الرد على الموضوع
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 13 إلى 20 من 20

الموضوع: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب

  1. #13 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    تابع / الفصل السادس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. ....................

    أما حمادة بك فهو من الأثرياء ، صاحب فرن وبيت ، ويرى أن الصدقة لأنسية حرام . نجا من الموت غرقًا أكثر من مرة . رشح نفسه للانتخابات فسقط وأدرك أن للانتخابات رجالها .
    أما الحلاق محمد صبرة ، فقد حرص على اقتران اسمه بالأثرياء ، أمثال حمادة بك والحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي والشيخ طه مسعود , يداوي مرضاه بالأعشاب . يداوم على قراءة الكتب القديمة . وهو مولع بتركيب الأدوية ، وتعلم إجراء عملية الختان في المناسبات الدينية .
    وقد اختار محمد جبريل اسم ( أبو العباس ) عنوانًا للجزء الأول . يقول عنه : " أما المرسي أبو العباس ، سلطان الإسكندرية وحاميها ، فإنه الرمز للإسكندرية كلها : اقروا الفاتحة لابو العباس .. يا إسكندرية يا أجدع ناس .. الزفاف يظل ناقصًا ما لم تسبقه جولة للعروسين وأصدقائهما حول الميدان المواجه للجامع سبع مرات ، وكرامات السلطان في حوائج الغلابة والمنكسرين من أبناء الإسكندرية والمدن المجاورة ، لا تقل عما يعتقده أبناء القاهرة ـ والمترددين عليها ـ في أم العواجز وزين شباب أهل الجنة والشافعي والرفاعي وأولياء الله الصالحين " ( 21 ) .. فأبو العباس يمثل الرمز الديني الذي يتجه الناس إليه . إنه الملاذ والوسيط لقضاء الحوائج . يتحلق الناس حول ضريح الإمام ، يستلهمون منه الإرادة والعزيمة .
    يتحدث الكاتب في الفصل الثاني عن حلقات الذكر بعد العشاء ، وأحاديث الناس مع الإمام في أمور دنياهم . يتقلد الشيخ طه مسعود إمامة مسجد أبي العباس . وتتصدر الفصل السادس والعشرين مقطوعة عن أبي العباس ليلة وفاته . ذهب يودع أخاه ، ثم قدم إلى مريده أبي عبد الله الحكيم بأشموم ، ثم ودع أخاه وعاد إلى الإسكندرية يقضي بها ليلته ثم لحقته الوفاة . تذهب أنسية إلى ضريحه ، تستغيث به ، وتقدم رسالتها الثانية والثلاثين ، تطلب فيها أن يبعدها عن الطريق الحرام ، وفي طريق عودتها شهقت لرؤيته ،فطمأنها بأن مشكلتها لها حل . ثم ذهب متلاشيًا كأنه لم يكن ‍‍‍‍.
    في الفصل التالي ، وصف لليلة التاسعة ، آخر ليلة في مولد السلطان ، بطريقة الكاتب المعتادة في حشد عدد كبير من الناس ، ومن الأشياء والعلامات المميزة ، حتى أنه لا يفوته شيء .‍ ووصف عملية الختان التي تفرغ لها الحلاق . ويروي الحاج قنديل أن حمادة بك نجا من الـموت ببركات مولانا السلطـان . وفي الفصـل الأخير بيان بكرامات السلطان ومكاشفاته ، وروايات أشبه بالمعجزات ، مثل أنه كان يمشــي على الماء ويطير ويمسك النار ويحتجب عن الأبصار . وكان يرى الكعبة من موضعه . ويتحدث الإمام عن أبي العباس الذي ظهر فجأة .
    تقترب أنسية من المقام توشك أن تقبل قدميه ،فيزجرها الإمام . ويحكي الحاج قنديل كيف جاءه أبو العباس وهو جالس أمام دكان الحاج محمد صبرة ، وكان الحاج قد اعتذر عن عدم التوسط للإفراج عن الراكشي،أتـــــاه المرســي أبو العبــاس واقتعــد كرسيا وقال له : " والعافين عن الناس " ( 22 ) .. وقال أيضا : "لماذا تحاربه في رزقه ؟! " ( 23 ) .. ومضى .. وقد انتظر السلطان حمادة بك على ناصية شارع سيدي داوود، وقال له : " المرأة أنسية أولى بأن تسكن هذا البيت " ( 24 ).. ونصحه الإمام : " نفذ ما يقضي به مولانا السلطان ! " ( 25 ) .. وتحدث عباس الخوالقة عن ظهور السلطان يطوف بأرجاء الجامع . وغادر الرجال الجامع واستكانوا إلى رأي الإمام بأن ما جرى كان حلما ، توزع على الفضلاء من أبناء الحي . ويثور سؤال ملح : " هل كان ما جرى حلما، أو أنه شيء آخر ، ينتسب إلى معجزات سيدنا السلطان ؟! " ( 26 ).
    .. وفي رواية ( أبو العباس ) شخصيات أخرى كثيرة . والملاحظ أن محمد جبريل يحفل بعالم الرجال، ويغفل دور النساء، إلا فيما ندر. وإذا استثنينا ( أنسية)، المرأة الوحيدة التي حفل بها ، لا نجد دورًا مهما لأية امرأة ذكرها عرضا . وأنسية نموذج لامرأة سخرت جسدها لإمتاع الرجال، نظير أجر، وما من رجل إلا جامعها . وهي تتوق إلى التوبة من حياة الدنس ، فتلجأ إلى الشيخ أمين عزب ، ثم تلجأ إلى مقام السلطان أبي العباس ، تطلب الإنصاف والشفاعة والعون ، وكل أملها أن يترك لها حمادة بك البيت لتقيم فيه ، إلا أن الشيخ أمين عزب نصحها بأن تترك حياة الحضيض ، وتخدم في البيوت ، فهذا أرحم ، أو ترجع إلى أسرتها الطيبة . وهي تود التوبة عن المعاصي . تأمل أن يتزوجها سيد الفران . ولما ساعدها عبد الرحمن الصاوي في الابتعاد عن كل ما يسئ إلى الإسلام ، عاب عليه حمادة بك ذلك ، فالصدقة في عرفه لأمثالها حرام ‍ ‍‍‍.. وفي طريق عودتها شهقت لرؤيته ، فطمأنها بأن هناك حلا لمشكلتها ، وذهب متلاشيا كأنه لم يكن ‍ .. وحين ظهر أبو العباس لحمادة بك ، نصحه بأن يترك البيت لأنسية ( 27 )..فأنسية احترفت البغاء لتعيش ، لكنها تتمنى بيتًا يؤويها ( بيت حمادة بك ) وزوجًا يسترها ( سيد الفران ) ، وأحبت أن تتوب عن المعاصي فسعت إلى ذلك سعيًا جادا . لجأت إلى الشيخ أمين عزب ، وإلى مقام أبي العباس ، لكن مجتمع الرجال لا يرحم . هذه هي المرأة الوحيدة التي اضطلعت في الجزء الأول بدور رئيسي .
    ويشبه محمد جبريل في هذا الكاتب الأمريكي ، الأرمني الأصل ، وليم سارويان في ولعه برسم شخصيات من الرجال ،وإغفال المرأة ( 28 ) .. وإن اختلفا في المرحلة العمرية للذكور ، فمحمد جبريل يحفل بعالم الرجال ، وهم في الغالب متزوجون ، وسارويان يحفل بصغار السن الذين يتطلعون إلى الحياة والمستقبل . وثمة شخصيات نسائية أخرى ذكرت عرضا ، في معرض اهتمامه بالرجل .. نذكر زوجة الراكشي مثالا ـ لاحظ أنه أغفل اسمها ـ يقول الراكشي للمرأة المستلقية على طرف السرير ـ يقصد زوجته ـ : " اليوم أحسن " ( 29 ) .. وطلب منها ألا يلعب الأولاد خارج البيت خوفا من المظاهرات. سألته أم الأولاد مشفقة : " هل تنوي ترك مهنتك ؟‍‍‍‍‍‍‍ ‍.. نحيا على نقود الطير معظم أيام السنة .. ولولا الحاجة ما نزلت البحر .. إذا غضب منك الحاج قنديل .. لن يقبل بقية المعلمين أن يتعاملوا معك " ( 30 ).. ويحلم بامتلاك قارب فيقول لزوجته :" المصيبة أني أكلم نفسي .. فماذا تفهم امرأة غبية مثلك ؟‍ " ( 31 ) . فزوجة علي الراكشي هي المرأة التي لا نعرف اسمها ، فقط نتعرف عليها منسوبة إلى زوجها ..فهي المرأة المستلقية على طرف السرير، وهي أم الأولاد ، ويصفها زوجها بأنها امرأة غبية لا تفهم ما يقول .. كل همها اللقمة والمستقبل الآمن ، وهو مستقبل محدود متواضع لا يجاوز ظلها ‍.
    وكما لم تحفل الرواية ( أبو العباس ) بعالم النساء ـ باستثناء أنسية ـ لم تحفل أيضا بمعاني الحب .. فلم نجد شيئا يذكر عن لواعج النفس ، وخفقات القلب .. كأنما قست قلوب الصيادين وأضرابهم ـ باستثناء حادثة غرق جمعة العدوي ـ وكل ما يشغلهم السعي للرزق وإرضاء النزوات العابرة، واللواذ بالمشايخ وأولياء الله الصالحين . وتضمهم قهوة مخيمخ وغيرها . واكتفى الكاتب برسم شخصية أنسية لإمتاع الرجال ‍ .. وهناك حديث عن خطيئة عبد الرحمن الصاوي ، واعترافه لابنه سلامة بأن أمه كانت على علاقة ( بمكوجي رجل ) .. وذكر سكينة التي واجهت سلامة بأنه ليس شقيقًا لها .. وتخون يسرية زوجها المسافر .. فدور المرأة ثانوي هنا ويأتي ذكرها لإرضاء نزوات الرجل وخدمته، وتأكيد زلات المرأة ، ولم نجد هنا اغتصابًا لامرأة ، وإنما هي رغبة الأنثى في أن تضاجع رجلا ، مما يعد ظلما للمرأة .. لم يتمثل هذا الظلم في شخصية (أنسية ) فحسب ، وإنما يمتد إلى الأسماء التي وردت ولعبت أدوارًا هامشية ‍ . ولعل قصد الكاتب أن يصور حقبة، أو أن مجتمع الصيادين ملئ بهذه الصور .. إلا أن إهمال أو إغفال عاطفة الحب من الملاحظات التي نقف عندها ونضع علامات استفهام حائرة ؟‍؟
    ومثلما يحفل جبريل بدور الرجل ، يحفل بالمكان أيضا ، يصفه ويرسم خريطة لحي بحري بالإسكندرية ، ويذكر الجوامع والمساجد والأضرحة والأولياء ، ويذكر المقاهي ، ولا ينسى ذكر أسماء الشوارع ، وكورنيش الإسكندرية الذي أنشأه صدقي باشا .
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : أبو العباس ـ ص 75.
    2-المصدر السابق ـ ص 67.
    3-المصدر السابق ـ ص 104.
    4-المصدر السابق ـ ص ص 105، 106.
    5-المصدر السابق ـ ص 184.
    6-المصدر السابق ـ ص ص 170،171.
    7-محمد جبريل : حكايات عن جزيرة فاروس ـ ص ص 61 / 64.
    8-أبو العباس ـ ص 207.
    9-المصدر السابق ـ ص 211.
    10-نفسه.
    11-المصدر السابق ـ ص 217.
    12-المصدر السابق ـ ص 261.
    13-نفسه.
    14-نفسه.
    15-المصدر السابق ـ ص 265.
    16-نفسه.
    17-المصدر السابق ـ ص 266.
    18-المصدر السابق ـ ص 148.
    19-المصدر السابق ـ 172.
    20-مجلة ( راقودة ) : عدد 8 ـ يونيو 1999 ـ مقال أحمد فضل شبلول ـ ( محمد جبريل في " رباعية بحري") ـ ص 91.
    21-حكايات عن جزيرة فاروس ـ ص ص 79، 80.
    22-أبو العباس ـ ص 265.
    23-نفسه.
    24-المصدر السابق ـ ص 266.
    25-نفسه.
    26-المصدر السابق ـ ص 267.
    27-المصدر السابق ـ ص 266.
    28-وليم سارويان : مجموعتا قصص : ( سبعون ألف آشوري ) و ( ابن عمي ديكران ) ـ ترجمة : حسني سيد لبيب ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994م.
    29-أبو العباس ـ ص 8.
    30-المصدر السابق ـ ص 13.
    31-المصدر السابق ـ ص 15.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل السابع من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. .............

    ياقوت العرش
    ................

    الرواية في جزئها الثاني ( ياقوت العرش )، مليئة بالحكايات والأساطير النابعة من اعتقادات شعبية، كما أنها مليئة بكرامات الأولياء، وواضح أثر أبي الحسن الشاذلي وتلاميذه على المعتقد الديني لدى البعض. يلقي الكاتب أضواء كاشفة على الشخصيات، ويفسر سلوكهم، ويدفع بالأحداث إلى التطور والتنامي، وإلى الانحدار والتردّي أحيانًا. فأنسية ـ مثلا ـ ترى ياقوت العرش في منامها، وقد ابتعدت عن المعاصي، وصدّت كل من حاول النيل منها. وخصص لها سيد الفران مصروفًا تنفق منه، بعد ما وجد مصدر رزق يتعيشان منه، بإقامته كشكًا يبيع فيه أدوات المراكب والصيادين. وبدأنا نقترب من الشخصيات ـ رغم كثرتها ـ ونحن أكثر فهمًا وأقدر على الولوج إلى عالم محمد جبريل والتعايش معه في منطقة بحري، كأننا نسكن في المنطقة ونتعايش مع ناسها.
    فمثلا الجد السخاوي الذي عرفناه يخاف على رفاقه الصيادين ولا يضن عليهم بحنكة السنين، دون أن نعرف شيئا عن حياته، بدأنا نتعرف عليه ونقترب منه أكثر. ويتمثل الجد السخاوي صوتًا للضمير اليقظ، يردّ الناسّ عن أخطائهم ونزواتهم بعبارات مغلفة بالحكمة النابعة من تجارب السنين الطويلة التي عاشها. فقد عمّر طويلا، ويذكر تجديد جامع أبي العباس في ديسمبر 1929 .. وعُرف عنه أنه يمضغ الطعام جيدًا ولا يشبع، ويستغني عن طعام العشاء، ويقلل من مجامعة زوجته، ويفضل السير على قدميه، ويعود بالبلانس إذا صادف ما يدعو للتشاؤم. والبحر بيته. وثمة مقارنة ذكية بينه وبين الغرياني، فهما يختلفان في كل شئ، ويتفقان في حب البحر، أو هما الزناتي وأبو زيد، كل منهما عظيم في ذاته، لكنهما أصبحا عدوين ( 1 ).
    يعقد الكاتب مزاوجة بين الهم الشخصي والهم العام، فتيار الأحداث الوطنية ينعكس على أهل (بحري)، سواء بالسلب أو الإيجاب . فالغرياني سرق فخذة لحم من عربة جيب إنجليزية فسجنوه، وبرر فعلته بأنهم يسرقون البلد ، فماذا لو سرقنا طعامهم ( 2 ). ويصف الكاتب مظاهرة تهتف بسقوط معاهدة 36، وتنادي بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، فيتصدى العساكر للمتظاهرين، ويصاب مصطفى عباس الخوالقة ابن الرابعة عشر، ويكون محل فخر لأنه تظاهر ضد الحكومة( 3 ). ويتحاور رواد المقاهي حول المظاهرات التي عمت الإسكندرية، وأرجعوا سببها إلى التخاذل في المفاوضات، وانهيار أسعار القطن، وكادر الموظفين، والبطالة.. وهتف المتظاهرون بسقوط النقراشي، وحثوا النحاس على قيادة الثورة. وهي مظاهرة فريدة، إذ ضمت الشرطة مع الشعب في تلاحم آسر( 4 . ودعت أم محمود ـ زوجة عباس الخوالقة ـ على الملك والحكومة، وعلى ابنها مصطفى الذي كاد يحرق قلبها باشتراكه في المظاهرات والإضرابات ( 5 ). كما علل الناس وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد إلى أغذية ملوثة في معسكرات الإنجليز بالتل الكبير( 6 ).. وقيل أنها أفاعيل الإنجليز، بدليل ظهورها في ( القرين )، كما قيل أن الإنجليز دسوا المرض في الزبالة !( 7 ). ودعا إمام أبو العباس لخوض الحرب، ثم طلب من المصلين تأدية صلاة الجنازة على الشهيد عبد القادر الحسيني، وهو قائد فلسطيني قتله اليهود، وهو يدافع عن مدينة (القسطل) ( 8 ). وقيل أن الإخوان المسلمين ذهبوا إلى فلسطين لتحويل المتطوعين إلى جيش مسلح يدخلون به القاهرة ( 9 ). وأصدر الملك أوامره بدخول فلسطين، وثمة حديث يتناقله الناس عن الحرب والقنابل والغارات والأضواء الكاشفة والمخابئ والهجرة إلى الريف، وتفاؤل بأن النصر للعرب لأن أعدادهم هائلة !( 10 ). كما اندلعت المظاهرات بسبب تقسيم فلسطين وطلاق فريدة من الملك ( 11 ).
    وواضح أن الرباط الدرامي بين الأحداث التي تمر بها البلاد وسياق أحداث الرواية رباط غير قوي، فباستثناء اهتمام حمادة بك بترشيح نفسه في الانتخابات، واشتراك مصطفى الخوالقة في مظاهرة، نجد المظاهرات وأحداث الوطن ترد على ألسنة رواد المقاهي أو ألسنة الناس.لعل جبريل يحذو حذو نجيب محفوظ في احتفائه ( بأدب المقهى )، أو ثرثرة الرجال في المقاهي ( 12 )، وإن اختلفت الصياغة وطريقة المعالجة الفنية بينهما. إلا أن جبريل لديه مخزون أسطوري من الحكايات الشعبية عن عروس البحر والجنية والعفاريت، وإن تمثل البحر لدي البعض أسطورة كبرى مليئة بالحكايات والألغاز، وتمثله آخرون ممتدًّا باتساع الكون وآمال الإنسان في الحياة ، والمثل في هذا نجده عند الجد السخاوي ومختار زعبلة وغيرهما. حتى صبية المدارس، يترسب في نفوسهم مخزون قصصي عن حكايات عروس البحر يتأثرون به. إنهم يعودون من الشاطئ قبل الغروب، حتى لا تطلع عروس البحر وتصطحب الرجال إلى الأعماق، والفواجع في هذا كثيرة. غرق الرجال حوادث تتكرر من حين لآخر. وأصبح الموت يشكل اللغز الغامض الذي يؤرق الإنسان. ويشكل لدى الكاتب علامة استفهام كبرى، على المستوى الروائي والمستوى الشخصي أيضا .. يقول محمد جبريل عن الموت : " الموت همّ رئيسي في العديد من أعمالي. بل إن الموت هو الحدث الرئيسي في روايتي ( اعترافات سيد القرية ) عندما يمثل الإنسان أمام محكمة الآخرة، ليجيب عن أسئلتها الاثنين والأربعين، فيحاول تبرئة ساحته، حتى لا يواجه مصير الخاطئين!.. " ( 13 ). ويقول في موضع آخر : " أوافق أستاذنا يحيى حقي على أن الخط الأصيل في الكون هو القوس، وليس الخط المستقيم. الحضارات تبدأ وتزدهر، ثم تضمحل، وتذوي. الشمس، تشرق وتعلو في السماء حتى تتوسطها، ثم تبدأ في المغيب. الطفل يكبر فيمسي شابا، ثم يكبر فيمسي شيخًا ينتظر الموت، قوس محكم صارم.. " ( 14 ) .
    وأثر الموت عند الكاتب لا يقتصر على مقولات نستشهد بها فحسب، وإنما يمتد هذا الأثر إلى معظم أعماله الأدبية، وإلى سيرته الذاتية التي ضمنها كتابه ( حكايات عن جزيرة فاروس ) وروايته التسجيلية ( الحياة ثانية ).
    وكما رأينا في الجزء الأول من الرباعية، يمثل الموت الفاجعة الإنسانية، فيتناوله بشفافية وشجن وأرق ، كما لمسنا في غرق جمعة العدوي. وفي (ياقوت العرش ) فواجع ومآس كثيرة، يشخص فيها الموت بطلا أساسيا لمعظمها. وفيما يلي نذكر أهم الفواجع التي احتواها الجزء الثاني :
    1 ـ غرق البهاء ( 15 ) :
    كان الأب إسماعيل سعفان قد ابتلي بموت زوجته في انهيار البيت عليها، فترك فدادينه لأخيه الأصغر، وارتحل إلى الإسكندرية ليحيا بالقرب من أولياء الله، فاختطف البحر ابنه الوحيد. يصف ابن الراكشي الحادث بقوله : " رأى عروس البحر تختطف الصغير لتجعله ابنًا لها في مدائن الأعماق. كان محمد يسبح بالقرب منه. وكانا يعبثان، ويضحكان، ويصرخان في نشوة، عندما أتت الموجة، فأبعدت بينهما. غطس البهاء، وقب، وغطس، وقب، وصرخ، واستغاث بيديه.اجتذبته من داخل الموجة امرأة، تيقن محمد أنها عروس البحر. أطلق البهاء ثلاث صرخات، وصخب الموج من حوله. ثم اتسعت الدوائر الضيقة، حتى اختفت. وهدأ الموج، وحل الصمت. كأن الموج علا ليبتلع الولد، لتنفذ عروس البحر من داخله فتأخذه إلى دنيا الأعماق " ( 16 ). وأثار الكاتب تساؤلات عديدة عن غرقه. ثم صوّر حال الأب المكلوم، وقد خلا إلى المصحف ودلائل الخيرات، وأحب المشي وسماع الشيخ محمد رفعت، والجلوس على سور الكورنيش، ويبدي قلقًا للأصوات المرتفعة.
    وعن عروس البحر، يرى أبناء مدرسة البوصيري أنها اصطحبت البهاء إسماعيل سعفان، وسباعي سويلم، وحودة التيتي، والمليجي عطية، وجمعة العدوي. وقال مصطفى أنه رأى عروس البحر تمشي على سور الكورنيش رأسها لامرأة وذيلها لسمكة ( 17 ). وقال إسماعيل سعفان في ألم : " بحركم لا قلب له!.. ابتلع البهاء فقتلني! " (18 ).
    2 ـ الشوطة :
    هي وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد في الأربعينيات ـ وتسمى أحيانا ( الهيضة ) ـ كما قال الجد السخاوي. وقد أصابت الناس بالرعب والهلع، وتذكرنا بما كتبه ألبير كامي في رواية ( الطاعون ). ضعفت حركة البيع، وأعدم الطعام المكشوف، ودفنت الجثث في الجير الحي، وأحرقت البيوت التي توفي ساكنوها. قلق الناس من اقتراب الموت إلى منطقة ( بحري ). وأرجع إمام جامع علي تمراز ذلك، إلى نسيان الله والدين والشرع، والإقبال على الدنيا ( 19 ).
    ولعل أبلغ وصف لهلع الناس وجزعهم ما قيل عن الحاج محمد صبرة الحلاق الذي " أخذته لوثة، فراح يعمل بمقصه في الهواء أمام الدكان.. المسكين!.. يريد أن يقص الميكروبات قبل أن تدخل دكانه! " ( 20 ).. بهذا التصوير البليغ عبر الكاتب عن جزع الناس ويأسهم من درء خطر داهم مرتقب، حتى ظنوا أن يوم القيامة اقترب. ورأى السخاوي أن بركة الأولياء هي التي ستنقذهم. وطفق جابر برغوت يكتب أدعية وإشارات وأسماء الله الحسنى وأسماء ملائكة وآيات قرآنية ورسم أشكالا ومربعات سحرية ( 21 ).
    3 ـ موت مصطفى عباس الخوالقة عند أخواله في دمنهور ( 22 ):
    4 ـ إصابة دياب أبو الفضل:
    كان دياب ينظف السمك في الحلقة، فهوى الساطور على أصابعه( 23 ).
    5 ـ موت التميمي :
    تعددت الآراء حول موته، منها أن وفاته كانت لإفراطه في الجماع، ومنها أنه دخل جامع ياقوت العرش وهو مسطول( 24 ).
    6 ـ نوة الغطاس :
    الأمواج جبل حقيقي من الماء يتحرك.. " كورت النوة قبضة الشراسة، وتوالت ضرباتها. هبت بصفير كالنواح. بدا البلانس في الترنح تحت ثقل الموجات المتتالية " ( 25 ).. قفز الجميع إلى البحر، بما فيهم الجد السخاوي، وسبحوا حتى الأنفوشي بعد غرق البلانس.
    7 ـ موت يسرية ( 26 )
    وهناك فضائح جنسية ذكرت ضمن النسيج الروائي، وتشكل تقلب أحوال المجتمع، الذي يضم خليطًا مختلف الأمزجة والميول…
    1 ـ علاقة زعبلة بزوجة ثروت، كثير الأسفار. أسلمت له نفسها، وإن كان يشك في أنه الرجل الوحيد في حياتها! ويخشى اكتشاف ثروت لعلاقتهما المشينة، فيقتله أو يقتلها أو يقتلهما معا ( 27 ).. ويبين الكاتب حب مختار زعبلة لحكايات ثروت عن المدن البعيدة، وانعكاس ذلك الحب إلى زوجته يسرية، فحملت منه سفاحا. وحين أرادت التخلص من الجنين، قتلها الإجهاض ( 28 ).
    2 ـ حديث مصطفى الخوالقة للأولاد عن ذهابه إلى كوم بكير، واصطحابه امرأة في الخامسة والعشرين ، لكنه أصيب بغثيان فهرب !( 29 ).
    3 ـ عزوف التميمي عن الزواج، بعد وفاة زوجته العقيم، ثم أتـى بجمالات من كوم بكير، وتزوجها. لكنها لم ترض نزواته، فلجأ إلى الخادمات ( 30 ).
    4 ـ اصطحاب صابر غجرية إلى داخل اسطبل خيل المعلم التميمي، ومفاجأة التميمي له وضربه ( 31 ).
    5 ـ علاقة جمالات بفتحي الخياط ( 32 ).
    6 ـ شذوذ حمادة بك ( 33 ).
    نقف عند مغاليق الرواية، ونتلمس البناء الفني في احتفاء الكاتب بالأثر الديني في نفوس الناس، وهم يواجهون المحن والخطوب بالصبر والإيمان بما كتبه الله، لكنهم يقفون عاجزين أمام الموت، فيلوذون بالحكايات الخرافية والأساطير الشعبية، في محاولة لتفسير الغيبيات، وإن كانت كرامات الأولياء تسد الفراغ النفسي . والعلاقات الجنسية غير المشروعة تعد بالنسبة لهم فضائح جنسية، تأتيهم من كوم بكير، فهي أشبه بغزوة من خارج هذا الحي المتدين.. وهناك مهجة بنت المعلم عباس الخوالقة، ومرضها النفسي.. لم ينفع دواء الطبيب الأرمني، ولا أعشاب الحاج محمد صبري، ولا علاج الأسياد، ورقية الكردية نظلة. ويؤكد جابر برغوت أن هشام الذي تقدم لخطبتها رضع من ثدي زوجته. أوصت الكردية بالزار، ثم رأت أن تصنع رقية تخرج العين الحاسدة من جسمها ( 34 ). لجأ عباس الخوالقة إلى جابر برغوت لما عرفه عنه بأنه شفى ما هو أقسى من مرض مهجة.. فبرغوت له باع كبير في السحر والطب الروحي. كما أنه يرفض كتابة أعمال سحرية للضرر والإيذاء، ويوجهها لأعمال الخير والشفاء، والمصلحة والهداية، مستعينًا بآيات قرآنية.. قال برغوت أن البنت تعاني أذية سحر(35).. وصنع لها حجابًا. تقدم فؤاد أبو شنب لخطبتها، فعارضت أمها لأنه في سن أبيها. وعارض أخوها لأنها ستكون الزوجة الثالثة. لكن أباها رغب في تزويجها ليضمن حياتها، بدلا من أن يراها تموت. وتم الزواج، فحاولت مهجة التملص منه ليلة الزفاف والهرب إلى أمها، فاضطر الخوالقة إلى تطليقها!
    ثمة ملاحظة عرضية حول الجزء الثاني ، منها ما لاحظناه من ورود بعض العبارات المركبة، التي قد تجهد القارئ، وبعض العبارات فيها تزيد، مثل قوله : " ومرسوم في أعلى صدغه رسم عصفور أخضر "( 36 ).. فكلمة (رسم ) زائدة..
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : ياقوت العرش ـ ص 23.
    2-المصدر السابق ـ ص 17.
    3-المصدر السابق ـ ص27.
    4-المصدر السابق ـ الفصل الخامس.
    5-المصدر السابق ـ الفصل الحادي عشر.
    6-المصدر السابق ـ ص 161.
    7-المصدر السابق ـ ص 166.
    8-المصدر السابق ـ الفصل الثاني والعشرون.
    9-نفسه.
    10-المصدر السابق ـ الفصل الثالث والعشرون.
    11-المصدر السابق ـ الفصل السابع والعشرون.
    12-حسني سيد لبيب : مقال ( قراءة في الكرنك ) ـ مجلة ( الضاد ) الحلبية ـ أكتوبر 1977.
    13-محمد جبريل : الحياة ثانية ـ ص ص 63، 64.
    14-نفسه.
    15-ياقوت العرش ـ الفصل الحادي عشر.
    16-المصدر السابق ـ ص ص 105، 106.
    17-المصدر السابق ـ الفصل الحادي عشر.
    18-المصدر السابق ـ ص 178.
    19-المصدر السابق ـ ص 165.
    20-نفسه.
    21-المصدر السابق ـ ص 167.
    22-المصدر السابق ـ ص 168.
    23-المصدر السابق ـ الفصل الثالث والعشرون.
    24-المصدر السابق ـ الفصل السادس والعشرون.
    25-المصدر السابق ـ ص 217.
    26-المصدر السابق ـ ص الثلاثون.
    27-المصدر السابق ـ الفصل الرابع.
    28-المصدر السابق ـ الفصل الثلاثون.
    29-المصدر السابق ـ الفصل الخامس عشر.
    30-المصدر السابق ـ الفصل السادس عشر.
    31-المصدر السابق ـ الفصل السابع عشر.
    32-نفسه.
    33-المصدر السابق ـ الفصل السابع والعشرون.
    34-المصدر السابق ـ الفصل الثالث.
    35-المصدر السابق ـ ص 68.
    36المصدر السابق ـ ص 21.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الثامن من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. .

    البوصيري
    .............

