الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 20

الموضوع: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب

  1. #1 نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    -------------------------


    اسم الكتاب : محمد جبريل .. روائي من بحري.
    المؤلف : حسني سيد لبيب.
    عدد الصفحات : 93.
    عنوان المؤلف : 34 شارع الصديق أبو بكر ـ أرض الجمعية ـ إمبابة 12421 ـ الجيزة.
    تليفون : 3126661
    .....................


    الإهداء

    إلى صانع الفن الجميل ..
    الروائي الفذ .. محمد جبريل ..









    *****

    تقديم
    .....

    عرفت محمد جبريل منذ سفره إلى الخليج، ليشرف على جريدة ( الوطن ) العُمانية، ويصحح مسارها، حتى تتبوأ مكانتها في الصحافة العربية.. امتدادا لمعرفتي به من خلال صفحة ( شباب الأدب ) لجريدة ( المساء ). كان شديد الاهتمام بما أرسل من قصص عن طريق البريد، وهو الاهتمام نفسه الذي حظي به كل أديب تعرف إليه. وفي ( الوطن ) نشر لي عددا من القصص، مثلما نشر لغيري.. وحين عاد إلى مصر، تغيرت صفحته الأدبية، واختار لها عنوانا جديدا ( قضايا أدبية ).. وهو في كل المراحل كان صديقا حميما لكل الأدباء، وإذا قصده أديب ما، كسب صداقته ووده. وحين يكتب عن أديب يعرفه ويقرأ له، أجده مغرما بالنداء الحلو ( صديقي.. ). في البداية، لم يتسنّ لي الاطلاع على كل كتابات جبريل، فلم أقرأ له إلا القليل من إبداعاته، بدءا برواية ( إمام آخر الزمان)، وبعض قصص قصيرة في الدوريات المختلفة. لكنني ـ حين انفتحت أكثر على عالمه القصصي ـ ألفيتُ نفسي قبالة عطاء وفير متميز، وللأسف لم يكتب عنه سوى القليل. ولعل ذلك راجع إلى قصور النقد عندنا، أو أن النقد لا يواكب الحركة الإبداعية بالقدر المطلوب. لقد وجدت ـ فيما كتب جبريل ـ إبداعا جديرا بأن يتناوله الدارسون والنقاد، ويسلطوا عليه الأضواء.. من هذه النقطة رأيت أن أكتب دراسة أدبية نقدية، تتناول الجانب الروائي، أحد جوانب كتاباته التي تعددت فشملت أيضا القصة القصيرة والدراسات والأبحاث. أما الجانب الروائي ـ موضوع كتابنا هذا ـ فإني شعرت بأن الدراسة لابد أن تتمحور عند دائرة معينة، فاخترت تلك الروايات التي اتخذت من الإسكندرية مكانا ومسرحا لأحداثها، حيث شكلت وجدانه.. بصفتها وطن الصبا والشباب. ورغم أنه يقطن الآن في مصر الجديدة، إلا أن الإسكندرية لم تزل وحي إلهامه.
    وقد عمدت إلى تبويب فصول الكتاب بعناوين الروايات، ورتبت الفصول طبقا لتواريخ صدورها.. لتكون الدراسة أشبه برواية أخرى مرتبة ترتيبا زمنيا، لعل القارئ يستشف تطور الكاتب، وطبيعة كل مرحلة من مراحل إبداعه. ولم أشأ إغراق القارئ بنظريات نقدية تبعده عن السياق الروائي. إنما تناولت الروايات نصوصا أدرس وأحلل في ضوئها، وأستكشف نواحيها الجمالية، وأتناول خصائص الكتابة. وأحسب أن ما أقدمت عليه هو جهد المقل. وإني لعلى ثقة أن روايات جبريل تبشر بمزيد من الدراسات التي تُكتب عنها. ولعل غيري يتناول مواضيع أخرى ويعطيها حقها من البحث والدراسة. كما أنها مادة ثرية للعديد من الأعمال الدرامية المسموعة والمرئية.
    ومن المواضيع التي أرى تسليط الأضواء عليها : الصوفية في كتاباته، وظاهرة القهر والمطاردة، وحلم أبطاله بالمدينة الفاضلة التي تتحقق فيها العدالة والسلام، واهتمامه بالأحداث السياسية التي مرت بها مصر، وسلطة الأب ومدى تأثيره على أبنائه، والمزج بين الواقع والخيال، وولوجه دائرة الحلم، وحديثه المتجدد عن الموت تراجيديا الإنسان في حياته، واهتمامه بسرد وتضمين وقائع من حياته في بعض أعماله الأدبية، وظاهرة الانطواء التي يعاني منها بعض شخصيات رواياته، وظاهرة المراوغة للشخصيات بمعنى أنها تظهر وتختفي، والبحر أسطورة الصيادين، واستيحاء التراث بمختلف أشكاله، بل والنقل عنه، والمعجم الثقافي لرواياته وقصصه، وأدب المقهى عند نجيب محفوظ ومحمد جبريل… وغير ذلك كثير من المواضيع التي تثري الحركة النقدية.. وقد تعرضت لهذه المواضيع إما تفصيلا أو إجمالا…
    وفي الختام، أحسب أن الكتاب سوف يستميلك ـ عزيزي القارئ ـ فيصيبك هوى ( بحري )، فتسارع إلى قراءة أعمال جبريل، وقد تشد الرحال إلى ( الإسكندرية )، وتتجول في المنشية والسيالة والأنفوشي واللبان والعطارين والسلسلة والمينا الشرقية، وتزور المرسي أبا العباس وغيره من أضرحة الأولياء الصالحين. وقد تقودك خطاك فتتعرف على البيوت والشوارع والمقاهي والدكاكين، والناس أيضا، كأنك عشت زمنا هنا، وصادقت هؤلاء الناس البسطاء الطيبين، الذين لا يختلفون كثيرا عن إخوانهم في القاهرة، أو في القرى والكفور والنجوع، من أرضنا الطيبة. وجبريل، وإن اتخذ الإسكندرية مكانا لمعظم كتاباته الإبداعية، إلا أنه عبر عن هموم وآلام الشعب المصري كله، وهذا سر عبقريته..
    حسني سيد لبيب
    تحريرا في : 6 يناير 2000 م ( إمبابة )
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الأول من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
    .................................................. .......
    الصـهبــة

    الصهبة، ساحة تواجه مسجد سيدي نصر الدين .. تقام فيها الموالد .. واتخذ محمد جبريل ( الصهبة ) عنوانا لروايته (1) .. يشرح الكاتب مظاهر الموالد من مواكب الصوفية وحملة الأعلام، ووصف حال النساء اللاتي يُخلع عنهن النقاب فيحملن ! ويتحدث عن مزاد (الصهبة ) الغريب، حيث يتزايد الرجال حول امرأة، فشارك منصور سطوحي، الشخصية المحورية للرواية، في المزاد، فرسا عليه .. وقال له أحد الرجال : حلال عليك .. فنزع عنها النقاب، فانبهر بجمالها، واحتضنها غير آبه بمن حوله الذين أدهشتهم المفاجأة! ونكتشف في السياق الروائي أن الكاتب واهم، أو أن الحلم اختلط بالواقع وكونا معا ( موتيفة ) من طراز فريد .. وشخصية منصور سطوحي رسمت بعناية واقتدار . يحدثنا الكاتب عنه بعد موت أبيه، ورغبته في إدارة شئون مكتبة أبيه بنفسه، وفسرت الأم رغبته بأنها طمع في ميراث أبيه .
    ويركز الدكتور سعيد الطواب على أثر الأب في تكوين شخصية ابنه منصور .. " الأب متدين لكنه أقرب إلى التدين الشعبي ، أو إلى التدين المشوب بالخرافات والأساطير " (2) .. ورأى الطواب أن تأثير الأب يتأرجح بين السلب والإيجاب ، فكانت سلطة الأب قهرية أورثته معاناة نفسية ، وفقدان الاتزان ، مما حدا به إلى محاولة التمرد على صورة أبيه بعد موته والهروب من عالمه .. وتفسير الطواب هنا نفسي ، وإن بالغ في طغيان الأب ، فنحن لم نلحظ على منصور أي كره لأبيه ، ولم يعارض أمه في ضرورة الاحتفاظ بصورة أبيه . فنحن نستشف من العلاقة بين الابن وأبيه مدى احترام الابن لأبيه وطاعته أو قل امتثاله لتعليماته .
    ومنصور الابن شخصية تصادمية، بمعنى أنه اصطدم بشخصية أبيه الضاغطة، حتى أنه أصر على التحاقه بكلية عملية، رغم أنه كان يرغب في الالتحاق بكلية الآداب. انتصرت رغبة أبيه على حساب حبه في نظم الشعر، فكان طبيعيا أن يعوض ذلك بالهروب إلى دنيا الحلم، ويتوهم حكاية امرأة الصهبة، وأنه مطارد من قبل رجالها ، وتستمر المطاردة في تضاعيف الرواية.، حيث يتوهم رجالا يتربصون به، لكن الصمت ديدنهم، لا يتكلمون ولا يفصحون عن شيء . هي مطاردة من نوع غريب . كأنه ينسج في خياله قصيدة شعر من طراز فريد .
    يعتب عليه الشيخ عرفة الدجيشي انقطاعه عن الصلاة في المسجد، وإن كان لا يعلم أنه هجر الكلية أيضا منذ وفاة أبيه. وكان الشيخ قد رغب في إلحاقه بالتعليم الديني، لكن أباه أحب لابنه أن يلتحق بكلية عملية. وظل الشيخ يرعاه ويدفعه إلى التردد على غرفته بياقوت العرش، والبقاء في المسجد بعد إغلاق أبوابه، وأعاره الكتب الدينية وروى له قصص الأنبياء والصحابة وكرامات الأولياء .. إلا أنه ـ بعد وفاة أبيه ـ هجر كل ذلك، فقال له الدجيشي : " إن لم تأت إلى كل صلاة في موعدها .. فسأعلم أنك هجرت طريق الله ! .. " ( 3 ).
    تعرف منصور سطوحي على جابر محجوب من خلال المنشاوي الذي يعمل بالحقانية ، وهو ميكانيكي سيارات بشارع قبو الملاح ويتردد على المقهى .. والتعريف يشمل المهنة والمكان في آن . والمكان يحظى باهتمام الكاتب ـ أيضا ـ حين صحب المنشاوي منصور سطوحي إلى بيته، فيحدده بدقة : " على ناصية شارع أبي نواية، المتفرع من الحجاري " ( 4 ) .. وفي هذا اللقاء يتعرف على والد المنشاوي ،ويتحدث عن حبه للشعر، وكلية الآداب التي رغب في الالتحاق بها ، وقرأ بعض قصائده . كما سلطت الأضواء على جابر محجوب الذي وفد من كفر الدوار، وسكن مع ثلاثة من ( بلدياته )، لكنه آثر العيش بمفرده، في غرفة " في حنية سلم بيت بشارع سيدي العجمي " (5 ) .. وهنا أيضا يتحدد مكان السكن تفصيلا يبين عن ضآلته وموقعه .. وجابر يخشى الظلام والمقابر .. يعاني لمسة أرضية تعتريه، إذا دخل مكانا مظلما، زقاقا أو نفقا أو مدخل بيت أو غرفة . لجأ إلى الوصفات والتعاويذ وأعمال السحر ، وشارك في أذكار الحضرة بأبي العباس، وزار الأضرحة وقدم الشموع والنذور، لكنه ظل على ابتعاده عن الأماكن المظلمة .
    حاول أصدقاء المقهى إزالة لبس عنده من أن رجال الصهبة يريدون إيذاءه، فهم طريقة صوفية ترفض تسلل الغرباء إليها . والخوف الذي تملكه جعله يتقوقع داخل غرفته لا يبرحها إلا إلى الصالة ودورة المياه . وانشغل بقراءة الكتب.. " بعيدا عن المنقبة والصهبة والمزاد والزغاريد والأدعية والابتهالات، والمطاردة التي لا تنتهي"( 6 ) .. والمطاردة وهم يعيش في خياله، نتيجة تخيل واقعة عن احتضانه امرأة الصهبة أمام الرجال ! وهي إشارة خفية إلى أزمة الإنسان المعاصر، الذي يتسع أمامه الكون لكنه يضيق أمام طموحات الإنسان وآماله .. فسطوحي قبرت أعز أمانيه، وهو الشاعر الحالم ، في الدراسة في كلية الآداب .. وتصدت له أمه من أجل عدم تغيير معالم مكتبة أبيه، أو أن يضع عليها اسمه .. تمسك بميراث الماضي دون إضافة أو إشباع لرغبة النفس في الإبداع . إنها أزمة مستحكمة .. ويتوهم مطاردة تقلب حياته رأسا على عقب ! واختلاط الحلم بالواقع، من أبرز جماليات النص الروائي .. فالكاتب يعرض عليك الواقع كما يدور في نفس سطوحي فنصدق أنه واقع، ويعرض علينا الحلم الذي يهيم به فنستمتع بالحلم .. ونحن في الحقيقة نتأرجح بين الحلم والخيال ، فمرة نعيشه خيالا ومرة نتخيله واقعا ، وهذه المزاوجة الفنية خلقت متعة فنية لا نغفلها .
    يعتريه قلق مستبد من مطاردة الرجال له، وهي مطاردة لا تنتهي ، طالما سكن الحلم الجميل في جنبات نفسه.. وأعطاه جرأة أن يفعل مثلما يفعلون . نزع نقاب المرأة فطالعه حسن أخاذ، وصورت له الأحلام ما تشتهي نفسه ، على رأي المثل : " الجائع يحلم بسوق العيش " .. وسجن نفسه في غرفته يجتر الحلم الجميل كأنه واقع، ويخشى الانتقام منه فانعزل. صارح الشيخ عن خوفه من إيذائهم، فنصحه أن ينفض يده من هذه الوسوسة التي تزول بالمداومة على الصلاة، وذكر الله، فتتطهر النفس، لكنه ما زال يخشى الذين يقتفون خطواته..
    وتترك منيرة زوجها وتعيش معه حتى تنتهي الأزمة. لكنه خشي أن ينكر أهله وجودها، مثلما أنكروا الصهبة. ويدور عتاب بين منيرة ومنصور سطوحي . تقول له : " منذ الصهبة .. أنت منا ؟ .. " .. " لهوتم .. فشاركت في لهوكم " (7 ) .. يروي للشيخ ما حدث، لكنه يحرص على إخفاء جزء لم يقله.. وفي المسجد يفاجأ بملامح شيخ الصهبة، تبين في الضوء الخافت، متجها إليه بابتسامة مطمئنة. وفي المقهى، التقى بالحاج قدورة الذي دعاه أن يشرفه في البلقطرية، وفهم من الصحاب أنه تاجر حشيش، لكن منصور سطوحي قال لهم إنه رآه في الصهبة، أحد الرجال الثلاثة الذين رافقوا المرأة من البيت إلى ميدان سيدي نصر الدين. واضطر بدر المنشاوي وجابر محجوب أن يرافقاه أينما ذهب، ولا يفارقانه، في خروجه من البيت وعودته إليه. وقدّم بلاغا إلى الشرطة بشأن الذين يطاردونه ويراقبونه، وعجب من الضابط الذي أخبره أن ما رواه من صنع خياله، ولا توجد صهبة أصلا .. حتى المنشاوي وجابر وحسن الهن شهدوا بما لا يتفق مع ما قاله، مثل شهادة المعارف والجيران ضد قاضي البهار وإن تراجعوا عنها بعد ذلك، في محاولة من الكاتب لرسم مطاردة من طراز آخر !منيرة هي الوحيدة التي حثته لإبلاغ الشرطة. لكنه بعد الذي حدث فارق أصدقاءه والمقهى والمكتبة، ولزم داره لا يخرج منها .. انعزل عن الناس، وسمع صوت موكب فيه أدعية وابتهالات وزغاريد ودقات طبول ودفوف وعزف مزامير، وتحت وطأة هاجس داخلي : " لكي تفر مما يشغلك، اقذف بنفسك داخله " (8 ) .. فاندفع إلى حيث تمضي الصهبة، وسط دهشة ماجد ومنيرة وأمه، وتساؤلهم الحائر : هل انجذب ؟!
    وإسكندرية المكان استهوت الكاتب في ( الصهبة ) .. فيحدثنا عن الساحة التي تواجه مسجد سيدي نصر الدين ، والتي يتواجد فيها رجال الصهية، يعقدون حلقات الذكر فيها، وينشدون الأناشيد الدينية . ويعرفنا الكاتب بغرفة الشيخ عرفة الدجيشي بياقوت العرش . ونتعرف على العديد من الشوارع مثل : قبو الملاح، و أبي نواية المتفرع من الحجاري، وسيدي العجمي .. وفي شارع قبو الملاح يقع محل جابر محجوب لإصلاح السيارات، ويقيم بمفرده في غرفة " في حنية سلم بيت بشارع سيدي العجمي ". ويشارك في أذكار الحضرة بأبي العباس . وعلى ناصية شارع أبي نواية يقع بيت المنشاوي . ورجال الصهبة يتبعون طريقة صوفية ترفض تسلل الغرباء إليها. كما يرد ذكر البلقطرية، حين دعا الحاج قدورة ـ وهو تاجر حشيش ـ منصور سطوحي ليشرفه هناك، وقد ذكرت البلقطرية في رباعية بحري، وعرفها الكاتب بأنها المكان الذي يستوطن فيه تجار المخدرات، حين اعترض سيد الفران على السكنى فيها .
    والإسكندرية عاشت في خيال الكاتب السكندري ، وفرضت نفسها على الكثير من أعماله الروائية والقصصية، وخاصة حي ( بحري ) ، بأماكنه ذات العبق التاريخي الديني الصوفي، وسلوكيات ناسه وعاداتهم . وما ذكره في رواية ( الصهبة ) هو جزء مما ذكره في ( قاضي البهار ينزل البحر ) و ( الشاطئ الآخر ) و ( النظر إلى أسفل ) ، وتوّج ذلك كله بما كتب في ( رباعية بحري ) على النحو الذي نبينه في هذا الكتاب . ناهيك عما كتب في أعماله القصصية ، وفي كتابه ( حكايات عن جزيرة فاروس ) .
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : الصهبة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1990م.
    2-د. سعيد الطواب : استلهام التراث في روايات محمد جبريل ـ منشورات دار السندباد بالمنيا 1999 ـ ص 48.
    3-الصهبة ـ ص 33.
    4-المصدر السابق ـ ص 43.
    5-المصدر السابق ـ ص 51.
    6-المصدر السابق ـ ص 62.
    7-المصدر السابق ـ 80.
    8-المصدر السابق ـ ص 96.
    9- د. ماهر شفيق فريد : فسيفساء نقدية (تأملات في العالم الروائي لمحمد جبريل ) ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999 ـ ص 61.
    10-المصدر السابق ـ ص 90.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الأول من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
    ..................................................
    الصـهبــة

    الصهبة، ساحة تواجه مسجد سيدي نصر الدين .. تقام فيها الموالد .. واتخذ محمد جبريل ( الصهبة ) عنوانا لروايته (1) .. يشرح الكاتب مظاهر الموالد من مواكب الصوفية وحملة الأعلام، ووصف حال النساء اللاتي يُخلع عنهن النقاب فيحملن ! ويتحدث عن مزاد (الصهبة ) الغريب، حيث يتزايد الرجال حول امرأة، فشارك منصور سطوحي، الشخصية المحورية للرواية، في المزاد، فرسا عليه .. وقال له أحد الرجال : حلال عليك .. فنزع عنها النقاب، فانبهر بجمالها، واحتضنها غير آبه بمن حوله الذين أدهشتهم المفاجأة! ونكتشف في السياق الروائي أن الكاتب واهم، أو أن الحلم اختلط بالواقع وكونا معا ( موتيفة ) من طراز فريد .. وشخصية منصور سطوحي رسمت بعناية واقتدار . يحدثنا الكاتب عنه بعد موت أبيه، ورغبته في إدارة شئون مكتبة أبيه بنفسه، وفسرت الأم رغبته بأنها طمع في ميراث أبيه .
    ويركز الدكتور سعيد الطواب على أثر الأب في تكوين شخصية ابنه منصور .. " الأب متدين لكنه أقرب إلى التدين الشعبي ، أو إلى التدين المشوب بالخرافات والأساطير " (2) .. ورأى الطواب أن تأثير الأب يتأرجح بين السلب والإيجاب ، فكانت سلطة الأب قهرية أورثته معاناة نفسية ، وفقدان الاتزان ، مما حدا به إلى محاولة التمرد على صورة أبيه بعد موته والهروب من عالمه .. وتفسير الطواب هنا نفسي ، وإن بالغ في طغيان الأب ، فنحن لم نلحظ على منصور أي كره لأبيه ، ولم يعارض أمه في ضرورة الاحتفاظ بصورة أبيه . فنحن نستشف من العلاقة بين الابن وأبيه مدى احترام الابن لأبيه وطاعته أو قل امتثاله لتعليماته .
    ومنصور الابن شخصية تصادمية، بمعنى أنه اصطدم بشخصية أبيه الضاغطة، حتى أنه أصر على التحاقه بكلية عملية، رغم أنه كان يرغب في الالتحاق بكلية الآداب. انتصرت رغبة أبيه على حساب حبه في نظم الشعر، فكان طبيعيا أن يعوض ذلك بالهروب إلى دنيا الحلم، ويتوهم حكاية امرأة الصهبة، وأنه مطارد من قبل رجالها ، وتستمر المطاردة في تضاعيف الرواية.، حيث يتوهم رجالا يتربصون به، لكن الصمت ديدنهم، لا يتكلمون ولا يفصحون عن شيء . هي مطاردة من نوع غريب . كأنه ينسج في خياله قصيدة شعر من طراز فريد .
    يعتب عليه الشيخ عرفة الدجيشي انقطاعه عن الصلاة في المسجد، وإن كان لا يعلم أنه هجر الكلية أيضا منذ وفاة أبيه. وكان الشيخ قد رغب في إلحاقه بالتعليم الديني، لكن أباه أحب لابنه أن يلتحق بكلية عملية. وظل الشيخ يرعاه ويدفعه إلى التردد على غرفته بياقوت العرش، والبقاء في المسجد بعد إغلاق أبوابه، وأعاره الكتب الدينية وروى له قصص الأنبياء والصحابة وكرامات الأولياء .. إلا أنه ـ بعد وفاة أبيه ـ هجر كل ذلك، فقال له الدجيشي : " إن لم تأت إلى كل صلاة في موعدها .. فسأعلم أنك هجرت طريق الله ! .. " ( 3 ).
    تعرف منصور سطوحي على جابر محجوب من خلال المنشاوي الذي يعمل بالحقانية ، وهو ميكانيكي سيارات بشارع قبو الملاح ويتردد على المقهى .. والتعريف يشمل المهنة والمكان في آن . والمكان يحظى باهتمام الكاتب ـ أيضا ـ حين صحب المنشاوي منصور سطوحي إلى بيته، فيحدده بدقة : " على ناصية شارع أبي نواية، المتفرع من الحجاري " ( 4 ) .. وفي هذا اللقاء يتعرف على والد المنشاوي ،ويتحدث عن حبه للشعر، وكلية الآداب التي رغب في الالتحاق بها ، وقرأ بعض قصائده . كما سلطت الأضواء على جابر محجوب الذي وفد من كفر الدوار، وسكن مع ثلاثة من ( بلدياته )، لكنه آثر العيش بمفرده، في غرفة " في حنية سلم بيت بشارع سيدي العجمي " (5 ) .. وهنا أيضا يتحدد مكان السكن تفصيلا يبين عن ضآلته وموقعه .. وجابر يخشى الظلام والمقابر .. يعاني لمسة أرضية تعتريه، إذا دخل مكانا مظلما، زقاقا أو نفقا أو مدخل بيت أو غرفة . لجأ إلى الوصفات والتعاويذ وأعمال السحر ، وشارك في أذكار الحضرة بأبي العباس، وزار الأضرحة وقدم الشموع والنذور، لكنه ظل على ابتعاده عن الأماكن المظلمة .
    حاول أصدقاء المقهى إزالة لبس عنده من أن رجال الصهبة يريدون إيذاءه، فهم طريقة صوفية ترفض تسلل الغرباء إليها . والخوف الذي تملكه جعله يتقوقع داخل غرفته لا يبرحها إلا إلى الصالة ودورة المياه . وانشغل بقراءة الكتب.. " بعيدا عن المنقبة والصهبة والمزاد والزغاريد والأدعية والابتهالات، والمطاردة التي لا تنتهي"( 6 ) .. والمطاردة وهم يعيش في خياله، نتيجة تخيل واقعة عن احتضانه امرأة الصهبة أمام الرجال ! وهي إشارة خفية إلى أزمة الإنسان المعاصر، الذي يتسع أمامه الكون لكنه يضيق أمام طموحات الإنسان وآماله .. فسطوحي قبرت أعز أمانيه، وهو الشاعر الحالم ، في الدراسة في كلية الآداب .. وتصدت له أمه من أجل عدم تغيير معالم مكتبة أبيه، أو أن يضع عليها اسمه .. تمسك بميراث الماضي دون إضافة أو إشباع لرغبة النفس في الإبداع . إنها أزمة مستحكمة .. ويتوهم مطاردة تقلب حياته رأسا على عقب ! واختلاط الحلم بالواقع، من أبرز جماليات النص الروائي .. فالكاتب يعرض عليك الواقع كما يدور في نفس سطوحي فنصدق أنه واقع، ويعرض علينا الحلم الذي يهيم به فنستمتع بالحلم .. ونحن في الحقيقة نتأرجح بين الحلم والخيال ، فمرة نعيشه خيالا ومرة نتخيله واقعا ، وهذه المزاوجة الفنية خلقت متعة فنية لا نغفلها .
    يعتريه قلق مستبد من مطاردة الرجال له، وهي مطاردة لا تنتهي ، طالما سكن الحلم الجميل في جنبات نفسه.. وأعطاه جرأة أن يفعل مثلما يفعلون . نزع نقاب المرأة فطالعه حسن أخاذ، وصورت له الأحلام ما تشتهي نفسه ، على رأي المثل : " الجائع يحلم بسوق العيش " .. وسجن نفسه في غرفته يجتر الحلم الجميل كأنه واقع، ويخشى الانتقام منه فانعزل. صارح الشيخ عن خوفه من إيذائهم، فنصحه أن ينفض يده من هذه الوسوسة التي تزول بالمداومة على الصلاة، وذكر الله، فتتطهر النفس، لكنه ما زال يخشى الذين يقتفون خطواته..
    وتترك منيرة زوجها وتعيش معه حتى تنتهي الأزمة. لكنه خشي أن ينكر أهله وجودها، مثلما أنكروا الصهبة. ويدور عتاب بين منيرة ومنصور سطوحي . تقول له : " منذ الصهبة .. أنت منا ؟ .. " .. " لهوتم .. فشاركت في لهوكم " (7 ) .. يروي للشيخ ما حدث، لكنه يحرص على إخفاء جزء لم يقله.. وفي المسجد يفاجأ بملامح شيخ الصهبة، تبين في الضوء الخافت، متجها إليه بابتسامة مطمئنة. وفي المقهى، التقى بالحاج قدورة الذي دعاه أن يشرفه في البلقطرية، وفهم من الصحاب أنه تاجر حشيش، لكن منصور سطوحي قال لهم إنه رآه في الصهبة، أحد الرجال الثلاثة الذين رافقوا المرأة من البيت إلى ميدان سيدي نصر الدين. واضطر بدر المنشاوي وجابر محجوب أن يرافقاه أينما ذهب، ولا يفارقانه، في خروجه من البيت وعودته إليه. وقدّم بلاغا إلى الشرطة بشأن الذين يطاردونه ويراقبونه، وعجب من الضابط الذي أخبره أن ما رواه من صنع خياله، ولا توجد صهبة أصلا .. حتى المنشاوي وجابر وحسن الهن شهدوا بما لا يتفق مع ما قاله، مثل شهادة المعارف والجيران ضد قاضي البهار وإن تراجعوا عنها بعد ذلك، في محاولة من الكاتب لرسم مطاردة من طراز آخر !منيرة هي الوحيدة التي حثته لإبلاغ الشرطة. لكنه بعد الذي حدث فارق أصدقاءه والمقهى والمكتبة، ولزم داره لا يخرج منها .. انعزل عن الناس، وسمع صوت موكب فيه أدعية وابتهالات وزغاريد ودقات طبول ودفوف وعزف مزامير، وتحت وطأة هاجس داخلي : " لكي تفر مما يشغلك، اقذف بنفسك داخله " (8 ) .. فاندفع إلى حيث تمضي الصهبة، وسط دهشة ماجد ومنيرة وأمه، وتساؤلهم الحائر : هل انجذب ؟!
    وإسكندرية المكان استهوت الكاتب في ( الصهبة ) .. فيحدثنا عن الساحة التي تواجه مسجد سيدي نصر الدين ، والتي يتواجد فيها رجال الصهية، يعقدون حلقات الذكر فيها، وينشدون الأناشيد الدينية . ويعرفنا الكاتب بغرفة الشيخ عرفة الدجيشي بياقوت العرش . ونتعرف على العديد من الشوارع مثل : قبو الملاح، و أبي نواية المتفرع من الحجاري، وسيدي العجمي .. وفي شارع قبو الملاح يقع محل جابر محجوب لإصلاح السيارات، ويقيم بمفرده في غرفة " في حنية سلم بيت بشارع سيدي العجمي ". ويشارك في أذكار الحضرة بأبي العباس . وعلى ناصية شارع أبي نواية يقع بيت المنشاوي . ورجال الصهبة يتبعون طريقة صوفية ترفض تسلل الغرباء إليها. كما يرد ذكر البلقطرية، حين دعا الحاج قدورة ـ وهو تاجر حشيش ـ منصور سطوحي ليشرفه هناك، وقد ذكرت البلقطرية في رباعية بحري، وعرفها الكاتب بأنها المكان الذي يستوطن فيه تجار المخدرات، حين اعترض سيد الفران على السكنى فيها .
    والإسكندرية عاشت في خيال الكاتب السكندري ، وفرضت نفسها على الكثير من أعماله الروائية والقصصية، وخاصة حي ( بحري ) ، بأماكنه ذات العبق التاريخي الديني الصوفي، وسلوكيات ناسه وعاداتهم . وما ذكره في رواية ( الصهبة ) هو جزء مما ذكره في ( قاضي البهار ينزل البحر ) و ( الشاطئ الآخر ) و ( النظر إلى أسفل ) ، وتوّج ذلك كله بما كتب في ( رباعية بحري ) على النحو الذي نبينه في هذا الكتاب . ناهيك عما كتب في أعماله القصصية ، وفي كتابه ( حكايات عن جزيرة فاروس ) .
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : الصهبة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1990م.
    2-د. سعيد الطواب : استلهام التراث في روايات محمد جبريل ـ منشورات دار السندباد بالمنيا 1999 ـ ص 48.
    3-الصهبة ـ ص 33.
    4-المصدر السابق ـ ص 43.
    5-المصدر السابق ـ ص 51.
    6-المصدر السابق ـ ص 62.
    7-المصدر السابق ـ 80.
    8-المصدر السابق ـ ص 96.
    9- د. ماهر شفيق فريد : فسيفساء نقدية (تأملات في العالم الروائي لمحمد جبريل ) ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999 ـ ص 61.
    10-المصدر السابق ـ ص 90.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الثاني من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
    .................................................. .........
    قاضي البهار ينزل البحر

    الرواية ( 1 ) في خطها العام تدين عصرًا بأكمله وكل عصور العسف والظلم، التي تربصت بالإنسان وسلبت منه أعز ما يملك في الحياة، سلبت منه الحرية . كتبت الرواية بأسلوب التقارير والمذكرات البوليسية ، ويصب موضوعها كله في شخص محمد إبراهيم مصطفى العطار، الشهير بمحمد قاضي البهار . و ( قاضي البهار ) اسم جد له قديم، فاستهواه الاسم فأضافه ، واستغنى به عن الأسماء الأخرى . انقسمت الرواية إلى ستة فصول ، أو ست موجات كما عنونها المؤلف ، والموجة تعني اللطمة الشديدة، فالموجة غبّ اندفاعها تضرب بعنف، وللأمواج دلالة لا تخفى ، إذ تلطش بالإنسان المسالم الذي لا يجيد السباحة. وقاضي البهار لا يجيد النفاق أو الأساليب البوليسية، وآثر أن يعيش حياته مسالما . وكل فصل يمثل موجة تباغت مواطننا المسالم. ودلالة الأمواج يعنيها الكاتب وهو يتحدث عن المواطن المطارد محمد قاضي البهار، الموظف بإدارة التخليص الجمركي .. وكل ما نعرفه عنه، ما كتب في التقارير الأمنية عنه، والرغبة الشديدة في تلفيق التهم له والنكاية به .. يتحدث تقرير عن طفولته والمدارس التي تعلم فيها ، والبيت الذي عاش فيه، وجيرانه وأقاربه ومعارفه. وثمة تقرير آخر عن الشقة التي يقيم فيها وشقق البيت الأخرى، والشارع والدكاكين . ويعرض تقرير عن زيارة الضابط لمدرسة البوصيري التي تعلم فيها ولقائه بالناظر والمدرسين والفراش وأمين المكتبة وزميله بكلية التجارة وزميلته. وفي تقرير ضابط آخر زار الضابط مكان عمل قاضي البهار بالجمارك. وتقرير عن تردده على قهوة البوري، ولقاء سيد كابوريا، والشيخ سلامة الرشيدي وآخرين.
    وفي ( الموجة الثانية )، يحدثنا عن بهية التي عملت في ملهى، وغيرت اسمها إلى بقلوظة، ثم زيزي ..وطلب الضابط منها التعاون معه، مقابل إغلاق ملفها المشين. وتحدثت عن زيارتها له ليكون المحاسب الذي تعتمد عليه، ولما رفض طلبت منه التريث. ومكوجي الرِّجْل صالح البسيوني، تحدث عن علاقة تربط قاضي البهار بزوجة ميكانيكي بلانس عبد الناصر جميعي.
    وفي ( الموجة الثالثة )، تعذر على المقدم عبد الفتاح جبر توصيل أجهزة تنصّت في بيته، وأوصى بتجميع البيانات وتنسيقها والتعرف على معاملاته واتصالاته وتصرفاته. وفي تقرير آخر عُرف عنه اتصالاته اليومية التي تقتصر على البيت والإدارة والمقهى، وله اطلاع دائم بالصحف والكتب، أي أنه مثقف يمكنه أن يفكر، وقد يكون ذلك سببًا لمطاردته. والرواية لا تذكر سبب مطاردة هذا الشخص بالذات، ربما إمعانًا في تصوير تلفيق التهم للأبرياء بلا جريرة، وقد يكون مجرد الاشتباه أو الظن سببًا كافيًا للمطاردة والاعتقال والتعذيب ! وهذه لعمري قمة المأساة التي يقصدها الكاتب في روايته . أجري تحقيق معه عن تردده على مقهى البوري وعلاقته بجيرانه، وخاصة مختار وبقلوظة . وكانت سيارة قد صدمته عقب انصرافه من المقهى، وأثبتت التحاليل عدم احتسائه الخمر أو المكيفات أو تعاطي الحبوب المخدرة . وحين أوقعوه في خطأ أثناء تأدية عمله، تفاهموا معه لينهوا المشكلة، لكنه رفض التزوير، واستسلم لجزاء يوقع عليه . وبعد إحالته إلى المعاش، تعرض تقرير آخر إلى تردده على مقهى فاروق .
    وفي ( الموجة الرابعة )، ورغم براءته من أي شئ يدينه، إلا أن أحد التقارير كتب فيه : " ولكي تظل الإدارة في مستوى نظرة المسئولين، فقد اقترحت نسبة العديد من الوقائع والتصرفات إلى محمد قاضي البهار، بحيث تشكل ضغوطا، تسعى إلى الإدانة التي تثق فيها جهة الأمر " ( 2 ) . والفقرة تبرز مدى التلفيق الذي تتردى فيه الجهات الأمنية من أجل ممالأة السلطة، أو إرضائها .. وهنا يشمخ الكاتب بفكره ، كاشفًا الستار عن الوجه القبيح الذي قد يحجم الآخرون عن كشفه، أو اضطرارهم إلى التخفي وراء الرمز بشقيه الواضح والغامض . وقد كشفت الفقرة السابقة بصراحة ووضوح إمكان الجهاز السري للأمن من تلفيق التهم، بما يشكل ضغوطا مطلوبة لذاتها لإدانة شخص تريد الجهة الأمنية إدانته !!
    أما الشهود الذين أدانوه، سرعان ما غيروا أقوالهم، وأنكروا كل قول يدينه. وحين مثل أمام وكيل نيابة أمن الدولة، تحدث عن الناس الذين حذروه وطلبوا منه أن يحتاط لنفسه. اقتادوه إلى غرفة وعذبوه، ثم جاءه الرائد صفوت ملاطفا، طالبا منه الاعتراف حتى لا يتعرض للضرب مرة أخرى !
    وفي ( الموجة الخامسة )، وصف تقرير سري وهام مداهمة الضابط لشقته وتفتيشها، فلم يعثر على شئ ، كذلك فتشت شقق أخرى في البيت . وطلب من أبيه أن يحث ابنه على الاعتراف حتى لا يتعرض للتفتيش مرة أخرى ! وفي تقرير آخر ـ وكل التقارير سرية وهامة ـ ذكر واقعة القبض على رواد مقهى البوري، وسئلوا عما يعرفونه عن قاضي البهار، فشهدوا لصالحه، وليس ثمة شائبة تدينه، فاتهموا بالكذب والتستر عليه. وطلب منهم شيخ أن يسألوا قاضي البهار نفسه فيما لا يعرفونه عنه ! كما اختطفوا ابن أخته الطفل رفيق عبد الناصر جميعي، عند انصرافه من المدرسة ، في محاولة لإجباره على الاعتراف !
    وفي ( الموجة السادسة ) ـ وهي آخر موجة تعرض لها قاضي البهار ـ تقرير ختامي من جهة أمنية عليا، راقبت قاضي البهار عند خروجه لتأدية الصلاة، ونزوله البحر، رغم أنه لا يجيد السباحة، واختفائه بين الأمواج . فالبحر هو المكان الوحيد الذي نجح في الاحتماء فيه من الأعين الراصدة لحركاته وسكناته، وإن انقلب الاحتماء إلى اختفاء أبدي .. فجابه التحريات عنه بابتسامة غامضة ـ ولعلها هازئة ـ انتقلت كالعدوى إلى شفاه أبناء الموازيني الذين لم يكونوا على أصدقاء له ! وقد رأى الدكتور مصطفى كامل سعد في هذا الاختفاء ظاهرة تتكرر في أعماله الروائية الأخرى ففي رواية ( الأسوار ) يثور السجناء في المعتقل ويقررون إشعال النار في عدد منهم احتجاجا على تعسف الإدارة معهم، وفي ( من أوراق أبي الطيب المتنبي ) يتمثل الاختفاء في إشارة إلى ترقب تحقيق العدالة. أما رواية ( قاضي البهار ينزل البحر )، فالاختفاء هنا يمثل نوعا من " الغياب والتغيب والعزلة بعد أن تعرض للملاحقة والعسف، إنه يغيب ويختفي احتجاجا بعد أن تعاقب عليه القهر في موجات متعاقبة طمست حاضره وجعلت مستقبله غائما ومظلما. وغياب قاضي البهار من جهة أخرى هو غياب العدالة وافتقادها وهي الوجه الحقيقي الذي يقصده الراوي … فالغياب لا الحضور والعدالة لا القهر والباطن لا الظاهر والسلام لا الرعب هو ما يعنيه محمد جبريل " ( 4 ) .
    ويرى الدكتور سعيد الطواب أن الكاتب " يوظف دلالة الانتماء للصوفية قلبا وسلوكا ، ودلالة تجليات الصوفية مذهبا وطريقة ئئن ثم يوظف دلالة المطاردة والقهر السلطوي .." ( 5 ) . وقد شغله هذا القهر المؤدي إلى الظلم، ولجأ إلى الرمز في بعض قصصه، فكتب عن السلطان الذي استهتر بنبوءة لأنه لا يؤمن بها، بأن سوف يقتل بيد أحد أعوانه، فطعنه واحد من أفراد الشعب، فقال المنجم : " لقد تغاضيت عن مظالم الأعوان، فتمنى الناس زوالك.. أعوانك هم قاتلوك ! " ( 6 ) .
    وإحكام الحصار حوله أدى به إلى نزول البحر حيث الهلاك. إنه يغيب عن عالمهم إلى عالم آخر أبدي، واضعا حدا للتراجيديا التي يعيشها. والغريب أن الكاتب لم يصرح بسبب تعقب قاضي البهار وتلفيق التهم له. والدلالة هنا في أن المواطن مثال لحملة التنكيل بالأبرياء . ولعل جريرته لا تتعدى أنه يقرأ الصحف والكتب، إن كان في ذلك ما يدعو إلى الاتهام ! كما أن الدلالة نجدها في طغيان الظلم وشموله كافة المواطنين، والمواطن محمد قاضي البهار مثال نسجت عنه خيوط الرواية .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (الفسم الثاني / من الفصل الثاني)
    عبقرية المكان :
    لماذا يحتفي محمد جبريل بالمكان ؟ هذا الاحتفاء الذي يعدّ سمة مميزة لكتاباته، معبرًا عنها. نلحظ ذلك في كثرة الأماكن التي ترد في سياق رواية ( قاضي البهار ينزل البحر ) وفي ( رباعية بحري ) ، وفي كل الروايات التي كتبها عن الإسكندرية.. من أسماء شوارع ودكاكين ومقاه وبيوت، وقد يغوص بالقارئ في تاريخ إنشاء المبنى، أو ذكر ما يثار حوله من أقاويل ، بما يشبه الزخم الكثيف. وهو لا يختلق أو يبتدع أماكن من بنات أفكاره، وإنما هو يجد المادة الخصبة الثرية في الأماكن الواقعية ، بما نسميه إحياء المكان في روايات جبريل . فالكاتب لا يتخيل المكان، وإنما يسجل معالمه التي شاهدها وعاصرها في الإسكندرية مسقط رأسه . وحين حدد تاريخ ميلاد قاضي البهار اختار التاريخ 17 فبراير 1958، وهو يوافق عيد ميلاد الكاتب العشرين ! وهي مصادفة مقصودة، برغم ما في المقولة من تناقض بين كلمتي ( مصادفة ) و ( مقصودة ) .. ذلك أن ولعه بتسجيل وقائع الأشخاص والأشياء، جعله ينقل إلى قارئه مجتمع الإسكندرية في حقبة عايشها وانفعل بناسها وأحداثها. فواقعية جبريل جعلته يتمادى في تعرية الواقع، إيمانا منه بأن كل ما هو معروف يمكن كتابته في مسرد قصصي أو روائي .
    وفي الأفلام السينمائية، يروق للمصور التجوال بآلة التصوير، للتعريف بمحتويات قصر أو شقة، كما يخرج بآلته إلى الشوارع وواجهات البيوت والعمائر يصورها من الخارج، وهي إطلالة سينمائية عرفناها وألفناها، وخاصة في الأفلام ذات الطابع البوليسي، أو في أفلام المغامرات.
    وصف جبريل المكان بقلمه، بديلا عن آلة التصوير، والغوص في أعماق المكان، هو في الوقت نفسه غوص في أعماق الشخصية. فهل يفي البديل بما يتوق إليه القارئ من تحليل للمشاعر الإنسانية أو وصف للمشاهد والشواهد؟ قد يكون الكاتب جغرافيا ، يحدد المكان بأبعاده وتضاريسه وملامحه واتجاهاته. وقد يحدده شيئا مرتبطا بالشخص أو الحدث، لكنه لا يقصده رمزا موحيا، وإنما يتجه إليه ظاهرة تعلن عن نفسها، من خلال منظومة الأقانيم الثلاثة : الشخصية والزمان والمكان . وقد لا نحس بأهمية الزمان إلا من خلال حديثه عن المكان.. وكثيرا ما يتحدث عن جدران البيت حائلة اللون، بفعل تراكم السنين.. وقد يغوص في إنشاء مدرسة كمدرسة البوصيري، ويشغله الضريح المقام في وسط المدرسة، مع شك في صاحب هذا الضريح، وهو نفس ما ورد في رباعية بحري عن غرام جابر برغوت بضريح مدرسة البوصيري ( 7 ) . ويذكر الدكان وصاحبه في موتيفة ترابط وتزامن، كأن عمر الدكان من عمر صاحبه !
    ونذكر ـ مثالا لاحتفاء الكاتب بالمكان ـ ما كتبه في تقارير عن المواطن محمد إبراهيم مصطفى العطار، أنه "مقيم في المنزل رقم واحد بشارع المرسي أبي العباس " ( 8 ) . . ويتردد على مقهى فاروق بشارع إسماعيل صبري ـ لاحظ دقة التحديد ـ ويتحدث عن مشربية البيت المطلة على شارع الموازيني . وتتجول آلة التصوير داخل شقة قاضي البهار المكونة من ثلاث حجرات، تتوسطها صالة، ويقيم أبويه في غرفة مطلة على المنور .. " باب المنور في شقة الدور الأرضي، تطل عليه نافذة المطبخ ودورة المياه وغرفة الناحية القبلية. أما الغرفتان المتجاورتان، فتطلان على شارع الموازيني، وإن زادت إحداهما ـ يقيم بها قاضي البهار ـ فهي تطل على بداية شارع الموازيني، وجزء من شارع رأس التين " (9 ) . ثم يتعرض لأثاث الشقة ومحتوياتها .. " الشقة في الطابق الأول ـ فوق الأرضي ـ من بيت ذي ثلاثة طوابق. شقة الطابق الأرضي ـ في مواجهة السلم ـ مخزن للطنطاوي بائع الفول بشارع محمد كريم " ( 10 ) . وما نقلته من سطور قصدت منه بيان نموذج للوصف المسهب للمكان، حتى يجعلك ترتبط به وتألفه وتتعايش معه، فلا تحس أنك غريب عنه، وإنما تصبح واحدا من أصحابه . وهو لا يبخل عليك بالمعلومة عن أصل المكان أو تاريخه أو سبب تسميته، كشارع الموازيني الذي رجح سبب التسمية إلى أن الشارع كان مقصورا على باعة الموازين. وربما سمي الشارع بهذا الاسم لهذا السبب، أو نسبة إلى سيدي الموازيني . كما ولع الكاتب بذكر المقاهي وتاريخها، مثل ما ذكره عن مقهى فاروق وتعريفه بها .. " اسم القهوة يشي بانتمائها إلى عهد الملك فاروق. قيل أنها سميت باسمه بعد ولادته في 1920، فظل هذا هو اسمها إلى زماننا الحالي. عرفت الفونوغراف والراديو والريكوردر كاست والتلفزيون والفيديو . لطول العهد، عرف الشارع ـ إسماعيل صبري ـ باسم القهوة : أنا ساكن عند قهوة فاروق .. نلتقي في قهوة فاروق .. محطة ترام قهوة فاروق .. لا يلتقي فيها أبناء سن محدد، ولا أبناء مهنة بعينها. روادها أخلاط من المهن والأعمار. يجمعهم السكنى في شارع إسماعيل صبري، والشوارع القريبة. ربما قدموا من المنشية أو اللبان أو العطارين، لمجالسة أصدقاء في القهوة " (11 ) . وتعرض تقرير إلى تردد قاضي البهار على مقهى فاروق، بعد إحالته إلى المعاش. وفي أحاديث المقهى لا يشير إلى أسرته من قريب أو بعيد. واعتبر المقهى هي المكان الذي يلتقي فيه بأصدقائه .
    الهوامش:
    1-محمد جبريل : قاضي البهار ينزل البحر ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1989 ـ 136 صفحة.
    2-مقال مصطفى كامل سعد ( قاضي البهار ينزل البحر : مجلة ( الثقافة الجديدة ـ أكتوبر 1992 ـ ص 49.
    3-قاضي البهار ينزل البحر ـ ص 73.
    4-مقال مصطفى كامل سعد ( قاضي البهار ينزل البحر ) مجلة ( الثقافة الجديدة ) ـ أكتوبر 1992 ـ ص 49.
    5-د. سعيد الطواب :استلهام التراث في روايات محمد جبريل – ص 60 .
    6-محمد جبريل : حكايات وهوامش من حياة المبتلي – قصص – أصوات أدبية عدد 183 – نوفمبر 1996 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – قصة ( النبوءة ) – ص 78.
    7-محمد جبريل : البوصيري – ص 157 .
    8-قاضي البهار ينزل البحر – ص 9 .
    9-المصدر السابق – ص 12.
    10-المصدر السابق – ص 12.
    11-المصدر السابق – ص 67.
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الثالث من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
    ................................................
    الشاطئ الآخر

    للبحر شاطئان. يتطلع الواقف عند أحدهما إلى الشاطئ الآخر. كلنا نتوق إلى حياة جديدة، غير التي نحياها . وبطل رواية ( الشاطئ الآخر ) (1) ساقته الظروف إلى السكنى مع أسرة يونانية ، فرأى في تلك الإقامة نقلة مفاجئة إلى بيئة مغايرة ومجتمع جديد . وليس غريبا اهتمام الكاتب بالشاطئ الآخر، في معرض اهتمامه بالبحر معلما بارزا من معالم الإسكندرية . فيتعرض هنا إلى مجتمع الجالية اليونانية والعلاقة الحميمة التي تربط اليونانيين بالشعب المصري. وقد أضاء الكاتب هذا الجانب وأبرزه في شكل جيد. واهتمام الكاتب بالإسكندرية، ينسحب بطبيعة الحال إلى البحر ، وإلى شواطئه ، فيتطلع إلى الشاطئ الآخر البعيد، حيث المجتمعات الغربية بعاداتها وأنماط معيشتها المغايرة لنا.
    وفي ( الشاطئ الآخر ) تتشابك العديد من الرموز الفنية الدالة، من غير غموض أو تقعر، ومن غير انحراف عن مسار درامي بسيط في تركيبه ، عميق ـ في الوقت نفسه ـ في معانيه ودلالاته . إلا أن ثمة رمزا موحيا أشارت إليه الأديبة منار فتح الباب ، وهو الدور الذي يلعبه الباب الموارب ، فالباب وسيلة الدخول والخروج من عالم إلى آخر .. حين يغلق يصبح العالم بأسره غامضا ومثيرا ، وحين يفتح تنفتح مغاليق الكون ، وحين يوارب فإن البطل يظل في توتره وتردده (2) ..
    ويجدر بنا الوقوف عند قصة قصيرة للكاتب بعنوان ( حدث استثنائي في أيام الأنفوشي ) (3) ، لرمزيتها الدالة، رغم أن كاتبها ذيّلها ببلد إقامته وقت كتابتها ( مسقط ) ، إلا أن هذا التذييل أو التنبيه، جعلنا نقف على تطلع الكاتب نفسه إلى بلده الإسكندرية، حبا لها وغيرة عليها. تحدث في قصته القصيرة عن طيور السمان المهاجرة من الشاطئ الآخر ـ الأوربي ـ وغزوها الإسكندرية بكثرة غير عادية، حتى أنها سكنت الشوارع وحنيات السلالم والغرف والمحال، وتساقط منها مرضاها والمصابون في حوادث. وكان الإمساك بها سهلا ميسورا، ولم يجد الصيادون حاجة إلى الصيد. فها هي طيوره تقع مستسلمة ، صيدا سهلا . لكن المشكلة التي تؤرق الكاتب المغترب في مسقط ، وتحفزه إلى صياغة القصة ، أن الكثرة الغازية من السمان أقلقت حياة الناس .. " لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرفون مثل ما اعتادوا، وتنبهوا ـ وإن متأخرا ـ إلى ملايين الأعين والأنفاس الغريبة، والقاسمة في المكان مهما كان شخصيا " .. فالطيور المهاجرة رمز لكل ما هو وافد .. لا يستفيد منها الناس ، إلا ما وقع منها في حادث أو أصيب في مرض . هل هي فكرة موحية سطرها الكاتب ليدلل على أن إغراق البلد بكل ما هو أجنبي إنما هو من قبيل العدوان على خصوصية البلد ، ناهيك عن استقلاله ؟ وفي نهاية القصة يتحدث الناس عن المقاومة، التي هي ضرورية، والبديل عنها هو الجنون بعينه ! إلى هذا الحد قلق الكاتب من طيور مهاجرة ، بلا سلاح، فما بالك بمن يفرض عليه عاداته وتقاليده، بأسلوب الإغراق والمحاصرة، بحيث تجد نفسك في النهاية منصاعا له متشبها به !
    والكاتب الذي أقلقه الغزو الوافد أيا كان، يتعرض في هذه الرواية إلى اختلاف الثقافات، وإلى تنوعها بما فيه من ثراء . والمثال نجده في شخصية ديمتري اليوناني وقراءاته في الأدب الغربي بصفة عامة واليوناني بصفة خاصة. ويطلع حاتم على أشعار كفافيس .. وينبري في نقل نماذج منها يقرؤها على حاتم . كما أنه تمنى أن يهدي مكتبته إلى صديقه حاتم ، لو كان يعرف اليونانية ! أما حاتم المصري فقد تأثر بطبيعة الحال بالأدب العربي القديم والحديث، لكنه لا يطلع ديمتري على نماذج منه، ويكتفي بذكرها كلما أحس في نفسه بحاجة .. وخاصة كتابات ابن حزم والجوزي .. فالمقابلة هنا بين ثقافتين لا يتصارعان فيما بينهما، وإنما قضيتهما الإنسان، وإن اختلفت طرائق التعبير. ونلاحظ أن الثقافة اليونانية تجد من ينقلها إلى الطرف الآخر ( ديمتري يطلع حاتم عليها ) ، بينما لا نجد من ينقل ثقافتنا إلى الطرف الآخر ( يكتفي حاتم بذكر ما قرأه في الأدب العربي بما يتواءم مع حالته النفسية ) .. فالثقافة الغربية تجد من يطرحها خارج الحدود وينشرها، بينما تتقوقع الثقافة العربية كالشرنقة داخل حدودها .. ومن هنا نستبين الفارق أو عدم التكافؤ بين ثقافتين، ثقافة غربية تغزو العالم الخارجي، والرمز نستشفه في هجرة طيور السمان وفي قراءات ديمتري ، وثقافة عربية لا تتاح لها فرصة الانتشار. والمقابلة بين الثقافتين توضح أوجه المفارقة بينهما ، وأيضا أوجه المشاركة .. فثقافة حاتم العربية لم تمنعه من تذوق أشعار كفافيس، كما أطلعه عليها ديمتري، بينما لم يقم حاتم بالدور نفسه الذي أداه ديمتري . إلا أن الناقد الدكتور عبد الحميد إبراهيم تناول شخصية الراوي بنظرة مغايرة، واعتبره نموذجا لجيل المثقفين في الخمسينيات والستينيات، ووصف هذا الجيل بأنه جيل محبط منعزل ( 4 ) ، وإن كنا لا نقره على هذا الوصف في عمومه، فيما كان يعرف في الستينيات بأزمة المثقفين. كما شهدت الفترة نفسها تيار الوعي القومي، والدعوة إلى القومية العربية، التي نادى بها جمال عبد الناصر، ثم منيت الأمة في أعز أمانيها بهزيمة عسكرية في يونيو 1967. وقد دلل الناقد على ذلك بأن حاتم لم يكن له دور إيجابي في الأحداث السياسية، وبالتالي اعتبر الرواية تطرح نموذجا للبطل المثقف اللامنتمي، وأعرض عما تثيره الرواية في طرحها لحوار الحضارات المتمثل في حاتم وديمتري، كل يمثل ثقافة بلده.
    والمزج بين الثقافتين العربية واليونانية بدا واضحا وبارزا في الرواية. تتمثل الثقافة اليونانية في ديمتري اليوناني وقراءاته في الأدب اليوناني والغربي ، وخاصة أشعار كفافيس، التي تركت صداها وأثرها في نفسه . فكفافيس لسان حال ديمتري . أما الثقافة العربية فقد تأثر بها حاتم ، تأثر بما قرأه ، وخاصة كتابات ابن حزم .. وقد تعرف حاتم على الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس من خلال ما قرأه عليه ديمتري. وقد كتب كفافيس معظم قصائده في الإسكندرية، وإن كانت لم تترجم بعد إلى العربية . ورأى في شعره " عالما آخر يختلف حتى عن عالم القصيدة العربية الحديثة . يتحدث عن الإسكندرية والبحر وأنطونيو ودنشواي وإبراهيم ناصف الورداني والعطارين " ( 5 ) . كما نقله إلى عالم كازنتزاكس وناظم حكمت وبلزاك وزولا وفلوبير وفرجينيا وولف وجيمس جويس، وعرف هوميروس وإسخيلوس وأفلاطون وأرسطو، إلى جانب قراءات حاتم للأدباء المصريين .. وبدأ يمرن نفسه في الكتابة ويتخيل نفسه أديبا مثلهم . هكذا كانت شخصية ديمتري ـ في جانبها الثقافي الأدبي ـ مؤثرة تأثيرا بالغا على شخصية حاتم، وإن لم تطغ على ثقافته العربية . وقد غذاه بروافد الثقافة اليونانية والغربية ..وأكمل بذلك جانبا ثقافيا كان يجهله . وفي هذا يتحدث الدكتور جمال عبد الناصر عن الحيرة التي تنتاب حاتم إزاء محبوبته التي " تمثل ازدواجية حضارية مربكة لكونها مزيجا من الحضارة الهيلينية والذي بكى على أطلالها كفافيس، وتلك المصرية التي تاه عنها حاتم في خضم الأحداث الثورية المتلاحقة. لعل هذه الحيرة ترقى إلى موقف أبطال قصائد كفافيس الذين يعكسون بدورهم رؤية الروائي الإنجليزي الشهير م. فورستر الذي كان مشغولا أيضا بصراع الحضارات ( طريق إلى الهند ) 1924. لقد قدم فورستر هذا كفافيس إلى العالم في كتابه ( دليل إلى الإسكندرية ) 1922، حيث ترجم إلى الإنجليزية واحدة من أشهر قصائده، ووصف كفافيس بأنه " سيد يوناني ذو قبعة من القش " ( 6 ) .
    تعتمد الرواية على شخصيتين محوريتين : حاتم وديمتري، وإن طغى الأول بحكم روايته الأحداث على لسانه . وقد نمت العلاقة بين الشابين في هذا الطريق نموها الإيجابي في مزج الثقافتين .. وتأسست فنية النص الروائي على الصداقة التي جمعت حاتم وديمتري في قارب واحد .. التقى حاتم بالشاب اليوناني ديمتري كوتوميس الذي عرض عليه صداقته وأشار ديمتري إلى شقته التي يسكن فيها . وأطلعه على عمله وظروفه .. كان يعمل في بنك بشهادة تعادل التوجيهية . ويحيا مع أمه وزوجها المصري وابنته ياسمين، وهي أخته من أبيه . توطدت العلاقة بينهما وتزاورا، وقلب ديمتري في مكتبة حاتم العربية .. وحدثه عن صفقة الأسلحة التي عقدها عبد الناصر مع موسكو، فطلب حاتم منه أن يتحول إلى أحاديث الأدب فهي أفضل. وعزوف حاتم عن أحاديث السياسة يعكس ظروف الكبت التي عاشها هذا الجيل .
    وديمتري ليس شخصية سوية، فقد عرض على حاتم مقاسمته النوم على السرير ! وعجب لديمتري المسيحي وأخته ياسمين المسلمة، اللذين يعيشان تحت سقف واحد . فوجد تناقضا عبر عنه بأسئلة وجهها إلى صديقه، لكن صديقه لا تشغله مسألة الدين .. فأمه تذهب إلى البطريركية كل أحد، وأبوه يصلي الجمعة بجامع العطارين . وكلا الزوجين يحترم عقيدة الآخر . وتحير حاتم في أمرهما : كيف يحيا الأخ المسيحي مع أخته المسلمة ؟ وأومأ الراوي ـ حاتم رضوان ـ إلى نواحي شذوذ ديمتري .. حرصه على الجلوس بجواره على طرف السرير، وما إلى ذلك .. وطفق يقرأ لكفافيس،و يذكر لصاحبه رواية أوسكار وايلد ( صورة دوريان جراي ) .. فقال له حاتم أنه لا يحب غير الأسوياء . وعرض الكاتب شذوذا آخر لحمادة بك في ( رباعية بحري ) . وإن كان ثمة فارق بين الاثنين .. فحمادة بك ـ بحكم تقاليد المجتمع ـ كان يمارس شذوذه في الخفاء، ويخشى من افتضاح أمره . أما ديمتري ـ بحكم مجتمعه المتحرر ـ لا يجد غضاضة من مصارحة صديقه بأن ينام معه ، وأن يقبله في شفتيه وما إلى ذلك ! .. وقد اندهش حاتم من سلوكه المعيب .. وحاتم ـ من زاوية مغايرة ـ انبنت شخصيته على جهل تام بالعلاقة بين الرجل والمرأة، ولم يقدم على تجربة من أي نوع ( 7) .
    وفي أعقاب عدوان 56 على مصر، استعد ديمتري للرحيل مع أمه اليونانية ضمن الأسر الأجنبية التي تركت مصر وقتئذ، تاركين ياسمين مع أبيها المصري. وود ديمتري لو أن حاتم يعرف اليونانية ليهديه مكتبته .
    وثمة محور آخر يتمثل في علاقة حاتم بياسمين ، بنت الخامسة عشرة . علقت في مخيلته أكثر من ترجمات ديمتري للأدب اليوناني ، وتمثل حركاتها وكلامها، وبدت له مخلوقة غير اللاتي شاهدهن في شوارع بحري وفي الكلية. وسأل نفسه إن كان قد أحبها أم لا . وعرف أن ميله لياسمين هو الحب يطرق بابه .. الحب " شاطئ أتوق لدفء شمسه، وبرودة رماله، وامتداد الآفاق من حوله " ( 8 ) . شغلته ياسمين وخفق قلبه .. استحضر مقولة لابن الجوزي عن العشق الذي يؤدي بصاحبه إلى مرض ! أفصحت له عن رغبتها في دخول كلية الآداب قسم اللغة العربية لتجيد لغة أبيها، مثلما يجيد ديمتري لغة أمه. تعلق بياسمين وبدت عيناها أجمل ما في حياته، وإن كان يخاف من الحب. وحدثته عن عزوفها عن قراءة القصائد والقصص الصعبة وكتب الفلسفة والتاريخ، وإن كانت تميل إلى قراءة روايات الحب لإحسان عبد القدوس ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب. حاول الكتابة معبرا عن أحاسيس الحب وتذكر مقولة لابن حزم عن الفرح والصفاء في وصل المحبوب ( 8 ) . أطلعته على ( ألبوم ) صورها . وعجز عن كتابة رسالة لها . وتذكر مقولة للماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) ( 9 ) . أحس بحرارة الحب في الاقتراب منها. وتذكر مقولة لابن حزم عن هيبة محب لمحبوبه التي لا تعادلها هيبة (9 ) . احتضنها وقبلها للمرة الأولى، متذكرا مقولة لابن قيم الجوزية عن العشق، وتذكر حب المجنون لليلاه، وما قاله فيها من أشعار . وحين ودع ديمتري عند رحيله إلى اليونان راوده حنين بأن يتقدم لأبيها للزواج منها ، متذكرا ما قرأه لابن حزم عن عاقبة الحب وهي إما الموت وإما السلوى .. وحاتم يستحضر قراءاته في كتب التراث العربي ليعبر عن حالة الحب التي يعيشها ، في الوقت الذي عجز عن كتابة أحاسيسه، واستنطق ألسنة الكتّاب العرب القدامى ، في إشارة واضحة لانتماء حاتم إلى جذوره العربية، ولعل رغبة ياسمين في إجادة العربية لغة أبيها قد خلقت نوعا من التوحد والتوافق بينها وبين حاتم، وعمقت مشاعر الحب بينهما . وهي حالة حب رومانسية فريدة في كتابات محمد جبريل .
    أما علاقة حاتم بأخيه طارق فهي مقطعة الأوصال رغم صلة الرحم . وما إن بدأنا نقف عند طمع طارق في الاستئثار بشقة الأسرة ليتزوج فيها حتى نجد حاتم أخا مسالما يرضخ ويترك الشقة ويقيم بالأجر عند سيدة يونانية . وطارق يكبر أخاه بخمسة أعوام. التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها وتأهب للزواج . بينما يدرس حاتم في كلية الآداب ويعمل بعد الظهر في كازينو .
    يحدثنا حاتم عن موت أمه فجأة . وتوتر الأب بعد فقدها . تداخلت الأزمنة في ذهن الأب المتعب ، ومكث في البيت عامين يصارع المرض ، ثم استقال من عمله . واستعان بالخادمات لكنه كان يطردهن واحدة بعد أخرى . وكان حاتم يتوقع موته ويخافه، إلى أن وجده ممددا أمام دورة المياه ! بعد موت الأب طلب حاتم من أخيه أن يقتسما أثاث الشقة لكنه رفض، متعللا بأن أثاث أبيه لابد أن يبقى في الشقة ! وشكا إلى عمه فادّعى انشغاله وأحاله إلى عمته تبارك وأخواله ! وتتوالى أحداث الرواية بعيدا عن طارق، بعد أن سكن حاتم في شقة السيدة اليونانية . اختفى طارق من مسرح الأحداث ولم يرد على خاطر أخيه ، إلى أن باعت السيدة أثاث شقتها عند رحيلها إلى اليونان . وإذا به يلتقي بطارق مصادفة، تلك المصادفة غير المرغوب فيها، لأنها مصطنعة . وكان يمكن لحاتم أن يلجأ إلى أخيه تحت وطأة احتياجه إلى سكن . وقد سأله طارق عن موعد عودته إلى حجرته ! وهو تغير مفاجئ في تصرف الأخ ، وأفهمه أن الحجرة باقية كما هي ، وصالَحَه .وهو تصرف محمود من الأخ الكبير أنهى به أيام الجفاء ، ولعل هذا التحول المفاجئ أملاه عليه ما لمسه من احتياجه إلى سكن .
    تتميز الرواية بتعرضها لحياة اليونانيين المقيمين في مصر ، والصلات الحميمة التي ربطتهم بالمصريين . والرواية تؤرخ لهذه الحياة من خلال حاتم الذي قاده السمسار إلى شقة أسرة يونانية يقيم في إحدى حجراتها . وتذكر ديمتري وكازنتزاكس وكفافيس وأريستوفان ويوربيدس وإسخيلوس وفلاسفة الإغريق . ورأى في الإقامة مع أسرة أجنبية انتقالا مفاجئا إلى بيئة أخرى وعالماً جديداً . التقى بالسيدة اليونانية صاحبة الشقة، التي عرفته على ابنتها فرجينيا وزوجها بيروس .. وعرف منها أنها اضطرت إلى تأجير الحجرة ليساعدها في مصروف البيت . تقيم معها فرجينيا وزوجها وابنتها ، لكن مرتب بيروس يكفيه بالكاد .
    حكت لحاتم عن حياتها ، فقد مات أبواها في الحرب بين اليونان والدولة العثمانية ، وفرت مع خالها على باخرة متجهة إلى الإسكندرية عام 1898 ، واستقرت في ( باب سدرة ) ، وتزوجت بقالا يونانيا يمتلك دكانان في العطارين والإبراهيمية . وبعد وفاته أغلقت الدكانين وعاشت بعائد مدخرات البنك .
    اهتمت السيدة اليونانية بانسحاب المرشدين الأجانب ، في محاولة للضغط على عبد الناصر ، وتفاخرت بأن المرشدين اليونانيين ظلوا في مواقعهم. وتتداعى الأخبار ويشتد خوفها لدي سماعها صفارة الإنذار . وحين انتهى عدوان 1956 ، استمر قلقها ، اعتقادا منها أن عبد الناصر لا يريد الأجانب . وعزمت الأسرة على الرحيل. وباعت أثاث الشقة وترك حاتم حجرته، في الوقت الذي التقى فيه بأخيه الذي رحب بعودته ، وصالَحَه.
    ولا يستطيع قارئ روايات محمد جبريل إغفال أثر الأحداث السياسية في تشكيل وبناء روايته . وهي ظاهرة غالبة . ففي ( الشاطئ الآخر ) قدم الأحداث الوطنية التي مرت بها مصر قبل وبعد تأميم شركة قناة السويس . وفي ( رباعية بحري ) قدم الأحداث السياسية والوطنية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وتحديدا في الفترة 1946 / 1952 م . ولو استعرضنا أحداث الوطن كما وردت في ( الشاطئ الآخر ) ، نجدها تبدأ باستقالة محمد نجيب من جميع وظائفه وتعيين جمال عبد الناصر رئيسا للوزراء.. صفقة أسلحة عقدها عبد الناصر مع موسكو.. رفض الغرب لصفقة الأسلحة التشيكية .. انضمام الشباب إلى منظمة الشباب والحرس الوطني .. عيد الجلاء الوطني .. إشارة إلى الحرب التي نشبت بين اليونان والدولة العثمانية .. سحب أمريكا تمويل السد العالي .. إعلان عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، في خطبة له بميدان المنشية، وقبل ذلك بعامين شهد المكان نفسه محاولة اغتيال عبد الناصر بإطلاق الرصاص عليه .. وتدافعت الأحداث السياسية .. هزيمة حزب بغداد .. صفقة الأسلحة التشيكية .. إعلان الدستور . الإفراج عن المعتقلين السياسيين .. جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر .. تصاعد نذر العدوان على مصر .. فتتبدل الحياة : " اللون الأزرق يغطي الواجهات والنوافذ، والشرفات الزجاجية. امتلأت الشوارع بالزي الكاكي . جنود الجيش والمتطوعين ورجال الدفاع المدني . أجهزة الراديو تتعالى في الميادين والقهاوي والدكاكين : البيانات ، والموسيقا العسكرية ، والتعليقات، والمناقشات ، وأغنيات المعارك"(12) .. قال عبد الناصر : " لن نستسلم أبدا ، سنبني بلدا وتاريخا ومستقبلا ، وسننتصر . لقد فرض علينا القتال ، ولكن لا يوجد من يفرص علينا الاستسلام " ( 13 ) .. وفتح باب التطوع داخل كليات الجامعات .. كما عمد الكاتب إلى تكثيف الأحداث السياسية في شكل ( مانشيتات ) إخبارية سريعة، فيقول : " تجميد بريطانيا حساب مصر من الإسترليني .. فرض الحماية على أموال شركة قناة السويس وممتلكاتها في لندن .. تجميد الولايات المتحدة لأموال مصر المودعة لديها .. عقد مؤتمر الدول البحرية .. تكوين جمعية للمنتفعين بالقناة .. رفض عبد الناصر فكرة الإشراف الدولي .. فشل بعثة منزيس في مهمتها .. حشد القوات الفرنسية والإنجليزية في المطارات القريبة، وفي عرض البحر المتوسط .. " ( 14 ) ..
    ينشغل الكاتب بالهم السياسي، ويبرزه ( موتيفة ) أساسية للعمل الروائي ، وإن شكله في صيغة خبرية ضمن أحداث ( الشاطئ الآخر ) ، تشمل زمن الرواية، في الفترة الواقعة قبل وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وضمن أحداث رباعيته قبل قيام الثورة بنحو ست سنوات، وبعدها بقليل .
    وفي ( الشاطئ الآخر ) نلاحظ اهتمام الجالية اليونانية بالتطورات السياسية الواقعة في مصر، ويناقشون تداعياتها، ويرتبون مستقبل إقامتهم في مصر على ضوء ما تتمخض عنه النتائج . ولقد أدى تأميم شركة قناة السويس إلى تهديد مصر بالغزو المسلح، ثم وقوع العدوان الغاشم. ورغم اندحار العدوان، إلا أن الأجانب من اليونانيين والجنسيات الأخرى تخوفوا واحتاطوا، فآثروا العودة إلى بلادهم . ورغم أن السيدة اليونانية اعتزت بالموقف المشرف للمرشدين اليونانيين الذين أصروا على البقاء في أعمالهم ، جنبا إلى جنب مع المصريين . إلا أن هذا الموقف لم يمنع السيدة اليونانية من ترك مصر .
    تدخل الأحداث السياسية ضمن النسيج الدرامي لرواية ( الشاطئ الآخر ) وتأتي منطقية ومحكمة .. وإذا أهملت هذه الأحداث لم تجد للرواية دعائم ترتكز عليها .. بعكس الأحداث السياسية الواردة في ( رباعية بحري) التي لم تصنع ـ في الغالب ـ الحبكة الدرامية، ولم تدخل في نسيج الإبداع الروائي .. فيما عدا استشهاد شاب من أبناء بحري في أحداث مقاومة الفدائيين للاحتلال الإنجليزي في منطقة القنال ، جنبا إلى جنب مع الشرطة المصرية التي أبلت هي الأخرى بلاء حسنا، وكل ذلك وارد في تاريخ النضال المصري . إلا أن مثل هذه الأحداث لم تأت في الرباعية على نحو متماسك مثل ما أتت في ( الشاطئ الآخر ) . وهناك أوجه تشابه بين هذه الرواية وما كتبه الروائي السوري عبد الكريم ناصيف في روايته ( الحلقة المفرغة ) ( 15 ) ، التي تروي الأحداث السياسية بدءا من نكبة 1948 إلى نكبة 1967 ، أو هي السيرة الذاتية ليسرى رمضان، بطلة الرواية وراوية أحداثها . والخط السياسي الذي سارت فيه الرواية محور رئيسي لا يمكن إغفاله ، ذلك أن المعمار الفني للرواية بني داخل هذا الإطار ، لدرجة أنه ما من فصل يخلو من مرويات سياسية زخر بها واقعنا العربي في أحرج فترة من فترات تاريخنا الحديث . تروي ( الحلقة المفرغة ) تفاصيل حياة ( يسرى رمضان ) كما دونتها في مذكراتها .. ولدت في حيفا عام 1940 ، وامتدت يد الغدر عام 1948 ، فتشتت شمل الأسرة، بانسحاب القوات البريطانية من فلسطين ، واستأثرت قوات الهاجاناة بحيفا وروّعت الآمنين وطردتهم من ديارهم .. والتزام الكاتب بالخط السياسي نابع أساسا من شخصية يسرى التي رسمها، تحن إلى يافا ، وتعاني من عقدة اغتصاب أمها أمام عينيها، ومحاولة اغتصاب أختها، وقتل أخيها ، وهروب أبيها ‍..
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    تابع / الفصل الثالث من كتاب "روائي من بحري" لحسني سيد لبيب
    .................................................. ..........................
    لاحقت الأحداث السياسية وعلقت عليها في مذكراتها ، وبدت حيفا أملا يقترب ويبتعد حسب ما يمليه المناخ السياسي بمدّه وجزره .. ثمة خطان متوازيان حرص الكاتب عليهما : خط اجتماعي هو موضوع الرواية، وخط سياسي عن الأحداث السياسية التي غيرت أوضاع المنطقة العربية في عهد الزعيم جمال عبد الناصر .
    ولم أجد مبررا فنيا لحرص الكاتب السوري على سرد الأحداث السياسية، ولو شطبت عشرات السطور من كل فصل لبقي النص الروائي معمارا فنيا متكاملا . ذلك أن سرد الحدث السياسي ، يشبه المذكرة التفسيرية التي لا تهم النص الأدبي . كما أن السرد الإنشائي يجور على البناء الفني ويجترح جزءا لا يستهان به . ولعل المبرر الوحيد لهذا المسرد، هو أن يُسرى تتتبّع بلهفة الحدث السياسي أملا في العودة إلى حيفا . وما دامت يسرى هي الرمز الموحي للوطن السليب، لذا كان تسليط الأضواء على الواقع السياسي، يسرده، خطا موازيا للحدث الروائي . كما أن يسرى مغرمة بمتابعة هذا الواقع، ومطابقة ما يقع لها بما هو واقع في خضم السياسة . وقد كتب ناصيف المسرد السياسي ـ على لسان بطلته ـ وقائع تسجيلية، من صلب عمله الروائي، تتوطد أركانه بحال يسرى . وعمد إلى الإطناب، وأخاله بذلك يرسم جوا يؤهله أن يكون ( كاتب الرواية السياسية ) .. لكنه لم يشأ أن يكون كاتبا سياسيا ( 16 ) .. وكان مبتغاه تتبّع حياة يُسرى وكان يكفيه ذلك، ويغفل المسرد السياسي، ويدع بطلته تروي حياتها هي . ويكون الرمز الموحي أفضل من السرد الإنشائي . و ( يُسرى ) إحدى بنات جيل النكبة، انفعلت بأحداثها، وتحمست لما تسمع وتقرأ، وبنت آمالها على مخطط قومي رسمه الزعيم جمال عبد الناصر، فتجددت هويتها بأنها ناصرية، تجد خلاص أمتها وحنينها إلى حيفا في التوحد العربي ضد المخطط الإمبريالي . يُسرى شخصية شدها الواقع السياسي ، فتابعته بعيون مفتوحة وحس مرهف، حتى أن مذكراتها لم تترك نأمة إلا ذكرتها ، من الخضم السياسي، أملا في الخلاص من واقع مهين . وإذا كان السرد السياسي يمكن حذفه، إلا أنه لا يصح أن نضع قيدا على قلم الروائي. فالسرد السياسي مقصود لذاته ، استكمالا لرسم شخصية ( يُسرى )، وعملا بمقولة مارت روبير : " الرواية الحديثة لا قواعد لها ولا وازع، مفتوحة على كل الممكنات، وغير محدودة من جميع الجوانب إذا صح القول " ( 17 ) .
    أما رواية محمد جبريل ( الشاطئ الآخر ) فقد ورد ذكر الأحداث السياسية متضافرة ومتساوقة مع أحداث الرواية، فأكسبتها مصداقية وعمقا . وإذا عقدنا مقارنة بين ( يُسرى رمضان ) و ( حاتم رضوان ) نجد يُسرى ذات حس قومي عال، وتتابع أحداث المنطقة العربية عن كثب ، بل وتسجل وقائعها تفصيلا في مذكراتها . أما حاتم فبعيد كل البعد عن أحداث بلده، بل ويؤثر عدم الخوض في المواضيع السياسية، وإن كانت الأحداث تهم الشخصيات اليونانية التي تعامل معها ! وهو نوع من التناقض قصده الكاتب لبيان انغلاق الشخصية . يتحدث ديمتري والسيدة اليونانية وابنتها فرجينيا وزوجها بيروس في تطورات الأزمة بعد تأميم شركة قناة السويس . وتتشابه ياسمين ، المنتمية إلى فرع الأب المصري ، مع حاتم في بعدها عن السياسة .
    ويغرم الكاتب بتحديد بيت أسرة حاتم، الذي تطل شرفته على شارع الميدان، وتطل إحدى حجراته على سيدي الشوربجي، ويذكر المقهى المتواجدة أسفل البيت . كما يذكر مكان عمل حاتم في ( كازينو ) يطل على شاطئ ستانلي . وأفاض في وصف البيت الذي تسكن فيه أسرة ديمتري .. فالبيت من ثلاثة طوابق، ويقع في شارع الكنيسة الأمريكانية، ملاصق للكنيسة الإنجيلية .. وبالقرب من نقطة شريف .. يطل في الجانبين على شارعي سيدي المتولي وتوفيق . وللشقة بلكونة خلفية ينشرون فيها الغسيل، تطل على حارة الدردير .. وهذا الوصف الدقيق حفل به الكاتب لأن حاتم يهتم كثيرا بأسرة ديمتري اليونانية . وإن أسهب في الوصف أكثر من وصف بيت حاتم نفسه، وابتعد عن سياق الرواية . وأما الشقة التي أقام فيها مع أسرة يونانية ، فقد نالت هي أيضا عناية الكاتب . فقد توجه حاتم مع السمسار إلى بيت ملاصق لجامع العطارين، مكون من ثلاثة طوابق، عمارته أوربية، وواجهته تطل على شارع سيزوستريس . الشقة في الطابق الثالث، حيث تقيم الأسرة اليونانية التي سيقيم معها . ولاحظ هنا غرامه بالعدد (3) ـ البيت من ثلاثة طوابق ، وشقة الأسرة اليونانية في الطابق الثالث ـ على النحو الذي لاحظته منار فتح الباب فقالت في هذا : " ولأن الخطوات الأساسية في الحياة في لحظات التحول تقع في مراوحة بين الحياة والبعث ( حياة ـ موت مؤقت انتقالي ـ بعث ) عبر حركة ثلاثية ، فإن تكرار العدد (3) ـ ذلك العدد السامي المقدس القديم ـ وتردد الأفعال ثلاث مرات سمة أسلوبية بارزة للغاية في بنية اللغة التي تمرس محمد جبريل في توظيفها جيدا.."( 18 ) . ولعل الكاتب لم يقصد هذا التفسير ، فجاء مقصد ناقد ، أو هي رمية من غير رام، فما أعرفه أن الكاتب شاء أن يرسم بقلمه الواقع المعيش في حي ( بحري ) . وقد أومأت الكاتبة بعقيدة التقديس المسيحية في سياق كلامها عن أن العدد (3) مقدس . ويعكف الكاتب ـ كما حدثني في أحد لقاءاته ( 19) ـ على كتابة ( في القلب منازل ) ، ويدور الموضوع حول المنازل التي عاش فيها الكاتب والأثر الذي تركه كل منزل . وهذا يدلنا على ولعه بالسكن مكانا يستقر فيه ويتكيف معه . كما أن الإسكندرية مكانا وموطنا استأثر بحبه وهواه فكتب عديدا من الروايات عن الإسكندرية ، وتحديدا في منطقة بحري التي عاش فيها الكاتب . علاوة على الروايات التي نشرها عن الإسكندرية : الصهبة ، و قاضي البهار ينزل البحر، و الشاطئ الآخر ، ورباعية بحري ، فثمة روايات أخرى تتخذ الإسكندرية مسرحا لأحداثها وفي طريقها إلى النشر ( 20) ، هي : ( المينا الشرقية ) و ( مد الموج ) و ( نجم واحد في الأفق ) .. علاوة على ما كتبه من قصص قصيرة وفي كتابه ( حكايات من جزيرة فاروس ) .. وهذه الكثرة من الأعمال عن الثغر العريق ، يضع صاحبها في مقدمة الكتّاب السكندريين الذين تركز عطاؤهم في البيئة التي نشأوا وتربوا فيها ، وقد سبقه نجيب محفوظ وفعل الشيء نفسه وأعطى الاهتمام لحي الجمالية العريق وما حوله من أحياء . وهذا الاهتمام يعطي للعمل مصداقية أكثر مما لو لجأ الكاتب إلى الكتابة عن بيئة غير تلك التي عاش فيها . لهذا كانت الإسكندرية هي المكان الأثير لمحمد جبريل . هي مسقط رأسه . لا ينساها أبدا ، رغم سكنه في القاهرة ، إلا أنه دائم السفر إلى الثغر ، وما من مرة أسال عنه إلا أجده عائدا من هناك، أو على أهبة السفر! فالإسكندرية تشكلت في وجدانه وباتت حبه وهواه .
    ورواية ( الشاطئ الآخر ) تدور أحداثها في الإسكندرية، حيث تعيش الجالية اليونانية بنسبة عددية كبيرة .. وثمة جاليات أخرى تعيش هناك ، لكن اليونانيين يشكلون الغالبية . يرحل اليوناني إلى الثغر المصري ـ أو الشاطئ الآخر ـ لقربها من بلده، وتاريخها العريق، منذ أيام الإسكندر المقدوني . وتتزاحم في هذا المكان أثار العهود الماضية ، يبلور الصورة في نهاية الرواية على لسان حاتم : " مسحتُ الميدان بعينين قلقتين : مبنى الاتحاد القومي، وتمثال محمد علي ، والكنيسة الإنجيلية، وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوروبي، والنخل السلطاني ، والحديقة المستطيلة، وزحام الترام والأوتوبيسات والسيارات والحانطور والكارو والمارة، وسراي الحقانية، والقهاوي، ومكتبة دار المعارف، ودكاكين الطعام والأقمشة والأدوات المنزلية .. " ( 21). وتبين الفقرة زحام الميدان بالمركبات والأبنية والمارة والدكاكين .. وتبين الأعصر التي توالت عليه وتركت بصماتها .. عصور قديمة وحديثة، وحكام تركوا آثارًا تدل عليهم في تلك البقعة الصغيرة .. ميدان المنشية ، ذلك المكان الذي شهد إطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر ، وشهد أيضا إعلان تأميم شركة قناة السويس .
    والرواية في إطارها العام هي، كما وصفها الناقد الدكتور علي الراعي : " رواية تجمع في اقتدار بين الرومانسية والواقعية في اتزان جميل " ( 22 ) .
    الهوامش:
    1-محمد جبريل : الشاطئ الآخر ـ مكتبة مصر ـ القاهرة 1996 ـ 128 صفحة.
    2- كتاب ( محمد جبريل .. موال سكندري ) : دراسات بأقلام الأدباء ـ دراسة منار فتح الباب : (الخطاب الروائي عند محمد جبريل ) ـ ص 7، 10.
    3-محمد جبريل : هل ؟ ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سلسلة ( مختارات فصول ) ـ عدد 42 ـ يوليو 1987 ـ ص 69 / 72.
    4-مجلة ( الثقافة الجديدة ) ـ أكتوبر 1996 ـ مقال ( الهروب نحو الشاطئ الآخر ) ـ ص 12.
    5-الشاطئ الآخر ـ ص 22.
    6-مقال ( الشاطئ الآخر بين جبريل وكفافيس ) ـ جريدة ( الأهرام ) ـ عدد ؟ ـ ص ؟.
    7-الشاطئ الآخر ـ ص 84.
    8-المصدر السابق ـ ص 58.
    9-المصدر السابق ـ ص 68.
    10-المصدر السابق ـ ص 70.
    11-المصدر السابق ـ ص 73.
    12-المصدر السابق ـ ص 94، 95.
    13-المصدر السابق ـ ص 95.
    14-المصدر السابق ـ 97، 98.
    15-عبد الكريم ناصيف : الحلقة المفرغة ـ ط 1 ـ دمشق 1984، ويرجع تاريخ كتابتها إلى عام 1972م.
    16-للكاتب ثلاث روايات أخرى لم نتعرض لها : ( العشق والثورة ) عام 1989، و ( المخطوفون ) عام 1991، و ( في البدء كانت الحرية ) عام ؟.
    17-مارت روبير : رواية الأصول وأصول الرواية ـ ترجمة : وجيه أسعد ـ اتحاد الكتّاب العرب بدمشق 1987 ـ ص 64.
    18-محمد جبريل .. موال سكندري ـ ص 9.
    19-لقاء سبتمبر 1999م.
    20-نفسه.
    21-الشاطئ الآخر ـ ص 126.
    22-مقال ( محمد جبريل في " الشاطئ الآخر " : رواية الاتزان الفني الجميل.. ! ) ـ جريدة (الأهرام ) ـ عدد 1 ديسمبر 1996 ـ ص 22.
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الرابع من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. ...

    النظر إلى أسفل

    تركز رواية محمد جبريل ( النظر إلى أسفل ) ( 1 ) على حياة راوي الأحداث ( شاكر المغربي ) .. ومغزى العنوان يكشف عن رغبة آسرة في النظر إلى أقدام النساء ! أو إلى ما يرمز إليه بالتألق ـ في كثير من المواضع ـ والحلم والتصور والتخيل ، وتنتهي الرغبة بالرجفة ! وشاكر كثير الاختلاء بنفسه بالطبع، فيستدني صورة التألق المتوهج داخله.. فيومئ الكاتب إلى غرامه بطقوس ( العادة السرية ) ! لكنه يكره افتضاح أمره .. وحين تعايره زوجته نادية حمدي بحاله المؤسفة، ووضعه المتدني في هذا، يطلق عليها النار .. وقد كانت تسايره وتجاريه، مقابل أن يترك لها حرية التصرف في حياتها بصفتها سيدة أعمال مثله، لكن الحال لا يرضيه لافتضاح أمره أو تهديدها بذلك ..
    وشذوذ حمادة بك في ( رباعية بحري ) ، يمت بصلة ما بالسلوك المنحرف عن الطبيعة السوية لشاكر المغربي. كلاهما يخشى افتضاح أمره، خوفا على سمعته، وكلاهما رجل أعمال يصرف عن سعة وبذخ ، إلا أن شاكر المغربي توسعت أعماله وتعددت شركاته.. هو رجل أعمال ناجح، فيما لا يتوافق مع طبيعته الانطوائية وحاله المنحرفة .. ولعل ما قصده الكاتب أنه قد يعتور النجاح فشل في سلوك معين أو انحراف أو شذوذ، حيث ليس من المفترض في حياتنا سواء الشخصية ، أو كما عبر هو نفسه عن هذه المفارقة، في حوار أجري معه، بأن شاكر المغربي.. " بحكم عقدته الجنسية والنفسية، ينظر إلى أسفل، ولكنه بحكم طموحه المادي والاجتماعي يتطلع إلى أعلى. ويلتقي الضدان في نفسه وفي تصرفاته ليحدث الاصطدام المتوقع في نهاية مأساوية " ( 2 ) . والبطل هنا يشبه بطل رواية نجيب محفوظ ( السراب ) وإن اختلفت طريقة المعالجة بينهما .. فالشخصية تتعقد أمامها سبل الحياة، وتتداخل رغباتها ونوازعها . وما قد نراه غير متوافق، قد يراه الكاتب أمرا طبيعيا أو محتمل الحدوث !
    وإطلاقه النار على نادية حمدي، واقتياده إلى السجن والتحقيق معه، يردنا إلى ما ذكره في أول الرواية عن الشجار الدائم بين أبويه . كانت أمه تقول لأبيه أنه مثل حي العطارين الذي يخلو من عطار واحد! فيرد عليها بأنها كالرجل الدميم ! تشبهه بنخلة بلح فيشبهها بشجرة جميز ! وانتهى الشجار في هذه المرة بإصابتها بفتّاحة كتب، وإيداعه في سجن الحضرة، ومات في السجن .. أي أن الرواية حققت التدوير، بمعنى أن الابن انتهى به الحال إلى مصير كمصير أبيه .. رغم اختلاف سبل حياة كل منهما .. ويشبه د. حامد أبو أحمد حادثة القتل الانفعالي هذه " بمشاهد القتل المجانية التي نجدها في رواية ( عائلة باسكوال دوارتي ) للكاتب الأسباني كاميلو خوسيه ثيلا، حيث كان يبدو القتل في كثير من الأحيان وكأنه غير مبرر أو كأنه نوع من التحقق الموضوعي للأزمات النفسية والإحباطات على مستوى الواقع " ( 3 ) .. ويشبهها أيضا " بالتراجيديا اليونانية التي يكون فيها الموت قتلا بمثابة قدر محتوم يمتد من الآباء إلى الأبناء " ( 4 ) .
    وكما أن أحداث الرواية تدور حول حياة شاكر المغربي منذ ابتعاد أبويه عنه ( قتل الأم وسجن الأب ) واستقلاله بحياته، حتى قتله زوجته نادية حمدي واقتياده إلى السجن .. فإنها تدور أيضا في خط سردي للأحداث السياسية التي مرت بها البلاد بدءًا بثورة يوليو 52 ، وانتهاء باغتيال الرئيس محمد أنور السادات في 6 أكتوبر 1981 .. كما هي عادة الكاتب في عقد المزاوجة بين حياة شخوص رواياته والوضع السياسي للبلاد .. على النحو الذي عرفناه في رواية ( الشاطئ الآخر ) عن أحداث تأميم شركة قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، وفي ( رباعية بحري ) التي امتدت أحداثها السياسية منذ عام 1946 إلى عام 1952 ( قبيل قيام الثورة ) .. وقد يختفي الحدث السياسي وراء رمز ما كما في رواية ( قاضي البهار ينزل البحر ) عن المطاردة، وفي رواية (إمام آخر الزمان )، عن المهدي المنتظر ، وكل إمام يجبّ ما قبله، ويأمل الناس في الإمام الجديد التقوى والصلاح، لكن الفساد آفة كل إمام حكم الناس..
    وتضمنت الروايات التي تناولت أحداثا سياسية، شخصيات من المقهى، يصح تسميتهم (أصدقاء المقهى) . ولعل أبرزها ما جاء في ( رباعية بحري ) ، و( المينا الشرقية ) ، حيث شكل المقهى مكانا حيا تتفاعل فيه الأحداث، وتنسج فيه الحكايات، وتناقش فيه الأمور السياسية ، وإن سيطر في ( المينا الشرقية ) الرعب من الرقيب أو الجاسوس الذي ينقل كل شيء إلى السلطة . وثمة أوجه شبه مع نجيب محفوظ في احتفاء الكاتبيْن ـ ومن سار على نهجهما من الكتّاب ـ بأصدقاء المقهى سواء اقتربوا أو ابتعدوا في السبل والغايات ، سواء كانوا شلة من شلل الأنس والبهجة أو هم موظفين .. ويبرز المقهى عند هؤلاء الكتّاب مكانا يتجمع فيه الناس ،أو منبرا شعبيا يتبادلون فيه الرأي ويتناقشون فيما يجدّ من أحداث . مثلما أغرم الكتّاب والأدباء أنفسهم بالمقهى يجتمعون فيه، وكانت مقاهي الأدباء في مصر ( الفيشاوي ) و ( ريش ) اللتين ارتادهما نجيب محفوظ وتلاميذه ( 5 ) .
    انحصرت دائرة أصدقاء شاكر المغربي في شخصيات محدودة مثل عبد الباقي خليل ممثلا للتيار الديني، وعماد عبد الحميد ممثلا للتيار التقدمي الوطني، وقد رفض أن يُصنّف مع الماركسيين ! ولعماد مودة خاصة عند شاكر إذ قال عنه : " عماد طفولتي ونشأتي والأسرار التي لا يعرفها أحد، المذاكرة واللعب في شارع علي مبارك : السيجة وعنكب يا عنكب وأولها إسكندراني والنحلة والبلي، والفرجة على تكية الميرغني، وقراءة الفاتحة لسيدي أبي الدرداء، ومرافقة الجنازات إلى مقابر العامود، والتمشي إلى محطة الإسكندرية وكوم الدكة ، ودخول حفلات العرض المستمر في سينما الدورادو، والجلوس في مدخل البيت، وعلى البسطة المواجهة لشقتنا، ومتابعة حركة البواخر في الميناء الغربية " ( 2 ) .. وقد عمد هنا إلى تكثيف الصورة باسترجاع وقائع جمعتهما منذ الطفولة. كما نلمس في هذه الفقرة تلك العفوية والتلقائية المحببة، وهي سمة الرواية التي وشحتها بالنضج الفني، فيما ذهبت إليه من صدق فني، وتلك التلقائية وقف عندها الكاتب محمد قطب، فقال : " وهذه التلقائية تعطي للعمل الفني بعدا وجدانيا متألقا بحيث يثير النص فيضا من المشاعر والعواطف في لغة موجزة حاسمة، تشي بصور شعرية ذات إيقاع منغم يتنامى مع الموقف النفسي والمادي معا " ( 7 ) . وتترى الذكريات في خاطره عن أماكن أثيرة في حي (بحري )، كشفت ولع الكاتب السكندري بها، فانتقل الولع إلى شاكر المغربي .. شارع علي مبارك ، وتكية الميرغني ، وسيدي أبي الدرداء ، ومقابر العامود ، ومحطة الإسكندرية ، وكوم الدكة ـ مسقط رأس الفنان سيد درويش ـ وسينما الدورادو ، والميناء الغربية .. أو هو الحنين إلى مدينته ومسقط رأسه، دافعه إلى الكتابة، كما قال الكاتب في حوار أجري معه ( 8 ) .
    سارت شخصية شاكر المغربي في ثلاثة مستويات تتداخل فيما بينها وتتفاعل : المستوى الأول غرامه بأقدام النساء ، والثاني عمله التجاري ، والثالث متابعته للأحداث الجارية في بلده من حيث صداها أو أثرها في نفسه أو نفوس أصدقائه ..
    سعى شاكر إلى كسب رزقه، فعمل في ثلاثة أماكن : مخازن البنداري ومحل سيد الزنكلوني تاجر المانيفاتورة، ومركز الشباب بمدرسة إبراهيم الأول الثانوية . انتعش حاله بعد عدوان 56 ، وإنشاء شركات القطاع العام . وبعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا، ووصول التجار السوريين إلى مصر، بدأ يتاجر في البضائع السورية ، وشجعه حسونة النقراشي لقيد اسمه في سجل المقاولين، وأصبحا شريكين . وعقد صفقات كبيرة، واستطاع أن يتابع الخط السياسي من خلال عماد الذي كان يشتغل بالصحافة ، ونصحه حسونة النقراشي أن ينضم إلى الاتحاد الاشتراكي حتى ينجح في تجارته . وأنشأ له مكتبا في القاهرة.. وتردد عماد على المكتب، واستفاد شاكر من خبرته في النواحي الاقتصادية .. وانتهجت الدولة سياسة الانفتاح الاقتصادي بعد حرب أكتوبر 1973 ، فتمكن شاكر من فتح شركات للسياحة والتجارة والتصدير والاستيراد والتوكيلات، بينما امتعض عماد من سياسة (انفتاح الروكفور) كما سماها . واهتم شاكر بالقراءة السياسية لأن " التاجر الناصح هو الذي يبني حساباته على التطورات السياسية ! " ( 9 ) . وافتتح شركات في قبرص، وعرض الزواج على امرأة قبرصية كانت تقيم في مصر، تدعى كاترين نيقولا .. طمعا في الحصول على إقامة دائمة .. ولم تثنه أعماله التجارية عن طبول الغابة تصم أذنيه . لم تصرفه المعاملات التجارية عن الخلو إلى نفسه .
    زارته نادية حمدي تشكو له من تناقص العمال الذين تعتمد عليهم في بناء مساكن شعبية، فوعدها بتدبير العمالة.. وتزوجها . أعلن النقراشي أنه وقع عقدا لاستصلاح أرض مع شركة إسرائيلية ، وأخفى شاكر أنه شريك للنقراشي ! وقد اعتاد شاكر إخفاء كل ما يستهجنه المجتمع، فأخفى التألق الذي يلذ له عند رؤية أقدام النساء، وأخفى ـ أيضا ـ علاقاته التجارية مع شركات إسرائيلية من خلال النقراشي ! فهو حريص كتاجر على تجميل وتحسين الصورة الخارجية التي يبدو عليها .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    تابع / الفصل الرابع من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب

    النظر إلى أسفل
    ....................

    شخصية شاكر المغربي محبة لمهنتها، متطلعة إلى الرواج والكسب المالي . يسخر كل شيء من أجل هذا .. فهو يهتم بالأحداث السياسية من وجهة نظره كتاجر، ناظرا إليها من جانب المصلحة والمنفعة. . ومثال ذلك نجده حين صدر قانون يقضي بضرورة تقديم المستندات الدالة على تسديد الضرائب على البضائع الأجنبية .. فاستغاث شاكر ، مع زملائه التجار ونشروا نداء في الصحف إلى كبير العائلة الرئيس السادات ـ كما كان يطلق عليه ـ .. وبعد حملة اعتقالات 5 سبتمبر حدث كساد تجاري .. فقال لعماد : " إنهم يسجلون أملاكهم وأغلب عملياتهم بأسماء الزوجات والأبناء .. وأنا ، لا أبناء .. والزوجة تعمل لحسابها ! " ( 10 ). كما أن تغليبه جانب المصلحة دفعه إلى عقد صفقة زواج في قبرص من كاترين نيقولا للحصول على تصريح دائم للإقامة في الجزيرة .. كما تزوج نادية حمدي لأنها أرضت غروره وطمعا في إخضاعها لسيطرته .
    أما غرامه بأقدام النساء ، وجعلها مفتاح نزوته الجنسية، فقد بنيت عليها أحداث الرواية . يحدثنا عن انطوائيته وعزوفه عن المناقشة خشية التلعثم . وعرض على سوزان النجار ـ زميلته في المعهد الليلي ـ طلبه الغريب بأن يرى قدميها، فاستغربت .. ويحيلنا الكاتب إلى إرهاصات أحداث الطفولة والصبا، التي شكلت مزاجه ، فروى واقعة إصابة بطنه بقدميْ الغسالة . وضرْب المدرس له والزملاء على الأقدام .. وكشفت انطوائية شاكر السر الذي لا يبوح به وتفضحه نظراته المحمومة إلى القدمين ، والرجفة التي ينتهي بها الموقف فيهدأ ! .. تتحقق الرجفة بكشف الفتاة أو المرأة عن ساقيها ، فيرسم له الخيال ما يشتهي .. تحقق ذلك حين مدّت فاطمة شبيرو ساقيها من التعب .. ومواقف عديدة سردها ، وكشف من خلالها إدمانه للعادة السرية، ويومئ إليها بالرجفة والارتعاشة . تتحقق الرغبة واللذة حين تكشف الأنثى عن ساقيها أو يرى القدمين !
    ولم تكن نادية حمدي قد تعرفت إلى المارد الذي يسكن داخله ، حين حدثته عن بيكاسو وديستويفسكي وتاليران وتليش .. لكنه كان يحلم بنساء بيكاسو اللاتي عني برسم أقدامهن، وتخيل أنه بطل روايات ديستويفسكي يركع عند قدمي حبيبته، ويرى الجنة قدميْ امرأة ! .. " أرتشف قطرات النبيذ التي تتساقط من أصابع ماتا هاري، أنصت إلى زوجة تليش : لقد رأى قدمي ، فتزوجني ! .. " ( 11 ) . وفي كل الأحوال يخفي السر داخله لا يصرح به وإن كشفته نظراته .. وصحب نجوى هيكل لمشاهدة فيلم ( ساق كلير ) الذي لم تظهر فيه قدم عارية، لكن نجوى رأت أنه فيلم سخيف ، فقال لها أن قصته نفسية، وتقول باستهانة : " هل ضاقت الدنيا ببطلك المسكين ، فاقتصرت رغبته على مجرد لمس ساق فتاة ؟! " ( 12 ) .. وحين كلف عماد بإجراء تحقيق صحفي عن العناية بأظافر السيدات، وجدها فرصة وصحبه بصفته مصورًا ، وأبدى ملاحظة عن سكرتيرة شاكر حافية القدمين، فأوضح له أنه طلب منها خلع الحذاء حتى لا يؤثر الكعب العالي على السجاد، ولم يفصح عن السبب الخفي في التلذذ بمشهد القدمين .. وحين أخبره عماد بالهزيمة القاسية في يونيو 1967 ، استيقظ على رنين جرس الباب، وكان نائما عاريا، بعد أن مارس ما يشبع رغبته، وتحققت الرجفة وما تبعها من إعياء ونوم . والصورة تعبر عن انطواء شاكر على ذاته ، قانعا بخيالاته التي تحقق له لذة منفردة، ترادف صورة نكسة البلد وهزيمتها القاسية .. وبعد موت عبد الناصر ، وسيره مع الجموع الحاشدة الباكية، عاد إلى بيته، ونظر إلى صورة مكبرة ( بوستر ) لصقها على الحائط لفتاة بثياب الشاطيء ، فمارس العادة، وهو في هذا التصرف ، يحاكي ـ من زاوية أخرى ـ الكبوات السياسية التي أثرت على نفسيته مثلما أثرت على أصدقاء المقهى بصورة أو بأخرى، بل أثرت على الشعب كله . وحين سافر إلى قبرص لأعماله التجارية لم تثنه التجارة وأعماله الكبيرة عن طبول الغابة تصم أذنيه لمرأى ( التألق ) .. " لم تصرفني المعاملات المادية، أو الصفقات ، عن الخلو إلى نفسي ـ ولو في حضور الآخرين ـ واحتضان حلمي الغالي . وبقيت على صلتي بالخيالات، لا أفارقها .. وإن ظل السر داخلي، أتحدث وأناقش وأسأل وأبيع وأشتري وأعقد الصفقات ، فلا صلة بين عملي وذلك المارد الذي يعلو صراخه " ( 13 ) .. والولع بقدم الأنثى، الذي يقوده إلى التصور والتخيل وممارسة العادة . له إرهاصات ترجع إلى أحداث هو شديد الوعي بها ، فيذكرها تفصيلا وإجمالا .. " غسلتُ بالدموع قدمي أمي ، وتزاوجت اللذة بالألم في عصا المدرس . وداعبت الغسالة بطني ، وتأملت قدمي في الكورنيش والمحمودية ورأس التين، وتمنيت أن يتوقف الزمن " ( 14 ) .. وحين علم بوفاة أبيه في السجن .. " لم أقدر حتى على تصور أيامي القادمة . حاولت الفرار إلى جزيرة التألق ، فابتعدت، وغابت . جاهدت لكتم دموعي ، ثم بكيت " ( 15 ) .. إنه يعالج توتره بالهروب إلى عالمه ( السري ) الخفي ، نتيجة عجزه عن مواجهة المواقف . لكن وفاة أبيه كان حدثا أكبر من مجرد معالجته بالهروب إلى الجزيرة المنعزلة ، فانهمرت دموعه .
    وحين لجأت إليه نادية حمدي في أعمال تخصها، صارحها بما يحبه في المرأة ، قدميها ، فشجعته بأن كشفت عن قدميها، فحقق ما أراد ، وبدا عليها أنها لم تفاجأ بذلك، وقالت أنها بدأت تغير من قدميها ! .. وتزوجها ..
    وحين شاهد فيلما جنسيا عند فوزي النمرسي ، قال أن لديه مكتبة كاملة من هذه الأفلام ، وإن سأل نفسه : لماذا لا يتألق الوهج في زحمة التعري ؟
    ولما أحب مضاجعة زوجته لينجب منها ، رفضت أن تأخذ إجازة من عملها . وسألته ذات مرة لماذا تأخر في الزواج حتى سن السابعة والثلاثين، فلم يعط إجابة مريحة ، وأنذرها : إما تعطيه حقه كزوج ، أو تفارقه بإحسان .. لكنها بدأت تتأخر عن البيت بحجة انشغالها في العمل، فتشكك من تصرفاتها ، وأعاده الحرمان إلى دنياه القديمة .. " أجوس في دنياي ، تصنع الملامح ذكريات ورؤى ، وربما صورة في مجلة ، أو فيلم ، أغلق الباب، وأشاهده في الفيديو .. " ( 16 ) .. وأحس أنها اقتحمت جزيرته المنعزلة .. فهل تسأل أو تفضح السر ؟ .. ووصل به الحال إلى أن تمنى اختفاءها من حياته أو تموت ! .. وحين تأهبت للسفر إلى الإسكندرية قالت له : "لم أعد أسألك عن تصرفاتك .. فلا تسألني عن تصرفاتي .. " ( 17 ) .. وقال لها : " إذا غادرت البيت ، فلا تعودي " .. فسخرت منه " تبدو كزوج حقيقي " و " نسي المريض مرضه ! " .. و " أنت لا أصل ولا مستقبل " .. وإزاء سيل الإهانات أطلق عليها الرصاص ، قتلها يوم اغتيال أنور السادات وقال في التحقيق أنه قتلها لإهانتها له ، وحدّث نفسه : " مضى ـ برحيلها ـ السر الذي كنت أخشى افتضاحه " ( 18 ) .. والملاحظ أن للكبوات السياسية رد فعل ينعكس تأثيره على نفسه، فينعزل في جزيرته يلوذ بها، ويمارس لذة غريبة هروبا من مواجهة الواقع، أو حتى التفكير فيه . ولو عقدنا مقارنة بين اغتيال السادات ، على المستوى الوطني ، واغتيال نادية حمدي ، على المستوى الفردي .. باعتبار توازي المستويين .. نجد أن فردا أو أفراد قرروا إهدار دم السادات ـ على مستوى الواقع ـ مثلما قرر شاكر ـ على المستوى الروائي ـ إهدار دم زوجته .. كلاهما منحرف المزاج ، متطرف، بطريقة أو بأخرى ..
    حفلت الرواية بالأحداث السياسية التي مرت بها مصر، بدءًا من ثورة الجيش عام 1952، وانتهاء باغتيال أنور السادات عام 1981 .. أي امتد زمن الرواية ثلاثين سنة . سجلت الرواية أحداث الوحدة بين مصر وسوريا، التي كانت إيذانا برواج تجاري .. ووفد التجار السوريون ببضاعتهم، فتاجر شاكر في البضاعة السورية . أخبره عماد أن الصحف أصبحت ملك الاتحاد القومي تحت دعوى تنظيم الصحافة ، وتولت مؤسسة النقل العام مرفق النقل .. وحدثه عماد عن الشعارات الضخمة التي تملأ حياتنا ، مثل تصفية بقايا الإقطاع والقضاء على جيوب الرأسمالية وحماية منجزات الثورة .
    ودار حديث بين عماد والنقراشي وعبد الباقي خليل عن حرب اليمن وتورطنا فيها ، والأخير اعتقل مرارًا لآرائه المضادة للنظام . كما اعتقل الشيخ عاشور الذي هتف بسقوط رئيس الجمهورية ! ألقي القبض عليه في شارع الميدان وهو ذاهب إلى دكانه ! ونصح حسونة النقراشي شاكر بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي والصعود إلى مناصبه القيادية ، حتى ينجح في تجارته .
    أطلق عبد الباقي خليل لحيته وانضم إلى الإخوان المسلمين . وحين بدأ عبد الناصر في القبض على أعضاء الإخوان، هجرهم وإن واصل التردد على أعضاء المساجد وحمل الكتب الدينية ، مرددًا أفكار سيد قطب، الإمام الشهيد .. وقال : " لقد جربنا اللجوء إلى أمريكا ، فلم تساعدنا .. وجربنا اللجوء إلى روسيا ، فخذلتنا .. فلماذا لا نلجأ إلى الله ، ولو مرة " ( 19 ) . ورأى في الزكاة علاجًا للمشكلة الاقتصادية .
    وأحيل منصور السخيلي إلى الاستيداع بعد محاكمته ضمن من حوكموا عن أسباب النكسة ، فاتجه إلى التجارة .
    ومات عبد الناصر فبكاه الجميع .
    ونقلنا الكاتب إلى عصر السادات الذي عزل كبار أعوانه . ولم يقتنع عماد بولاء السادات لعبد الناصر ، وآلمه حالة الاسترخاء العسكري .. وتحدث الكاتب عن أحداث حرب أكتوبر وعبور القناة . قال عماد لأصدقائه : " هذا هو يوليو الذي تصورتم أنه مات " ( 20 ). فرد عليه عبد الباقي خليل : " يوليو مات في النكسة .. نحن الآن في الانتصار " .. وعكست المناظرة بينهما إصرار الأول على ناصريته، وإنكار الثاني للعهد الناصري .. ودخلت دول البترول المسلمة المعركة .. و " تفجر نبع ماء في السويس بالقرب من سيدي الغريب . تفجر نبع آخر بالقرب من عيون موسى " ( 21 ) فأفاد من النبعين المحاصرون في السويس وقوات الجيش الثالث . وطبقت سياسة الانفتاح الاقتصادي ، وتحقق رواج للتجارة ، واختفت صورة عبد الناصر من بورصة النيل وحلت صورة السادات .. ورفع اسم عبد الناصر من استاد القاهرة وبحيرة السد، وحظر نشر صوره أو إذاعة أغانيه أو أي شيء عنه ‍ .. ومازال عماد يدافع عن عبد الناصر ، فيهاجمه عبد الباقي لأنه " صاحب اعتقالات الإخوان في 65 .. وهو الذي ضرب القضاء الشرعي ، وصفّى أوقاف المساجد ، وبدّل صورة الأزهر " ( 22 ) .. وبدأ عصر الشتائم ضد عبد الناصر ، وظهور المليونيرات ..
    وتحدث الكاتب عن مظاهرات رفع الأسعار ، وحوادث التخريب .. وزيارة السادات للقدس وخطابه في الكنيست وصلاته في الأقصى .. رأى عبد الباقي أنهم يعاملون المتمسكين بدينهم كعصابات الإجرام ، إلا أن أعداد المؤمنين زادت في عهد ( الخليفة محمد بن أنور السادات ) ‍ .. ورأى أن العنف قابله رد فعل مثله . وفرضوا على عماد أن يحرر باب العواطف ( قـلوب حائـرة) ، وهو عقاب أسوأ من الفصل . عمل عماد في الصحافة لأنه يحب الكتابة السياسية . وحين وعد السادات بإطلاق الحريات وهدم السجون وحرب أكتوبر ، أيده عماد وعبد الباقي . لكنه زار القدس ووقع اتفاقية كامب ديفيد ، واستضاف شاه إيران ، فكان لابد من معاداته .. وبدا عماد شديد الانفعال ، رافضًا الكتابة في صحف حزبية ، لأنه ليس حزبيا وليس ماركسيا .. إن الكتابة في صحيفة حزبية تعني أن تعبر عن مبادئ الحزب ، حتى لو كتبت في الفن ‍ . وحلق عبد الباقي لحيته ، و " امتدت التعليقات إلى حل السادات مجلس نقابة المحامين ، وتعيين مجلس مؤقت ، وسحب حزب العمل تأييده لاتفاقيات كامب ديفيد، وخطب المساجد في الأوضاع الداخلية ، واستقلال الوطن ، وإيقاف البابا شنودة صلوات عيد الفصح ، وامتناع الكنيسة عن إرسال ممثليها إلى الاحتفالات الرسمية ، وشائعات الأسلحة والأموال التي تصل من واشنطن، وأخبار الفتن الطائفية في أسيوط والشرابية والزاوية الحمراء والمطـرية … " ( 23 ). وظل عبد الباقي متخفيا. وثمة إجراءات جديدة قالت عنها الصحف ( ثورة سبتمبر ) ، حيث تم " اعتقال المئات من الساسة والصحفيين والشخصيات العامة ، حل جمعيات سياسية ودينية ـ سحب الاعتراف ببطريرك الأقباط ، إلحاق المساجد التابعة للجمعيات الإسلامية بوزارة الأوقاف ، إيقاف مطبوعات عن الصدور ، نقل عدد من أساتذة الجامعات إلى وظائف أخرى " ( 24 ).. وتردد الكلام في الصحف عن الثورة الثالثة ، أخطر من قرار أكتوبر ، ثورة في العمل الداخلي ، الثورة الإصلاحية الشاملة ، ثورة السادات الجديدة . واغتيل السادات في 6 أكتوبر 1981 أثناء مشاهدته العرض العسكري احتفالا بنصر أكتوبر‍‍ .‍‍‍‍‍
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : النظر إلى أسفل – رواية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1992 – 200 صفحة .
    2- مجلة ( الدولية ) – 27 إبريل 1992 – من حوار أجراه يسري حسان : ( روائي يؤرخ لحياتنا المعاصرة ) – ص 40 .
    3- مقال ( رواية " النظر إلى أسفل " لمحمد جبريل ) – مجلة ( العربي ) – العدد 405 – أغسطس 1992 – ص 150 .
    4- المصدر السابق – ص 151.
    5- للكاتب التونسي رشيد الذواتي اهتمام بمقاهي الأدباء ، وقد أصدر كتاباً عنوانه ( مقاهي الأدباء في الوطن العربي ) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1999.
    6- النظر إلى أسفل – ص 90 ، 91 .
    7- مقال محمد قطب ( انشطار الذات في رواية النظر إلى أسفل ) ـ مجلة ( الثقافة الجديدة ) – أكتوبر 1992 – ص 30.
    8- مجلة ( الدولية ) – 27 إبريل 1992 – حوار يسري حسان – ص 40 .
    9- النظر إلى أسفل – ص 123.
    10- المصدر السابق – ص 183.
    11- المصدر السابق – ص 43.
    12- المصدر السابق – ص 45.
    13- المصدر السابق – ص 128 ، 129.
    14- المصدر السابق – ص 131.
    15- المصدر السابق – ص 135.
    16- المصدر السابق – ص 188 ، 189.
    17- المصدر السابق – ص 193
    18- المصدر السابق – 196
    19- المصدر السابق – 92
    20- المصدر السابق – 118
    21- المصدر السابق – ص 119
    22- المصدر السابق – ص 123
    23- المصدر السابق – ص 181 ، 182
    24- المصدر السابق – ص 185
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الخامس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    ................................................

    رباعية بحري

    (رباعية بحري ) ( 1) لمحمد جبريل عمل روائي متميز يستحق الوقوف عنده والحديث عنه . تذكرنا بثلاثية( 2 ) نجيب محفوظ ، و ( الأيام ) لطه حسين، ورباعية الإسكندرية( 3 ) للورنس داريل، ورباعية (العابرون) ( 4 ) للكاتب التونسي البشير بن سلامة، وخماسية عبد الرحمن منيف ( مدن الملح ).. آخذين في الاعتبار الخصائص المميزة لكل كاتب ، مقرِّين بأن لكل عمل خصوصية يتفرد بها . وإن كان من الممتع تناول الباحثين لهذه الأعمال الرائدة بالدراسة والمقارنة .. أيضا صدرت رباعية ( الرجل الذي فقد ظله ) ( 5 ) لفتحي غانم، ورباعية ( الرحيل ) ( 6 ) لعبد المنعم الصاوي، وثلاثية جمال الغيطاني ( التجليات )،ورباعية ( مدارات الشرق ) ( 7 ) للكاتب السوري نبيل سليمان، وثمة رباعية أخرى للكاتب الليبي الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه ، وربما صدرت ثلاثيات أو رباعيات أخرى، ولم أسمع عنها .
    و ( بحري ) هو المكان الذي تدور فيه أحداث رباعية جبريل ، وهو ـ أيضا ـ الموطن الأصلي للكاتب السكندري، وصفه في أحد كتبه فقال : " تبدأ بما يلي ميدان المنشية ، وتتجه إلى ميادين وشوارع وحواري وعالم حياة، في الموازيني وأبو العباس والبوصيري والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانة والمغاوري والحلوجي والعدوي وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراي رأس التين . سميت بقسم ـ أو حي ـ الجمرك ، لوجود أبواب المنطقة الجمركية بها ، فضلا عن العديد من شركات النقل والتوكيلات الملاحية والمستودعات ، وعمل عدد كبير من أبناء الحي في الأنشطة المتعلقة بالميناء من نقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ للسفن . وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذي تطل عليه المنطقة من ثلاث جهات ، كالحمالين والصيادين والبحارة والعاملين في الدائرة الجمركية، ودكاكين بيع أدوات الصيد ، وتجار الأدوات البحرية .. " ( 8 ) .
    و ( بحري ) يزيدنا الكاتب قربًا منها، ويتحدث عنها في مودة وحب كي يتعرف القارئ عليها، يقول عنها: "بحري هو أشد أحياء الإسكندرية ازدحامًا بالمساجد والزوايا وأضرحة الأولياء . الدين هو الملمح الأهم : المرسي أبو العباس ، البوصيري، ياقوت العرش ، الطرطوشي ، محمد صلاح الدين ومحمد المنقعي ومحمد مسعود أبناء الإمام زين العابدين بن الحسين ، الشريف المغربي ، أبو وردة ، محمد الغريب شقيق قطب السويس عبد الله الغريب ، أبو نواية ، الطرودي ، نصر الدين ، مكين الدين ، علي تمراز ، عبد الرحمن ، خضر .. العشرات من أولياء الله الصالحين ، مساجد وزوايا وأضرحة وأحواش أذكار " ( 9 ) .
    فالدين هو الملمح الأساسي لمنطقة ( بحري ) ، مما دفع الكاتب إلى تسمية الأجزاء الأربعة للرواية بأسماء الأولياء .. سماها ـ أولا ـ ( رباعية بحري ) في إشارة واضحة للمكان وأهميته ، واعتزاز الكاتب وانتمائه للمكان الذي عاش فيه . ثم سمى كل جزء باسم ولي من أولياء الله الصالحين ، في إشارة دالة على أثر هؤلاء الأولياء في نفوس الناس . فتطالعنا عناوين الأجزاء الأربعة بالأولياء : أبو العباس ، وياقوت العرش ، و البوصيري ، وعلي تمراز ، على الترتيب . والدلالة نأخذها أيضا من الجد السخاوي ، الصياد العجوز المحنّك إذ يقول : " هذه المدينة ملجأ الأولياء " ( 10 ). وولع الكاتب بهؤلاء الأولياء يرجع إلى ما تتمتع به سيرتهم من منزلة كريمة ، كأنه قصد ـ من زاوية أخرى ـ إلى الحديث عن ( إسكندرية ) أخرى غير تلك التي يتردد عليها المصطافون كل عام ، هو يقود خطانا في شوارع ودكاكين ومقاهي وبيوت منطقة بحري ، ويقود خطانا ـ أيضا ـ في حلقة السمك وبحر الصيادين ، والجوامع والمساجد والزوايا . نتجول في كل شبر من ( بحري ) ، تلك المنطقة الشعبية التي يتأثر ساكنوها بالأولياء والمشايخ والمريدين والأئمة .. وبلغ حبهم للأولياء منزلة جعلتهم يرونهم في المنام . وتتبدى رموز الرواية ومفاتيحها في هؤلاء الأولياء ، الغائبين الحاضرين .. فقد توفوا منذ زمن بعيد ، وبقيت آثارهم تدل عليهم ، وبقي حب وولاء الناس لهم .. مما يجعلهم بمثابة الضمير الحي الذي يشع في نفوس الناس قيمًا روحية مضيئة، فتردّ المرء عن الحرام، أو توقف الظالم عن غيّه، أو توحي للمرء بالتوبة عن المعاصي .
    نجح الكاتب الفذ في أن يجعل منطقة ( بحري ) ـ التي ولد ونشأ فيها ـ ( مكانًا حيًا ) ـ على حد قول المفكر الفرنسي الحداثي هنري لوفيفر، فـ " المكان بالنسبة للإنسان لا يمكن أن يُدرك مجردا عن التاريخ، وأن النزعة التاريخية تسيطر على إدراكنا له ، لأن المكان يُعاش وتُخلق له أبعاده الاجتماعية ، تماما كما يُعاش الزمن " ( 11 ) .. لقد شخصت مقامات أولياء الله أماكن حية، نتلمس فيها عبق التاريخ القديم ، والأثر الذي تركه هؤلاء الأولياء في نفوس الناس. والمساجد بمآذنها وقبابها العالية، كأنها هي الأخرى ترنو إلى السماء، وتبتهل إلى الله أن يحمي عباده ويشد أزرهم. والمقهى نتعرف عليه من خلال أحاديث جلسائه، مكانا حيا يشي بالتفرد والتألق معا. والبحر مكانا يمتد بامتداد الأفق شاهدا على التغيرات في أحوال البشر، والبحر أيضا مقبرة ابتلعت الكثير من البشر، وهو البحر المكان الساحر الذي انبهر به مختار زعبلة فكان عشقه الذي لا ينتهي، فقال في فخر وزهو : "البحر هو أنا " .. وهو كالسمك يموت إذا ابتعد عن البحر . حتى حمدي رخا وهو يتخيل( يوتوبياه ) الحالمة من نسج خياله، يرسم حدود جزيرته ويحدد مكانها ويختار ناسها ..
    وفي تحليله المختصر للرباعية ، رأى الدكتور سعيد الطواب أن شخصيات الرباعية تخضع جميعها لسطوة المكان الديني المقدس .. ".. بحيث يمكننا القول إن البطل الحقيقي هو المكان الديني . فحركية الشخوص تضعف وتتلاشى أمام قسوة الأقطاب وقوانين الأوراد الصوفية ، فالشخصيات ، ملامحها ، أفكارها ، تقاليدها ، فلسفتها، نابعة من جزئين لا يتجزآن : [ السلطة الدينية للمكان ، والبحر ]، الأول وجود معنوي ، والثاني وجود مادي " (12) .
    واحتفاء جبريل بالمكان انتقلت عدواه إلى فريد محمد معوض، الذي قرأ الرباعية، فالتقط من شخصياتها إبراهيم سيف النصر، لأنه من ( بلدياته )، من قريته ( سامول ).. وكتب عنه كأنه شخصية واقعية من ( سامول )، فتمثله حيا، وتفاخر به، وسط زحام ناس ( بحري ) السكندري. وسلط عليه الأضواء، حتى يخالجك إحساس بأن الرباعية ارتكزت أعمدتها عليه. وهذا النوع من الكتابة الأدبية يشكل ـ في رأيي ـ إبداعا آخر. ولعلي أقف قليلا عند هذه المحطة، لشدة إعجابي بالتناول النقدي الفريد، وبما حققه الكاتب من مزج بين الشخصية ( إبراهيم سيف النصر ) كما رسمها جبريل، وبين حبه لقريته ( سامول ). ولنقرأ هذه السطور التي افتتح الكاتب بها دراسته : " سعدت كثيرا بأن جعل الروائي الكبير محمد جبريل إحدى شخصياته في رباعية بحري من قريتي ( سامول ) واعتبر ذلك بمثابة رسالة حب موجهة لي من كاتبنا الكبير، رسالة جاءت في لحظات إبداعية راقية وفي عمل روائي فذ اسمه ( رباعية بحري ). قبل أ، يصدر الجزء الثالث ( البوصيري ) كنت قد التهمت جزئيها الأول والثاني، حدثته عن سعادتي الغامرة بما قرأت فقال : انتظر المفاجأة في ( البوصيري ). ستجد شخصية من ( سامول ). ثم أردف قائلا : خطرت في بالي يا فلح فجعلتها موطن إبراهيم سيف النصر أحد أبطال روايتي. وانتظرت ذلك الجزء، وما إن صدر حتى رأيت نفسي مدفوعا إلى اسم قريتي ( سامول )، ثم اندفعت ثانية إلى شخص إبراهيم سيف النصر، ترى ما ملامحه ؟ سمات شخصيته، وكيف تبوأ مكانا في هذا العمل الضخم الذي يمور بالحياة السكندرية، ويحفل بجو روحاني صاف وتراث شعبي ثري وشخوص لا أول لها ولا آخر.. الرباعية في تقديري ديوان الإسكندرية الكبير. أشفقت على ذلك الإبراهيم. سيتوه في زخم شخصيات كثيرة.. الجد السخاوي.. علي الراكشي.. حمادة بك.. عباس الخوالقة، وشخوص لا حصر لها ولا عدد، فضلا عن المكان كبطل كبير. هل سيتمالك سيف النصر ؟ قلت : والله إن كان ساموليا بحق فيتحتم علي ألا أقلق لأنه سيكون فلاحا عنيدا متماسكا صلبا أمام كل النوات " ( 13 ) .
    ويقول أيضا : " ولأن إبراهيم سيف النصر فلاح نبت في طين القرية، فكان ودودا مثلها سهلا كتدفق الماء في قنواتها، ويبدو سيف النصر على صلة طيبة بعدد كبير من أهل بحري وصديقا قديما لكل من يحدثه يلقي التحية ويتلقاها ـ كأنه يسير في شوارع سامول والابتسامة ثابتة على شفتيه والأسئلة عن الصحة والأحوال " ( 14 ) . و " يمارس إبراهيم حياته العادية وعند الملمات مثل حريق القاهرة نراه يفكر في سامول قريته في وسط الدلتا / العودة إلى الجذور، البداية الموغلة في الأرض أو الثبات / رحلة الشقاء القديمة " (15). ويطلق الأديب مقولته الشاملة بأن شخوص جبريل تحن دائما إلى الأصل والمنبت.. وأورد أمثلة بعدة شخصيات من الرباعية : عبد الله الكاشف من ( بركة غطاس )، والشيخ قرشي من ( العسيرات )، ويوسف بدوي من ( عزبة خورشيد )، وإبراهيم سيف النصر من ( سامول ).. وقد انحاز جبريل نفسه إلى أصله ومنبته ( حي بحري ) السكندري، فكتب عديدا من الروايات والقصص جعل ( حي بحري ) فيها مسرحا لأحداثها. وقد خصصنا هذه الدراسة الأدبية للإبداعات الروائية التي دارت أحداثها في هذا الحي السكندري الشعبي العريق، ليكون الكتاب صورة حية للمكان الذي أحبه جبريل، وتفاخر به وتباهى.. وانتقلت العدوى إلى فريد معوض فالتقط الخيط نفسه وكتب عن شخصية من قريته، ودبج عنها وعن جبريل سيمفونية حب للمكان الذي تمتد إليه جذورنا على اتساع وطننا الحبيب مصر..
    والرواية في إطارها العام أشبه بـ ( بانوراما ) مجسمة لمنطقة ( بحري ) ، ناسها ، وأحداثها ، وعادات وتقاليد امتدت في أجيال متعاقبة ، وتتوغل في مجتمع الصيادين ، وتسرد حكايات عن البحر ، الأسطورية والواقعية .. وهي في هذا تشبه رواية الكاتب البرازيلي جوزيه سارني ( 16 )( سيد البحر ) ، التي تحكي أيضا تاريخ الصيادين في مارانيان ، وتسرد أساطير وحقائق عن صيادين غلاظ وبسطاء في آن واحد، مصورا عواطفهم وغرائزهم الفطرية .
    ولا تقتصر ( رباعية بحري ) على تصوير آلام وآمال الصيادين، وإنما تقدم عالما سحريا متفردا، وتتحدث عن الجوامع والمساجد والزوايا ، وعن الشيوخ والمريدين .. وانعكاس الأحداث السياسية في نفوس أهل الحي : كمعاهدة 36 وقرار تقسيم فلسطين ، وكراهية الإنجليز ، والانتخابات ، وتضامن الشرطة مع الشعب ، وسرقة معسكرات الإنجليز ، والاشتراك في المظاهرات . والأحداث الاجتماعية مثل : ليلة مولد السلطان ، والختان ، وليلة الحنة ، والزفة الإسكندراني ، وليلة الزفاف ، والطلاق . وأحداث في حياة الصيادين : كالنوّة ، وموسم السردين . وفواجع مثل : حالات غرق جمعة العدوي والبهاء والراكشي وغيرهم ، والشوطة ، وموت مصطفى عباس الخوالقة . ويكثر الكاتب في عرض الشخصيات الرئيسية والثانوية ، ويأتي بأسمائهم ثنائية , وأحيانا ثلاثية ..وهو إذ يحتفي بالأسماء ، ويغرم بكثرة الشخصيات ، فهو لا يعرج إلى وصف ملامح الشخصية، مركزًا على ما تقوله وما تصنعه من أحداث .. ولنأخذ مثالا من هذه الشخصيات،في رسمه لشخصية ( تفاحة ) الردّاحـة ( 17 ) ، ففي وصفه للردّاحة ونوازعها وطريقتها ما يبين عن التصوير الصادق للواقع. وأبان دور الفتوة الذي أتقنته لقاء أجر معلوم، كما أنها تنوب عن الشخص الذي وكّلها في كل ما يريد .وتتجلى بؤرة الأحداث كلها أو معظمها في حي (بحري ) ، الذي بدا للقارئ بؤرة مركزية تستقطب الأضواء وتكشف ، من خلالها ، المستور . وهو يحيل القارئ إلى مجتمع منتصف الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ، مصورًا عادات ناسه وتقاليدهم .. مما يشكل براعة فذة من الروائي ، في أن ينقلك إلى عصر قديم ـ ( ولد الكاتب في 17 فبراير 1938 ) ـ عاش فيه صغيرا. ربما بعض الأحداث لم يدركها في حينها .. وربما قرأ عنها أو سمع حكايات كثيرة حولها، ناهيك عن خيال المؤلف في نسج خيوط الرواية . وقد أتقن التعبير عن هذا الزمان ، كأنه واحد من أهله ، وأبرز سلوك الناس وأفكارهم ومعتقداتهم .. وناس الرواية خليط متنوع ، قد يكون متجانسًا أو متنافرًا ، لكن ( بحري ) تجمعهم في قارب واحد ، رغم اختلاف الأمزجة والميول ، مثلما يتجمعون في ليلة مولد السلطان أبي العباس ..
    ثمة ملمح هام للرباعية ، يبرز في خصوصية بعض الفصول ، التي إذا فصلتها عن السياق ، بدت استقلاليتها كلوحة فنية تشكيلية ، أو أنها عمل قصصي يصح تناوله ـ بمعزل عن سياق الرواية ـ قصة فنية مكتملة التقنية ، وهي في الوقت نفسه عنصر متفاعل مع بقية العناصر / الفصول .. ولعل ذلك يفسر السر في نشر الكاتب بعض الفصول كعمل مستقل في الدوريات المختلفة أو في مجموعات قصصية له ، دون أن يشير إلى أن القصة فصل من فصول عمل روائي في طريقه إلى النشر. والأمثلة للقصص مكتملة العناصر الفنية، نجدها في قصة (حقيقة ما جرى للصياد جمعة العدوي ) ( 18) ، وقصة ( عنترة يسترد جواده ) ( 19 ) ،وقصة ( بركة ) ( 20 ) ، وقصة (إيقاعات صامتة )( 21). وثمة قصة وردت في مجموعته القصصية ( هل ؟ ) بعنوان ( تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام ) (22 ) ، ضمّنها روايته ( إمام آخر الزمان ) في طبعتها الثانية ( 23 ) . والفاصل الزمني بين نشر الرواية في طبعتها الأولى ( عام 1984 ) والمجموعة المشار إليها ( عام 1987 ) ثلاث سنوات . أي أن الكاتب أضاف فصولا لروايته في طبعتها الجديدة ، مما يبين هموم الكاتب المشغول بإبداعاته قبل وبعد نشرها .
    والرباعية مزج رائع بين أحداث بيئة سكندرية شعبية وأثر الموروث الديني، بصرف النظر عن الاعتقاد الصحيح والخطأ فيه، وتزخر الرواية بأحداث تاريخية قد يدعمها بتوثيق أو يكتفي بتسجيل وقائعها ويهتم في الرباعية بتسجيل عادات اجتماعية تمتد جذورها في الماضي ، ويمتد أثر بعضها حتى وقتنا الحالي. ولعل أبلغ ما قاله الكاتب عن رباعيته : " وأذكر أني كنت أقبل على كتابة رواياتي: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز، لا باعتبارها قصصًا لها مقومات القصة القصيرة، بل ولا حتى باعتبارها فصولاً في رواية، وإنما باعتبارها " تقارير " عن الحياة في بحري، في الفترة من نهايات الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو. كان شاغلي ـ أحيانا ـ تسجيل القيم والعادات والتقاليد، من خلال الشخصيات التي عرفتها ـ أو أخرى شبيهة لها ـ عن قرب، أعوام طفولتي وصباي ".. مع عنايته " بتضفير الحقائق الموضوعية بالقيمة الجمالية ".. وحرصه على فنية القصـة ( 24 ). والذي يشدّ انتباهنا، ما كتبه الروائي عن أنه لا يترك التفصيلات، مهما بدت صغيرة .. " ما يبدو تافهًا قد يبين توالي الأحداث عن أهميته، والشخصية التي لا شأن لها، ربما ـ في لحظة ما ـ تسفر عن ملامحها " (25 ).. أي أنه من أنصار تسجيل الانفعالات والخواطر ، وأن كل شيء صالح للكتابة عنه . وكل شئ نظنه بعيدًا عن محيط ما نكتب قد يكون مفيدًا للعمل الإبداعي، ونخلص من هذا إلى أن الأديب الحق ينبغي عليه أن يكون تلقائيا وعلى سجيته.
    والاهتمام بالتفصيلات الصغيرة مهما بدت تافهة أو بسيطة، يتضح فيما بعد أهميتها في البناء الفني وسياق الأحداث، لكن الأديب الناجح هو الذي يجد في الخواطر والتفصيلات والأحداث صلصالاً طيِّعًا يستطيع أن يخلق منه عملاً إبداعيًّا ناجحا. واستخدم النهج نفسه في روايته التسجيلية (الحياة ثانية ) ( 26 ). ويهتم بالشخصية الثانوية اهتمامه بالرئيسية. وتلك طريقته في الصياغة الروائية التي تهدف إلى الإحاطة والشمول، قدر ما يتيسر له ذلك . ومهما تفوق المبدع في عمله الإبداعي فلن يصل إلى الكمال، لأنه ليست هناك كلمة نهائية في الفن. فالفنان يحاول أن يصور ( بانوراما ) الحياة الإنسانية ، بما فيها من ملهاة ومأساة ، ويحرص أن تكون رؤيته شاملة .
    ويتجه جبريل نحو الاهتمام بجزئيات يراها تحتوى الصورة الكلية، لذا لجأ إلى المداخلات والحوارات والوصف والاستشهاد بالشعر وعبارات قالها الأعلام، كما يكثر من الشخصيات التي تسهم في بناء المعمار الروائي، وإن شكلت زحامًا شديدًا ليس في طاقة القارئ العادي استيعابه بسهولة.ورغم أن الحوار كتب بلغة عربية سليمة، يصح نطقها بالعامية والفصحى معًا، فيما يعرف باللغة الوسيطة، إلا أن بعض الحوارات تشذُّ عن هذا، وتُكتب بعامية مقبولة، مثل قول بيومي جلال: " كل اللي ييجي من الصعيد مليح .. " (27)، وهو قول سائر على ألسنة العامة، مما استوجب وضعه بحالته.
    كما أن الحوار لا يوظف لبناء الخط الدرامي فحسب، وإنما استهدفه الكاتب وسيلة يتعرف منها القارئ على سير الأحداث، كأنه أراد مسْرَحَة الرواية، بجعل أبطالها هم صانعي الأحداث، فيشخصون أمام القارئ وفي مخيلته من خلال الحوار، دون تدخل يذكر من الكاتب . وإن كان التركيز على الحوار ـ في أغلب الأحوال ـ يفقد الرواية متعة الصياغة التي يتلوّن فيها الأسلوب ويتشكل في قوالب مختلفة. كما أن الاعتماد على الحوار وحده لا يكفي لكتابة رواية تزدحم بشخصيات رئيسية وثانوية، ولم يعد يكفي القارئ أو يشبع رغبته في التحليل أو السرد، وإيغاله في عالم الرواية.. فقد ينصرف ذهنه ـ وله العذر ـ عن متابعة الأحداث. وأسوق هنا مثالاً في فصل ( التحليق بلا أجنحة )، ذلك الحوار الممتع بين قاسم الغرياني ومحمود عباس الخوالقة :
    " قال قاسم الغرياني :
    ـ لو أن المعلمة أنصاف أقامت فرعًا لنشاطها في المولد ..
    قال محمود عباس الخوالقة :
    ـ منه لله سيد الفران .. استأثر بأنسية وحده !..
    قال الغرياني :
    ـ تزوجها على سنة الله ورسوله ..
    قال محمود :
    ـ كانت تقضي ..
    قال الغرياني في لهجة معاتبة :
    ـ يا رجل ! .. سيد صاحبك ! ..
    قال محمود :
    ـ ألم يجد إلا أنسية ليتزوجها ؟! .. " ( 28 ).
    دار الحوار حول أنسية المرأة التي أرضت نزوات رجال الحي، وتمنت أن يتزوجها سيد الفران ويسترها .. وتحقق لها ذلك بعد عناء ومشقة. لكن الحوار يدلنا على الفراغ الذي تركته لدي طالبي اللذة الحرام والمتعة الرخيصة. يدلل الحوار على القيمة الفنية التي يحدثها النص حين ينسحب الكاتب، ويخلي مكانه لشخوص، كل يعبر عن رأيه.. يتحسر ابن الخوالقة على ابتعاد أنسية عنهم، ويستريح الغرياني لهذا .. ويكشف التباين هنا أبعاد شخصية كل منهما. وللحوار دلالته ومتعته، دون شرح أو إيضاح .. إلا أن الكاتب نقلنا فجأة من هذا الحوار الممتع ـ دون فواصل أو مقدمات ـ إلى موضوع آخر إذ يقول :
    " قطب عم إبراهيم القسط جبهته متذكرًا :
    ـ زكي تعلب ؟
    ثم وهو يهز رأسه :
    ـ نعم .. طرد من المعهد، وسافر إلى بلدته ..
    اتسعت عيناه بالقلق :
    ـ لماذا ؟..
    ـ سألت عنه المباحث لصلته بالإخوان المسلمين .. ففصلته إدارة المعهد ..
    ـ هل ألقي القبض عليه ؟
    مطّ القسط شفته السفلى :
    ـ لا أعرف !.. ودّعته حتى نهاية المسافرخانة .. شيخنا يرفض اشتغال الطلبة بالسياسة ..
    أردف الرجل بصوت هامس :
    ـ قيل إنه فصل لانتمائه إلى جماعة سرية .. " ( 29 ).
    هكذا نقلنا الكاتب من جو إلى آخر، من موضوع إلى آخر، من حال إلى حال، دون أن يهيئ القارئ للتغيير المفاجئ. ودون أن يعقد رباطًا مشتركًا بين الموضوعين.. فالحوار الثاني يتحدث فيه إبراهيم القسط ـ الذي لا نعرفه تفصيلاً ـ كأنه يتحاور مع نفسه في مسألة القبض على زكي تعلب، والموضوع منبتّ الصلة بالحديث عن أنسية وزوجها سيد الفران.. إلا أن تباين المواضيع والنقلات الفجائية قد يكون ـ في الإبداع الروائي ـ مقصودًا لذاته لإحداث صياغة جمالية، أو صنع ( بانوراما ) للحياة قد لا تخضع لتسلسل منظم ، محاكاة لمجريات الواقع ..
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    تابع / الفصل الخامس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. ......................

    كما أن لغة الخطاب محايدة في أغلب الفصول، تلوذ بضمير الغائب، المناسب لرواية تزدحم بالشخصيات، وتختلف فيها مستويات الحدث، إلا أن الكاتب لجأ في الفصل الخامس والعشرين من الجزء الأول ( أبو العباس ) إلى توجيه الخطاب إلى مختار زعبلة، كأنه صوت آت من داخله . وتتميز إبداعات جبريل الروائية بأنها تعتمد على تعدد مستويات الراوي، من فصل إلى آخر، وأحيانا يكون التعدد داخل الفصل الواحد. ويعتبر فصل ( المسافر بلا زاد ) في الجزء الثالث ( البوصيري ) ، نموذجا جيدا لطريقته في الصياغة بمستويات خطاب متعددة. يبدأ الفصل بتبرم حمادة بك من المجالس، والمجتمعون حوله يتبادلون أحاديث شتى، ونتوقف عند السر الذي يحاول إخفاءه عن الآخرين. بعد هذا الاستنفار ـ أو ترك مجلس الرجال ـ من أثر لهيب الشذوذ الذي يستره عن الناس، ويسكن داخله ، ينقلنا الكاتب إلى جابر برغوت، وينبري يكتب ـ كما عودنا ـ قطعة أدبية فريدة عن التقرب إلى الله، وإطاعة الأولياء، والاهتمام بزيارة مقاماتهم، وكانت الصياغة في منتهى الجودة والاتقان ، لا تواتي إلا كاتبا متمرسا عايش بطريقة ما ذلك الجو الصوفي الروحي.. ولنقتطف فقرة للتدليل، وإن كانت لا تغني عن قراءة النص بكامله ..
    " تألقت فيوضات من النور لا يدري مصدرها، ولا إلى أين تتجه. غطس في بحر من الأضواء المتماوجة. أدرك أنه في قلب البحر دون أن يعرف السباحة. اجتذبته التصورات اجتذاب المغناطيس للحديد. انطلقت أمامه ـ بلا حدود ـ عوالم التجلي والمكاشفة والطوالع واللوامع والتمكين، احتوته تماما، وإن فضل أن ينسحب على نفسه. وقف عند حظه من رحمة الله تعالى في مقام المعاملة والرياضة. مجرد سالك لا تؤهله ذاته لمشيخة ولا ولاية. تتستر عنه الأشياء، أو يستمع إلى أصوات علوية. ولا دار في باله أنه يطير ـ يوما ـ أو يمشي على الماء، أو يكلم الحيوان، أو يفعل المعجزات، ولا شغله إقبال الخلق، وتربية المهابة في قلوبهم. زهد في الدنيا، فلا يطلب الكرامة أو خوارق العادات. لم يعد يشغله حتى البعث والقيامة والحساب والصراط والميزان والجنة والنار. هو ليس من الأولياء، ولا من الأبدال، ولا يملك القدرة على خير ولا شر ولا نفع ولا أذى. ما يأمله، ويسعى إليه، أن ينفذ أوامر أولياء الله بالكلية، لا ينقص منها ولا يضيف إليها، ولا يبتدع .." ( 30 ).
    والرباعية مليئة بكرامات الأولياء وبالمعجزات التي تحققت على أيديهم. كما ضمّنها ما قيل عنهم في كتب قد يشير إليها وقد لا يشير. ولا يبين رأيه في صحة ما يكتب، تاركًا ما يكتبه أو ينقله يتفاعل مع سياق الأحداث، وينتج ما نسميه الشكل الجديد للرواية، التي لا تعني بالواقع فحسب، وإنما تعني أيضا بإعطاء المعلومة التي قد تساير الأحداث وقد تجئ حشوًا يهدف من ورائه إلى إعطاء شحنة من المعرفة .
    الهوامش :
    1-( رباعية بحري ) رواية من أربعة أجزاء ـ صدرت عن مكتبة مصر بالقاهرة. صدر الجزء الأول ( أبو العباس ) عام 1997 في 272 صفحة، والجزء الثاني ( ياقوت العرش ) عام 1997 في 264 صفحة، والجزء الثالث ( البوصيري ) عام 1998 في 288 صفحة، والجزء الرابع ( علي تمراز ) عام 1998 في 260 صفحة.
    2-( الثلاثية ) رواية من ثلاثة أجزاء : بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية.
    3-صدر الجزء الأول ( جوستين Justine ) عام 1957ن والثاني 0 ( بالتزار Balthar )، والثالث ( مونت أوليف Mount Olive ) بعده بعام، والرابع ( كليا Clea ) عام 1960.
    5-رباعية ( العابرون ) رواية من أربعة أجزاء. صدر الجزء الأول ( عائشة ) في تونس عام 1982، والثاني ( عادل ) في تونس عام 1991، والثالث ( علي ) في القاهرة عام 1996، والرابع ( الناصر ) في تونس عام 1998.
    6-صدرت بين عامي 1962، 1964.
    7-صدر الجزء الأول ( الضحية ) عام 1962، والثاني ( مامادا ) عام 1967، والثالث ( النصيب ) عام 1968، والرابع ( التوبة ) عام 1970.
    8-رباعية ( مدارات الشرق ) رواية من أربعة أجزاء. صدرت في اللاذقية بسوريا. الجزء الأول ( الأشرعة ) عام 1990، والثاني ( بنات نعش ) عام 1990، والثالث ( التيجان ) عام 1993، والرابع ( الشقائق ) عام 1993.
    9-محمد جبريل : حكايات عن جزيرة فاروس ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع ـ الإسكندرية 1998 ـ 144 صفحة ـ ص 55.
    10-المصدر السابق ـ ص 87.
    11-محمد جبريل : ياقوت العرش ـ ص 214.
    12-جريدة ( الأهرام ) ـ عدد 4 يونيو 1999 ـ ملحق ( الجمعة ) ـ صفحة ( ثقافة ) ـ مصطلحات فكرية ـ ص11.
    13-د. سعيد الطواب : استلهام التراث في روايات محمد جبريل ـ ص 6.
    14-كتاب ( محمد جبريل .. موال سكندري ) : دراسة بأقلام الأدباء ـ دراسة فريد مجمد معوض ( إبراهيم سيف النصر .. بطل من سامول ) ـ سامول الثقافية ـ المحلة الكبرى 1999م ـ ص 39، 40.
    15-المصدر السابق ـ ص 41.
    16-المصدر السابق ـ ص 48.
    17-ولد الكاتب البرازيلي جوزيه سارتي في 24 أبريل 1930. من مؤلفاته الشعرية : ( الأنشودة الأولية )، و ( زنانير النار ). ومن مؤلفاته القصصية : ( شمال المياه )، و ( بريجال دوس جواجاس وقصص أخرى ). وتعد رواية ( سيد البحار ) أولى رواياته.
    18-ياقوت العرش ـ الفصل الحادي والعشرون.
    19-أبو العباس ـ الفصل السادس.
    20-المصدر السابق ـ الفصل الثاني عشر.
    21-ياقوت العرش ـ الفصل الرابع والعشرون.
    22-المصدر السابق ـ الفصل الثلاثون.
    23-محمد جبريل : هل ؟ ـ قصص ـ سلسلة ( مختارات فصول ) ـ عدد 42 ـ يوليو 1987 ـ ص ص 47 / 60.
    24-صدرت الطبعة الأولى من رواية ( إمام آخر الزمان عام 1984 من مكتبة مصر بالقاهرة ـ 208 صفحات.
    25-حكايات عن جزيرة فاروس ـ ص 77.
    26-ياقوت العرش ـ ص 83.
    27-محمد جبريل : الحياة ثانية ـ رواية تسجيلية ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999 ـ 120 صفحة.
    28-ياقوت العرش ـ ص 21.
    29-المصدر السابق ـ ص ص 73، 74.
    30-نفسه.
    31-البوصيري ـ ص ص 40، 41.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل السادس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. .............

    أبو العباس

    يبسط ( أبو العباس ) ـ في الجزء الأول من ( رباعية بحري ) ـ نفوذه وتأثيره على كل الشخصيات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . ولا ينسى الكاتب أولياء آخرين وجوامع ومساجد وزوايا أخرى ، والأئمة الذين تولوا أمر بيوت الله . وتبين الرواية الأثر الطيب للأولياء والأئمة الصالحين في نفوس الناس. وثمة بعد آخر ، أو بؤرة مركزية تصب عندها أو تتلاقى شخصيات الرواية . يتمثل هذا البعد في ( البحر ) .. الباعث المحرك للأحداث ، بما يمثله كمصدر رزق للصيادين ، حيث تغوص أحداث الرواية في مجتمع الصيادين ، تصف عاداتهم وسلوكهم ، وتترجم آمالهم وهمومهم .
    والبحر هو القضاء الذي يواجهونه بصبر ورباطة جأش ، وهو المجازفة والمخاطرة . البحر ( موتيفة ) هامة وفعالة ومؤثرة في مجرى الأحداث . هو الواقع والأسطورة .. هو اللغز ، وهو الانفتاح على العالم ، وهو يبسط سطحه ويقلصه . تهدر الأمواج ليل نهار، فلا يني ولا يكل. البحر هو الجبروت والطغيان، وهو الأمل والحياة ..
    أهم ملمح للجزء الأول ( أبو العباس ) كثرة الشخصيات إلى حد لم أعهده من قبل . فلم أقرأ رواية تحتوي على مثل هذا العدد الهائل من الشخصيات ، فاضطررت إلى إعادة القراءة وتدوين الأسماء وكتابة نبذة مختصرة لكل منها ، لاسيما أن الكاتب قد يتحدث في فصل ما بضمير الغائب عن شخصية ما ، دون أن يصرح بالاسم ، لعلك تستنتجه أو تتعرف عليه ، وفي فصل آخر يواصل حديثه بضمير الغائب أيضا ، فتكتشف أن الغائب الذي يتحدث عنه غير الذي حدثك عنه من قبل . وقد يصرح بالاسم أو يخفيه . والفصول لا تسير كلها على وتيرة واحدة ، فلكل فصل خصوصية تجعله يستقل بها ويتميز ، وإن كان غير منسلخ عن فصول الرواية ، فكل فصل يكوّن مع الفصول الأخرى نسيجًا عضويًّا متماسكًا ، يخدم بعضه بعضًا ويكمل بعضه بعضا . ويكمن هنا سر من أسرار جمال النص الأدبي .
    فمثلا ، قارئ الفصل السادس ( حقيقة ما جرى للصياد جمعة العدوي ) ، يلمس النفَس الشعري والحساسية الفائقة في تصوير غرق جمعة العدوي .. فالفصل لوحة شعرية بارعة التشكيل ، غنية بالمعاني والصور ، زاخرة بالظلال والألوان . وتختلف لغته عن الفصول الأخرى . اللغة شاعرية ، ويشفُّ إحساس الكاتب ويدق ، وهو ينفعل بالفاجعة التي يصورها ، كأنه يلقي قصيدة عن جبروت البحر ، ووقوف الصيادين مكتوفي الأيدي أمام القدر المحتوم . الجمل قصيرة مركزة ، والآلة المصورة ـ أو يراع الكاتب ـ تلتقط كل شيء حولها ، وتنسج منها لوحة فنية أو ( بانوراما ) مجسمة للحدث والمكان معا . هي عبقرية الكاتب ، عندما ينفعل بالحدث فيطلق آهة موجعة من آهات الألم .. كأن جمعة العدوي ، هذا الصياد البسيط الذي ابتلعه اليم غدرا، صديق حميم للكاتب، وليس مجرد زميل للصيادين أو لقاسم الغرياني.حتى الجد السخاوي ،رغم أنه اضطر إلى منع الغرياني من إلقاء نفسه وراءه، في محاولة عفوية لإنقاذه ، نحس بقلبه ينوء بحزن صامت على غرق جمعة العدوي .لكن السخاوي مسئول عن سلامة ( البلانس ) بأكمله ، وعليه أن يئد عواطفه ، ويفكر في الأمر بروية .. " حتى قطرة الماء ربما تحمل الخطر ! " ( 1 ) .. ويشع أمل في صدور زملاء جمعة وزوجته ، ربما عاد بعد النوة ، مثلما عاد فجأة رجال كثيرون . ولا ينسى الكاتب أن يشجيك بموال للصيادين . وثمة مداخلات أخرى أضفت على الصياغة الفنية بريقًا أخاذا ، مثل تجزئة الفصل إلى مقاطع ذات عناوين وإحالات ، والمقدمة الصحفية التي تعتمد على التشويق ، يقول فيها : " الموت على رقاب العباد . لكن الزميل الحبيب جمعة العدوي ـ في الحقيقة ـ لم يمت . وكان من الصعب إنقاذه من الأيدي التي احتضنته ، وغابت به داخل البحر .. ورأيناها .. لذلك تفاصيل كثيرة .. " ( 2 ) .
    تستغني الصياغة الروائية عن الوصف في أحوال كثيرة ، وتستعيض عنه بذكر المعاني أو المفردات التي ترسم الأجواء، وتحدد أبعاد كل شخصية. وهي بذلك تكسر رتابة الوصف، وتخرج عن تقليديته إلى طريقة مبتكرة يستفيد فيها الكاتب من عمله الصحفي . وعلى سبيل المثال ، يقول عن تحول علي الراكشي:
    " اقتصرت دنياه ـ بعد العودة من الحلقة ـ على الجوامع والمساجد والزوايا والحصر والأبسطة والمنابر والأعمدة الرخامية والقباب والأضرحة والأهلّة والمصاحف والكتب الدينية والسبح والبخور والخيام والسرادقات والحضرة وحلقات الذكر وترتيل القرآن والإنشاد وسماع المدائح النبوية والتسابيح والتواشيح والأهازيج الصوفية والدعوات والابتهالات والعزائم ودقات الدفوف وإيقاع الطبول وأنغام الربابة وأصوات المنشدين والصمت والانزواء والانفراد والتواجد والشطح والهزات العنيفة .. " ( 3 ) .
    وهي كلها مرادفات لمعنى واحد ، هو اهتمام الراكشي بالدين ، وكان يمكن للروائي أن يكتب الجملة التقليدية : "اهتم الراكشي بأمور دينه، واتجه إلى التصوف الإسلامي وكل ما يمتّ إليه بصلة " .. لكن الجملة وما يشبهها لا ترسم الأجواء التي رسمتها الفقرة السابقة ، بإيجازها ودلالتها ، فجعلت القارئ يتعايش مع الشخصية وما يحيط بها من معالم وما يستهويها ويؤثر فيها. في الفقرة بيان بالمكان (الجوامع والمساجد والزوايا)، وبيان بالأشياء والأدوات التي يشملها المكان ( الحصر والأبسطة والمنابر والأعمدة الرخامية والقباب والأضرحة والأهلّة والخيام والسرادقات ) ، وبيان بالثقافة ( المصاحف والكتب الدينية )، وبيان بأدوات يستخدمها الـمرء (السبح والبخور )، وبيان بتقليد ديني يقوم به البعض (الحضرة وحلقات الذكر )، وبيان بالأصوات الدالة على العبادة وذكر الله وفضائل الدين (ترتيل القرآن والإنشاد وسماع المدائح النبوية والتسابيح والأهازيج الصوفية والدعوات والابتهالات والعزائم ودقات الدفوف وإيقاع الطبول وأنغام الربابة وأصوات المنشدين)، وبيان بحالة المرء العابد لربه الذاكر له، السالك في درب الصوفية ( الصمت والانزواء والانفراد والتواجد والشطح والهزات العنيفة ) ..
    وإذا اعتبرنا كل عنصر من هذه العناصر يؤدي وظيفته في رسم الجو وتعميق الإحساس به ، فإن مجموع هذه العناصر يزيد القارئ قربًا من الصورة،بدون الوصف التقليدي للمكان والشخوص والأدوات والشروح ، فمجموع المرادفات تغني عن صفحات كثيرة من الوصف والشرح . ولو أحصينا عدد المرادفات لوجدناها في هذه الفقرة وحدها تصل إلى 37 كلمة، ترد دون تعليق على أي منها، اكتفاء بواو العطف تربط الكلمات بعضها ببعض. وتغني هذه الطريقة ـ كما أسلفت ـ عن الوصف الممل، وتعين على تعميق أبعاد الشخصية واستيعاب الحدث.
    فالراكشي هنا قد انجذب إلى أماكن العبادة وأضرحة الأولياء ، وانصرف عن بريق الدنيا ، وجعل جل همّه تعميق صلته بكل ما ينتسب إلى الدين . ونجد الشيء نفسه في ذكر قراءات الراكشي.. " قرأ في الوحي والرؤى والملائكة والشياطين والكرامات والمعجزات والمكاشفات والصفات واللوح والقلم، وحقائق الرسل والأنبياء والموت والقبر والغيبيات والخوارق والحشر والميزان والصراط والحساب والجنة والنار ، وسير الأولياء والقديسين ، وأسرار العوالم الأخرى والأرواح الساكنة في الحيوان والطير والزواحف ، والأحلام وتأويلها ، والطب الشعبي ، وقراءة الطالع ، وبركات العباد والزهاد والورعين والمريدين والعارفين .. " ( 4 )..كلها حصيلة القراءة في كتب الأقدمين ، وواضح انهماكه في قراءة كتب التراث الديني . ولم يبن الكاتب أن صاحبه قرأ كتبًا بعينها ، وإنما اهتم بذكر الموضوعات دلالة تبحره في العلم ، وإن لم يشر إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، و أشار إلى الغيبيات والخوارق والأحلام والطالع . وتبلغ هذه الفقرة ثلاثين موضوعا ، تشي بكثرة القراءات في محاولة لمعرفة الكون والخلق والنشأة والمصير . وقد ذكرت الموضوعات دفعة واحدة ، دون تدخل غير مرغوب فيه من الكاتب ، بغية شرح أو تفسير أو تحليل ، مكتفيًا بعناوين الموضوعات التي يقف القارئ عندها على نوع الثقافة التي نهل منها علي الراكشي . وفي هذه الصياغة، تغنيه واو العطف عن صفحات كثيرة اختزلها فأبعد عن القارئ الملل وأغناه عن الشطحات التي لا تعنيه كثيرًا. وهي من أساليب الصحافة في الإيجاز والشمول الذي ينمّ عن الإحاطة وسعة الأفق.
    وثمة مثال ثالث، نجده في ذكر أنواع السمك في الفصل التاسع عشر:" الدنيس والقرموط والمرجان والمياس والبوري والبربون والإنش والوقار واللوت والشرغوش والكحلة والطوبارة والقاروص والموزة والسبيط وسمك موسى والكابوريا والجمبري .. " ( 5 ) .. وهي إحاطة ليست سهلة إلا للمتخصص في هذا المجال، تكشف وفرة الأنواع في حلقة السمك بالأنفوشي، وكان يكفيه التدليل ببعض الأنواع التي يبيعونها، إلا أنه مغرم بالإحاطة والشمول ، ولا يكتفي بسرد الأمثلة ، فيضيف إلى عالمه الروائي جانبًا معرفيا .والأمثلة لا تقتصر على الفقرات الثلاث السابقة، وإنما تمتد لتكون ظاهرة عامة في النص الإبداعي ، وتشكل الأسلوب المميز لمحمد جبريل عن سواه من الروائيين العرب . فهو يعنى بالإلمام والإحاطة ، ولا يعنى بالشرح أو المداخلات غير الموظفة فنيا ، مكتفيًا بالتصنيف والتكثيف ، مودعًا بلاغة أسلوبه في ( واو العطف ) التي تصطف بها المواضيع أو الأشياء أو الأدوات ، فتحيط القارئ علمًا وفهما ، وترسم ـ في الوقت ذاته ـ ألوانًا وظلالا يزخر بها النص.
    إلا أن هذه الطريقة التراكمية ـ إن جاز التعبير ـ البديلة عن الوصف أو الشرح، لم تمنعه في حالات معينة من الوصف التفصيلي ، مثل تحديده الموقع الجغرافي لبيت الشيخ أمين عزب في فصل ( الباب المغلق ) .. فنقرأ هذه السطور : " البيت يطل على ثلاث جهات . من ناحية على شارع رأس التين، في امتداده إلى الموازيني والحجاري، وعلى شارع فرنسا إلى المنشية . أما الواجهة ، فتطل على شارع إسماعيل صبري ، يتجه ـ في ناحية ـ إلى الميناء الشرقية . وأما النوافذ والشرفات الخلفية ، فتطل على الشارع الخلفي . يشغل جانبه ـ في الناصية ـ جامع علي تمراز ، فبيتان من خمسة طوابق ، ينتهيان إلى فرن التمرازية ، واجهته على شارع الشوربجي . ضيق ، طويل ، يفضي ـ من جهة ـ إلى الموازيني ، ويمثل ـ في الجهة المقابلة ـ توازيًا لشارع الميدان .. "( 6 ) .. في هذه السطور إسهاب في وصف المنزل وتحديد موقعه بدقة ، كأن الكاتب يلتقط بآلة تصوير صورة ثلاثية الأبعاد للمنزل ، وهو لا يترك شاردة ولا واردة لتجسيد موقع المنزل وشكله . على أنه لا يلجأ إلى هذا الوصف الدقيق كثيرا ، وربما اضطر إلى وصف بيت الشيخ أمين عزب في إشارة واضحة لمكانة الشيخ في نفوس الناس . وثمة تشابه واضح بين هذا البيت وبيت الكاتب نفسه الذي وصفه في كتابه ( حكايات عن جزيرة فاروس )( 7 ).
    كما يعمد محمد جبريل إلى حشد عدد كبير من الشخصيات المحورية والثانوية على حد سواء . وقد يصرف الحشد القارئ عن متابعة الأحداث . لكن الرواية لا تعتمد على الحدث وحده، وإنما تهتم بأحوال العباد، سواء من حيث كونهم جماعة الصيادين ، أو من المريدين المنجذبين إلى أولياء الله الصالحين ، أو من حيث كونهم نتاج بيئة واحدة ، بما فيها من أشتات متباعدة ، أو ترابط ، أو وشيجة قربى ، أو مصلحة ، أو صداقة .. وهو يعنى برسم الشخصية ويحفل بها أكثر من عنايته بالحدث . وعلى سبيل المثال ، يحشد في قهوة مخيمخ عددًا كبيرًا من الناس . وينقلك بسهولة من شخص إلى آخر ، كأنه يمسك بآلة تصوير ( فيديو ) ، يسجل بها هذا الحشد من رواد المقهى . وما إن تتعرف على ملامح شخص ما ، حتى ينقلك سريعًا إلى شخص آخر . فمن أشخاص تعرفنا عليهم في فصول سابقة ، إلى آخرين ذكروا عرضا ، أو نقرأ عنهم لأول مرة ، ولنذكر الأسماء: الجد السخاوي ـ قاسم الغرياني ـ حمودة هلول ـ عبد الوهاب أفندي مرزوق ـ محمود عباس الخوالقة ـ محيي قبطان ـ الحاج قنديل ـ عباس الخوالقة ـ مصطفى عباس الخوالقة ـ محمد صبرة ـ حمادة بك ـ عبد الرحمن الصاوي ـ خميس شعبان ـ امرأة ( لم يذكر اسمها ) ـ صابر الشبلنجي ـ حسان عبد الدايم ـ الجرسون هارون ـ سيد الفران ـ الشيخ جابر برغوث ـ خليل أفندي زيتون ـ مختار زعبلّة ـ علي الراكشي ـ دياب أبو الفضل ـ المعلمة أنصاف ـ عبد العال حلوفة ـ المعلم التميمي ـ أمين عزب ـ الملكة نازلي .. وعددهم 28 شخصًا في فصل واحد ( الفصل العاشر ) .. مما يشكل زحامًا قد يصرف القارئ عن متابعة أحداث الرواية، وفهمه لأبعاد وملامح الشخصية ..
    ولعل الحشد مقصودًا لذاته ، لإبراز مجتمع المقهى ، والثرثرة في مواضيع شتى ، مثل حديثهم عن المظاهرات الرافضة لقرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين ، ومقارنة بين ابنيْ الخوالقة اللذين يعملان معه في البلانسات والحلقة ، وبين أبناء الحاج قنديل الذين أبعدهم والدهم عن البحر ، وحديث عن الكورنيش المحيط بالإسكندرية ، وحديث عن سيد الفران ، ثم حديث عن خليل زيتون الذي أوهن الحشيش صحته، وحديث عن عزوف الغرياني عن الزواج، وحديث عن شقة دياب أبو الفضل.. وما إلى ذلك من أحاديث أقرب إلى الثرثرة التي ترسم جو( المقهى) وما تتميز به .
    وفي فصل ( المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل ) يتحدث الكاتب عن عروس البحر ، وعن الأساطير التي نسجها الناس عنها . فعروس البحر تضاجع الريح ولا تلد إلا الإناث . وسعيد من تظهر له ! ويذكر صيادون وبحارة أنهم رأوا ذكر البحر ! ويتخيل الناس عروس البحر نصفها العلوي لامرأة والسفلي لسمكة لها ذيل . وهي فائقة الجمال . وبرروا كل من اختفى من الرجال بأن عروس البحر أخذته ليعيش معها في أعماق البحر. وحين ابتلع اليم جمعة العدوي، أرجعوا ذلك إلى أنه تزوج عروس بحر واستقرا في الأعماق . وذكر الجد السخاوي أن جنية من البحر عشقت حودة التيتي ، فأغرته فغاص معها في الأعماق، وأنجبا الأولاد والبنات، ولم يعد إلى الأنفوشي. وروي عن سباعي سويلم الذي سحبت عروس البحر شبكته ، وظل في البحر مقيمًا سنوات طويلة ، ثم عاد محملاً بالذهب والجواهر ، فبنى قصرًا وانزوى فيه إلى أن مات ‍‍‍‍‍‍‍‍‍.
    ويتمثل البحر لدى العامة قوة قاهرة ، أكبر من إمكاناتهم .. وحين يعجز الإنسان ، ينسج خياله أساطير يؤمن بها. إلا أن مختار زعبلّــة ينفرد بعشقه للبحـر حتى أنـه كان يقول بحماس : " البحر هو أنــــــا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍ " ( 8 )‍ .. "ابتعادي عن البحر معناه الموت ‍ " ( 9 ) .." أنتَ في البحر سيد نفسك .. حر نفسك .. " ( 10 ) .. " أنا أحب الحياة في البحر .. مثل السمك .. " ( 11 ) .. ورسم على ذراعه وشم سمكة ، تعبيرًا عن حبه للبحر ..
    وليس البحر وحده الذي نسجت حوله الحكايات والأساطير .. هناك ضريح المرسي أبو العباس ، ، ولواذ الناس به ، يستغيثون به مما يكابدون ويعانون .. حتى نجاة حمادة بك من الموت ، ترجع إلى بركات مولانا السلطان ‍.. ويحصي الكاتب كرامات السلطان ومكاشفاته ، ويذكر روايات أشبه بالمعجزات .. مثل أنه كان يمشي على الماء ، ويطير ويمسك النار ويحتجب عن الأبصار . وكان يرى الكعبة من موضعه . ويتحدث الإمام عن أبي العباس الذي ظهر فجأة .. " انشق الضريح عن سيدنا " ( 12 ) .. واقتربت أنسية منه توشك أن تقبل قدميه ‍‍‍.. قال أبو العباس : " من احتمى بمقامي لا يقدر أحد أن يبعده عنه " ( 13 ).. وقال : " زادت هموم الناس ، فخرجت لأحمل منها ما استطعت " ( 14 ).. ويحكي الحاج قنديل كيف أتاه المرسي أبو العباس وقال له :" والعافين عن الناس " ( 15 ) .. وقال : " لماذا تحاربه في رزقه ؟! " ( 16 ) .. يقصد الراكشي .. وقال أبو العباس لحمادة بك أن أنسية أولى بسكنى البيت ( 17 ).. وتحدث عباس الخوالقة عن ظهور السلطان يطوف أرجاء الجامع ، إلا أن إمام الجامع عزا كل هذه الحكايات التي رواها الجمع المتحلق حوله ، إلى أنه حلم توزع على الفضلاء من أبناء الحي . هذه الروايات عن معجزات وكرامات السلطان وعن ظهوره ، تعكس ما للسلطان من نفوذ آسر. إن الناس الذين قهرهم البحر نسجوا من حوله الأساطير ، وكان لهم حكايات وحكايات عن عروس البحر وجنيته ! .. فحين تستبد بهم الهموم وتتعقد مسالك الحياة ، يلوذون بمولانا السلطان يحتمون به ، فيتبدى لهم في الحلم ، يملي نصحًا هم في حاجة إليه .
    وثمة شخصية طاغية استحوذت على الراكشي ، هي الشيخ يوسف بدوي ، يأمره بألا يفعل شيئًا إلا بإذنه ، وأن يكون " كالميت بين يديْ غاسله، يقلبه كيف شاء " ( 18 ) .. وألا يحضر مجلسًا لغير شيخه ، ولا يزور أولياء الله إلا بإذنه، ولا يستمع إلى درس أو كلمات إلا من هذا الشيخ .. حتى أصبح الشيخ قوة تهيمن على تصرفاته كأنه قوة عليا ! وأذعن لتلك الشخصية الطاغية المستبدة ، لعله يصبح في النهاية شيخًا له استقلاله وكراماته ومكاشفاته ومريدوه ! وقد وصل الطغيان حدًّا جعل قراءة القرآن بإذن منه !! ولا يملك الراكشي إلا الانصياع له ، فهو أرحم من الحاج قنديل الذي يتحكم في رزقه . وهو يساير الشيخ طمعًا في أن يُحزَّم بحزام المشيخة ، فيسير في طريق الصوفية بمفرده ، مستقلا بنفسه .
    وهناك حديث عن الحاج محمد صبرة الحلاق ، وكيف تعلم علاج المربوطين والمسحورين ومرضى الصداع والحمى والنزيف ووجع الجنب والدوسنتاريا والبواسير ، بالأعشاب والوصفات والرقى والأحجاب وقد يستعين بآية الكرسي .. كل هذه الحكايات والأحداث والأفكار نتاج بيئة ترى القوة الغيبية متجسدة في أمور خارقة يفسرونها حسب الهوى والخيال .. وهي انعكاس لأحداث فاجعة يواجهونها مثل :
    1 ـ صعود فتحي عبد ربه من الماء مشلولاً ( الفصل الأول)
    2 ـ ابتلاع البحر للصياد جمعة العدوي ( الفصل السادس ).
    3 ـ تعطل اللنش بحمادة بك ، بعيدًا عن الشاطئ ( الفصل الثامن عشر ).
    4 ـ اكتشاف سلامة أن عبد الرحمن الصاوي ليس أباه ( الفصل الرابع والعشرون ).
    كما أنهم يلجئون إلى الشيخ أو الإمام إذا ألمّ بهم مكروه ، أو اعترضتهم مشكلة تقلقهم . فإذا أشار إليهم بنصيحة ، أخذوا بها .
    وقد تأثر علي الراكشي بالشيخ أمين عزب أيضا ، الذي تصدى لأحد الفتوات ، وهو يختلف عن الشيخ يوسف بدوي باعتداله . لجأت إليه أنسية تطلب وساطته ليترك حمادة بك بيته لها لتعيش فيه . وأمين عزب منعزل عن جيرانه ، رافض للخزعبلات والغيبيات وحلقات الذكر بما فيها من بدع ، أعلن " رفضه للأعلام والرايات والطبول والدفوف والرقص والانجذاب والمواكب والتحلق حول شيوخ الجهل " ( 19 ) .. وأصر على ألا ينهض من مكانه في جامع علي تمراز ، المخصص لجلوس الملك ، لولا تدخل إمام الجامع . وقد هاجم مختار زعبلّة لرسمه وشمًا على ساعده ، وذكر له حديث الرسول  في هذا . أمين عزب شيخ معتدل وإيجابي ، يوجه الناس إلى طريق الهداية ويحل مشكلاتهم .
    أما الشيخ يوسف بدوي ، فيختلف عنه . حيث نجح في استمالة الراكشي إليه ، وترك أمين عزب !
    والجد السخاوي شخصية تحار في أمرها . قد تبدو ثانوية، لندرة ورودها في سياق الأحداث، أو لعدم تكثيف الحدث حولها . وتبدو ـ أيضا ـ شخصية فاعلة مؤثرة .. لكن لا يمكن إغفالها في كل الأحوال . وإذا استعرضنا مـا ذكره الكاتب عن السخاوي ، لمسنا تأثيره في الناس المرتبطين به المتعاملين معه :
    1 ـ حين وجد الراكشي صعوبة في صيد السمان ، حدثه الجد السخاوي عن مواعيد قدوم وارتحال طيور الفصول .. وينكسر الضوء الصادر من نافذة غرفة السخاوي عقب أذان الفجر ، عبر شيش نافذة غرفة الراكشي . فنستبين الدلالة في تأثر علي الراكشي بالجد السخاوي (الفصل الأول ) .
    2 ـ وللجد السخاوي دوره الهام في منع قاسم الغرياني من إلقاء نفسه وراء جمعة العدوي ، في محاولة عفوية لإنقاذه ، رغم ما ينوء به قلبه من حزن صامت . فالسخاوي مسئول عن سلامة البلانس بأكمله ، لذا حتم عليه أن يئد عواطفه ، ويفكر بروية حتى لا يقع المزيد من الخطر ( الفصل السادس ) .
    3 ـ والجد السخاوي من رواد قهوة مخيمخ، لذا تتوطد صلته بكل الصيادين من رواد المقهى ( الفصل العاشر ).
    4 ـ ويتحدث الجد السخاوي عن عروس البحر بما يشبه حكايات الأساطير . وعروس البحر ـ في عرفه ـ تضاجع الريح ولا تلد إلا الإناث ، وهنيئًا لمن تظهر له . وذكر السخاوي أن حودة التيتي عشقنه جنية من البحر ، فأغرته فغاص معها في أعماق البحر وأنجبا الأولاد والبنات ، ولم يعد إلى الأنفوشي !( الفصل الحادي والعشرون).
    5 ـ ولما رغب قاسم الغرياني في رسم وشم على ساعده لسمكتين وثعبان، حذره الجد السخاوي فالوشم حرام . ولما دق مختار زعبلّة وشمًا على ساعده لسمكة ، قال له : " أنتَ بهذا تغير ما صنعه الله " ( الفصل الثالث والعشرون ).
    ورسم الكاتب شخصية الجد السخاوي بعناية ، فجعلها مؤثرة في الآخرين ، ولها مكانتها لدي الصيادين .. تشعّ ضوءها إلى الخارج ، ولا ينعكس ضوء عليها ، بمعنى أنها تؤثر في الآخرين ولا تتأثر بهم ، أو أن الكاتب لم يُبٍنْ هذا الأثر .. فالضوء الصادر من سكن السخاوي ، يحاكي الأثر الذي يتركه في نفوس الناس . فهو يرشد الراكشي ويدله على مواعيد قدوم وارتحال طيور الفصول ، ويمنع الغرياني من إلقاء نفسه في البحر لينقذ جمعة العدوي ، ويرتاد قهوة مخيمخ ويجالس روادها ، ولديه مخزون أسطوري عن عروس البحر التي تضاجع الريح وتلد الإناث، وعن الجنية التي عشقت إنسيا فتزوجته وأنجبا ! ويرى أن الوشم حرام لأنه تغيير فيما صنعه الله. لكننا لا نقف على خط درامي لنمو شخصيته ، أو تفصيل لحياته ، سوى ظهور المرسي أبو العباس له ، مثلما ظهر لآخرين ، أو تهيأ لهم أنهم رأوه .. إلا أن السخاوي لم يكن وليا من أولياء الله الصالحين . كان عونًا للصيادين. لكن الكاتب لم يتحدث عنه بإفاضة ، مثلما تحدث عن مشايخ الصيادين السبعة ، أمثال : الحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي . والسخاوي شخصية مرموقة ذات إشعاع دافئ ، أو قل أنه يمثل الجانب الإيجابي مثل أمين عزب ، أو هو صوت الضمير ، أو هو العقل الجمعي ـ إن جاز التعبير ـ الذي تستنير به جماعة الصيادين ، قال عنه أحمد فضل شبلول : " ولعل شخصية الجد السخاوي تقترب في بعض ملامحها من عجوز بحر أرنست هيمنجواي " (20) .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مقال: رواية'' الحمار الذهبي'' أول نص روائي في
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01/03/2010, 06:01 AM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 06:09 PM
  3. نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 50
    آخر مشاركة: 06/08/2008, 05:31 AM
  4. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 10:28 AM
  5. روائي
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16/03/2007, 11:31 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •