية الموفقة النهاية الموفقة.
4-بنية الختام:
أ-وصف البنية:
تمتد هذه الفقرة على مسافة واسعة بالمقارنة مع المتن الذي يمثله هيكل المقامة، حيث جاءت هذه البنية الختامية لتأخذ نفسا طويلا بعد طول حبس السرد النثري والشعري في قوالب ضيقة ومحددة عبر وحدات الهيكل، لهذا جاء هذا الختام متدرجا عبر خطوات أخذت حريتها في التتالي بعدما خرجت عن نسق المقامة المصمم مسبقا.
فبعد إعلان الملك لختام هذا التصميم الهيكلي للمقامة وحكمه بنجاح الأبطال في تنفيذه، وشهادته لهم بالتفوق الإبداعي دون أن يلمح إلى الجزاء المادي شعر شيخ الوافدين بأن النهاية دون المكافئة المادية تظل نهاية غير طبيعية، إذ ستصبح الرحلة عبر المقامة رحلة بلا معنى ووفادة خائبة، وكأنه استحضر بسرعة أن هيكل المقامة صمم للتحدي الإبداعي واستعراض القدرات المعرفية دون أن يوظف في مدح الملك فكان لابد من إشباع رغبة المديح لدى الملك كما أشبعت رغبة حاجاته للتذوق والتعرف والتوجيه، فقال الشيخ "ماجزاء ماجئنا به من البضاعة المزجاة...(ص18) ثم قبل يده وأنشد :
يا أيها المالك الباهي محيــــــاه أنت الذي تعرف الأظعان مغناه
أما مقامك فهو الغيث أن قصـدت دار امرئ بحروب الضيم دنيــاه
وجود كفك جود فيه غنية مـــــن قد أجدبت من قوام العيش يمنـاه
فحسبك النصر من والاك أصبح قد والاه حبا ومن عـــــاداك عــاداه
وما عسى تبلغ الأقوال في مـــــلك الــــجد ملكـــــه والــــجـد ولاه
اليم راحتـــه والحلــــم راحتــــه والامن ساحتــه واليمـــن لقيــــاه
والمجدمنصبه والحمــــد مكسبــه والسعد يصحبـه والوفـــد يغشـــاه
لولا الأقاليم عم الجور سبعتهـــــا واستنجدتـــه لــــجلاه وأجــــلاه
جمعتنا من تفاريق البـــلاد فلــــم يغــب لنــــا أمـــل إلا جمعنـــاه
ونحن ضيف فمن نحـلل بساحتــه ينظر إلى أي وصــف قــد أضفنــاه
وخلف كل فتى منا فراخ قطــــــا ما حظهـــم منـــك إلا ما جلبنــاه
نغر ملكت بسيف العدل أقربــــــه هلا ملكت بسيف الفضـل أقصـــاه
إن الملوك على ما غـــاب غالبــــة بالجود توليه أو بالهـــول تغشـــاه
وما على بلـــد إلا تــــحل بـــــه ومن يديك وفـي الفضـــــل وافـــاه
"ثم أطرق الشيخ كالمستشير في الزيادة، فقال الملك وقد فطن لما أراد وأيم والله ما استمطرتم جهاما... وقد صدق برقكم فلزم حقكم" (ص19).
وهكذا تحقق الوعد بالمكافأة المادية المبتغاة، ولكن الملك والشيخ مازالت لديهما الرغبة في تمطيط فضاء السرد ليستكمل ما لم تستطع الخطاطة الضيقة الصارمة لهيكل المقامة أن تستوعبه.
فبعد إشباع الحاجة إلى المدح لدى الملك ولدى الشاعر أراد الملك إشباع حاجة العقل والملك للوعظ والتوجيه السياسي، فنثر عليه شيخ الوافدين (أنجم سياسته).
وبعد القصيدة يختفي الساردان الملك والشيخ ليتدخل الحاكي (وقال الحاكي) (ص24)، واصفا تأثر الجميع بالقصيدة ونجاح مسعى الوافدين وعودتهم إلى أوطانهم راشدين.
وآخر الأخير يختفي الراوي ليحل محله المصنف (قال المصنف) ص25 مستعرضا رفعه لتحديات إبداعية خلال إقامته في السجن مثل تخميسه لبيتين وكتابته لموشح على البناء الزجلي لزم فيه ما لا يلزم، كل ذلك استعراضا لقدراته الإبداعية لتكون له شفيعا لدى السلطان (الملك) الأديب.
وهكذا يعيدنا ختام الختام إلى الواقع بعدما رشحتنا بنية الافتتاح لتقبل المقامة كنسق سردي خيالي: (الواقع – الخيال).
ب-ثنائيات الختام:
لم تسلم هذه البنية هي الأخرى من حضور مكثف للثنائيات بدءا بتمحض السرد بين الشيخ والملك يتناوبان الإرسال والتلقي فدار السرد بينهما حول ثنائيات:
النهاية اللانهاية
نهاية الرحلة عدم الجائزة
المدح التوجيه
الحكمة التحلية
التوصية التزكية
مرض القلوب الدواء الموعظة
هذا بالنسبة للثنائيات الكبرى أما بالنسبة للثنائيات الصغرى داخل القصائد الأخيرة، فلا يتسع المقام لتقصيها وهي واضحة للعيان وغنية عن البيان.
أما الثنائية الأخيرة فتنبثق من ثنائية السرد بين :
الحاكي المصنف
فكان حكي الحاكي ينبني على ثنائية النص:

النص التأثير
الموعظة السياسة
روضة أدب لاحديث خرافة
حلة الخلافة مرقعة الفقر
بعد الرحلة العودة
قطع الآفة وصل الغنى
أما سرد المصنف فثنائية تنبني على الانتقال من السرد الجاد إلى السرد الهزلي:
الجاد الهزلي
المدح الخمرة
الموعظة الموشح
مع أن طرف الثنائية الهزلي هو الآخر قابل للشكل الآتي:
السرد الهزلي
هزلي جاد
الخمرية شفاعة
الموشح شفاعة الإبداع
ويرجح مصداقية في هذه الخطاطة الأخيرة التمعن في قراءة أبيات الخمر، فتخميسها يحمل سخرية منها"فقلت لعواد وشاد تمخرقا" ويحمل مدلول الحث على الترك أكثر منه على الشرب.
"وقلت دم الأكواس خلوا مضرجا"
كما أنه وظف البيت الأخير لانفراج كربته وقرب إطلاق سراحه، وكذلك يبدو أن المقطع الثاني من (الموشح) ليس غزلا بقدر ما هو عتاب للسلطان وموعظة وتشفع، وهو زاخر بالثنائيات التي تخدم هذا المنحى:
الجور في الحب عدل وعادة مستمـــره
إن الهوى ليس يحلو ما لم تقل ما أمره
والدهر صعب وسهـل مضـره ومســـــره
كم من أناس تهـــنوا عيشا تاتى وأقبـل
بكوا عليه وأبكــــــوا لما جـــــفا وتــدل
يامن يســــائل عــني انا الغرـب الفريـد
الدار والاهـل مـــــني والذهن كل بعيـــد
طال اغترابي وسجــني حتى رثى لي الحسود
قل للذيـــــن تولــــــوا من محنتي ما توسل
هـب العبيـــد تجنــــوا العفو الـحر اجمـــل
ما حلت عهـــدا ولكـــن سعاية مــن حــسود
إن أبعدتـــني الأماكـــــن فالـود غـــير بعيـــد
ثنائية الخيالي والواقعي في المقامة:
بعد الانتهاء من مسايرة تسلسل وحدات مقامة حضرة الارتياح عبر سيرورة بناءها واستنطاق هاتيك الوحدات، في ضوء جدلية البنية والدلالة التي أوقفتنا على كثير من الثنائيات المتحكمة في نسيج هذه المقامة بدأ من التمهيد وحتى الختام، بقي لنا أن نتناول مقامة حضرة الإرتياح في ضوء ثنائية (الخيالي/الواقعي) التي تقتضي إنزال هذه المقامة من برج الخيال الفني إلى سطح واقع التاريخ الحياتي، وهنا نجد أنفسنا لتحقيق هذا المبتغى أمام ثنائية
السارد المسرود له
لنتساءل من هما ؟، وهل هما شخصيتان خياليتان؟ أم أن لهما تحقق في التاريخ؟.
إن المعطيات التاريخية إذا أردنا من خلالها أن نخترق غلاف الرموز سوف نختزل لنا جميع شخصيات المقامة في بطلين هما:
السارد العاملي والمسرود له الملك يوسف الثالث.
وقد أوضحت المقامة هذا التدرج من الخيالي إلى الواقعي من خلال تحول صيغة السرد من " يحكى... كان يقال... قال المحدث... قال الشيخ... قال الشعراء... ال 28... قال الراوي ... قال الحاكي" لتندغم هذه الأصوات كلها في قال (المصنف) أي العاملي، كما أن الملك في آخر المقامة تحول من ملك... منكر خيالي.... إلى ملك حقيقي يعايش المصنف ويعايش أزمته في السجن حيث قال العملي عند حديثه عن سبب تخميسه للخمرية في آخر المقامة.
(وقع ذكرك في مجلس أخي السلطان.... فاستغرب أن يبلى مثلك بالسجن وغربة الأوطان.... ورق وأشفق وأظنه لو وجد لنقد الشفاعة سوقا أنفق... فطلب كاتبه أنه أبلغها إليك ليجعل ما يصدر منك فيها منبها عليك ....
.....ثم جاء بعد وفي يده رقعة لرجل من خواص الجانب العلي، يعرف بالباهلي يطلب شيئا من كلامي يجده وسيلة لتبييض أيامي".
وهكذا يتجلى أن هذه الشذرات يتحدث فيها العاملي عن حوار بينه وبين أحد زواره في السجن، ويتحدث بضمير المتكلم (وجاءني-كلامي-أيامي) كما يتحدث عن حضرة الملك (أخي السلطان- الجانب العلي).
والواقع أن هذا التحول من الخيال إلى الواقع رشح له الكاتب بقوله على لسان الحاكي في نهاية أحداث المقامة (وهذه روضة أدب فلا تقل حديث خرافة) ص 25.
وبما أن هذه هي النهاية الطبيعة لأحداث المقامة فقد كانت الفقرة حاجزا بين
خرافة الأدب
الخيال الواقع
ومن هنا مباشرة يبرز السارد الواقعي "قال المصنف" ومن هنا مباشرة أيضا انتقل السرد من القصص الفني التخييلي إلى الأخبار الواقعية التي يرويها المصنف خارج أحداث المقامة ليوحي –دون أن يصرح- بأن المقامة في سياق الشفاعة إلى الملك باستعراض القدرات الإبداعية، من أجل إطلاق سراحه كما أومأت إلى ذلك قصة تخميس الأبيات الخمرية والموشح حسب ما أسلفناه.... وهو ما صرح به الناشر في فاتحة المقامة خلال التعريف بالمؤلف حين ذكر بأنه استوحى مقامته من حديث أحد السجناء معه في سجن فاس إثر محنته بعد توليه القضاء في جبل الفتح.
(فنسج على نحو ذلك مقامته وأبرزها فتعجب لها كل من طرقت سمعه واستحسنها فكانت سببا في خلاصه).
وهكذا تصرح الفاتحة بما جمجمت به الخاتمة لتتولد عن ذلك ثنائية أخرى بين
الفاتحة الخاتمة
التصريح بسبب التأليف التلويح بذلك
ولعل أغرب ما في الأمر أننا عندما رجعنا إلى الخلفية التاريخية للسارد –العاملي- والمسرود له الملك يوسف الثالث وجدنا تقاطعات عجيبة بين الرجلين، فيوسف الثالث قد سجن ونفي وتغرب كما أنه قد أقام بجبل الفتح.
حيث يقول في مقدمة بعض قصائده"إننا تذكرنا أيام المقام في ظاهر جبل فتح"1، وهو أيضا يتذكر مالقة موطن العاملي المالقي حيث يقول2:
تلقى بمالقة أكباد متنزح فلا يزال أوار الصدر منضوحا
نهاية المطاف أو مطاف النهاية:
إن الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها بعد استجلاء جوانب من أبعاد هذه المقامة:
هي أن هذه المقامة قد جاءت وليدة تحد يضع الشاعر في ثنائية صعبة: إما حياة أو مماة، حيث انبثقت من معاناة السجن بعدما لاح له بصيص أمل في آخر النفق المظلم حين أوحى إليه.
إما أن تظهر من قدراتك الإبداعية ما يشفع لك لدى الملك فتخرج من ظلمات السجن وإما أن تفشل فتبقى في ظلمة السجن ولا تخرج منها إلا إلى ظلمة القبر، وأمام هذا التحدي الثنائي كانت كلمات ابن البناء العاملي في هذه المقامة... بمثابة أنفاس حياته كما هو حال الحكي بالنسبة لشهرزاد في ألف ليلة وليلة فجاءت تحمل في بنيتها العميقة ثنائية (الحياة والموت).
وبما أن (ابن البناء) كان عالما وشاعرا ومتبحرا في أغلب الفنون....
وبما أن الملك المسرود له كان هو الآخر عالما وشاعرا فقد كانت لعبة التحدي الإبداعي ... مغرية .... ومثيرة، لتحقيق التفاعل الخلاق بين السارد والمسرود له.. لاسيما أن اللعبة الفنية كانت مشحونة بلعبة الحياة والموت وهذا كله ما يحفز ويستنفر جميع الطاقات الإبداعية لدى الكاتب... ولهذا انطلقت المقامة في مفتتح الحوار باقتراح تحد منهجي صعب، فقبل الملك الرهان، فاتحا الفضاء الدرامي داخل المقامة على بوابتي، النجاح أو الفشل، مرتبا عليهما المكافأة أو المسامحة ووضع المسامحة، هنا بدل العقاب إخلال متعمد بتناقض الثنائية، تغليبا من الكاتب لجانب الأمل في عفو الملك من البداية على جانب اليأس، وتفاءلا في مفتتح المقامة من ناحية، وإيمانا بانتصار سحر الكلام من جهة أخرى، وتأكيدا لفاعليته في نفس المتلقي المبدع=الملك، الذي يقدر الإبداع باعتباره ناقدا متذوقا بصيرا...
وهكذا جاءت هذه المقامة جديدة في بنائها وأسلوبها، من حيث الإنبناء على الحروف الألفبائية العربية، باعتبارهم الأبطال الرسميين للمقامة وفق نسق يتواثر عبر 28 حلقة قصيرة داخل هيكل المقامة مشكلا عربات قطارها المضبوط الإيقاع على خطاطة حرفية تلتزم مالا يلزم عبر حلقة كل حرف من الحروف في جميع خطوات التعريف العشر المتبعة، وقد اكتفى بلزوم ما لا يلزم، عن السجع المعهود في المقامة باستثناء الأمثال وفقرات السرد الخارجة على الخطاطة الملتزمة، وفي المقابل كانت تعليقات الملك تلتزم السجع المناسب في الإيقاع للحرف الموالي، ليكون الربط بين الحروف والأبطال موزونا... وملتزما هو الآخر، ما لا يلزم مثل أن يقول في البداية "إن وفيتم فما في وجوب حقكم مختلف ... ومن قصر فمحلنا بالسمح عرف... فهات يا صاحب الألف...
ويقول "وتغنيت فهيجت صبا... فهات يا صاحب الباء" وهكذا دواليك... ولم يشذ عن هذا الإلتزام إلا في حرف الواو وحده، حيث التزم السجع ولكنه لم يجعل الواو فاصلة الفقرات فقال:
"أهلا بك فما أشرف مجدك، وأعلى في الأدب جدك، وأنت يا صاحب الواو هات ما عندك ....".
وبما أن الموقف موقف للتحدي واستعراض القدرات الإبداعية فقد منح ابن البناء للملك دور المتلقي الإيجابي المهيمن على الحدث، والبناء، توجيها ونقدا وتعليقا، مبرزا طاقاته كما أبرز هو بالمقابل خبراته وقدراته.
في مجال التاريخ العربي، حيث قدم معجما لأسماء الأعلام والقبائل.
وفي مجال الجغرافيا: حيث قدم معجما للبلدان العربية أخطأ في إسم واحد منه حيث أورد ذمياط بالذال المعجمة والصحيح أنها بالدال كما هو معروف1.
وفي مجال الأمثال والحكم حشد معجما آخر يمثل رصيدا من الخبرات والتجارب ينم عن ضلاعته في السياسة والأخلاق ومجريات الحياة، و مما يعزز ذلك أن جل ما حشد من حكم وأمثال يرجح أن يكون من وضعه وابتكاره لأنها ليست من الأمثال المتداولة على الألسن ولا في الكتب.
وفي مجال الشعر، بث خلال تضاعيف المقامة ديوانا يتألف من 28 رباعية لزومية... بالإضافة إلى قصيدة الشيخ في الفاتحة وقصيدة المدح في الخاتمة، وقصيدة أنجم السياسة في التوجيه الأخلاقي والسياسي وكذلك التخميس والموشح في الختام، وانسجاما مع روح التحدي الإبداعي التي تلف لحظة ميلاد المقامة، وما تقتضيه من نزوع إلى الإبتكار والتجديد فقد كسر ابن البناء سند الرواية في المقامة ولم يسم الراوي..... مكتفيا ب يحكى.... يقال.... الحاكي.... المتحدث.... وأخيرا المصنف"... كما أنه عوض تنوع صورة البطل الواحد في المقامة ال"النموذج" بتعدد الأبطال،وعوض تنوع موضوعات المقامات المتعددة بتنوع موضوعات المقامة الواحدة، فكانت كما ألمحنا سابقا معرضا للتاريخ والجغرافية والعلم والنثر والشعر والبديع والقصص والوعظ والمديح والسياسة والحكمة، وهكذا تندغم كل هذه الأصوات والاختصاصات المتعددة في صوت واحد وشخص واحد، - في النهاية- هو المؤلف الذي يبدو شاعرا ووشاحا وزجالا وناثرا، وحكيما وجغرافيا وسياسيا ومؤرخا ومقاميا وقصاصا، ولغويا مبدعا وفقيها.
كما أنه جعل رحلة الكدية الفردية لبطل المقامات رحلة وفادة جماعية رسمية غير شعبية، تبتعد عن الإبتذال والحيل والتهريج والبلهوانية المألوفة، لتبعث تقليدا عربيا أصيلا هو ظاهرة الوفود العربية التي كانت معروفة حتى لدى كسرى إيام النعمان بن المنذر...
وهكذا نجد أن مقامة حضرة الارتياح لم تتخل حتى الآن عن ثنائيتها ولم تنسها، فهي في هذا تخضع لثنائية "التقليد/والتجديد" حيث تمسكت ببعض ثوابت المقامة وخرقتها في الوقت نفسه منسجمة في هذا مع التعريف المغلق المفتوح الذي أعطاه الدكتور يوسف عوض نور للمقامة حيث خلص (إلى أن المقامة في إطارها اللغوي تمثلت في حديث يلقى على جماعة من الناس إما لغرض النصح أو الإرشاد، وإما الثقافة العامة أو التسول).
ومع ذلك فإنها لم تلتزم شكلا فنيا محددا1.
ولعل أروع مظاهر إبداع ابن البناء في مقامته هذه وتحكمه خلال صياغتها في جدلية البنية والدلالة هو تسخيره الموفق لجميع عناصر بناء المقامة في خدمة الدلالة، بحيث لا توجد فيها زوائد دودية ترهل جسمها بدون طائل، فأسماء الأشخاص والقبائل والأماكن رغم رمزيتها (للهوية العربية) الوافدة لملك يفتقر إليها وهو على مشارف العجمة الزاحفة وهي تفتقر إليه أيضا لغرقها في طوفان العجمة ذاتها في المشرق.
نجد أنها أي هذه الأسماء توظف في رمزيتها أحيانا آخر للتفاؤل وكذلك الأمثال والحرف حسب ما يوحي به تقديم البطل الأول "الألف" لنفسه حيث يقول :
"أنا أنس بن أفلح وجاريتي أسماء بنت أيمن الأسدية وبلدي الأنبار وحرفتي أبار والمثل انظر ما به تذكر من معروف أو منكر"، فابن البناء لم يلجئه التزام حرف الألف في بداية جميع الأسماء إلى رصف كلمات بلا معنى، بل اختار افتتاحا مشحونا بالتفاؤل يطفح بالأنس... والفلاح والأسماء (الحسنى) واليمن، والأسد الرامز للقوة والإنتصار والتصيد والأنبار أول عاصمة للدولة العباسية قبل بغداد رمزا للعراقة العربية، والتأبير حيث يلقح النخل وتنتظر النتيجة: الرطب الجني-الخصب - النماء، هذا بالإضافة إلى حمولة المثل المناسبة لمقام التكسب والتحريض على العطاء، أنه مجرد مثال يكاد يكون سائدا على طول المقامة والشيء نفسه ينطبق علىتعليقات الملك.
وقد أشرنا إلى ارتباطها بمداليل المقامة وبناءها خلال حديثنا عن مصفوفة التعليقات، في بناء هيكل المقامة، وهنا نكتفي بنموذج واحد، غير ما أسلفنا، وهو تعلقيه على بطل "الميم".
(نسب في الصميم، وسجع للنظم حميم، ولزوم وتصميم، هات يا صاحب الميم).
فهذا التعليق مسيس العلاقة بجوهر المقامة وبنائها فالنسب -الذي في الصميم- هو نسب لخم- والملك النصري من لخم، وهو سر الإشارة بالصميم والفقرة الثانية تحكم على مستوى الأدبية العالية في المقامة حيث تندك الفوارق بين النثر والشعر.
والفقرة الثالثة تعلق على البناء العام للمقامة من لزومها لما لا يلزم في تصميمها الهندسي وتصميمها على ذلك بدأب واستمرار.
ولقد وظفت الأشعار المنبثة عبر المقامة من البداية إلى النهاية توظيفا رمزيا يسقط الفن على التاريخ، خالقا جدلية بين الشكل والمضمون، فهذه الرباعيات الغزلية لم يستغرقها زخرف الشكل باللزوميات بل كانت تستبطن في استعطافها للمحبوب الهاجر المهجور استعطافا وتشفعا للملك، فانظر مثلا رباعية العين:
عليـك يا ربــع ألافي وأشياعــــي مني السلام مشوق للهوى راع
عفت رسومــك لكــني أجـــددها بالذكر حشو أعارضي وأسجاع
عجبت من أخت عهد أن يغـيرها على فتاها غيور بالـهوى سـاع
علو قـــــدرك (يا علوا) أنزهــــــه مـن اعتقـاد أغاليـــط وأوضـــاع
بالله ربك ألاتحس بهذه الحمولة الرمزية المستبطنة حشو أعاريض وأسجاع، عبر نثر المقامة وشعرها، عابقة بالشكوى والتنصل وأمل العفو... كما أن هذه الأشعار طافحة بالفرقة والرحلة التي هي عنصر أساسي في كل مقامة، وفي هذه المقامة والتي تعني الكثير بالنسبة لابن البناء ويوسف الثالث الذين ذاقا معا طعم الغربة والسجن .... والنفي... وهذه الغربة المكانية والزمانية، وغربة الفروسية هي التي جعلت يوسف الثالث وغيره من شعراء الأندلس والمغرب يولعون باستحضار الأمكنة المشرقية الرمزية، توقا للأصل، وتجذيرا للهوية، وخصوصا في لحظات إنهيار الحضارة في المغرب والأندلس، استمع إلى يوسف الثالث حين يقول1:
لـمن طلــل بالرقمتــين محيـــل سقته روايا المزن حـين تسيـل
وحين يقول:......
وهل لغريب الدار والنفس والهوى إلى نيلــه لـقيا المحـب سبيـل
ألا يمكن أن يكون علم ابن البناء بهذه الغربة العاصفة بين جوانح يوسف الثالث،واستشراف الأماكن المشرقية وتوظيفه الرمزي لها، هو الذي جعله يوظف في مقامته معجما من البلدان المشرقية وأسماء الأعلام والقبائل المحملة بعبق التاريخ والقدسية والحضارة والمجد ثم يسوقها إلى الملك الذي كان يستشرفها في لحظات غربته الوجودية، فيقدمها إليه على طبق من ذهب وتجعلها تقول له بلسان المقال والحال، إن هذه الأماكن هي الأخرى تشعر بالغربة في مشرقيتها وقد جاءت تبحث لدى الملك عن عروبتها وقدسيتها فليس هو أحوج إليها منها إليه.
لولا الأقاليم عم الجور سبعتها واستنجدته لــجلاه وأجـــلاه
جمعتنا من تفاريق البلاد فلـم يغـب لنــا أمـل إلا جمعنـــاه
وخلف كل فتى منا فراخ قطـا ماحظهم منك إلا مــا جلبنــاه
ثغر ملكت بسيف العدل أقربـه هلا ملكت بسيف العدل أقصاه
إنها الرمزية العميقة، إنها الثنائية الجدلية، إنه الوباء الإنهيار الشامل في المشرق والمغرب، وما خفي أعظم مما لو أرخينا العنان في ملاحقته وتجليته من مكامنه لتناسخ العرض صفحات وصفحات.
وأخيرا ونحن نمسح قطرات العرق بعد هذه السباحة المجهدة، لا نبالي هل نجحنا أم أخفقنا إنما المهم هو أننا بدلنا جهدا وفي النهاية نتساءل مع شيخ الوافدين: وما جزاء هذه البضاعة المزجاة؟ وننتظر من القراء الكرام أن يقولوا لنا كما قال الملك: "وأيم الله ما استمطرتم جهاما، ولا هززتم كهاما، وإن لكم فيما أفاء الله علينا لسهاما، وقد صدق برقكم، فلزم حقكم، وكرمت آثاركم، فوجب إيثاركم".


1 د. مارد عبد الرحمان مبروك، الدم وثنائية الدلالة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 17..

1أسامة بن منقد كتاب العصا، تحقيق حسن عباس تقديم محمد هدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1989 ص 4-5 من التقديم.

1 الإمام أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي، الفقيه المفتي الخوارزمي "538هـ 616هـ" دار الكتاب العربي بيروت ص 16.

2 محمد بلاجي "توضيف العناوين في تأليف المصنفات المبادئ والأهداف" كتاب ندوة الأدب القديم أية قراءة، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدار البيضاء فبراير 1993 ص 132.

3 انظر تفضي النخلة على الكرمة ، لعلي النباهي الماقلي، بقلم حسناء الطرابلسي بوزويته، حوليات الجامعة التونسية 1988، ص 199، وما بعدها.

4رسائل ابن حزم لأندلسي .

1أبو أحمد العسكري "كتاب مصون" تقديم د. صلاح الدين المنجد تحقيق عبد السلام هارون الكويت 1960 ص 1 المقدمة.

* د.علي يونس الطباق الخفي مع نماذج من روائع الشعر والنثر، مكتبة الآداب القاهرة ط,1 – 2000 ص 6-7.

** المرجع نفسه ص 7، نقلا عن سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي (ترجمة سامي محمود علي وعبد السلام (القفاش)، القاهرة-هيئة الكتاب، 2000م، ص 57-58.

1فاطمة طحطح : الغربة والحنين في الشعر الأندلسي منشورات كلية الآداب ، طبعة 1993، ص281.

2المصدر نفسه ص 285.

1انظر ياقوت الحموي ، معجما لبلدان، تحقيق محمد أمين الخانجي، ط 1 ، 1906م ص 84..

1د.يوسف عوض نور فن المقامة بين المشرق والمغرب مكتبة الطالب الجامعي – مكة المكرمة العزيزية طبعة 2 سنة 1406هـ ص 12.

1د. فاطمة طحطح، مرجع سابق ص