    يقودنا الحديث عن البوصيري إلى بردته المسماة ( الكواكب الدرية في خير البرية ). وقد أضاف الكاتب جانبا معرفيا،وأحال القارئ إلى حياة البوصيري نفسه، الذي كتب قصائد كثيرة في مدح الرسول .. وحين أصيب بالفالج، تشفّع بها إلى الله كي يعافيه، وكرر إنشادها وهو يبكي ويتوسل .. إلى أن رأى الرسول الكريم في رؤيا، وأنشد أبياتًا من البردة .. وعند ما بلغ القول :
    فمبلغ العلم فيه أنه بشر،
    توقف، وخلع الرسول الكريم بردته عليه. وبذلك رقّي " إلى مرتبة لم يبلغها أحد من السادة الأولياء، أو ذوي الكرامات. رؤية الرسول لا يدانيها شرف .. " (1) . وقام من نومه معافى البدن .
    واستطرد الكاتب في ذكر فائدة البردة .. " لكل بيت منها فائدة. بيت أمان من الفقر، وبيت أمان من الطاعون، وبيت يشفي من الصداع والأوجاع، ولها فوائدها في التمائم والأحجبة. تعلق على الرءوس، وتحقق الكثير من أنواع البركة، وتلتمس الفرج من كل ضيق " (2) . وتسمى البرأة " لأنها تشفي من الأمراض، وتفرّج الكروب " (3) . ويضفي الكاتب أهمية بالغة لرؤيا البوصيري، فيردف: " حين يظهر الرسول في منام امرئ، فإنه يكون قد ظهر فعلا، لا حلم ولا توهم. هو الرسول حقيقة، وما يقوله هو قول الرسول. من رآني في المنام، فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بي " (4) .. تمتد الإحاطة بالبوصيري وبردته إلى صفحات طويلة، ويلتحم البعد الديني الصوفي مع نسيج الرواية، ويتساوق معه، فيبدو الثوب متجانسا، ومتوائما مع ميل الكاتب إلى استدعاء الإرث الديني، ذلك الكنز الروحي الضخم الذي تتميز به منطقة ( بحري)..
    يقود الكاتب خطانا إلى المكان الذي اختاره مسرحًا لأحداث روايته. يحدد المكان ويصفه ويبرز أهميته، جاعلا القارئ لصيقًا به، عاشقًا له. يتصدر الفصل الأول من رواية ( البوصيري ) إشارة إلى أماكن كثيرة.. يذكر زاوية الرصيف، والمقهى، والنافذة المطلة على سيدي الأباصيري، وكشك السجائر على ناصية الطريق المؤدي إلى الميدان، وجدران الشرفة، والميناء الشرقية، والباب الخلفي لجامع البوصيري، والماسورة الملاصقة لجدار الشرفة، والأفق البعيد .. ولو تتبعنا الرواية كلها ، بأقسامها الأربعة، لرأينا احتفاء الكاتب بالمكان سمة يتكئ عليها في الصياغة، فالمكان منطقة جذب لأبطاله، وللقارئ أيضا. هو يحدثك عن المكان ، ولا يملّ الحديث، حتى يجعلك شديد القرب منه، أو أنك مقيم فيه .. وبذلك حقق الكاتب صلة حميمة بين القارئ وبين ( بحري ).. فخلق نوعًا من المعايشة في المكان، وعقد صلة وثيقة به، مما يجعلنا نألف المكان الذي يألف.
    وفي القديم، يرمز للفارس الهمام باسم ( عنتر ) المشهور في الحكايات العربية ، فيقال أنه ( عنتر زمانه ) .. وفي عرف السكندريين ، يُكنى الفتوة بـ ( أبو أحمد ) ، كما ذكر الكاتب عن حنفي قابيل الذي كان ( أبو أحمد زمانه )، ثم هدّته الأيام ! (5) .
    الشخصية المحورية التي انبنى عليها هذا الجزء من الرباعية هي شخصية عبد الله الكاشف بعد إحالته إلى المعاش، وهو الموظف الدءوب على عمله، يجد نفسه فجأة خارج سور الحقانية، وحيدا ، لا زوجة ولا ولد .. والكاشف استأثر باهتمام الكاتب في الغالب، وسلط عليه الأضواء. ونقترب من صورته المميزة له ، أو ( بروفيل ) الوجه والملامح ، ذلك الرجل المولع بالبوصيري وبردته المعروفة.. يفاجئنا الكاتب في صدر الرواية بإحساس الكاشف بدنو الأجل . يعيش الرجل وحيدا في شارع الأباصيري، أمام الباب الخلفي لجامع البوصيري.. وأسهب الكاتب في وصف الجامع من الداخل. التقى الكاشف مصادفة بأنسية الذي اقترح عليها أن تعود للخدمة عنده.. وفي إحساس حاد بالعد التنازلي للعمر، يقول :
    " خيل الحكومة تواجه القتل في نهاية أيامها، أما موظفو الحكومة فإنهم يكتفون بإحالتهم إلى المعاش " (6). وهو انعزالي بدرجة كبيرة ، حتى أنه يرى أنه من بحري وليس منه ! ولا يخرج من بيته إلا للعمل. يرى أن الزمن ينقضي منه دون أن يدري . اقترب من أنسية. وبدأ يتردد على الحضرة الشاذلية، ثم يعود إلى البيت وقد اشتاق إلى المرأة والأولاد، إلا أن الزواج فات أوانه وليس أمامه إلا الملل والرتابة. يعاني الوحدة الممضة. وحين عثر على قطة ، أخذها معه لتؤنس وحدته، إلا أنها انسلت هاربة، حتى القطط تتركه لوحدته. وفي اليوم التالي وجدها في يد طفل، فأدرك أن القطط تألف المكان لا البشر، ولاحظ أهمية المكان يبرزها في هذه الصورة الفنية! وليس أمام الكاشف من مهرب من وحدته التي تحاصره إلا الجلوس في المقهى، وترتيب مكتبته، والقراءة. وتبدى له البوصيري ـ كأنه يحلم ـ أمام الباب ، فأفسح له الطريق وجلس . أطال تأمله بنظرة فيض إلهي قبل أن يختفي .. كان عبد الله الكاشف يتحسس الصمت ويتنفسه ! .. يعاني الوحدة والسأم والفراغ، فيشغل وقته بالقراءة والصلاة، ويجلس إلى المقهى ، لكن هذا كله لم يمنع القلق الذي يستبد به وخشيته أن يموت دون أن يشعر به أحد ! وجسّم له الوهم صوتا آتيا من النافذة .. " أقنع نفسه بأنه نبش قطة في الزبالة. أصاخ السمع، فرجح أنها عضعضة كلب في قطعة عظم. ثم خمن أنها هبة هواء مفاجئة. ثم خاف أن يكون الصوت من خدع الشيطان " (7) . يتصاعد إحساسه بالخوف في صور سريعة متلاحقة " نبش قطة في الزبالة / عضعضة كلب في قطعة عظم / هبة هواء مفاجئة / صوت من خدع الشيطان .. هذه الصور السريعة تعكس النبض السريع لقلبه المرتجف والتخيل السريع لهيئة الصوت .. إنها الوحدة المستبدة التي تقلبه من حال إلى حال .
    ثمة شيء في داخله يخوفه ، يتوقع ما لا يتخيله، ولا قبل له على مواجهته "(8 ) .. وحدة تؤدي إلى الخوف ، والخوف يؤدي إلى تصور أشياء لا وجود لها. يهرب من البيت إلى الشارع.. يلجأ إلى الله، حيث طمأنينة النفس بالبسملة واستدعاء الآيات المنجيات وأسماء الله الحسنى. زوّج أختيه نبيلة وعلية . تزوجت نبيلة زميلاً له في الحقانية . وتزوجت علية جار الطابق الثاني ، وحين أحيل إلى المعاش، اصطحب علية وعاشا في قريته تاركين الكاشف في وحدته، فبدت الشقة قبرا. اقترحت أخته علية أن يعيش في قريتهم ( بركة غطاس )، لكنه تعلل بأنه لا يعرف أحدا فيها ! واقترحت علية ـ أيضا ـ أن يتزوج صديقتها إقبال .ولم يظهر حماسا للفكرة .
    يهرب من كل هذا وينضم إلى الحزب . ويشدنا الكاتب إلى الوضع السياسي في مصر في تلك الفترة. شارك الكاشف في الدعاية الانتخابية لجمال كاتو مرشح الوفد. وبعد نجاحه، عاد الكاشف إلى وحدته. وقد أفاد من الدعاية حيث تعرف على حي بحري وازداد قربا منه. ولما سأله صديقه إبراهيم سيف النصر : لماذا لم تتزوج ؟ أرجع ذلك إلى القسمة والنصيب. وقد انتقل الجو الروائي من اهتمام بالكاشف وغيره من الشخوص إلى نقل الحالة السياسية للبلاد، وسخر نماذجه البشرية وسيلة يتعرف منها القارئ على التقلبات السياسية التي مرت بها مصر في تلك الفترة. وأقحم الكاشف للاشتراك في المظاهرات ، وجرح من ضربة قايش ، فتورمت جبهته. وفي نهاية الرواية يعلن الكاشف عن رغبته في أن يعيش في قريته بركة غطاس.
    سلط الكاتب الأضواء على جابر برغوت، راسما أبعاد شخصيته، التي تعتبر امتدادا طبيعيا لشخصية علي الراكشي. وقد تأثر كثيرا لوفاته واعتبره وليا.. ولو أمدّ الله في عمره لأصبح قطب غوث، وأستاذا وشيخا يهتدي به (9) . يتحدث الكاتب بإفاضة عن جابر برغوت، الذي " هجر الخدمة في جامع ياقوت العرش، وحمل قربة ماء يطوف بها شوارع الحي. يروي منها العطشى ظمأهم. قبل الصدقة، وإن لم يطلبها " (10) .. ألزم نفسه بالمجاهدة، وسعى للقاء سيدي الأنفوشي ـ كما أمره ياقوت العرش ـ ولم يحاول مخاطبة ساكن الضريح. أجهد نفسه لاستحضار صورة الأنفوشي الذي لم يره. زاره في المنام، ودعاه إلى إعلان ولايته على ( بحري ) ، الذي حماه من (الشوطة ) .. لزم جابر جدار الضريح بمدرسة البوصيري .. " حتى الأولاد الذين كانوا ضايقوا علي الراكشي بتصرفاتهم، لم يكرروا ما فعلوا مع جابر برغوت. ربما لتذكر الجميع خطأ التصرف مع ولي الله الراكشي" (11). ثم ينقطع اتصالنا بجابر برغوت حتى سطور الختام ، حيث ينزع جلبابه، فبدت ثيابه الداخلية متهرئة ومثقوبة. وحين طلب منه سيف النصر أن يستر نفسه، قال : " استروا أنفسكم أولا ، أو يحل عليكم غضب سيدي الأنفوشي ! .. " (12) .
    يتتبع الكاتب تطور شخصية أنسية، التقي بها الكاشف مصادفة فسألها : " لماذا لا تعودين للخدمة عندي ؟ " وكانت قد ارتضت الخدمة في بيته لقاء أجر، لكنها لم تعد تخدم الآن في البيوت. عانت من آلام الحمل والإجهاض المتكرر. تتمنى أن تلد ذكرا. لكن الأمنية مجرد ارتعاشة حلم منطفئ ‍‍‍‍.. طمأنها الطبيب .. ثمة علاج لحالتها .. ولبّى سيد كل طلباتها ، وقام بكل الأعمال . تحاشت الاختلاط بجاراتها منذ صدمتها إحداهن وذكرتها بماضيها . لجأت إلى الحجاب والتعويذة، ونذرت القيام بتسحير الناس في شوارع ( بحري )، إذا منّ الله عليها بولد . حين ترددت على بيت الكاشف تنظفه، باحت له بتأخر الإنجاب ، فعرض عليها إجراء تحاليل هي وزوجها. وأن يقرأ سيد بردة البوصيري على رأسها، فأفهمته أنه يفك الخط بالكاد. فكتب لها على ورقة تكون حجابا لها. وصف الكاتب ارتعاشة الحلم المنطفئ في نفسها التواقة إلى الخلاص، واتسم الوصف ببلاغة آسرة، تجعل القارئ يرق لها ويتعاطف معها : " تحيا بالأمل منذ يعلق الجنين في الرحم. شحذت الطفل من الله تعالى. نذرت إن ولد الجنين في موعده، وعاش، تشحذ له من المصلين على باب المرسي أو ياقوت العرش " (13) .
    من الأحداث الهامة، والفواجع والمآسي التي زخرت بها رواية ( البوصيري ) نذكر :
    1ـ إحالة عبد الله الكاشف إلى المعاش.. ومعاناته من الوحدة والإحساس الحاد بدنو الموت.
    2 ـ تمرد محمد ابن الراكشي. يريد أن يصبح فتوة، ويتحلل من شخصية أبيه المتواكلة. وأبوه مات ولم يترك لهم ما يحيون به.
    3 ـ نكوص حمادة بك عن ترشيح نفسه في الانتخابات، بسبب فوات وقت الترشيح، بسبب جريه وراء امرأة أغوته !
    4 ـ شكوك حول حقيقة الأنفوشي .
    5 ـ أحداث العنف السياسي : اغتيال النقراشي، وحسن البنا، ومحاولة اغتيال النحاس.
    6 ـ الحكم بإعدام أدهم أبو حمد لاتهامه بقتل عسكري إنجليزي، فظل مختفيا حتى توقيع اتفاقية الاستقلال.
    7 ـ معاناة أنسية في انتظار الفرج. تأخر الإنجاب فتزايد القلق النفسي.
    8 ـ تخلص يوسف بدوي من لحيته، وتركه الإمامة لمن يعينه وقته، على حد قوله !
    وتحول يوسف بدوي المفاجئ ، يجعلنا نقف على تفاهة الشخصية أو استبدادها دون مدلول إيماني أو منظور فكري. ورغم أنه لا غرابة في أن يمارس المرء حياته العادية، إلا أننا نندهش من تحول الشخصية التي استبدت بالآخرين، ولما شاء لها الهوى التحلل والتحرر من إسار فكري معين، فعلت ذلك دون حرج !
    9 ـ حريق القاهرة في يناير 1952 ، وهو حدث تاريخي مرت به مصر.
    10 ـ استشهاد ممدوح ابن إبراهيم سيف النصر، ضمن من استشهد من الفدائيين في السويس.
    في ( البوصيري ) أفسح الكاتب المجال للأحداث السياسية التي توالت وتصاعدت قبيل قيام الثورة. وواضح اهتمام الكاتب بتسجيل وقائع الأحداث كعناوين الصحف، وإن نطقت بها شخوص الرواية الأساسية أو الثانوية على حد سواء. وتفاعل البناء الروائي مع الحدث السياسي كان تفاعلا هامشيا لم يثرِ الخط الدرامي، فقد جاء في صيغة خبرية لإعلام القارئ !
    غلب على أسلوب الكاتب الطابع التسجيلي للواقع السياسي، الذي كان إرهاصا وإيذانا بقيام الثورة. لعله قصد هذا لأهمية المرحلة التاريخية في حياة ووجدان المواطن المصري. وقد عمد إلى الأسلوب الصحفي في تلخيص الأحداث بصيغ خبرية تركز على العموميات وتدع التفاصيل والجزئيات. يكتفي بالإيجاز حتى يمكنه حشد هذا الكم الهائل من الأحداث، وإن كان القارئ لا يستطيع استيعاب كل الأحداث، ما لم يكن ملما بها، مثل ذكره لكفر أحمد عبده، وأم صابر، عمر شاهين، والبريجادير أكسهام ..
    ونجد تفاعل أبطال الرواية مع الأحداث السياسية منحصرا في الانتخابات التي تهمهم، على مستوى الدائرة الانتخابية. ونجد اهتمام عبد الله الكاشف بالانتخابات، وإن كان الاهتمام نابعا أساسا من حياة الوحدة المستبدة، هو لم يهتم بالجلوس إلى المقهى أو المشاركة الانتخابية إلا بعد إحالته إلى التقاعد، وقبل ذلك لم ينشغل بشيء غير عمله وتزويج أختيه.. حتى أنه لا يعرف حي ( بحري ) الذي يعيش فيه كأنه ليس من ( بحري ) !
    ونجد علاقة بحري بالأحداث تتمثل في استشهاد ابن إبراهيم سيف النصر. كان ممدوح فدائيا يشارك في مواجهة الإنجليز في خط القنال ، أنيطت له مهمة في السويس. تلقى الأب نبأ استشهاده برباطة جأش.. " سافر إلى منطقة القناة، وترك ورقة يعتذر فيها، ويطلب الدعوات. مات في منطقة وابور المياه. معركة بين الأهالي وقوات الإنجليز، شارك فيها كتائب الفدائيين. استشهد خمسة فدائيين، وكان ممدوح واحدا منهم .. " (14) .
    الهوامش :
    1-محمد جبريل : البوصيري.
    2-المصدر السابق ـ ص 58.
    3-المصدر السابق ـ ص 54.
    4-المصدر السابق ـ ص 56.
    5-المصدر السابق ـ ص 19.
    6-المصدر السابق ـ ص 52.
    7-المصدر السابق ـ ص 172.
    8-المصدر السابق ـ ص 173.
    9-المصدر السابق ـ فصل ( مسافر بلا زاد ).
    10-المصدر السابق ـ ص 134.
    11-المصدر السابق ـ ص 157.
    12-المصدر السابق ـ ص 282.
    13-المصدر السابق ـ ص 92.
    14-المصدر السابق ـ ص 262.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل التاسع من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    ..................................................

    علي تمراز
    ..............

    في الجزء الرابع لا يحدثنا كثيرًا عن تفاصيل حياة علي تمراز. وهو ولي آخر يلجأ إليه الناس في الشدائد والملمات. وإن لجأ إليه جابر برغوت لعله يجد عنده البشارة، لكن " علي تمراز مجذوب بدا منه ما يشبه الكرامات في وقت حسن باشا الإسكندراني ، فأمر بإنشاء هذا الجامع باسمه " ( 1 ). وقال عنه الشيخ عبد الحفيظ وهو إمام المسجد: " علي تمراز لم يكن وليا .. إنه مجذوب أخلص في محبة الله " .
    ولعل جابر برغوت هو الشخصية الرئيسية في ( علي تمراز )، الذي ألف الناس رؤيته أمام مدرسة البوصيري لصق الضريح. يروى عنه أنه مُجاب الدعوة، يطوف بالمبخرة يبسمل ويحوقل.. " انسلخ من حوله وقوته، لبسه سيدي الأنفوشي. ظهر له في المنام، وأنبأه أنه سيركبه كما يركب الجواد. يتكلم باسمه، وينطق كلماته " ( 2 ). وأصبحت لجابر كرامات وشطحات وخوارق !.. يلجأ إليه الصيادون في شدائد البحر ومضايق البر وتتسلل إليه الحوامل ليضع يده على بطونهن، فيعرفن منه إن كان ما يحملنه ذكرًا أم أنثى. وتتردد أوصاف ذات دلالات صوفية ، كما هي عادة الكاتب كلما يمم وجهه شطر الصوفية ، يقول عن جابر : " يعاني الإحساس بالحنين والذبول والإحباط والعجز والغربة والوحشة والهزيمة والاضطهاد والقهر والجدب " ( 3 ) . وتتراكم مثل هذه الصفات لترسم صورة للغارق في الاتجاه الصوفي، ويعزله عن دنياه.. وقد فاجأ برغوت الناس يومًا بعصا ينهال بها قائلا : كيف ستواجهون عذاب يوم عظيم ؟! ينسلخ عن دنياه، يقول عن نفسه : " أعوذ بالله أن أدّعي الولاية .. أنا خادم الأولياء ! " ( 4 ) . وهو يسير على درب الصوفية منذ ظهر له ياقوت العرش وأمره واختفى .وأتاه هاتف بأنه ربما يجد البشارة في علي تمراز، فأكثر التردد على الجامع. وطالت جلسات برغوت بجوار مقام علي تمراز، ولوحظ أن المكان الذي يجلس فيه يظل مضاء حتى الصباح ! واعتبر ظهور قناديل البحر نذيرًا بيوم القيامة.. ويسترسل الكاتب في الإفاضة عن حالة الوجد التي يمر بها جابر برغوت، وطاعته للأولياء، وإن لم يذق ما ذاقوه، ولا عرف ما عرفوه. وانتظر جابر ظهور ولي الله الأنفوشي . ثم يفاجئنا الكاتب في نهاية الرباعية ، وبعد قيام الثورة، بسفر جابر برغوت إلى القاهرة، تاركًا ( بحري ) بناسه ومقامات أوليائه، وإن كنا لا نجزم بأن ثمة علاقة بين قيام الثورة وسفره المفاجئ .. إلا أن طبيعة جابر قلقة لا تستقر على حال.. فقد انتقل من كونه مريدًا للأنفوشي، ليكون مريدًا لعلي تمراز.. كما أنه لازم منطقة ( بحري ) زمنًا طويلا لا يغادرها، وفجأة تركها إلى القاهرة .. هي النفس القلقة التي لا تجد نفسها في الاستقرار في مكان واحد. فجابر برغوت ذو طبيعة متمردة على المكان بمعناه الحرفي والرمزي . ولا يحمل ذكريات لمكان أو مقام، إنه نفس ثائرة متمردة لا تهدأ ولا تستقر على حال .
    ولم يزل كاتبنا يتتبع أنسية، وهي شخصية رئيسية في الأجزاء الأربعة. يتتبع عذابها، بتكرار الحَمْل والإجهاض، " داخت من اللف على الحكيمات والمستشفيات والمشايخ والمقامات والأضرحة " ( 5 ).. تؤلمها تعليقات النساء. طلب منها الطبيب إجراء تحاليل لها ولزوجها. انتقلت هي وسيد للعيش في شقة بالبلقطرية، وأبطل سيد شُرب الكِيف. وسلمت نفسها لما يطلبه ( الأسياد ) منها ، ورضخ سيد لهم ، من أجل أن تكمل حَمْلها وتضع طفلا ! يوجعنا الكاتب وجعًا شديدًا على حال أنسية. نتمثلها سيزيف عصرها . كان سيزيف الأسطوري يرتقي الجبل بحجر ضخم، فيسقط منه إلى السفح، فيعاود الكرة، وتتكرر الخيبات، مرة بعد مرة.." حكمت عليه آلهة الإغريق بأن يظل إلى الأبد وهو يدفع بحجر ضخم إلى قمة الجبل. وفي كل مرة كان يبلغ فيها القمة بحِمْلِه الثقيل كان هذا الحِمْل ينزلق منحدرًا إلى أسفل الجبل مرة أخرى. ويقال إن غاراته المتكررة على البلاد المجاورة نهبا وسلبا حتى لقد كان يكدس الأحجار فوق من يُنكل بهم ليموتوا شرّ ميتة بعد عذاب أليم، هذا كله كان السبب في الحكم عليه بتلك العقوبة الشديدة " ( 6 ).. هكذا أنزل الكاتب عقوبته على أنسية التي باعت جسدها ، قد عاقبت الآلهة سيزيف ـ في عُرف الأسطورة ـ بأن جعلته ينوء ويشقى بـ ( حِمْل ) الحجر، وجعل الكاتب أنسية تشقى وتتعذب بـ ( حَمْلٍ ) لا يثمر . . تظهر عليها دلائل الحَمْل، ثم يسقط في كل مرة.. تكرر الحَمْل والسقوط كثيرا، وحق عليها القول بأنها " امرأة متعوقة، وهي عندها السقط. الجنين لا يستقر في أحشائها، وينزل قبل موعده، وهي مصارينها ناشفة، وهي امرأة جلد، وهي مدكّرة، وهي كالبيت الوقف، كالأرض البور، كالنحلة الذكر، كالشجرة التي بلا ثمار، كالشيخ المقطوع نذره !.. " ( 7 ) . يكثف الكاتب وصف حال أنسية، بحيث تكاد لا تجد وصفًا آخر لم يذكره الكاتب.. فهو يلوذ بكل تشبيه ومثال.. تستجدي عطف الطبيب الذي حار في حالتها، وأحالها إلى أنه ربما أصيب زوجها بزهري، فتسقط الحال عليها، تحت وطأة عقدة الذنب التي تزاملها وتلازمها. يكاد ينفد صبر سيد، تتغير تصرفاته معها.. وحين تتأثر، يسترضيها، لكن القلق لازمها من احتمال تطليق سيد لها . ووافق سيد على اجراء تحاليل .. ثمة " أمل يحيا داخلها، ملامحه شاحبة، ولا صوت له، لكنه قائم، يشاركها أنفاسها .. " ( 8 ) . ونصحها الطبيب بأن تسترد عافيتها سنتين أو ثلاثا. زار سيد الشيخ كراوية فأخبره أن رحم زوجته مغلق ولا يجدي معها علاج طبيب، أما الشيخ عبد الحفيظ فأرجع الحالة إلى إرادة الله، وأوصاه أمين عزب بالصبر. قال له صابر الشبلنجي : " أحلّ الله الزواج من ثانية .. وأحلّ الطلاق " ( 9 ). فيجيبه : " أنسية بنت حلال .. الطلاق مستحيل .. زواجي عليها يقهرها " .. وبطريقة ( الفلاش باك back flash ) أو ( تداعي الصور ) يسترجع علاقته بها .. حبها له، وحبه لها .. وأشياء كثيرة لا ينساها .. من المستحيل أن تحل امرأة أخرى مكانها. وتلوذ أنسية بمقام علي تمراز. اقتربت من الشيخ جابر برغوت الجالس لصق المقام .. للشيخ سره الباتع.. اقتصّ لها سيدي أبو العباس من الظلم ، ووهبها سيدي ياقوت العرش ما بدا في حياتها مستحيلا .. الله لن ينساها .. وفي نوبة يأس، لجأت أنسية إلى البيت المهجور، وجامعت الشيخ حماد، في إشارة يائسة لحالها المزرية، ومضت نحو البلقطرية !!
    وثمة شخصية تتألق في حبها للبحر، منذ عرفناها في الأجزاء السابقة، هي شخصية مختار زعبلة، الذي قاد ( لانش ) حمادة بك، فلاقى سمكة كأنها جن بحر، ورأى أنها كالوحش يترصد له فقاومها وقاتلها بسكين، إلا أنه أصيب . لجأ إلى الجد السخاوي الذي نبّهه إلى سقوط سمكة في حلق صاوي رزق فمات ! واستغرب سيد الفران لجوءه إليه يسأل عن أدوات الصيد، فعتب عليه، فحياته مع الصيادين وقهوته اسمها البحر ! وسعى لامتلاك بلانس فصنعه عند نجار. وعرض على محمد الراكشي أن يعمل معه التماسا لبركة أبيه فرفض . والتقى بثروت. عرض عليه العودة إلى البحر رئيسا للبلانس الذي يملكه، إلا أنه تشبث بقراره بالبعد عن البحر . فأوكل مختار أمر البلانس إلى قاسم الغرياني إلا أن البلانس ينفجر ويتحطم فيضيع أمل مختار زعبلة في ركوب البحر !
    والجد السخاوي إنسان بسيط يستلفت نظرك منذ السطور الأولى للرباعية. رامزا للحنكة والحكمة، والصوت المعبر عن آلام وآمال الصيادين. لم يتعرض لحياته الشخصية إلا في الفصول الأخيرة، وحرص على أن يصحبنا عبر أحداث الرواية، ناصحا أمينا لزملاء مهنته، ولا يضيره أن يكون الرجل الثاني أو ( السكوندو ) ـ على حد تعبيره ـ .. وفي الجزء الأخير ( علي تمراز ) يفجعنا في موته ، بعد أن حببنا إليه ، بعد أن اقتربنا منه وعقدنا صلة حميمة مع هذا الرجل البسيط . قد يكون الجد السخاوي صوتا للضمير اليقظ ، معبرا عن العقل الجمعي للصيادين . ومن المدهش والرائع في آن أن يمتثل الصيادون لآرائه ولا يناقشونه كثيرا ، أو يضجرونه بتعليقاتهم، أي أن الصلة الحميمة التي عقدها القارئ معه، هي نتاج صلة حميمة انعقدت بين الرجل وزملائه الصيادين. وقد سماه الكاتب ( الجد السخاوي ) ، و ( الجد ) تشي بالاحترام والثقة والسنين الطويلة والعمر المديد. وإن كنا لا نعلم ما إذا كان اسم ( السخاوي ) لشخصية واقعية عرفها الكاتب في ( بحري ) وإن كنا لا نستبعد ذلك، وإن كان الدليل يعوزنا.
    ويظهر الجد السخاوي في لقطات معينة. فحين يلجأ إليه مختار زعبلة، أعطاه دروسا في صيد السمك، وروى له ما حدث لصاوي رزق، إذ سقطت سمكة في حلقه فمات ! ( 10) . وفاجأ الجد السخاوي رواد قهوة البحر، بدخوله وجلوسه. ولما سألوه عن نقوده، قال أن كفنه أولى بها ! رويت حكايات عن صداقته لأهل الباطن الذين يلبون طلباته منذ وفاة زوجته ! قال لرواد المقهى أنه سيموت بعد أيام قليلة ! واختار قاسم الغرياني لقيادة البلانس بدلا منه .. " أنت الريّس وأنا السكوندو في الرحلة القادمة " ( 11 ). ونقرأ عن تدهور صحته لتقدمه في السن، وأحزانه بعد وفاة زوجته .. وطلب من كل منهم أن يعطيه وصيته أو رسالته يحملها معه للموتى !! وعقب على قفشاتهم قائلا : " عندما أحس مختار زعبلة بنهايته، نزل البحر . ومات فيه ! " ( 12 ) .
    أخيرا، مات الجد السخاوي . وقبل أن نتلقى نبأ موته ـ في فصل ( الدخول في دائرة النور ) ـ مهّد الكاتب بإشارة رامزة من عم رجب حين لمح سمكة ثعبان المارينا ذي الأسنان الحادة، فخشي مواجهة خطر الموت، فألقاها في البحر تخلصا منها، وأقفل راجعا، فصدمه حمودة هلول بنبأ موت السخاوي.. وكان قد " ألف وجود الجد السخاوي في حياته، مثلما ألف طلوع الشمس والقمر، ووجود البحر، وأضرحة الأولياء، وتوالي النوّات " ( 13 ) .. وكان الرجال يستغربون العمر الذي طال به .. كان " يعرف التيارات البحرية، وأماكن الصيد، وترقعات الرياح، والنوّات، والأمواج، والمد والجزر .. " ( 14 ) .. مشى في جنازته خلق يبكون ويدعون، رجالا ونساء .. كأنه والد الجميع .. وقبيل موته، تذكر زوجته ( هنية ) التي سبقته إلى الدار الآخرة .. وأصابته حمى، ورأى عرائس البحر يراقصن جمعة العدوي وسباعي سويلم والمليجي عطية وحودة التيتي ، ورأى البهاء إسماعيل سعفان.. وفي يوم الجنازة " لم يركب الرجال البحر، ومضى اليوم في الحلقة بلا بيع ولا شراء، واختفى الفريشة والعربات من الساحة المقابلة. وأغلقت دكاكين وقهاوي السيالة أبوابها، وانصرف المصلون في الجوامع إلى تلاوة القرآن " ( 15 ).
    وهي الجنازة الأسطورية الثانية بعد جنازة علي الراكشي.. والاثنان عرف الناس صلاحهما واستقامتهما. فالراكشي انصرف عن متاع الدنيا وملذاتها واتجه إلى التصوف، والثاني عرك الحياة وخبرها وأخلص النصح والقول السديد . ولعل انخراط الناس في الحزن على فقدهما كان فعلا إراديا ذاتيا لم يفرضه أحد، وفي المقابل نجد أحداث قيام ثورة يوليو 1952، وإرهاصات ما قبل الثورة ، أمورا تتعلق بمصير الوطن ، إلا أن مثل هذه الأمور لم ينفعل بها رجل الشارع كثيرا، وإن كانت مثار تعليقات من رواد مقهى مهدي اللبان. فالتأثر بالأحداث السياسية كان تأثرا سطحيا، أو هو تأثر من الخارج، بمعنى أن ناس ( بحري ) في الرباعية لم يلتحموا مع آمال الثورة وتطلعاتها إلى تغيير أنماط الحياة المصرية .. وصورهم الكاتب متفرجون على الأحداث كأنهم يشاهدون مسلسلا تليفزيونيا ، ويتابعون أحداثه. وإن نما الخط الدرامي السياسي بعض الشيء باستشهاد ممدوح ابن ابراهيم سيف النصر ، وكان ضمن الفدائيين الذين قاوموا الإنجليز في خط القناة . وقتل أدهم أبو حمد لعسكري إنجليزي فحكم عليه بالإعدام فهرب . وترشيح حمادة بك نفسه لانتخابات مجلس النواب ، وإن صوره الكاتب في صورة هزلية، منغمسا في فضائحه الجنسية، واشتراك عبد الله الكاشف في الانتخابات والدعاية لمرشح الوفد. واتهام أمين عزب ـ بعد حريق القاهرة ـ أنه يؤوي الفدائيين في بيته، فاعتقلوه وسجنوه، ولم يُكتشف الخطأ إلا بعد ثلاثة أشهر، فأفرجوا عنه ! وما عدا ذلك، بدا أهل ( بحري ) مجرد عينٍ راصدة للأحداث السياسية .
    وثمة شخصية أخرى تأسرنا ، ولم تظهر بوضوح إلا في الجزء الرابع. هي شخصية حمدي رخا .. ذلك الشارد العازف عن لغو الأحاديث، منشغلا بعالم مثالي يتوق إليه.ورخا من رواد المقهى وإن لم يشارك في الأحاديث مع أحد وعرف عنه شروده وصمته، وإن تكلم فقليل من الكلمات، مكتفيا بتأمل المرئيات من حوله، وتأمل أحوال الناس . وتجتذبه عوالم يصوّرها لنفسه، أو هي عوالم من بنات أفكاره. يدخل محارة صمته، لا يحادث أحدا عن الأماكن التي تردد عليها ! وفي فصل ( انتقال إلى الأسمى ) ، حديث عن الجزيرة وطلاسمها، وتوقه للوصول إليها . وفي قاع البحر أسرار لا يفهمها البشر ! وطفق يجدف بمجدافين ، في محاولة ـ خيالية ! ـ للوصول إلى التقاء زرقة السماء بزرقة البحر ! يمر حمدي رخا بلحظات تأمل يستغرق فيها، فيتصور مياه البحر ميادين وشوارع وبيوتا وحدائق، وإن اختلف ناس المدينة الخيالية عن ناس الإسكندرية. ويترك نفسه للحظات هادئة.ز ولاحظ جلساء المقهى شروده، وتعلق ذهنه بالسحر المليئة به حواديت جدته وأمه، وعوالم غريبة عن أخت لا تفارقه ! وأحاديث الأب عن عفاريت القيالة التي تظهر في صورة البشر العاديين ! وعثوره على خاتم ـ قد يكون خاتم سليمان ـ تحت زعنفة سمكة ، فأخفى أمر الخاتم عن زوجته فايزة، وتطلع إلى مدينته الجميلة الحالمة التي يتخيلها كأنها ( يوتوبيا ) من طراز فريد ، غير مدينة أفلاطون الفاضلة ! .ز والمدينة ذات صلة بالإسكندرية. ناس المدينة ليسوا حزبا سياسيا ولا جماعة دينية أو اجتماعية، وإنما هم صفوة : إبراهيم سيف النصر وعبد الله الكاشف والشيخ قرشي ونجيب المهدي والشيخ أحمد أبو دومة وفهمي الأشقر وأدهم أبو حمد وزكي بشارة. ولما شفت الظلمة ، بدت الجزيرة المدينة، أرضا ممتدة فوقها بنايات وحدائق وجوامع وميادين وشوارع.. وبنى جسرا يصل بين شاطئ الميناء الشرقية والجزيرة.. وسرح به الخيال ليرى عبد الله الكاشف ، يحيا في هذه الجزيرة مطمئن الخاطر، فلا ينزل إلى الإسكندرية ولا يعود إلى قريته.. وطفق يوزع ـ في الخيال ـ المناصب على جماعته الصفوة، بما يكفل انتظام الحياة في الجزيرة. ثم يردنا إلى الواقع، حيث لم يتحقق الحلم، وإن ظل هاجسا يشغل النفس ‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍.. فيلقي بالخاتم في البحر.. في فصل ( الاستغراق )، يتغير مستوى الخطاب، فيتوجه الكاتب بخطابه إلى حمدي رخا، وهو مستوى بلاغي يختلف عن سواه من الفصول. وهي طريقة يرتقي بها الكاتب خيال الشخصية الميتافيزيقي البعيد عن الواقع، فحمدي رخا حالم بطبعه ميال إلى التأمل، ينسج في خياله مدينة مثالية، تختلف عن سواها من مدن الواقع. كما أنه لم يُشر إلى اسم الشخصية ( حمدي رخا ) ، وإنما عمد إلى إغفاله، وهي عادة الكاتب فيس العديد من الشخصيات الرئيسية ، وفي الوقت نفسه، لا يرى مثلبة في ذكر أسماء ثانوية ليست فاعلة في الأحداث ‍ .. ويضطر القارئ إلى أن يراجع الفصول التي قرأها ، حتى يصل إلى فصل ( الطيران بجناح الهمة ) ، حيث ذكر فيه الاسم صراحة، وبتلك المراجعة من القارئ يستطيع أن يصل ما ذكره فيه عن حمدي رخا بما كتبه في هذا الفصل عهه . وقد تبدو المراجعة عملية شاقة وسط زحام شخصيات الرواية وتعدد الاهتمامات، وقد تبدو كشفا يعتمد على البحث والتركيز . وقد اهتم حمدي رخا بقيام ثورة يوليو 1952، فبدأ يشارك رواد المقهى في الحديث عن الثورة ، وتخلى عن شروده . و لم يظهر رخا بصورة ملموسة إلا في الفصول الأخيرة من الرباعية ، كأنه المبشر بتحقيق الحلم، لكن الشخصية إذا حرص الكاتب على جعلها رئيسية من بداية الرباعية لكان ذلك أوقع و أبلغ في الدلالة ، ولا يقتصر على مصاحبة القارئ لشخصيتي الجد السخاوي وأنسية .
    ومن الأحداث الفاجعة والمواقف المصيرية في ( علي تمراز )، نذكر :
    1 ـ شارك وزير الأوقاف في وضع تقرير مع نقيب الأشراف يبرهن فيه كذبا نسب الملك فاروق إلى سلالة الرسول، رغم أن الملكة نازلي هي حفيدة سليمان باشا الفرنساوي ! ( 16 ) .
    2 ـ اكتشاف فضيحة حمادة بك في حمام الأنفوشي .
    3 ـ غرق طه ملوخية نتيجة خطأ في استعمال جهاز الغوص (سكوبا).
    4 ـ موت هشام ، الذي كان يحب مهجة ويريد الزواج منها لولا فرية طه مسعود الذي ادّعى أنهما أخوان في الرضاعة .
    5 ـ ذكر ما جرى لصاوي رزق، إذ سقطت سمكة في حلقه فمات !
    7 ـ ذكر غرق فتحي عبد ربه، حين طلع من المياه بسرعة، مما أضاع توازن الدم !
    8 ـ فتونة حنفي قابيل.
    9 ـ اعتقال أمين عزب بتهمة إيواء الفدائيين في بيته، فقضى في السجن ثلاثة أشهر !
    10 ـ القاء القبض على فؤاد أبو شنب بالمخدرات داخل الجامع !
    11 ـ ظهور قناديل البحر .
    12 ـ موت الجد السخاوي .
    13 ـ قيام ثورة يوليو 1952

    الهوامش :
    (1) علي تمراز ـ ص 69
    (2) المصدر السابق ـ ص 21
    (3) المصدر السابق ـ ص 22
    (4) المصدر السابق ـ ص 58
    (5) المصدر السابق ـ ص 7
    (6) د. ثروت عكاشة : المعجم الموسوعي للمصظلحات الثقافية ـ الشركة المصرية العالمية للنشر ( لونجمان ) ، و مكتبة لبنان ـ ط 1 عام 1990 ـ ص 435
    (7) علي تمراز ـ ص 131
    (8 ) المصدر السابق ـ ص 147
    (9) المصدر السابق ـ ص 212
    (10) المصدر السابق ـ فصل ( التذوق .. للمعرفة )
    (11) المصدر السابق ـ ص 193
    (12) المصدر السابق ـ ص 196
    (13)، (14) المصدر السابق ـ ص 225
    (15) المصدر السابق ـ ص 228
    (16) المصدر السابق ـ ص 18
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل العاشر من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .............................................

    تضمين الموروث الصوفي في رباعية بحري
    ....................................

    يغوص الكاتب في أفكار رجال التصوف الإسلامي، وعلى رأسهم أبي الحسن الشاذلي والمرسي أبي العباس وابن عطاء الله السكندري وياقوت العرش والبوصيري وغيرهم من الأقطاب .. هؤلاء الأعلام هم المناخ الذي تأثر به أهل ( بحري ) وشكل فكرهم وتدينهم. فأولياء الله الصالحون يؤثرون في نفوس الناس. بما يحيطهم من هالات النور ونفحات الإيمان. يدلّون الناس على الطريق القويم، من خلال سيرتهم وتجردهم من الأهواء والميول الدنيوية، فيمثلون في الخاطر صوتا للضمير الحي اليقظ.. ينتفع الناس بعلمهم ويعجبون بسلوكهم الحافظ لتعاليم الله وسنة نبيه  . إنهم يدخلون في نسيج الرواية ويصيرون مكونًا أساسيًّا له. الاتجاه إلى التصوف له مبرراته، نتعرف عليها من خلال تساؤلات عبد الله الكاشف ـ وهو من المهتمين بالبوصيري وبردته ـ : " هل كان افتقاد العدل هو الدافع للتصوف ؟ .. وهل كان تصوف الناس رفضا للواقع أم فرارا منه ؟ " ( 1 ) .
    ويجمل بنا أن نعطي إلمامًا سريعًا لنشأة الصوفية وأهم أفكارها، حتى يتهيأ القارئ لمتابعة التحليل النقدي للنص الأدبي، هذا النص المرتبط أشد الارتباط بالاتجاه الصوفي.
    يقول الدكتور ثروت عكاشة في معجمه : " وكانت غاية المتصوفة هي السعي إلى صفاء الروح لتسمو إلى معرفة الذات العليا وما تتصف به من وحدانية وجلال وقدرة. والطريق إلى هذه المعرفة يجئ إما عن طريق الاستدلال والاستبصار، وهو سبيل العلماء، وإما عن طريق الفيض الإلهي وهو ما يسمى بالعلم اللدُني.
    ولهذا لم يعدّ المتصوفة أنفسهم بتحصيل العلم وتتبع الحجج والأدلة، بل ذهبوا إلى أن بلوغ تلك الدرجة يكون بمجاهدة النفس وقطع الصلة بين النفس والوجود ومتاع الدنيا وملاذها. فسبيل المتصوف إلى بلوغ الغاية المنشودة يكمن في تطهير النفس من أدرانها وتطلعها ( للتللي الإلهي ) " ( 2 ) .
    وقد تأثر المسلمون ـ بعد اتصال العرب ـ بشعوب أخرى ذات معتقدات دينية مغايرة، لها نزعات صوفية "كرهبانية نصارى الشام وفيدا الهنود وزردشتية الفرس ونظرية ( الفيض الإلهي ) في الأفلاطونية الحديثة " (3).. ثم أصبحت " فلسفة روحية أخذت تسمو إلى استكناه الذات الإلهية غدت في تأويلهم المنبع الأول الذي يفيض على الوجود أجمع "( 4 ).. وبعد تأثر العالم الإسلامي بالفلسفة اليونانية منذ القرن الرابع الهجري، شملت مصطلحات لما وراء الطبيعة مستقاة في الغالب من فكر أرسطو وأفلاطون. وقد لخص ثروت عكاشة فكرة التصوف في خصائص ثلاث : الإسناد الذي يزعمون أنه يصل أنساب شيوخهم بالنسب النبوي الشريف. والثانية هي الأبدال، بمعنى أن الوجود لا يخلو من أولياء. والثالثة هي الرخصة ، حيث يرخصون لأنفسهم ما لا يرخصونه لغيرهم من تحليل بعض المحظورات .. و " كل مريد مرهون بما يبذل من مجاهدة للنفس " .. و " يرقى المريد بمجاهدته مراقي يطلق عليها المتصوفة المقامات أو المنازل أو الأحوال " ( 5 ) .
    لعل أبرز ملامح الرباعية، اهتمامها بالموروث الديني المتمثل في أولياء الله الصالحين، وأثر الأولياء في حياة الناس من أبناء منطقة ( بحري ) السكندرية. يعيش في هذا الحي الشعبي البسطاء وقلة من الأغنياء، من شيوخ الصيادين والتجار. لكن الأثر الديني يبسط سلطانه على الجميع ، بنسب متفاوتة. وقد عمد الكاتب إلى تصدير بعض فصول الرباعية بأقوال الأولياء، إذا كان الأثر الديني طاغيًا على موضوع هذه الفصول. وهي سمة تتميز بها الرواية، ذلك أن الكاتب شاء أن يخلط بين أقوال الأولياء الصالحين وأفعالهم، ليضيف بعدًا آخر، يتمثل في استحضار هؤلاء الصالحين، ليكونوا شخصيات مكملة للعمل الروائي، وهم أصلا في حالة حضور في نفوس شخوص الرواية، كبيرهم وصغيرهم، على السواء. يكاد الأولياء يستنفرونهم إلى العمل الصالح . مثلما ظهر السلطان أبو العباس للناس، ينصح كلا منهم بحسب حالته وظروفه.وحين اجتاح وباء الكوليرا البلاد، وخاف أبناء ( بحري ) من اقترابه منهم، تبدّى سلطان الإسكندرية من جديد، لرجال ونساء تصادف مرورهم في الميدان، وهو يقف على المئذنة يتمتم بالدعوات، ثم يدخل إلى المئذنة ويختفي( 6 ) . يظهر الأولياء في المنام لدي بعض الناس فيتفاءلون بهم خيرًا . وقد أضافت المداخلات التي استهل بها بعض الفصول ثراء ثقافيا وبعدًا فنيا مكملاً لكافة الأبعاد و(الموتيفات ) التي صنعت ما نسميه ( العالم الروائي لمحمد جبريل ) .
    وبدا الأثر الديني واضحًا في الأحداث التي مرّ بها علي الراكشي، الذي يصدق عليه قول أحد مشايخ الصوفية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، هو الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي : " إذا أراد الله أن يتخذ عبدًا وليًّا سلط عليه مَنْ يظلمه "( 7 ) .. فقد ظلم الحاج قنديل الراكشي ومنعه من اكتساب رزقه. كما وض الأثر الديني في تحول أنسية من طريق الغواية وتوبتها، وتحوّل تفاحة من مهنة الردح إلى ملازمة الشيخ يوسف بدوي وخدمته.
    يستهل فصل ( في حضرة السلطان ) ( 8 )، بالدعاء الذي يتردد كثيرًا على ألسنة العابدين .. " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " ( 9 )، وآيات قرآنية . ومداخلة أخرى عن أبي الحسن الشاذلي. وهو مدخل جيد ليحدثنا عن علي الراكشي وشكواه من قسوة الحاج قنديل، وتردده على الشيوخ والأئمة والمريدين . شكا للشيخ طه مسعود فعاب عليه استغاثته بمخلوق، فالاستغاثة لا تكون إلا لله . وقال له الشيخ يوسف بدوي أن من يترك معلمًا لا يعمل عند آخرين، وأن الله ابتلاه باحتمال أذى الناس، فإما أن يرضى عنه شيخ الصيادين أو يأنس بحضرة الله.
    ويستهل فصل ( متى يأذن الله ؟ ) ( 10 ) بدعاء في شكل مقطوعة شعرية، ويضيف حوارًا بين رجل وأبي الحسن الشاذلي ( 11 ):
    سأل الرجل : ما لي أرى الناس يعظمونك، ولم أرَ لكَ كبير عمل ؟
    فأجاب : بسنة واحدة افترضها الله على رسوله تمسكتُ بها، الإعراض عنكم وعن دنياكم !
    وهو استهلال مناسب حيث تعرض الكاتب بعدها لعلي الراكشي، الذي ترك الشيخ مسعود، واتجه إلى الشيخ يوسف بدوي، الذي أعطاه أوراقًا ليقرأها ويسأله فيما لا يفهم منها.
    و يستهل فصل ( فلنعبر النهر أولا ) ( 12 ) بدعاء للشاذلي، ثم يتابع تطور شخصية الراكشي، الذي يسير على نهج الشاذلي ، وطريقته الصوفية ، ولكن من خلال شيخه يوسف بدوي . يستجير الراكشي بالشيوخ والأئمة ليحلوا الخلاف بينه وبين الحاج قنديل حتى يعود لعمله في البلانس . ويلازم شيخه ملازمة المريد، وانكبّ يقرأ بنهم منصرفًا عن الدنيا ومتاعها، إلى العزلة والخلوة والصمت، مهملاً هيئته وثيابه، فانتقده أمين عزب، إلا أنه كان يتطلع إلى أن يكون قطبًا شاذليا..
    وفي فصل ( أولى مراتب السالكين ) ( 13 ) إنشاد ديني . والتوبة أولى مراتب السالكين كما قال الغزالي . وأفهم الشيخ مريده أن بداية الطريق إلى التصوف أن يطيعه طاعة عمياء، فيكون معه على صورة الميت! ويذعن له إذعانًا تامًّا، لعله يصبح في النهاية شيخًا له كراماته ومكاشفاته . وواضح أن الشيخ طغى على مريده، الذي انصاع له انصياعًا تامًّا، حتى أنه جعل قراءة القرآن بإذن منه!! طاعة غريبة مستبدة تتنافى مع روح الدين الإسلامي الحنيف . ويومئ الكاتب من طرف خفي إلى التطرف الديني وأثره السلبي في نفوس الناس، دون أن يطل برأيه وفكره شارحًا أو محللا. وتتنامى شخصية الراكشي فينعزل عن دنياه، وينجذب إلى الشيخ راضخًا لتعاليمه القاسية.
    ويبدأ فصل ( السائر إلى الله ) ( 14 ) باستهلال لأبي العباس المرسي في تعريفه للعارف والزاهد والولي. ويظهر الراكشي على نقيض زكي تعلب الذي يحضر دروس الشيخ بالمعهد الديني ويقرأ القرآن في البيوت مؤقتًا لحين تخرجه. أما الراكشي فالشيخ يبشره بأنه على عتبة مقام المريد، مقام المجاهدات والمكابدات. وطلب منه ترك شهوات الدنيا وملازمة الخلوة والمداومة على الصلاة والذكر والصوم.
    وفي فصل ( الحلقة ) ( 15 )، دعاء في شكل إنشاد ديني، والدعاء متوافق مع حال الصيادين الساعين إلى الرزق . يصف الكاتب حلقة السمك، كما يعرج على الموقف المتأزم بين الراكشي والحاج قنديل الذي لا يعطيه سمكًا يبيعه، فتزداد عزلة الراكشي عن الدنيا، ويقترب أكثر من الشيخ المستبد. هي الظروف راغمته واضطرته أن يسلك طريق الزهد ويبتعد عن سبل العيش.
    ويستهل فصل ( يا مريدي .. لا تضق بي !) ( 16 )، بتعاليم لأبي العباس : " من أحب الله، وأحب الله فقط، تمت ولايته. والمحب على الحقيقة لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، فإن من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت " ( 17 ). وينصح الشيخ الراكشي بأن يمشي في طريق الله ويبتعد عن الحاج قنديل الذي يتحكم في رزقه. وبهذا لا يقدم الشيخ حلا واقعيا بديلا لاكتساب الرزق، وطفق يعمق إحساسه بضرورة اعتزال الدنيا، وطاعته طاعة عمياء. فتحوّل الشيخ إلى قوة تهيمن على تصرفاته وتسلبه إرادته،فانقاد لشيخه باعتباره أرحم من الحاج قنديل، وإن كان يتوق إلى التحرر من سطوته وتكون له شخصيته المستقلة! ويتطلع إلى اليوم الذي يُحزّم فيه بحزام المشيخة. وهكذا انتقل من تحكم الحاج قنديل إلى استبداد الشيخ ، وهو في الحالين مأمور مقهور، تابع لغيره!
    ويستهل فصل ( اليقين ) بتساؤل : " متى تنزل أمطار المدد على أرض النفوس الطيبة، والقلوب المطهرة، والأرواح المضيئة، والأسرار المقدسة؟ " ( 18 )، ثم يذكر من الشعر الصوفي : " أنا من أهوى ومن أهوى أنا / نحن روحان حللنا بدنا / فإذا أبصرتني أبصرته / وإذا أبصرته أبصرتنا " ، ثم يتحدث عن الصوفية وشفافية الروح، المتسامية عن كل ما هو مادي، الشاخصة إلى الملأ الأعلى، تحلم بالجنة والحور العين.. فقد تملكت الراكشي نزعة صوفية. ويبشره شيخه بأنه تجاوز كل المقامات .. وتظل المتعة الروحية نتعايش معها في دائرة وجد تضوي وتشف، لا يستطيع رسم هذه الدائرة إلا يراع كاتب خاض التجربة بنفسه، أو عرفها من أحد المتصوفة المقربين إليه.
    وفي فصل ( مواصلة المدد ) ( 19 )، وردت أقوال من حزب الشاذلي، تتبع بعدها مسيرة الراكشي الذي أصابه هزال لزهده عن الطعام وتطلعه لنعيم الجنة. حتى أنه لا يقرب موائد الطعام، و قالوا عنه إنه بركة، وقالوا أيضا إن الخرف أصابه حين رأوه يلوك شيئًا لا يرونه، فيرد التهمة قائلا : " المخرف أبوك ! .. هذا طعام من الجنة لا تراه الأعين الكافرة ! " ( 20 ) .
    وفي فصل ( التحليق بلا أجنحة ) ( 21 )، نقرأ أقوالا أخرى لأبي الحسن الشاذلي، منها أن يختار المرء الفرار إلى الله راجيًا ثوابه.. ثم نواصل مسيرة الراكشي الذي اعتاد التردد على المعهد الديني ومعه نبوت يطرد به الأولاد المشاكسين. صبر وتحمّل وهو يسير في منازل السائرين ومراحل السالكين، حاملا مجمرة بخور.. يكتب عنه بشفافية أخاذة : " نور في قلبه، يشغله دائما بأمور الآخرة. سطعت الشمس في داخله بشدة، اجتذبته، لفّته، استغرقته في أضوائها المبهرة، فذابت نفسه. انقشعت أمام عينيه سحب الأغيار والأشكال والإشكال. وامتلأ القلب بعظمة الله ومحبته وجلاله. لم يعد على صلة بالخلق ورسومهم. أزالهم من نفسه، وانفرد إلى الحق .. " ( 22 ). هكذا قطع الراكشي صلته بكل ما هو دنيوي، وتاق إلى كل ما هو أخروي.
    وفي فصل ( المجاهدة ) ( 23 )، أقوال أخرى للشاذلي، ونقف على مجاهدات الراكشي، الذي مال إلى جابر برغوت، وابتعد عن يوسف بدوي. اقترح عليه جابر أن يُحيوا مولد سيدي الأنفوشي أحد تلاميذ ياقوت العرش. مال الراكشي أكثر إلى العزلة. وظن الناس أن جابر برغوت خاوى جنية، لقراءته الطالع وعمل السحر وإن كان يوظفه في أعمال الخير .
    وفي فصل ( أسواق من النور ) ( 24 )، يعيد كتابة رواية للشاذلي، سبق أن كتبها في فصل ( متى يأذن الله ؟ ) (25).. ويصحبنا مع الراكشي في رحلة زهد تامة بعيدة عن الناس، وتوقه إلى فيوض إلهية . وهو دائم اللواذ بمساجد أولياء الله. اختلف الناس في أحواله . قال أحدهم : " الراكشي ليس مجنونا .. أسرف في التعلم، فتشوش مخه! " .. وطالب آخر أن يتولى الحاج قنديل علاجه، فرد عليه بأنه أصح منا . شبّهه الغرياني بأيوب السكندري. وقال عنه الحاج قنديل إنه بركة، فاعترض الغرياني لأن امرأته تنفق عليه من مساعدات أهلها . وقال الحاج قنديل : " قد يكون علي الراكشي في حياتنا وليًّا جديدا ! " ( 26 ). فاجأ الراكشي الناس بسيف خشبي يرفعه، ويخدم المصلين في المسجد، وينفر من مداعبة زوجته . قال له أمين عزب : " هل أفقدك يوسف بدوي عقلك ؟ " ( 27 ) .. في إشارة غير صريحة لتطرفه هو وشيخه في فهم الدين ، وإن اعتبراه زهدًا وانقطاعًا عن دنيا المحسوسات. وثمة عبارة للكاتب قد يكتنفها الغموض في معرض تصويره لحال الراكشي : " جاوز سجن عبادات صفات النفس إلى الصفات الروحية في عالم الأمر " ( 28 ).. فهي جملة مركبة وإن كان المعنى مفهوما .
    ويستهل فصل ( اتساع ضيق الأكوان )(29) بأقوال للشاذلي ، يتحدث بعدها عن طلب أمين عزب من الراكشي أن يسعى لرزقه . فعاد للصيد والبحر، لكنه اصطدم بعسكري السواحل الذي منعه من الصيد في الممنوع . وفي محاولة لإخفاء نفسه منه، سحبته المياه تدريجيا وغرق . يصف الكاتب موته قائلا : " اتسع ضيق الأكوان. وحصلت أنوار المواجهة، وصارت الروح سرًّا من أسرار الله، وأقبل القلب على رؤية مولاه. لا ظلمة، ونور العرش دائم في الليل والنهار " ( 30 ) . والعبارة موصولة بمداخلة تتصدر هذا الفصل عن أقوال للشاذلي . ويختتم الكاتب حياة الراكشي بجنازته في فصل ( جسر إلى الحبيب ) ( 31 )، الذي يبدؤه بقول للشاذلي ومقطوعة شعرية . توقف نعشه أمام جامع المرسي، فوصفه المشيعون بأنه وليٌّ فاضل، واندفع جابر برغوت يمسح النعش بيده وهو يقول : "كراماتك محفوظة يا شيخ علي ! " ( 32 ). وطلب يوسف بدوي له المغفرة والرحمة. وسمعوا صوته من داخل القبر يتلو الشهادتين ويذكر الله والرسول . يعلق الكاتب بقوله : " الوصول إلى مقام المشاهدة، لا يكون إلا بعد المفارقة من هذا العالم " ( 33 ) . وفي آخر سطور الجزء الثاني ( ياقوت العرش ) يقول الكاتب : " بلغ درجة النفس المطمئنة، سدرة المنتهى، البرزخية الكبرى، نهاية مراتب الأسمائية التي لا تعلوها مرتبة. جاوز قناطر النار، واستوجب الجنة ". وهكذا انتهت حياة الراكشي بنظرة حب وتعاطف من الكاتب له.
    وكما أن الراكشي شخصية لجأت إلى الدين فرارًا من واقع ظالم، لجأت أيضا أنسية وهي امرأة ارتكبت الكثير من الخطايا، سعيًا إلى كسب تعيش منه، ولكن أنسية لا تعرف القراءة، قراءة كتب دينية مثلما قرأ الراكشي، إنما هي امرأة بسيطة تفهم الدين بفطرتها، فلجأت إلى الأولياء الصالحين تدعوهم أن يتزوجها سيد الفران لتعيش معه في الحلال، وأن يبعد عنها حمادة بك ومضايقاته، وقد رأت في منامها السلطان المرسي أبي العباس وياقوت العرش، وكانت تلك الرؤى بشرى بأن الله استجاب لدعواتها وتوسلاتها . وكما رسم شخصية علي الراكشي بعناية ااقتدار في فصول الرواية المختلفة، كذلك اعتنى بشخصية أنسية التائبة .
    في فصل ( الغوث ) ( 34 )، يسوق الكاتب حكاية لأبي العباس الذي توقع موته، فزار مريده أبا عبد الله الحكيم بأشموم ليودعه، ثم سافر إلى أخيه ليقيم عنده أيامًا قليلة ثم يعود إلى الإسكندرية يبيت فيها ليلة لحقته فيها الوفاة ( 35 ). وقد استغاثت أنسية به ليبعدها عن مضايقات حمادة بك بعد أن تابت عن المعاصي، وترجوه أن يتزوجها سيد الفران . وقد شهقت لرؤية السلطان الذي طمأنها بحل مشكلتها، وذهب متلاشيًا كأن لم يكن !
    وفي فصل ( رؤيا ) ( 36 )، استهلال بين قاضي القضاة شمس الدين بن اللبان والفقير، الذي طلب منه السفر إلى الإسكندرية والاجتماع بسيدي ياقوت العرش، فيلقى الفرج على يديه. ولما وصل الشيخ شمس الدين إلى باب الخلوة، وجد سيدي ياقوت العرش يقول : " أبشرْ، فقد قُضيت حاجتك، فإني سُقتُ عليه جميع الأولياء، فلم يقبل، فسُقتُ عليه سيد الأولين  .. وطلب منه السفر إلى طنطا والطواف حول صندوق سيدي أحمد البدوي حيث تُقضَى حاجته. وتلا ذلك مداخلة أخرى روتها سيدة رأت كأن الأستاذ ياقوت العرش قابلها وبشّرها بتوظيف زوجها، وتحقق له ذلك. وقد استقى الكاتب المداخلة من ( دائرة معارف القرن العشرين ) لمحمد فريد وجدي . وأورد تصحيحًا حيث أن السيدة لم تصرّح بأن ياقوت العرش صرّح لها بتوظف زوجها، وإنما بشّرها بالخير والرزق . وقد سجل الرؤيا موثقة . ونقلها كما هي بنفس التصحيح الذي وردت به ، جريًا على الطريقة الصحفية بتصحيح الخطأ في عدد تال .وبعد الحديث عن كرامات ياقوت العرش في حدثين بارزين، ولج عالمه الروائي بقوله : " رأت أنسية ـ فيما يشبه الحلم ـ سيدي ياقوت العرش " ( 37 9 .. ويسأل : " لماذا اختار زيارتها حيث تقيم ؟ .. وهل يعرف أنها منعت تردد الرجال عليها ؟ " ( 38 ).. وروى لها سيد الفران ـ وقد لزمت بيتها بعد زواجها منه ـ الأيام التالية لمغادرة السلطان ضريحه حيث " أزال عن وجه الحياة في بحري التصرفات الخاطئة " ( 39 ).. وتبدّى كأن ياقوت العرش يحاور أنسية، ويهمس لها : " ما يدفعه سيد في قهوة كشك يكفي إيجار شقته " ( 40 ). ولما قالت إن أصحاب البيوت يرفضون، دلّها على التاجر كمال مصباح، وقال لها عن الرسول الكريم : " لست بملك !..والشكوى لغير الله طريق السائرين وراء راية إبليس !.."( 41 ) . وروى التاجر أنه استقبل ياقوت العرش في نومه، عقب زيارته لها، ودلها على الشقة، تنفيذًا لأمر سيدي ياقوت العرش .. إلا أن سيد الفران اعترض على الشقة لأنها في الشارع الذي يتاجر فيه فؤاد أبو شنب في المخدرات .
    وبذلك حقق الكاتب التوازي بين ما هو وارد في الكتب التي تناولت سير الأولياء الصالحين، وبين أحداث روايته. والتوازي يحقق التوازن بمعنى المواءمة بين هذا وذاك . فيصبح الاستهلال عنصرًا مكملاً للعمل الإبداعي، وليس مجرد إضافة أو استطرادًا يمكن حذفه. فرؤيا أنسية للإمام في المنام، سبقته رؤى ناس آخرين، منها ما نقله من ( دائرة معارف القرن العشرين )، كأنه بهذا التسجيل يدخل عنصر صدق الحدث، لمن يداخله شك . وبيان مكانة الإمام ونفوذه الروحي .كأنه يعقد علاقة حميمة بين الواقع التاريخي وبين شخوص عمله الروائي، متأثرًا بالكتابة الصحفية التي أعطت لرواياته مذاقًا جديدًا يتميز به محمد جبريل عن سواه من الروائيين العرب .
    وتحدث الكاتب عن امرأة أخرى نهجت الدرب نفسه الذي نهجته أنسية، وإن كان بطريقة مختلفة . وقد عايشنا أنسية منذ بداية الرواية ، أما المرأة الثانية موضوع حديثنا ـ وتدعى تفاحة ـ فلم يذكرها إلا في فصل واحد، بعنوان ( الخدمة في ساحة الطهر ) ( 42 )، يبدؤه برواية عن الشاذلي وقول له، ثم ولج عالماً مغايرًا لعالم الراكشي، إذ صوّر الردّاحة تفاحة التي هجرت الردح، وسعت إلى الشيخ يوسف بدوي وترددت عليه، فانصلح حالها.. وتزوجت فكهانيا حين استحال زواجها من الشيخ، لكنها رأت أنها مكتوبة للشيخ، فطلبت الطلاق من زوجها حتى تعيش مع الشيخ بالحلال، وانصرفت إلى عبادة الله وخدمة الطريقة، واشترط الشيخ عليها ـ مثلما اشترط على الراكشي من قبل ـ أن تحيا معه كأنها ميتة، فقبلت الحياة معه دون زواج، تخدمه وتخدم مريديه مقابل طعامها. وتابت عن المعاصي كتوبة رابعة العدوية . وهي تشبه توبة أنسية، لكن أنسية اختارت الطريق الصحيحة وتزوجت . أما الردّاحة، فقد أذعنت لشروط الشيخ مثلما أذعن علي الراكشي، فهي ضحية أخرى لانحراف مزاج الشيخ واستبداده، وقبلت العيش معه بالحلال تحت سقف بيته !
    ولا يقتصر الميراث الديني على الراكشي وأنسية وتفاحة، وإنما يتغلغل الأثر الديني في كل الشخصيات بصورة أو بأخرى. حتى تلاميذ مدرسة البوصيري يتساءلون عن صاحب المقام.. هل هو البوصيري، وبنيت المدرسة على قبره، أم هو سيدي الأنفوشي، أم هو ولي مجهول انقطع نذره) ؟( 43 ). وحين ظهر أبو العباس في المنام، رأينا العديد من الشخصيات تتحدث عن الرؤيا الخاصة بهم. واهتمام الكاتب بهذا الأثر الديني المتغلغل في النفوس، واضح في ظواهر أخرى يحتفي بها، كوصفه لليلة الكبيرة لمولد السلطان أبي العباس ( 44 ) ، وما تضمه من فرق الإنشاد الديني التي تدعو الله وتمدح الرسولٌ  .. و " تلاغط من مدائح الرسول وأذكار الشاذلي، والأوراد، ودلائل الخيرات. والدعوات، وصيحات المنشدين، وحشرجات أهل الذكر، وطالبي البرء والشقاعة والنصفة والمدد.. جماعات يتلون القرآن الكريم، وأناشيد الترنم بحب الرسول، والصلاة والسلام على النبي " ، ويطلبون المدد : " مدد مدد .. سيدنا النبي مدد / مدد سيدنا الحسين مدد / مدد مدد .. يا طاهرة مدد / مدد مدد يا شاذلي مدد / ويا بدوي .. يا مرسي .. يا حنفي / يا راضي يا رفاعي يا سيدي إبراهيم / مدد مدد .. يا شاذلي .. مدد " (45).
    و ( في حضرة ياقوت العرش ) ( 46 )، فصل كامل يصوغه الكاتب عن ياقوت العرش، نشأته منذ ولادته ببلاد الحبشة، وما قاله النبهاني عنه ، بأنه " سمّي العرش لأن قلبه كان ينظر دائما إلى العرش (47 )، وذكر بعض المرويات عنه..فقد ظل يباع ويشترى إلى أن جاء إلى أبي العباس. يمتد نسبه إلى سيدي أبي الحسن الشاذلي. ودعا تاجر أن يهب عبده ياقوت لأبي العباس المرسي إذا نجاه ربه من العاصفة. ونفذ أمره . ولزم ياقوت مجلس السلطان لا يغادره حتى مات ودفن في المسجد. وقد رفض أبو العباس خطبة ابنته مهجة لابن والي مصر الناصر بن قلاوون، واختار ياقوت زوجًا لها بعد عتقه إياه. و قد يظن ظان أن هذا الفصل منسلخ عن السياق الروائي، إذ أن الكاتب يتحدث فيه عن أحد الأولياء الصالحين، مبتعدًا عن السياق الروائي، تاركًا شخوصه بعض الوقت ليقدم لقارئه نبذة تاريخية عن قطب من أقطاب الصوفية، إلا أنني أرى منحى جديدًا في الكتابة الروائية يتميز به محمد جبريل عن سواه من الروائيين، باعتبار ياقوت العرش شخصية من شخوص روايته، وليس مؤثرًا فقط في شخوصه. والفائدة التي نخلص إليها هي اقترابنا من واقع الشخوص، فياقوت وأبو العباس وغيرهما شخصيات تاريخية لعبت دورها البارز في تشكيل الوجدان المصري، وحضورهما القوي في الرباعية يوحي للقارئ بأن الكاتب يتحدث عن شخوص عاشت في حي ( بحري ) فعلا، فلا يجد في الراكشي وأنسية ومختار زعبلة والغرياني وسيد الفران وغيرهم ناسًا من بنات أفكار المؤلف ، وإنما هم ـ هكذا يوحي المؤلف للقارئ ـ شخوص عاشت في هذه الفترة ، فيشحن إحساس القارئ ويكون في حالة حضور قوي مع هؤلاء الناس.
    استهل فصل ( رحلة الاتجاه الواحد ) ( 48 )، بآيات قرآنية عن الجنة ونعيمها، ترسم الجو في تناوله لعلي الراكشي وما ينتظره من حسن الثواب. وروي عن صلاة الجنازة التي زاحم الصفوف فيها رجال، حاول جابر برغوت التعرف عليهم فاختفوا. وحكت زوجة الراكشي عن أحواله وعن كراماته ومكاشفاته، وهي أحوال أقرب إلى المعجزات التي ولى زمانها ! وثمة روايات أخرى على لسان الغرياني. واستطرد يحدثنا عن أحوال الراكشي في الجنة واستقبال الملائكة له، ومظاهر النعيم الذي يعيش فيه، وعن تزاوره مع من سبقوه .
    ومن بردة البوصيري، استهل فصل ( أصوات الأحلام القديمة ) ( 49 ) ببعض الأبيات ، وانتقل مع عبد الله الكاشف إلى داخل جامع البوصيري المواجه لبيته. يصف الجامع المزين بكتابة بخط فارسي لرقائق الذهب لبردة البوصيري، وآيات قرآنية مكتوبة بخط الثلث. ويغوص الكاتب في وصف جوامع الحي ومساجده وزواياه وأضرحته للأئمة الإثني عشر المتواجدة في مكان واحد.
    وحديث شريف استهل به فصل ( المسافر بلا زاد )( 50 )، وكلام لأئمة الصوفية .. ثم يذكر مقولة للراكشي:"عرفت من الجد السخاوي أن وليّ الله الأنفوشي يرقد في الضريح المسمّى باسمه في قلعة قايتباي.." .. فيجيبه برغوت : " قلبي يحدثني أن الضريح بلا ولي يرقد تحته .. ( 51 ). واتجه برغوت إلى الضريح وهو يستعيد كلام الراكشي، ويتردد قول عن الأنفوشي بأنه يرى ما لايراه الناس، وتتكشّف له خبيئات نفوسهم، ويدلهم للى الطريق إلى الله, ويرى برغوت أن الراكشي لو أمد الله في عمره لأصبح قطب غوث، وصار له أستاذا وشيخا يهتدي به. وهذا الفصل لا يقتصر على جابر برغوت ومروياته عن الراكشي، فقد بدأه الكاتب وأنهاه بشخصية حمادة بك غريبة الأطوار. والفصل يشي بالتناقض الشديد بين شخصية دينية ( جابر برغوت)،وأخرى عابثة ( حمادة بك) . هل هو مجتمع متقلب الأحوال؟ أم هو الفعل ورد الفعل يتبادلان المواقع فيما بينهما ؟ هل هو الزهد عن الدنيا والإقبال عليها في آن ؟ إنهما حقا شخصيتان متناقضتان، تشبهان قطبي مغناطيس متنافرين على الدوام. فبينا يتطلع جابر إلى لذة روحية ينصرف بها عن دنياه اللاهية، يتطلع حمادة بك إلى لذة حسية يتقرب بها إلى دنياه اللاببة !! وإن كان ثمة نظرات عفوية لحمادة إلى المآذن والقباب. جميل من الكاتب أن يعبر عن تناقضات المجتمع، وجميل منه أن يصوغه بما يشبه التدوير، فيبدؤه بانصراف حمادة بك من مجلس الرجال، وينهيه بإطلالة عليه وخشيته من الفضيحة، إلا أنه لا يكف عن السلوك المعيب. وفي المقابل، يتحدث الكاتب بإفاضة عن صوفية جابر برغوت، واستعادته لصورة علي الراكشي الذي كاد يصبح وليا.
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    تابع / الفصل العاشر من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. ....................

    وفي فصل ( أنس المحبة ) ( 52 )، يروي على لسان البوصيري رؤيا الرسول الكريم " فمسح على وجعي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت، ووجدت فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي " وتأتي الإحاطة المعرفية بالبوصيري وبردته في صفحات طويلة، في سياق اهتمام عبد الله الكاشف بالبردة . وفي الفصل التالي ( طيور الخريف ) ، تدور أحاديث المقهى حول البوصيري والتعريف بنشأته. هو الموظف الوحيد الذي صار وليا . وقد طالب بقانون من أين لك هذا ؟ قضى حياته الوظيفية مناضلا بلسانه وشعره حتى فصل . وأفاد عبد الله الكاشف بقراءاته عنه .. " منذ ولد في البهنسا حتى أسلم الروح ـ وهو قطب ذائع الصيت ـ في الإسكندرية : شرف الدين الدلاصيري، حاول أن يجمع بين نسبه إلى دلاص و بوصير، وسمى نفسه الدلاصيري، لكن الناس درجوا على تسمية البوصيري : محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن أبي سرور بن حيان بن عبد الله بن ملاك الصنهاجي. امتداد الانتماء إلى فروع قبيلة صنهاجة العربية في بلاد المغرب " ( 53 ). مرة أخرى، يلوذ الكاتب بالجانب المعرفي، وإن كان من خلال عين عبد الله الكاشف القارئة، فالكاشف اتخذ وسيلة يشبع بها رغبته في استكمال التعريف بشخصية البوصيري، ليمتزج بشخوص الرواية التي ابتدعها، وربما هي أسماء من واقع ناس ( بحري ) أو أسماء مستعارة لهم. ويقطع المعلومة بتساؤل يكسر حدة السرد..
    هل كان افتقاد العدل هو الدافع للتصوف ؟..
    وهل كان تصوف الناس رفضًا للواقع أم فرارًا منه ؟..
    لماذا رفض وظيفة محتسب القاهرة ؟ أي جابي الضرائب ..
    لماذا أبى أن يتقلدها ؟
    و التساؤلات تشي بالظلم في جباية الضرائب، ورفض الوظيفة إعلان صارخ برفض الظلم والاستبداد.. ولاحظ هنا أن الكاشف موظف ارتقى السلم الوظيفي حتى أحيل إلى المعاش، فاستماله البوصيري الذي كان موظفا مثله، وإن كان شجاعا حين وقف ضد الظلم والاستبداد.
    واستهل فصل ( قوت القلوب )( 54 ) بآية من الذكر الحكيم، وإن نسبت سهوا إلى الشاذلي ! كما وردت أدعية للشاذلي ومقولة لابن عطاء الله، وأبيات من بردة البوصيري .. كتمهيد قبل أن يتحدث عن امتناع الكاشف عن التردد على الجوامع، وبدأ يتردد على حضرة الأحمدية الشاذلية في جامع سيدي عبد الرحمن بن هرمز، ومسجد الحامدية الشاذلية وزاوية الطريقة. يكتفي بالإنصات والمشاهدة.. ويسمع حودة بدران يردد : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.. ويتلو آية قرآنية، وتعلو أصوات المتحلقين حوله بالصلاة على النبي . وتتلى الأحزاب والأوراد والأهازيج الصوفية والمدائح النبوية والأدعية والابتهالات ثم تنشد البردة.
    وفي فصل ( الانتظار )( 55 ) استهلال بسورة ( الشرح ) ، التي كان ينبغي أن تسبق المقولات التي ذكرت للشاذلي، التي تندرج في باب الحكم والمأثورات.. ونقرأ في هذا الفصل عن انتظار الكاشف للموت، الذي يتوقع مجيئه، وكانت لوحدته دخل كبير في سيطرة هذه المشاعر عليه.
    وفي مستهل فصل ( مشارق الفتح )( 56 ) نقرأ مختارات من أقوال الشاذلي وأبي العباس، بعدها يتحدث عن اتجاه جابر برغوت إلى التصوف . هجر الخدمة في جامع ياقوت العرش، وحمل قربة ماء، يطوف بها شوارع الحي. سعى للقاء سيدي الأنفوشي ـ كما أمره ياقوت العرش . وينقلنا الكاتب ـ كما هي عادته ـ إلى جانب معرفي لتبين حقيقة سيدي الأنفوشي، الذي لم يره أحد. ويرجح أن العائلة الإيطالية أنفوس احتكرت صيد السمك وبيعه، ويذكر أن الضريح الغارق في الظلمة داخل قلعة قايتباي بلا أتباع ومريدين، ولا يذكره أحد. الرواية غير مؤكدة . قال عنه ياقوت العرش : " الأنفوشي حقيقة .. رفاته في الضريح الذي يتوسط فناء مدرسة البوصيري الأولية بالموازيني " ( 57 ). وشكك أمين عزب في وجود رفات. لا يوجد تحت القبر أنفوشي ولا رأس التين. قال له: " جعلتَ الوهم وليًّا يا برغوت ؟! " ( 58 ). ورغم الإنكار إلا أن برغوت ما زال مؤمنًا بوجود رفات له : " إنه سيد ناس الحي كلهم .. بركاته تشمل المنطقة من المنشية إلى رأس التين " ( 59 ).
    ويستهل فصل ( ارتحال إلى الأسمى )( 60 ) بمقولة للشاذلي عن المريد الحقيقي الذي " تترشح فيه أنوار المنّة"، وأخرى لأبي العباس . والمقولتان تتساوقان مع حديثه عن جابر برغوت الذي لزم جدار ضريح سيدي الأنفوشي بمدرسة البوصيري. قد يختفي فجأة. تضئ وجهه مسحة من الطهر. روي عنه قدرته على تمييز الوجوه في الظلام، ومعرفته وقائع المستقبل، والتنبؤ بقدوم النوّة، وقيل إن أولياء الله يتراءون له، وإن الجن تقمصته، وقيل إنه أعقل العقلاء، وإن الله اصطفاه لحضرة أنسه!
    ويستهل فصل ( ونفس وما سوّاها )( 61 ) بآية قرآنية وقول للشاذلي وآخر لأبي العباس،ثم يحدثنا عن الشيخ عبد الحفيظ إمام سيدي علي تمراز. اعتبره الناس إمام وقته، وهو القائل : " ما جاء به الرسول علينا أن نأخذ به، وما نهى عنه علينا أن ننتهي عنه " ، وأفتى بعدم جواز الشفاعة، والتوسل بالأنبياء والأولياء، وقال إن كتابة الرسائل للأولياء خرافة، وإنهم قدوة فقط. ونهى عن قراءة ( دلائل الخيرات ) وهاجم جماعات الطرق الصوفية، لما وجده من أباطيل. ورفض السحر والرقي والعين الحاسدة وتحضير الأرواح، ورفض قراءة أحزاب الشاذلية قائلا : " لا أحب إلى الله من لا إله إلا الله " ، و " لست وليا ولا صاحب طريقة، ولا مريدين لي ".
    ويبدأ فصل ( النذير )( 62 ) ، بحديث شريف و أقوال لأبي الحسن الشاذلي .. والفصل خليط من أحداث سياسية تشي بقرب قيام الثورة ضد فساد الحكم، وكرامات جابر برغوت وتحذيره الناس من عذاب يوم عظيم .
    وفي ( بحر بلا ساحل ) ( 63 ) أقوال لأبي الحسن الشاذلي وابن عطاء السكندري، ويواصل الكاتب حديثه عن اتجاه جابر برغوت إلى التصوف وانسلاخه عن الدنيا الفانية، وهو القائل : " أعوذ بالله أن أدّعي الولاية .. أنا خادم الأولياء ! " ( 64 ) .. وهويسير في دروب الصوفية منذ أمره ياقوت العرش واختفى، وقد حفر قبره بجوار قبر علي الراكشي ، دلالة سيره على نهجه وخطاه .
    وفي ( السباحة في بحار الشوق )( 65 )، أقوال وأدعية لأبي الحسن الشاذلي يستهل بها حديثه عن جابر برغوت، وتشككه في ضريح الأنفوشي واتجاهه إلى ضريح علي تمراز، لعله يجد البشارة ، و " علي تمراز مجذوب بدا منه ما يشبه الكرامات في وقت حسن باشا الإسكندراني، فأمر بإنشاء هذا الجامع باسمه " ( 66 ).. وطالت جلسة جابر بجوار المقام، ولوحظ أن الموضع الذي يجلس فيه يظل مضاء حتى الصباح.
    وفي ( بحر الأنس ) ( 67 ) ، أقوال لأبي الحسن الشاذلي عن دفع الضر عن أنفسنا، وتعريف لأبي العباس المرسي، لأهل المحبة والشوق.. ثم يعرج بنا إلى جابر برغوت الذي اعتبر ظهور قناديل البحر نذيرا بيوم القيامة. ويسترسل الكاتب في الإفاضة عن حال الوجد في نفس جابر، وإطاعته الأولياء .. وهومحب للتصوف وأربابه، وإن لم يذق ما ذاقوه، ولا عرف ما عرفوه. لم يتعظ الناس بالبلاء الذي حاق بهم في الوباء ، ولا في الحريق، ولا في قناديل البحر .
    وفي فصل ( الوقوف على باب الولاية )( 68 ) ، استهلال بكلام لأبي الحسن الشاذلي عن عبادة الله كما أمرنا، ومقولة لابن عطاء الله عن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك " .. أما أحداث هذا الفصل فعن مناقب وكرامات أولياء الله.. وهاك جابر برغوت ما زال يأمل في ظهور وليّ الله الأنفوشي.. ولما شاهد نجما يضئ ويختفي، اعتبر ذلك إنذارا من السماء !
    ويستهل فصل ( الآن .. عرفت ) ( 69 )،بأدعية لأبي الحسن الشاذلي ..ينقلنا الكاتب نقلة مفاجئة إلى الشيخ جابر برغوت، الذي قرر السفر إلى القاهرة، وترك ( بحري ) ، ويصرح الكاتب في نهاية الرباعية أن وجود الأولياء لم يحل دون ارتكاب المباذل والشرور، والانغماس في الذنوب والشهوات .. فقد غرق الناس في الغفلة وتعلقت القلوب بالأغيار !
    والملاحظ أن الكاتب يعمد إلى إثبات نصوص من التراث الصوفي في بدايت الفصول التي تتحدث عن علي الراكشي ثم جابر برغوت ، كما أورد فصولا عن حياة ياقوت العرش ..
    مراجعة واجبة لآيات القرآن الكريم :
    وردت في الرباعية آيات قرآنية استشهد بها الكاتب في مقدمات بعض الفصول، وبمراجعتها لوحظ الآتي :
    1 ـ كان ينبغي أن يذكر اسم السورة ورقم الآية التي استهل بها الفصل .
    2 ـ ورد دعاء من الآية القرآنية 286 من سورة البقرة دون إشارة إلى ذلك ( 70 ) .. " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ".. وفي الصفحة نفساا أورد آية قرآنية أخرى من سورة الأحزاب ( آية 56 ) دون إشارة.
    3 ـ وردت كلمة خطأ في الآية 72 من سورة ( الزخرف ) ( 71 )، وصحتها ( تعملون ) بدلا من ( تفعلون ).
    4 ـ كما وردت كلمة خطأ في الآية 52 من سورة ( الدخان ) ( 72 )، وصحتها ( عيون ) بدلا من ( نعيم ).
    5 ـ كما وردت الآية 35 من سورة ( الأحزاب ) ، ونسبت خطأ إلى الشاذلي ( 73 )!
    6 ـ كان ينبغي أن تسبق سورة ( الشرح ) ـ كلام الله العزيز ـ أي قول آخر ( 74 ).
    والمرجو تدارك هذه الأخطاء غير المقصودة في الطبعة التالية للرواية..

    الهوامش :
    1. محمد جبريل : البوصيري ـ ص 67
    2. د. ثروت عكاشة : المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية ـ لونجمان ومكتبة لبنان ـ القاهرة 1990 ـ ص 236
    3. نفسه
    4. نفسه
    5. نفسه
    6. ياقوت العرش ـ ص 168
    7. د. طيبة صالح الشذر : ألفاظ الحياة الثقافية في مؤلفات أبي حيان التوحيدي ـ القاهرة 1989 ـ ص 236
    8. محمد جبريل : أبو العباس ـ الفصل الرابع
    9. المصدر السابق ـ ص 41
    10. المصدر السابق ـ الفصل الخامس
    11. المصدر السابق ـ ص 53
    12. المصدر السابق ـ الفصل التاسع
    13. المصدر السابق ـ الفصل الحادي عشر
    14. المصدر السابق ـ الفصل الثالث عشر
    15. المصدر السابق ـ الفصل التاسع عشر
    16. المصدر السابق ـ الفصل العشرون
    17. المصدر السابق ـ ص 192
    18. المصدر السابق ـ ص 249
    19. محمد جبريل : ياقوت العرش ـ الفصل السادس
    20. المصدر السابق ـ ص 61
    21. المصدر السابق ـ الفصل الثامن
    22. المصدر السابق ـ ص 75
    23. المصدر السابق ـ الفصل الثاني عشر
    24. المصدر السابق ـ الفصل الرابع عشر
    25. أبو العباس ـ الفصل الخامس
    26. ياقوت العرش ـ ص 130
    27. المصدر السابق ـ ص 134
    28. المصدر السابق ـ ص 133
    29. المصدر السابق ـ الفصل الثاني والثلاثون
    30. المصدر السابق ـ ص 251
    31. المصدر السابق ـ الفصل الثالث والثلاثون
    32. المصدر السابق ـ ص 256
    33. المصدر السابق ـ ص 258
    34. أبو العباس ـ الفصل السادس والعشرون
    35. المصدر السابق ـ ص 234
    36. ياقوت العرش ـ الفصل الأول
    37. المصدر السابق ـ ص 9
    38. المصدر السابق ـ ص 10
    39. المصدر السابق ـ ص 12
    40. المصدر السابق ـ ص 13
    41. المصدر السابق ـ ص 14
    42. المصدر السابق ـ الفصل الحادي والثلاثون
    43. المصدر السابق ـ الفصل الثالث عشر
    44. أبو العباس ـ الفصل السابع والعشرون
    45. المصدر السابق ـ ص ص 242، 243
    46. ياقوت العرش ـ الفصل التاسع
    47. المصدر السابق ـ ص 81
    48. البوصيري ـ ص ص 16، 17
    49. المصدر السابق ـ ص 30
    50. المصدر السابق ـ ص ص 37، 38
    51. المصدر السابق ـ ص 43
    52. المصدر السابق ـ ص ص 47، 49
    53. المصدر السابق ـ ص 66
    54. المصدر السابق ـ ص ص 97 / 99
    55. المصدر السابق ـ ص ص 124، 125
    56. المصدر السابق ـ ص ص 132، 133
    57. المصدر السابق ـ ص 138
    58. المصدر السابق ـ ص 139
    59. المصدر السابق ـ ص 140
    60. المصدر السابق ـ ص ص 155، 156
    61. المصدر السابق ـ ص ص 215، 216
    62. علي تمراز ـ ص ص 15، 16
    63. المصدر السابق ـ ص 54
    64. المصدر السابق ـ ص ص 67، 68
    65. المصدر السابق ـ ص 58
    66. المصدر السابق ـ ص 69
    67. المصدر السابق ـ ص ص 170، 171
    68. المصدر السابق ـ ص ص 184، 185
    69. المصدر السابق ـ ص ص 244، 245
    70. أبو العباس ـ ص 41
    71. البوصيري ـ ص 16
    72. المصدر السابق ـ ص 17
    73. المصدر السابق ـ ص 98
    74. المصدر السابق ـ ص ص 124، 125
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الحادي العاشر من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. .....

    المينا الشرقية
    ............

    حين بدأ محمد جبريل كتابة روايته ( المينا الشرقية )(1) ، أحب أن يضمنها شيئا من واقعه كأديب ـ وهي سمة بارزة في معظم كتاباته ـ فشاء أن يجعل من الندوات واللقاءات الأدبية موضوعا لروايته، وجعل من مقهى المينا الشرقية مقرا لها، مما جعل الكاتب أقرب إلى عالمه وهو ينسج خيوط الرواية ويرسم شخصياتها. وإن انتقل بالندوة ـ في روايته ـ إلى مكان آخر غير القاهرة ، إلى المكان الذي عاش فيه طفولته وصباه ، إلى المكان الذي أحبه وعشقه وشده الحنين إليه ، حتى أنك إذا سألت عنه وجدته قد سافر بجناح الشوق إليه ، إلى المكان الذي كتب عنه العديد من الروايات ، إلى الإسكندرية ، وبالتحديد منطقة ( بحري ) .. والمقهى في المكان نفسه .. وهذه الواقعية الممزوجة بالحنين إلى المكان خلقت جوا يأنس إليه الكاتب فيأنس معه قارئه ، لما فيها من مصداقية القول وجيشان الأحاسيس . واستتبع ذلك صياغة لغوية متفردة . وقد ضمن الرواية شخصيات من الواقع ومن الخيال،في مزج دقيق لا يواتي إلا الفنان ذا الطبيعة المرهفة ، والريشة المبدعة في رسم الشخصية المتوائمة مع النسيج الروائي .. الذي يستوحي أحداثه ويستلهمها من بيئة شعبية اتتمى إليها فكتب عنها ما يشكل (رحلة إلى العالم القديم ) (2)، وهي رحلة ذات طبيعة خاصة، لما فيها من حنين إلى الماضي و( حلاوة زمان ) (3) .
    والرواية إضاءة لأحوال الأدباء ، سواء في معاناتهم فيما يكتبون ، أو ما يعانيه البعض منهم من أجل الحصول على عمل . ولم يبدُ على أيٍّ من رواد الندوة مظهرا من مظاهر الغنى ، فهم إلى الطبقة الفقيرة ينتمون .
    و ( البطل المطارد ) الذي ركز عليه الدكتور حسين علي محمد في دراسته القيمة عن أدب محمد جبريل(4) ، ما زال مطاردا ـ أيضا ـ في ( المينا الشرقية ) . فالبطل إما مطارد من السلطة دون ذنب جناه، أ و مطارد من الأب أو الأم، كما في روايات : ( الأسوار )، و ( الصهبة )، و ( قاضي البهار ينزل البحر.وفي رواية ( النظر إلى أسفل ) نجد شاكر المغربي مطاردا من أزمته النفسية، يستمرئ لعبة الاستمناء التي تعني عدم المشاركة في الحياة، وكأنه يشير إلى الرأسمالية المصرية الجديدة بعد الانفتاح، التي تنمي ثرواتها دون اهتمام بإنماء مجتمعها وتطويره.. وفي رواية ( الخليج ) نجد البطل مطاردا من الحياة جميعها، من الأسرة بمطالبها، ومن رئيس التحرير في صحيفته، ومن الكويت التي احتلتها العراق، ومن جنود الحدود في السعودية.. وقد نجح الدكتور حسين علي محمد في إلقاء الضوء على هذا الجانب المهم في إبداعات جبريل، ناهيك عن قضية الحرية، التي تشغل بال كاتبنا ويعتبرها قضيته الأولى. وهو لا يصرح بها، لكنه في الشخوص التي رسمها، وفي تناوله لقضايا التعذيب وقهر الفكر، إنما يشي بذلك إلى المطلب الحيوي للإنسان، حريته التي لا تقل أهمية عن توفير الملبس والمأكل والمأوى.. من هذه الزاوية، نقرأ رواية ( المينا الشرقية )، ونصب أعيننا حكاية البطل المطارد، وأهمية الحرية للإنسان.. وقبل الاسترسال في الحديث عن ( المينا الشرقية ) نلاحظ أن معظم أبطال رواياته انطوائيون أو انعزاليون، أو قل إن علاقاتهم الاجتماعية محدودة. وبطل ( المينا الشرقية ) أديب، ومن ثم فالعزلة ديدنه حتى يتمكن من القراءة والكتابة، وقد دلل جبريل على ذلك بمقولة أرنست هيمنجواي : " كلما ازداد الكاتب انغماسا في عمله، بعد عن أصدقائه، وأصبح وحيدا ".. وما قاله جابرييل جارثيا ماركيز عن الكتابة، التي هي في تقديره أكثر المهن عزلة في العالم، فلا أحد بإمكانه مساعدة الكاتب في كتابة ما يكتب ( 5 ) . فالراوي هنا هو الأديب عادل مهدي يترأس ندوة أدبية، وهو المسئول عن إدارتها وما يثار فيها من آراء . فنتعايش معه.. ذلك الكاتب الذي دق حسّه وتحول انتباهه إلى شخص ما يظن أنه يراقب تصرفاتهم ، واتجهت به الظنون إلى كل شخص ينطوي على نفسه ، أو ينزوي في ركن ، أو يواظب على حضور الندوات . ويجدّ في البحث عنه ، حتى أن الراوي صار عينا حساسة ، تبحث في كل الاتجاهات عن العين الأخرى المراقبة ‍‍.. وتدل تصرفات عادل مهدي على فقدان الثقة بين الكاتب والدولة ، أو هي أزمة متبادلة بينهما ، بمقدار ضيق مساحة الحرية التي تمكّن الكاتب من أداء رسالته .
    والراوي أو رئيس الندوة ، لم يُبدِ تعاطفا مع رأي أو إبداع ، مكتفيا بعرض وجهات النظر ، وتقديم الأدباء .. وقلما نجد كاتبا اهتم بكتابة رواية عن هموم الأدباء وأحوالهم . لذا تميزت ( المينا الشرقية ) في موضوعها ، بل إنها كسرت أيضا الحاجز المصطنع بما قدمته عن حياة الأدباء .
    إن تضييق الخناق على أعمال الندوة ، من قبل رجال المباحث ، أثّر بالسلب على عملية الإبداع ذاتها . فالمطاردة والشك ينغصان عيشة الكاتب ، ويجعلانه في مواجهة أحد أمرين : إما ألا يحفل بمن يراقب ، ويصر على الجهر بما يراه من رأي ، وإما يتحفظ فيما يقول ويكتب ، إيثارا للسلامة .. ويبدو لنا الراوي متخوفا من العين الراصدة ، لكن الكاتب لم يطلعنا على آراء الراوي التي يخاف من الجهر بها ، وإن أطلعنا على آراء رواد الندوة . وبات الخوف من المطاردة أسلوب حياة تعكر مزاج الكاتب وتوقعه في اضطراب ، سواء جهر بقول أو التزم الصمت .. فالمراقبة قاعدة أساسية سواء شكلت الندوة خطرا ما أو لم تشكل، فالمراقبة أمر لازم ، أو هي نظام اتبع مع أي تجمع ، فيندس من يراقب دون أن يشعر به أحد . في ضوء هذا ، أدار الكاتب أحداث الرواية ، حول العين الجاسوسة التي لا يعرفها أحد ، ولا تكشف عن نفسها , فبدأ الراوي يشك في كل عين ويرتاب من كل قول.
    وها هو رجل لا يخفي أن عمله حضور الندوات والتجمعات ليراقب ما يقال فيها ..وتشكك من مسئول بمكتب الجريدة التي يعمل بها محررا ، بسبب قراءته لكل شيء يرد إلى المكتب ، حتى الرسائل التي تخص موظفي المكتب كان يطلع عليها (6) . وبعد خروج محمد الأبيض من المعتقل ، زاره في بيته ، فحذره من أن يراقب بسبب هذه الزيارة ! (7) . وتحدث عادل مهدي عن بسيوني الذي أعطاه أوراقا جرى فيها بالشطب والإزالة ، فقرأ إسمه ضمن أسماء المترددين على الندوة . وأفهمه رأفت الجارم أنه عين على الندوة ، فاعتقد الراوي أنه هو الذي يراقب الندوة وأعضاءها ! (8). وتطرق شك عادل مهدي إلى محمد الأبيض ، وإلى آخرين ..
    وضرب الكاتب مثلا بأحد الممالئين للسلطة، المنافقين لها بذلك الكاتب الذي يحث الحكومة على الإسراع في الخصخصة، بينما كان الكاتب نفسه يتحدث في عهد عبد الناصر عن حتمية الحل الاشتراكي ‍‍1
    الحديث عن الرجل الذي يراقبه حديث متكرر ، وتتجمع عنده بؤرة الحدث الرئيسي للرواية ، أو أنه العمود الفقري للبنية الروائية .. من ذلك حديثه في الفصل الثامن عن رجل لمحه في المرآة ، كان يجلس على طاولة ويتظاهر بقراءة جريدة . وقد ظن ـ ذات مرة ـ أن محسن سالم هو الذي يراقب الندوة ، لكنه بعد ما اقترب منه ، عدل عن اتهامه له .. وقد ظن أن صاحب مخزن يراقبه ، لكنه أهمل هذا الظن ، وتشكك في الضابط مجدي الأسيوطي (9) .
    تنطبع صورة عادل مهدي في الذهن لرجل خائف متوجس ، الخوف يلازمه كظله ، إنه خائف من شيء يتوقع حدوثه ، وإن كان لا يدري التفاصيل . وعاش بهذه الشخصية من بداية الرواية حتى نهايتها . وتركزت الرواية عند هذه البؤرة . وهكذا كان عادل مهدي في كل ظنونه ، ما إن يرمي ظلال الشك في شخص ، حتى تتلاشى ويتولد الشك في آخر , ولما اقترح فض الندوة ليستريح من المراقبة ، حذره محمد الأبيض ، حيث يمكن الظن بأنه انتقل بنشاطه إلى تنظيم سري . ونصحه باستمرار الندوة مع عدم الخوض في مواضيع سياسية . ومادام لا ينتمي إلى تنظيم ما ، فإنهم لا يقتربون منه ‍‍‍‍.
    وثمة لقطات سريعة موحية ، حين يبتعد الراوي عن عالمه المأزوم ، ومثال ذلك ، حين انتابه أرق حرمه من النوم ، فتطلع إلى العالم الخارجي ، فلم يجد إلا الصمت والهدوء .. ووقعت عيناه على " عجوز وحيدة ، التف جسمها ببالطو من التيل الباهت اللون . جلست على المقعد الحجري ، قبالة الكورنيش ، تطعم ثلاث قطط فتات خبز مغموسا في اللبن " .. وهي لقطة حانية ، توحي بحنان رومانسي نفتقده في الواقع ‍.. ولقطة ثانية من هذا العالم الخارجي ، حين عبرت عربة زرقاء مغلقة ، وبداخلها تتردد أصوات الرجال بالهتاف : إسلامية .. إسلامية .. في إشارة واضحة للواقع المأزوم الذي عاشته البلاد في الثمانينيات (10).
    وتنتهي الرواية بالأزمة ، المتمثلة في موت عيد جزيري ، وهي أزمة نفسية أصابت عادل مهدي ألما من مصير الإنسان ، وتضاءل ـ أمام قدر الموت ـ خوفه وقلقه من المراقبة والمطاردة , وفي هذا يقول : " ما الحياة ؟ وما الموت ؟ وما معنى أن ينتهي المر في لحظة ، يتلاشى ، كأنه لم يكن . تغيب الأحلام والرغبات والأشواق والتطلعات ؟ لماذا القراءة والكتابة والندوة والمناقشات والمراقبة والخوف ، ما دامت الملامح الثابتة ماثلة في مدى الأفق ؟ لماذا نولد إن كان العدم حتمية النهاية ؟ " (11). ثم لقي مصيره الذي كان يطارده، فقد أخبرته أمه أن ثلاثة رجال سألوا عنه ، ثم " ذهبوا إلى سيارة سوداء بلا أرقام في ناصية الشارع ، وجلسوا داخلها " (12) .. فنـزل إليهم مسلما نفسه إلى مصيره المحتوم ‍‍.‍. وتنتهي الرواية بهذه الصورة الرمزية ، ولا أدري هل قصدها الكاتب ، أم جاء الرمز عفو الخاطر؟ فالرمز يستشفه القاريء في المزج بين الاعتقال ، أو الخوف منه ، مع الموت .. الأجل .. لم يعد يحفل بالمراقبة أو يخاف منها ، إنه وصل إلى نقطة النهاية .. وترمز السيارة السوداء إلى المصير المحتوم ، وأن السيارة بلا أرقام ، لأن الإنسان يجهل ساعة أجله . أما الرجال الثلاثة الذين كانوا ينتظرونه ، فإشارة إلى القضاء والقدر ‍. واختلط معنى الموت بالاعتقال ، والخوف من المراقبة يتوازى مع خوف الإنسان من الموت . والمراقبة قد تعني هنا أن الإنسان مسئول عن كل تصرف وسلوك ، وسيحاسب على كل أفعاله . هنا ، تأخذ المراقبة معنى أكثر شمولا من اقتصارها على البعد السياسي فحسب. وبهذا ترتقي الرواية وتتثبت معانيها ومراميها في النفوس ، أكثر ثراء وغنى ، وأبعد غورا وعمقا ، من غير شرح أو طنطنة أو إسهاب ، وتلك عظمة الفن ...
    وحين طالعتُ ( رباعية بحري ) ، جال تساؤل في خاطري عن أهمية ازدحام الرواية بالشخصيات ، ثم ترددت في الإجابة على أساس أن الرباعية البالغ عدد صفحاتها 1084 صفحة تحتمل هذا . وأن ما يبدون شخصيات ثانوية ، قد تجيء أدوارهم في فصول تالية ، ما دامت هذه الشخصيات تحقق في مجموعها ترابط أحداث الرواية ، وتلاحمها وتفاعلها ، يؤثرون في الواقع بقدر ما يتأثرون به ، ويكونون بؤرة الحدث بوسيلة أو بأخرى .. ولما أنهيت الرباعية وجدت شخصيات غفل الكاتب عن دورها ، فبدت هامشية وثانوية .. وخاصة عندما تثار مناقشات فيما بينها ـ غالبا في المقهى ـ وحين تتصدر النقاش ، نظن أن لها أدوارا رئيسية أو أن لها دورا في تفعيل الحدث ، إلا أن دور بعضها يظل محدودا ، أقحمها الكاتب بقصد إثراء المناقشة حول قضية أو موضوع سياسي ، فكانوا أشبه بـ ( كومبارس ) الأفلام السينمائية .. وها هي رواية ( المينا الشرقية ) تزدحم بالشخصيات كأختها ( رباعية بحري )، والقضية التي تعنيني هنا، هو مدى ما حققه الكاتب من ( لذة النص ) على حد قول رولان بارت، أو فلنقل مدى ما حققه النص الروائي من متعة للقارئ.
    وقد أجاد الكاتب رسم الشخصيات النسائية أسامة صابر وسنية عبد المحسن وإيناس عبود .. وكثرة الشخصيات يقتصر على عالم الذكور ، أما الإناث فلهنّ أدوار محددة مرسومة بإتقان .
    وشخصيات ( المينا الشرقية ) تبدو مراوغة ، مثل شخصيات ( رباعية بحري ) ، ما إن يتعايش القاريء مع إحدى الشخصيات ، وقبل أن نصل إلى حد التعايش معها ، أو الإشباع ، حتى يسحب الكاتب البساط من تحت أقدامنا ، وينقلنا قسرا إلى شخصية أخرى ، ويفعل الشيء نفسه مع الشخصية الثانية ، حيث ينقلنا إلى الثالثة ، وقد يرجع إلى حديث سبق أن قطعه عن إحدى الشخصيات ، فتنفتح مغاليق العمل بالتدريج ، ويتم التعرف على معالمه وأحداثه وشخصياته . وهو بهذه الطريقة ينقل قارئه بآلة تصوير سينمائية تلتقط مقاطع ، أو تصور مشاهد من هذا العالم الروائي ، وقد تلتقط الآلة المصورة لقطات عشوائية ، تشبه إلى حد ما عشوائية حياتنا وعبثية مشاهدها التراجيدية .
    على أن كثرة الشخصيات ليست سلبية، إذا نظرنا إليها من منظور العالم الحي الذي نعيشه ، وتشابك العلاقات وتداخلها ، بما يكون شبكة متلاحمة يصعب تبين بدايات ونهايات خطوطها وخيوطها .. وما دام الكاتب يقترب من هذا العالم الحي ـ أو الواقع ـ الذي نعيشه ، انعقدت الصلة بينه وبين المتلقي . وحلا لهذه الإشكالية ، إشكالية كثرة الشخصيات وكونها تشكل ـ في الوقت نفسه ـ نسيج العالم الموار ، فيما قد يعدّ ضرورة فنية أمينة عن هذا العالم ، يتعايش معها القاريء ، فإن مزيدا من الغوص في أعماق هذه الشخصيات ، ومزيدا من التعريف بها ، يكون ضروريا لاقتراب القاريء أكثر من النص الروائي ، وتعايشه واندماجه بطريقة يسيرة هينة، تجعل القراءة أكثر متعة وأقل عناء .
    إلا أن الكاتب حقق مزجا بين شخصيات واقعية وشخصيات الرواية التي هي من ابتداعه ، وإن كانت الشخصيات المبتدعة تلتحم بالواقع ، وإن غيّر الأسماء وبدّل الأحداث .. وفي هذا ، اقتطع جزءا من قصيدة لحسين علي محمد وأنطقها على لسان يحيى عباس (13). كما أشار إلى ثلاث شخصيات أخرى من الواقع : الأولى للشاعر السكندري أحمد فضل شبلول ، حيث عرض نموذجا من شعره عن الإسكندرية ، عشقه وهواه ، كأن الكاتب يشي بأنه ليس الوحيد المتيم بعشقها .. أما الشخصية الثانية فهي الشيخ المحلاوي الذي حرض الناس على التظاهر ضد العدوان على المصلين في الحرم الإبراهيمي (14) .. والشخصية الثالثة لبيرم التونسي حين استشهد نادر البقال بما قاله بيرم متفاخرا بالمكان الذي نشأ وتربّى فيه : " وانا اللي جيت م السيالة .. فيها العيال والرجالة .. شجعان ولكن بهباله .. يا ننتصر .. يأكلناها .. " (15) .. والملاحظ أن ( السيالة ) ربما صادفت هوى في نفس الكاتب، حيث ذكر في الفصل الأخير من رواية ( إمام آخر الزمان ) أن المهدي المنتظر اغتيل على رصيف مقهى السيالة، طبقا لما تؤكده معظم الروايات. وهذا التعاطف والحنين إلى مكان معين أمر طبيعي للكاتب، سواء قصد ذلك أو جاء عفوا، مثلما قرأنا لفريد محمد معوض في دراسته عن ( رباعية بحري ) حبه لشخصية إبراهيم سيف النصر، لكونه من قريته ( سامول ). إنه تعاطف فطري وجنين إلى المكان الذي عشنا فيه، وخاصة فترة الصبا والشباب. وذلك علاوة على ذكره لشخصيات سياسية في معرض سرده للأحداث عن الواقع السياسي ، وهي عادته في معظم رواياته ، مزج الواقع الروائي بالواقع السياسي المتزامن مع الأحداث . علاوة على ما ذكره عن أعلام الصوفية في الثغر في الرباعية وفي غيرها من الروايات .
    وينقلنا قلم الكاتب اللماح في سطور وجيزة إلى ثقافة العصر من خلال الكتب المعروضة لدي باعة الكتب القديمة .. " كتب بأحجام متباينة ، وملونة ، عن عذاب القبر ، وحساب الملكين ، وهول يوم القيامة ، والسحر ، والتنجيم ، والفلك ، والأبراج ، والتصرف السليم في ليلة الزفاف ، وأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، وكيف تقرأ الإنجليزية في أربع وعشرين ساعة " (16).. وهي ثقافة تضم الشتات والأضداد . يختلط فيها الجيد بالتافه ، والثمين بالغث. وتجمع بين الدين والسحر والفن وتعلم اللغات والغيبيات . لكنها ثقافة تفتقر إلى التعريف بالهوية والانتماء للوطن ، تفتقر إلى التاريخ ، ذاكرة الأمة في استيعاب دروس الماضي لبناء لبنات المستقبل .

    الهوامش :

    1. محمد جبريل : المينا الشرقية ـ رواية ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة 2000
    2. جاءت العبارة ( رحلة إلى العالم القديم ) عنوانا لقصة للكاتب حسني سيد لبيب نشرها في مجلة (الأديب) اللبنانية.
    3. اسم مسرحية لرشاد رشدي
    4. د. حسين علي محمد : البطل المطارد في روايات محمد جبريل ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999
    5. مقال محمد جبريل ( ماذا يريد الكاتب ؟ ) ـ مجلة ( الفيصل ) ـ عدد 233 ـ مارس / أبريل 1996م ـ ص 77
    6. المصدر السابق ـ الفصل الثالث عشر
    7. المصدر السابق ـ الفصل التاسع عشر
    8. المصدر السابق ـ الفصل العشرون ( الأخير )
    9. المصدر السابق ـ الفصل الثاني عشر
    10. المصدر السابق ـ الفصل الثالث
    11. المصدر السابق ـ ص 106
    12. المصدر السابق ـ ص 107
    13. المصدر السابق ـ الفصل الأول
    14. المصدر السابق ـ الفصل التاسع
    15. المصدر السابق ـ الفصل الرابع عشر
    16. المصدر السابق ـ ص 101
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفصل الثاني العاشر (الأخير) من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    .................................................. ...................

    روايات عن بحري .. لماذا ؟
    ............................

    نورد فيما يلي مقتطفات من كلمات قالها محمد جبريل، في كتبه، وفي حوارات أجريت معه عن سبب اختياره منطقة ( بحري ) مسرحا للعديد من رواياته..
    ( 1 )
    انشغالي بمنطقة بحري، لا يقتصر على البعد العاطفي وحده. نعم، هي المنطقة التي عشت فيها طفولتي وصباي. أدين لها بذكريات كانت نبضا للعديد مما كتبت. بحري منطقة حياة مكتملة، لها خصائصها التي تختلف عن سواها من المناطق، داخل الإسكندرية وخارجها. وإذا كان جو القاهرة المملوكية هو الذي دفع أستاذنا نجيب محفوظ لاختيار منطقة الجمالية نبضا للعديد من أعماله، فإن الحياة المعاشة، الخصبة، والثرية، هي الدافع ـ في الأغلب ـ لاعتبار منطقة بحري موضعا لكتاباتي..
    ( 2 )
    أستطيع أن أقول إنني استفدت من بيئة الإسكندرية السخية، ليس على المستوى العاطفي والوجداني وحسب، وإنما على مستوى الحياة اليومية والتعامل مع الواقع والاستفادة من خبراته. ولقد كانت حياة صيادي السمك في الأنفوشي، وعسكر السواحل، وصغار الموظفين والحرفيين، بالنسبة لي نبعا لا تغيض مياهه. كنت أجد متعة كبيرة في الوقوف على شاطئ الأنفوشي ومتابعة عملية الصيد بالشباك والسنارة وصناعة السفناالصغيرة والتعرف على العلاقات السرية البسيطة والمشبوهة أيضا. وإذا كان تعرفي على تلك الحيلة البانورامية المتميزة قد انعكس في العديد من أعمالي الفنية مثل " الأسوار "، " إمام آخر الزمان "، " حكايات عن جزيرة فاروس "، " قاضي البهار ينزل البحر "، وعشرات القصص القصيرة، فإن صور الحياة في بحري ـ ماضيه القريب تحديدا ـ تلح علي في أن تكون نبض أ‘مال أخرى مقبلة..
    ( 3 )
    في إحدى قصصه القصيرة، اعتذر " بلزاك " لقارئه أنه أسرف في وصف الشارع الذي جرت فيه أحداث القصة لسبب بسيط أن ذلك الشارع هو الذي ولد فيه " بلزاك " ونشأ. وأعتقد أن هذا الشعور نفسه هو الذي أكتب من خلاله غالبية أعمالي، فأنا لا أستطيع أن أتخيل أبطالي ـ إلا نادرا ـ في غير تلك المنطقة التي تبدأ بسراي التين، وتنتهي بنهاية شارع الميناء.. عالم يفرض نفسه في كل ما أكتب. وأحيانا فإنني عندما أكتب قصة قصيرة أكتشف أن أحداثها تدور في ذلك البيت الذي قضيت فيه طفولتي وصباي. ولعل ابتعادي عن الإسكندرية وإقامتي في القاهرة ثم سفري إلى منطقة الخليج في رحلة عمل مدتها تسع سنوات كان محركا لمشاعر الحنين التي كانت نافذة تطل منها غالبية أعمالي. إنني كنت وما زلت ـ أشفق على أبناء الأنفوشي ورأس التين وبالذات تلك البيوت المتساندة التي إذا تهدم أحدها فإنه ما يلبث أن يجر وراءه بيوتا متلاصقة، ومع ذلك فإن الشعور بالأسى يغمرني كلما تبدلت صورة المكان الذي عاش فيه من قبل عبد الله النديم، وسيد درويش، وسلامة حجازي، ومحمود سعيد، وبيكار. أنا لا أطمح أن يصبح حي " بحري " في أعمالي مثلما أصبحت قرية " ماكوندو " في روايات جابريل جارثيا ماركيز .. إلا أن بحري يتميز عن " ماكوندو " بأنه واقع وليس خيالاً . وأعترف أنني كنت أقبل على كتابة " حكايات عن جزيرة فاروس " لا باعتبارها قصصاً لها مقومات القصة القصيرة ولا حتى باعتبارها فصولاً في رواية ، وإنما باعتبارها تقارير عن الحياة اليومية في بحري في الفترة من نهايات الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو .
    ( 4 )
    لقد ولدت ونشأت في الإسكندرية، لذلك فمن الطبيعي أن تكون مكاناً للعديد من أعمالي، حتى التي جرت أحداثها الحقيقية في أماكن أخرى جعلت الإسكندرية فضاء لها ! فأحداث روايتي " الصهبة " الحقيقية في قرية بالقرب من الجيزة، لكنني فضلت أن أنقلها إلى الإسكندرية - إلى حي بحري تحديداً – لأنه المكان الذي أعرف ملامحه جيداً، ومن ثم فإنه بوسعي أن أتحرك فيه بحريتي ! .. ومع ذلك فإن المكان في رواياتي لا يقتصر على الإسكندرية. أذكرك برواياتي : قلعة الجبل، واعترافات سيد القرية، والأسوار, ومن أوراق أبي الطيب المتنبي، وبوح الأسرار … الخ.
    ( 5 )
    وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة تدور فيها أحداث رواياته، هي جيفرسون، في حين اخترع جارثيا ماركيز مدينة ماكوندو تعبيراً عن الحياة المتميزة في أمريكا اللاتينية، فإني حرصت على الكتابة عن حي " بحري " بالإسكندرية باعتباره كذلك. لم أحذف ولم أضف إلا بمقدار الاختلاف بين الواقع والفن، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع، لكنه إيهام بذلك الواقع. حي بحري ليس " ماكوندو " جارثيا ماركيز. ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات. أهل بحري يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون. لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هي البيئة الحقيقية التي يجدر بأعمالنا الفنية أن نتحرك في إطارها، توصلاً للإنسانية.

    الهوامش :
    .........
    1. محمد جبريل : مصر المكان ( دراسات في القصة والرواية ) – الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة – سلسلة ( كتابات نقدية ) – فبراير 1998 – العدد 71 – ص 6
    2. جريدة ( الشرق الأوسط ) – 27 يناير 1989 – حوار أجراه الأمير أباظة مع محمد جبريل
    3. المصدر السابق
    4. د. حسين علي محمد : من وحي المساء – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر – الإسكندرية 1999م – فصل ( حواران مع الروائي محمد جبريل ) – ص 199
    5. مقال محمد جبريل ( ماذا يريد الكاتب ؟ ) : مجلة ( الفيصل ) – عدد 233 – مارس / إبريل 1996 – ص 77

    ***

    صدر للكاتب:
    ...............

    1-باقة حب : ( دراسة أدبية ) بالاشتراك – القاهرة 1977م.
    2-حياة جديدة : ( قصص ) – ( طباعة ماستر محدودة ) – سلسلة ( أصوات ) بالشرقية 1981م.
    3-أحدثكم عن نفسي : ( قصص ) – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1985م.
    4-طائرات ورقية : ( قصص ) – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 1992م.
    5-كلمات حب في الدفتر : ( قصص ) – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1993 – ط1.
    6-سبعون ألف آشوري : ( قصص مترجمة ) – وليم سارويان – دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع – حلب 1994م.
    7-ابن عمي ديكران : ( قصص مترجمة ) – وليم سارويان – دار الصحافة الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع – حلب 1994م.
    8-الخفاجي .. شاعراً : ( دراسة أدبية ) – تقديم البشير بن سلامة – رابطة الأدب الحديث - القاهرة 1997م.
    9-كلمات حب في الدفتر : ( قصص ) – تقديم خليل أبو دياب – سلسلة ( أصوات معاصرة ) بالشرقية 1997 – ط 2.
    10-دموع إيزيس : رواية – مركز الحضارة العربية – القاهرة 1998م.
    11-نفس حائرة : قصص – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر – الإسكندرية 1999م.
    12-مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي بين الإنصاف والمغالطة : بحث – مكتبة الملك عبد العزيز العامة – الرياض 1999م.

    (انتهى الكتاب)
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مقال: رواية'' الحمار الذهبي'' أول نص روائي في
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01/03/2010, 06:01 AM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 06:09 PM
  3. نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 50
    آخر مشاركة: 06/08/2008, 05:31 AM
  4. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 10:28 AM
  5. روائي
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16/03/2007, 11:31 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •