الفصل الثاني العاشر (الأخير) من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
.................................................. ...................

روايات عن بحري .. لماذا ؟
............................

نورد فيما يلي مقتطفات من كلمات قالها محمد جبريل، في كتبه، وفي حوارات أجريت معه عن سبب اختياره منطقة ( بحري ) مسرحا للعديد من رواياته..
( 1 )
انشغالي بمنطقة بحري، لا يقتصر على البعد العاطفي وحده. نعم، هي المنطقة التي عشت فيها طفولتي وصباي. أدين لها بذكريات كانت نبضا للعديد مما كتبت. بحري منطقة حياة مكتملة، لها خصائصها التي تختلف عن سواها من المناطق، داخل الإسكندرية وخارجها. وإذا كان جو القاهرة المملوكية هو الذي دفع أستاذنا نجيب محفوظ لاختيار منطقة الجمالية نبضا للعديد من أعماله، فإن الحياة المعاشة، الخصبة، والثرية، هي الدافع ـ في الأغلب ـ لاعتبار منطقة بحري موضعا لكتاباتي..
( 2 )
أستطيع أن أقول إنني استفدت من بيئة الإسكندرية السخية، ليس على المستوى العاطفي والوجداني وحسب، وإنما على مستوى الحياة اليومية والتعامل مع الواقع والاستفادة من خبراته. ولقد كانت حياة صيادي السمك في الأنفوشي، وعسكر السواحل، وصغار الموظفين والحرفيين، بالنسبة لي نبعا لا تغيض مياهه. كنت أجد متعة كبيرة في الوقوف على شاطئ الأنفوشي ومتابعة عملية الصيد بالشباك والسنارة وصناعة السفناالصغيرة والتعرف على العلاقات السرية البسيطة والمشبوهة أيضا. وإذا كان تعرفي على تلك الحيلة البانورامية المتميزة قد انعكس في العديد من أعمالي الفنية مثل " الأسوار "، " إمام آخر الزمان "، " حكايات عن جزيرة فاروس "، " قاضي البهار ينزل البحر "، وعشرات القصص القصيرة، فإن صور الحياة في بحري ـ ماضيه القريب تحديدا ـ تلح علي في أن تكون نبض أ‘مال أخرى مقبلة..
( 3 )
في إحدى قصصه القصيرة، اعتذر " بلزاك " لقارئه أنه أسرف في وصف الشارع الذي جرت فيه أحداث القصة لسبب بسيط أن ذلك الشارع هو الذي ولد فيه " بلزاك " ونشأ. وأعتقد أن هذا الشعور نفسه هو الذي أكتب من خلاله غالبية أعمالي، فأنا لا أستطيع أن أتخيل أبطالي ـ إلا نادرا ـ في غير تلك المنطقة التي تبدأ بسراي التين، وتنتهي بنهاية شارع الميناء.. عالم يفرض نفسه في كل ما أكتب. وأحيانا فإنني عندما أكتب قصة قصيرة أكتشف أن أحداثها تدور في ذلك البيت الذي قضيت فيه طفولتي وصباي. ولعل ابتعادي عن الإسكندرية وإقامتي في القاهرة ثم سفري إلى منطقة الخليج في رحلة عمل مدتها تسع سنوات كان محركا لمشاعر الحنين التي كانت نافذة تطل منها غالبية أعمالي. إنني كنت وما زلت ـ أشفق على أبناء الأنفوشي ورأس التين وبالذات تلك البيوت المتساندة التي إذا تهدم أحدها فإنه ما يلبث أن يجر وراءه بيوتا متلاصقة، ومع ذلك فإن الشعور بالأسى يغمرني كلما تبدلت صورة المكان الذي عاش فيه من قبل عبد الله النديم، وسيد درويش، وسلامة حجازي، ومحمود سعيد، وبيكار. أنا لا أطمح أن يصبح حي " بحري " في أعمالي مثلما أصبحت قرية " ماكوندو " في روايات جابريل جارثيا ماركيز .. إلا أن بحري يتميز عن " ماكوندو " بأنه واقع وليس خيالاً . وأعترف أنني كنت أقبل على كتابة " حكايات عن جزيرة فاروس " لا باعتبارها قصصاً لها مقومات القصة القصيرة ولا حتى باعتبارها فصولاً في رواية ، وإنما باعتبارها تقارير عن الحياة اليومية في بحري في الفترة من نهايات الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو .
( 4 )
لقد ولدت ونشأت في الإسكندرية، لذلك فمن الطبيعي أن تكون مكاناً للعديد من أعمالي، حتى التي جرت أحداثها الحقيقية في أماكن أخرى جعلت الإسكندرية فضاء لها ! فأحداث روايتي " الصهبة " الحقيقية في قرية بالقرب من الجيزة، لكنني فضلت أن أنقلها إلى الإسكندرية - إلى حي بحري تحديداً – لأنه المكان الذي أعرف ملامحه جيداً، ومن ثم فإنه بوسعي أن أتحرك فيه بحريتي ! .. ومع ذلك فإن المكان في رواياتي لا يقتصر على الإسكندرية. أذكرك برواياتي : قلعة الجبل، واعترافات سيد القرية، والأسوار, ومن أوراق أبي الطيب المتنبي، وبوح الأسرار … الخ.
( 5 )
وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة تدور فيها أحداث رواياته، هي جيفرسون، في حين اخترع جارثيا ماركيز مدينة ماكوندو تعبيراً عن الحياة المتميزة في أمريكا اللاتينية، فإني حرصت على الكتابة عن حي " بحري " بالإسكندرية باعتباره كذلك. لم أحذف ولم أضف إلا بمقدار الاختلاف بين الواقع والفن، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع، لكنه إيهام بذلك الواقع. حي بحري ليس " ماكوندو " جارثيا ماركيز. ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات. أهل بحري يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون. لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هي البيئة الحقيقية التي يجدر بأعمالنا الفنية أن نتحرك في إطارها، توصلاً للإنسانية.

الهوامش :
.........
1. محمد جبريل : مصر المكان ( دراسات في القصة والرواية ) – الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة – سلسلة ( كتابات نقدية ) – فبراير 1998 – العدد 71 – ص 6
2. جريدة ( الشرق الأوسط ) – 27 يناير 1989 – حوار أجراه الأمير أباظة مع محمد جبريل
3. المصدر السابق
4. د. حسين علي محمد : من وحي المساء – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر – الإسكندرية 1999م – فصل ( حواران مع الروائي محمد جبريل ) – ص 199
5. مقال محمد جبريل ( ماذا يريد الكاتب ؟ ) : مجلة ( الفيصل ) – عدد 233 – مارس / إبريل 1996 – ص 77

***

صدر للكاتب:
...............

1-باقة حب : ( دراسة أدبية ) بالاشتراك – القاهرة 1977م.
2-حياة جديدة : ( قصص ) – ( طباعة ماستر محدودة ) – سلسلة ( أصوات ) بالشرقية 1981م.
3-أحدثكم عن نفسي : ( قصص ) – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1985م.
4-طائرات ورقية : ( قصص ) – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 1992م.
5-كلمات حب في الدفتر : ( قصص ) – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1993 – ط1.
6-سبعون ألف آشوري : ( قصص مترجمة ) – وليم سارويان – دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع – حلب 1994م.
7-ابن عمي ديكران : ( قصص مترجمة ) – وليم سارويان – دار الصحافة الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع – حلب 1994م.
8-الخفاجي .. شاعراً : ( دراسة أدبية ) – تقديم البشير بن سلامة – رابطة الأدب الحديث - القاهرة 1997م.
9-كلمات حب في الدفتر : ( قصص ) – تقديم خليل أبو دياب – سلسلة ( أصوات معاصرة ) بالشرقية 1997 – ط 2.
10-دموع إيزيس : رواية – مركز الحضارة العربية – القاهرة 1998م.
11-نفس حائرة : قصص – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر – الإسكندرية 1999م.
12-مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي بين الإنصاف والمغالطة : بحث – مكتبة الملك عبد العزيز العامة – الرياض 1999م.

(انتهى الكتاب)