تابع / الفصل السادس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
.................................................. ....................

أما حمادة بك فهو من الأثرياء ، صاحب فرن وبيت ، ويرى أن الصدقة لأنسية حرام . نجا من الموت غرقًا أكثر من مرة . رشح نفسه للانتخابات فسقط وأدرك أن للانتخابات رجالها .
أما الحلاق محمد صبرة ، فقد حرص على اقتران اسمه بالأثرياء ، أمثال حمادة بك والحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي والشيخ طه مسعود , يداوي مرضاه بالأعشاب . يداوم على قراءة الكتب القديمة . وهو مولع بتركيب الأدوية ، وتعلم إجراء عملية الختان في المناسبات الدينية .
وقد اختار محمد جبريل اسم ( أبو العباس ) عنوانًا للجزء الأول . يقول عنه : " أما المرسي أبو العباس ، سلطان الإسكندرية وحاميها ، فإنه الرمز للإسكندرية كلها : اقروا الفاتحة لابو العباس .. يا إسكندرية يا أجدع ناس .. الزفاف يظل ناقصًا ما لم تسبقه جولة للعروسين وأصدقائهما حول الميدان المواجه للجامع سبع مرات ، وكرامات السلطان في حوائج الغلابة والمنكسرين من أبناء الإسكندرية والمدن المجاورة ، لا تقل عما يعتقده أبناء القاهرة ـ والمترددين عليها ـ في أم العواجز وزين شباب أهل الجنة والشافعي والرفاعي وأولياء الله الصالحين " ( 21 ) .. فأبو العباس يمثل الرمز الديني الذي يتجه الناس إليه . إنه الملاذ والوسيط لقضاء الحوائج . يتحلق الناس حول ضريح الإمام ، يستلهمون منه الإرادة والعزيمة .
يتحدث الكاتب في الفصل الثاني عن حلقات الذكر بعد العشاء ، وأحاديث الناس مع الإمام في أمور دنياهم . يتقلد الشيخ طه مسعود إمامة مسجد أبي العباس . وتتصدر الفصل السادس والعشرين مقطوعة عن أبي العباس ليلة وفاته . ذهب يودع أخاه ، ثم قدم إلى مريده أبي عبد الله الحكيم بأشموم ، ثم ودع أخاه وعاد إلى الإسكندرية يقضي بها ليلته ثم لحقته الوفاة . تذهب أنسية إلى ضريحه ، تستغيث به ، وتقدم رسالتها الثانية والثلاثين ، تطلب فيها أن يبعدها عن الطريق الحرام ، وفي طريق عودتها شهقت لرؤيته ،فطمأنها بأن مشكلتها لها حل . ثم ذهب متلاشيًا كأنه لم يكن ‍‍‍‍.
في الفصل التالي ، وصف لليلة التاسعة ، آخر ليلة في مولد السلطان ، بطريقة الكاتب المعتادة في حشد عدد كبير من الناس ، ومن الأشياء والعلامات المميزة ، حتى أنه لا يفوته شيء .‍ ووصف عملية الختان التي تفرغ لها الحلاق . ويروي الحاج قنديل أن حمادة بك نجا من الـموت ببركات مولانا السلطـان . وفي الفصـل الأخير بيان بكرامات السلطان ومكاشفاته ، وروايات أشبه بالمعجزات ، مثل أنه كان يمشــي على الماء ويطير ويمسك النار ويحتجب عن الأبصار . وكان يرى الكعبة من موضعه . ويتحدث الإمام عن أبي العباس الذي ظهر فجأة .
تقترب أنسية من المقام توشك أن تقبل قدميه ،فيزجرها الإمام . ويحكي الحاج قنديل كيف جاءه أبو العباس وهو جالس أمام دكان الحاج محمد صبرة ، وكان الحاج قد اعتذر عن عدم التوسط للإفراج عن الراكشي،أتـــــاه المرســي أبو العبــاس واقتعــد كرسيا وقال له : " والعافين عن الناس " ( 22 ) .. وقال أيضا : "لماذا تحاربه في رزقه ؟! " ( 23 ) .. ومضى .. وقد انتظر السلطان حمادة بك على ناصية شارع سيدي داوود، وقال له : " المرأة أنسية أولى بأن تسكن هذا البيت " ( 24 ).. ونصحه الإمام : " نفذ ما يقضي به مولانا السلطان ! " ( 25 ) .. وتحدث عباس الخوالقة عن ظهور السلطان يطوف بأرجاء الجامع . وغادر الرجال الجامع واستكانوا إلى رأي الإمام بأن ما جرى كان حلما ، توزع على الفضلاء من أبناء الحي . ويثور سؤال ملح : " هل كان ما جرى حلما، أو أنه شيء آخر ، ينتسب إلى معجزات سيدنا السلطان ؟! " ( 26 ).
.. وفي رواية ( أبو العباس ) شخصيات أخرى كثيرة . والملاحظ أن محمد جبريل يحفل بعالم الرجال، ويغفل دور النساء، إلا فيما ندر. وإذا استثنينا ( أنسية)، المرأة الوحيدة التي حفل بها ، لا نجد دورًا مهما لأية امرأة ذكرها عرضا . وأنسية نموذج لامرأة سخرت جسدها لإمتاع الرجال، نظير أجر، وما من رجل إلا جامعها . وهي تتوق إلى التوبة من حياة الدنس ، فتلجأ إلى الشيخ أمين عزب ، ثم تلجأ إلى مقام السلطان أبي العباس ، تطلب الإنصاف والشفاعة والعون ، وكل أملها أن يترك لها حمادة بك البيت لتقيم فيه ، إلا أن الشيخ أمين عزب نصحها بأن تترك حياة الحضيض ، وتخدم في البيوت ، فهذا أرحم ، أو ترجع إلى أسرتها الطيبة . وهي تود التوبة عن المعاصي . تأمل أن يتزوجها سيد الفران . ولما ساعدها عبد الرحمن الصاوي في الابتعاد عن كل ما يسئ إلى الإسلام ، عاب عليه حمادة بك ذلك ، فالصدقة في عرفه لأمثالها حرام ‍ ‍‍‍.. وفي طريق عودتها شهقت لرؤيته ، فطمأنها بأن هناك حلا لمشكلتها ، وذهب متلاشيا كأنه لم يكن ‍ .. وحين ظهر أبو العباس لحمادة بك ، نصحه بأن يترك البيت لأنسية ( 27 )..فأنسية احترفت البغاء لتعيش ، لكنها تتمنى بيتًا يؤويها ( بيت حمادة بك ) وزوجًا يسترها ( سيد الفران ) ، وأحبت أن تتوب عن المعاصي فسعت إلى ذلك سعيًا جادا . لجأت إلى الشيخ أمين عزب ، وإلى مقام أبي العباس ، لكن مجتمع الرجال لا يرحم . هذه هي المرأة الوحيدة التي اضطلعت في الجزء الأول بدور رئيسي .
ويشبه محمد جبريل في هذا الكاتب الأمريكي ، الأرمني الأصل ، وليم سارويان في ولعه برسم شخصيات من الرجال ،وإغفال المرأة ( 28 ) .. وإن اختلفا في المرحلة العمرية للذكور ، فمحمد جبريل يحفل بعالم الرجال ، وهم في الغالب متزوجون ، وسارويان يحفل بصغار السن الذين يتطلعون إلى الحياة والمستقبل . وثمة شخصيات نسائية أخرى ذكرت عرضا ، في معرض اهتمامه بالرجل .. نذكر زوجة الراكشي مثالا ـ لاحظ أنه أغفل اسمها ـ يقول الراكشي للمرأة المستلقية على طرف السرير ـ يقصد زوجته ـ : " اليوم أحسن " ( 29 ) .. وطلب منها ألا يلعب الأولاد خارج البيت خوفا من المظاهرات. سألته أم الأولاد مشفقة : " هل تنوي ترك مهنتك ؟‍‍‍‍‍‍‍ ‍.. نحيا على نقود الطير معظم أيام السنة .. ولولا الحاجة ما نزلت البحر .. إذا غضب منك الحاج قنديل .. لن يقبل بقية المعلمين أن يتعاملوا معك " ( 30 ).. ويحلم بامتلاك قارب فيقول لزوجته :" المصيبة أني أكلم نفسي .. فماذا تفهم امرأة غبية مثلك ؟‍ " ( 31 ) . فزوجة علي الراكشي هي المرأة التي لا نعرف اسمها ، فقط نتعرف عليها منسوبة إلى زوجها ..فهي المرأة المستلقية على طرف السرير، وهي أم الأولاد ، ويصفها زوجها بأنها امرأة غبية لا تفهم ما يقول .. كل همها اللقمة والمستقبل الآمن ، وهو مستقبل محدود متواضع لا يجاوز ظلها ‍.
وكما لم تحفل الرواية ( أبو العباس ) بعالم النساء ـ باستثناء أنسية ـ لم تحفل أيضا بمعاني الحب .. فلم نجد شيئا يذكر عن لواعج النفس ، وخفقات القلب .. كأنما قست قلوب الصيادين وأضرابهم ـ باستثناء حادثة غرق جمعة العدوي ـ وكل ما يشغلهم السعي للرزق وإرضاء النزوات العابرة، واللواذ بالمشايخ وأولياء الله الصالحين . وتضمهم قهوة مخيمخ وغيرها . واكتفى الكاتب برسم شخصية أنسية لإمتاع الرجال ‍ .. وهناك حديث عن خطيئة عبد الرحمن الصاوي ، واعترافه لابنه سلامة بأن أمه كانت على علاقة ( بمكوجي رجل ) .. وذكر سكينة التي واجهت سلامة بأنه ليس شقيقًا لها .. وتخون يسرية زوجها المسافر .. فدور المرأة ثانوي هنا ويأتي ذكرها لإرضاء نزوات الرجل وخدمته، وتأكيد زلات المرأة ، ولم نجد هنا اغتصابًا لامرأة ، وإنما هي رغبة الأنثى في أن تضاجع رجلا ، مما يعد ظلما للمرأة .. لم يتمثل هذا الظلم في شخصية (أنسية ) فحسب ، وإنما يمتد إلى الأسماء التي وردت ولعبت أدوارًا هامشية ‍ . ولعل قصد الكاتب أن يصور حقبة، أو أن مجتمع الصيادين ملئ بهذه الصور .. إلا أن إهمال أو إغفال عاطفة الحب من الملاحظات التي نقف عندها ونضع علامات استفهام حائرة ؟‍؟
ومثلما يحفل جبريل بدور الرجل ، يحفل بالمكان أيضا ، يصفه ويرسم خريطة لحي بحري بالإسكندرية ، ويذكر الجوامع والمساجد والأضرحة والأولياء ، ويذكر المقاهي ، ولا ينسى ذكر أسماء الشوارع ، وكورنيش الإسكندرية الذي أنشأه صدقي باشا .
الهوامش :
1-محمد جبريل : أبو العباس ـ ص 75.
2-المصدر السابق ـ ص 67.
3-المصدر السابق ـ ص 104.
4-المصدر السابق ـ ص ص 105، 106.
5-المصدر السابق ـ ص 184.
6-المصدر السابق ـ ص ص 170،171.
7-محمد جبريل : حكايات عن جزيرة فاروس ـ ص ص 61 / 64.
8-أبو العباس ـ ص 207.
9-المصدر السابق ـ ص 211.
10-نفسه.
11-المصدر السابق ـ ص 217.
12-المصدر السابق ـ ص 261.
13-نفسه.
14-نفسه.
15-المصدر السابق ـ ص 265.
16-نفسه.
17-المصدر السابق ـ ص 266.
18-المصدر السابق ـ ص 148.
19-المصدر السابق ـ 172.
20-مجلة ( راقودة ) : عدد 8 ـ يونيو 1999 ـ مقال أحمد فضل شبلول ـ ( محمد جبريل في " رباعية بحري") ـ ص 91.
21-حكايات عن جزيرة فاروس ـ ص ص 79، 80.
22-أبو العباس ـ ص 265.
23-نفسه.
24-المصدر السابق ـ ص 266.
25-نفسه.
26-المصدر السابق ـ ص 267.
27-المصدر السابق ـ ص 266.
28-وليم سارويان : مجموعتا قصص : ( سبعون ألف آشوري ) و ( ابن عمي ديكران ) ـ ترجمة : حسني سيد لبيب ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994م.
29-أبو العباس ـ ص 8.
30-المصدر السابق ـ ص 13.
31-المصدر السابق ـ ص 15.