الفصل الخامس من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
................................................

رباعية بحري

(رباعية بحري ) ( 1) لمحمد جبريل عمل روائي متميز يستحق الوقوف عنده والحديث عنه . تذكرنا بثلاثية( 2 ) نجيب محفوظ ، و ( الأيام ) لطه حسين، ورباعية الإسكندرية( 3 ) للورنس داريل، ورباعية (العابرون) ( 4 ) للكاتب التونسي البشير بن سلامة، وخماسية عبد الرحمن منيف ( مدن الملح ).. آخذين في الاعتبار الخصائص المميزة لكل كاتب ، مقرِّين بأن لكل عمل خصوصية يتفرد بها . وإن كان من الممتع تناول الباحثين لهذه الأعمال الرائدة بالدراسة والمقارنة .. أيضا صدرت رباعية ( الرجل الذي فقد ظله ) ( 5 ) لفتحي غانم، ورباعية ( الرحيل ) ( 6 ) لعبد المنعم الصاوي، وثلاثية جمال الغيطاني ( التجليات )،ورباعية ( مدارات الشرق ) ( 7 ) للكاتب السوري نبيل سليمان، وثمة رباعية أخرى للكاتب الليبي الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه ، وربما صدرت ثلاثيات أو رباعيات أخرى، ولم أسمع عنها .
و ( بحري ) هو المكان الذي تدور فيه أحداث رباعية جبريل ، وهو ـ أيضا ـ الموطن الأصلي للكاتب السكندري، وصفه في أحد كتبه فقال : " تبدأ بما يلي ميدان المنشية ، وتتجه إلى ميادين وشوارع وحواري وعالم حياة، في الموازيني وأبو العباس والبوصيري والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانة والمغاوري والحلوجي والعدوي وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراي رأس التين . سميت بقسم ـ أو حي ـ الجمرك ، لوجود أبواب المنطقة الجمركية بها ، فضلا عن العديد من شركات النقل والتوكيلات الملاحية والمستودعات ، وعمل عدد كبير من أبناء الحي في الأنشطة المتعلقة بالميناء من نقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ للسفن . وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذي تطل عليه المنطقة من ثلاث جهات ، كالحمالين والصيادين والبحارة والعاملين في الدائرة الجمركية، ودكاكين بيع أدوات الصيد ، وتجار الأدوات البحرية .. " ( 8 ) .
و ( بحري ) يزيدنا الكاتب قربًا منها، ويتحدث عنها في مودة وحب كي يتعرف القارئ عليها، يقول عنها: "بحري هو أشد أحياء الإسكندرية ازدحامًا بالمساجد والزوايا وأضرحة الأولياء . الدين هو الملمح الأهم : المرسي أبو العباس ، البوصيري، ياقوت العرش ، الطرطوشي ، محمد صلاح الدين ومحمد المنقعي ومحمد مسعود أبناء الإمام زين العابدين بن الحسين ، الشريف المغربي ، أبو وردة ، محمد الغريب شقيق قطب السويس عبد الله الغريب ، أبو نواية ، الطرودي ، نصر الدين ، مكين الدين ، علي تمراز ، عبد الرحمن ، خضر .. العشرات من أولياء الله الصالحين ، مساجد وزوايا وأضرحة وأحواش أذكار " ( 9 ) .
فالدين هو الملمح الأساسي لمنطقة ( بحري ) ، مما دفع الكاتب إلى تسمية الأجزاء الأربعة للرواية بأسماء الأولياء .. سماها ـ أولا ـ ( رباعية بحري ) في إشارة واضحة للمكان وأهميته ، واعتزاز الكاتب وانتمائه للمكان الذي عاش فيه . ثم سمى كل جزء باسم ولي من أولياء الله الصالحين ، في إشارة دالة على أثر هؤلاء الأولياء في نفوس الناس . فتطالعنا عناوين الأجزاء الأربعة بالأولياء : أبو العباس ، وياقوت العرش ، و البوصيري ، وعلي تمراز ، على الترتيب . والدلالة نأخذها أيضا من الجد السخاوي ، الصياد العجوز المحنّك إذ يقول : " هذه المدينة ملجأ الأولياء " ( 10 ). وولع الكاتب بهؤلاء الأولياء يرجع إلى ما تتمتع به سيرتهم من منزلة كريمة ، كأنه قصد ـ من زاوية أخرى ـ إلى الحديث عن ( إسكندرية ) أخرى غير تلك التي يتردد عليها المصطافون كل عام ، هو يقود خطانا في شوارع ودكاكين ومقاهي وبيوت منطقة بحري ، ويقود خطانا ـ أيضا ـ في حلقة السمك وبحر الصيادين ، والجوامع والمساجد والزوايا . نتجول في كل شبر من ( بحري ) ، تلك المنطقة الشعبية التي يتأثر ساكنوها بالأولياء والمشايخ والمريدين والأئمة .. وبلغ حبهم للأولياء منزلة جعلتهم يرونهم في المنام . وتتبدى رموز الرواية ومفاتيحها في هؤلاء الأولياء ، الغائبين الحاضرين .. فقد توفوا منذ زمن بعيد ، وبقيت آثارهم تدل عليهم ، وبقي حب وولاء الناس لهم .. مما يجعلهم بمثابة الضمير الحي الذي يشع في نفوس الناس قيمًا روحية مضيئة، فتردّ المرء عن الحرام، أو توقف الظالم عن غيّه، أو توحي للمرء بالتوبة عن المعاصي .
نجح الكاتب الفذ في أن يجعل منطقة ( بحري ) ـ التي ولد ونشأ فيها ـ ( مكانًا حيًا ) ـ على حد قول المفكر الفرنسي الحداثي هنري لوفيفر، فـ " المكان بالنسبة للإنسان لا يمكن أن يُدرك مجردا عن التاريخ، وأن النزعة التاريخية تسيطر على إدراكنا له ، لأن المكان يُعاش وتُخلق له أبعاده الاجتماعية ، تماما كما يُعاش الزمن " ( 11 ) .. لقد شخصت مقامات أولياء الله أماكن حية، نتلمس فيها عبق التاريخ القديم ، والأثر الذي تركه هؤلاء الأولياء في نفوس الناس. والمساجد بمآذنها وقبابها العالية، كأنها هي الأخرى ترنو إلى السماء، وتبتهل إلى الله أن يحمي عباده ويشد أزرهم. والمقهى نتعرف عليه من خلال أحاديث جلسائه، مكانا حيا يشي بالتفرد والتألق معا. والبحر مكانا يمتد بامتداد الأفق شاهدا على التغيرات في أحوال البشر، والبحر أيضا مقبرة ابتلعت الكثير من البشر، وهو البحر المكان الساحر الذي انبهر به مختار زعبلة فكان عشقه الذي لا ينتهي، فقال في فخر وزهو : "البحر هو أنا " .. وهو كالسمك يموت إذا ابتعد عن البحر . حتى حمدي رخا وهو يتخيل( يوتوبياه ) الحالمة من نسج خياله، يرسم حدود جزيرته ويحدد مكانها ويختار ناسها ..
وفي تحليله المختصر للرباعية ، رأى الدكتور سعيد الطواب أن شخصيات الرباعية تخضع جميعها لسطوة المكان الديني المقدس .. ".. بحيث يمكننا القول إن البطل الحقيقي هو المكان الديني . فحركية الشخوص تضعف وتتلاشى أمام قسوة الأقطاب وقوانين الأوراد الصوفية ، فالشخصيات ، ملامحها ، أفكارها ، تقاليدها ، فلسفتها، نابعة من جزئين لا يتجزآن : [ السلطة الدينية للمكان ، والبحر ]، الأول وجود معنوي ، والثاني وجود مادي " (12) .
واحتفاء جبريل بالمكان انتقلت عدواه إلى فريد محمد معوض، الذي قرأ الرباعية، فالتقط من شخصياتها إبراهيم سيف النصر، لأنه من ( بلدياته )، من قريته ( سامول ).. وكتب عنه كأنه شخصية واقعية من ( سامول )، فتمثله حيا، وتفاخر به، وسط زحام ناس ( بحري ) السكندري. وسلط عليه الأضواء، حتى يخالجك إحساس بأن الرباعية ارتكزت أعمدتها عليه. وهذا النوع من الكتابة الأدبية يشكل ـ في رأيي ـ إبداعا آخر. ولعلي أقف قليلا عند هذه المحطة، لشدة إعجابي بالتناول النقدي الفريد، وبما حققه الكاتب من مزج بين الشخصية ( إبراهيم سيف النصر ) كما رسمها جبريل، وبين حبه لقريته ( سامول ). ولنقرأ هذه السطور التي افتتح الكاتب بها دراسته : " سعدت كثيرا بأن جعل الروائي الكبير محمد جبريل إحدى شخصياته في رباعية بحري من قريتي ( سامول ) واعتبر ذلك بمثابة رسالة حب موجهة لي من كاتبنا الكبير، رسالة جاءت في لحظات إبداعية راقية وفي عمل روائي فذ اسمه ( رباعية بحري ). قبل أ، يصدر الجزء الثالث ( البوصيري ) كنت قد التهمت جزئيها الأول والثاني، حدثته عن سعادتي الغامرة بما قرأت فقال : انتظر المفاجأة في ( البوصيري ). ستجد شخصية من ( سامول ). ثم أردف قائلا : خطرت في بالي يا فلح فجعلتها موطن إبراهيم سيف النصر أحد أبطال روايتي. وانتظرت ذلك الجزء، وما إن صدر حتى رأيت نفسي مدفوعا إلى اسم قريتي ( سامول )، ثم اندفعت ثانية إلى شخص إبراهيم سيف النصر، ترى ما ملامحه ؟ سمات شخصيته، وكيف تبوأ مكانا في هذا العمل الضخم الذي يمور بالحياة السكندرية، ويحفل بجو روحاني صاف وتراث شعبي ثري وشخوص لا أول لها ولا آخر.. الرباعية في تقديري ديوان الإسكندرية الكبير. أشفقت على ذلك الإبراهيم. سيتوه في زخم شخصيات كثيرة.. الجد السخاوي.. علي الراكشي.. حمادة بك.. عباس الخوالقة، وشخوص لا حصر لها ولا عدد، فضلا عن المكان كبطل كبير. هل سيتمالك سيف النصر ؟ قلت : والله إن كان ساموليا بحق فيتحتم علي ألا أقلق لأنه سيكون فلاحا عنيدا متماسكا صلبا أمام كل النوات " ( 13 ) .
ويقول أيضا : " ولأن إبراهيم سيف النصر فلاح نبت في طين القرية، فكان ودودا مثلها سهلا كتدفق الماء في قنواتها، ويبدو سيف النصر على صلة طيبة بعدد كبير من أهل بحري وصديقا قديما لكل من يحدثه يلقي التحية ويتلقاها ـ كأنه يسير في شوارع سامول والابتسامة ثابتة على شفتيه والأسئلة عن الصحة والأحوال " ( 14 ) . و " يمارس إبراهيم حياته العادية وعند الملمات مثل حريق القاهرة نراه يفكر في سامول قريته في وسط الدلتا / العودة إلى الجذور، البداية الموغلة في الأرض أو الثبات / رحلة الشقاء القديمة " (15). ويطلق الأديب مقولته الشاملة بأن شخوص جبريل تحن دائما إلى الأصل والمنبت.. وأورد أمثلة بعدة شخصيات من الرباعية : عبد الله الكاشف من ( بركة غطاس )، والشيخ قرشي من ( العسيرات )، ويوسف بدوي من ( عزبة خورشيد )، وإبراهيم سيف النصر من ( سامول ).. وقد انحاز جبريل نفسه إلى أصله ومنبته ( حي بحري ) السكندري، فكتب عديدا من الروايات والقصص جعل ( حي بحري ) فيها مسرحا لأحداثها. وقد خصصنا هذه الدراسة الأدبية للإبداعات الروائية التي دارت أحداثها في هذا الحي السكندري الشعبي العريق، ليكون الكتاب صورة حية للمكان الذي أحبه جبريل، وتفاخر به وتباهى.. وانتقلت العدوى إلى فريد معوض فالتقط الخيط نفسه وكتب عن شخصية من قريته، ودبج عنها وعن جبريل سيمفونية حب للمكان الذي تمتد إليه جذورنا على اتساع وطننا الحبيب مصر..
والرواية في إطارها العام أشبه بـ ( بانوراما ) مجسمة لمنطقة ( بحري ) ، ناسها ، وأحداثها ، وعادات وتقاليد امتدت في أجيال متعاقبة ، وتتوغل في مجتمع الصيادين ، وتسرد حكايات عن البحر ، الأسطورية والواقعية .. وهي في هذا تشبه رواية الكاتب البرازيلي جوزيه سارني ( 16 )( سيد البحر ) ، التي تحكي أيضا تاريخ الصيادين في مارانيان ، وتسرد أساطير وحقائق عن صيادين غلاظ وبسطاء في آن واحد، مصورا عواطفهم وغرائزهم الفطرية .
ولا تقتصر ( رباعية بحري ) على تصوير آلام وآمال الصيادين، وإنما تقدم عالما سحريا متفردا، وتتحدث عن الجوامع والمساجد والزوايا ، وعن الشيوخ والمريدين .. وانعكاس الأحداث السياسية في نفوس أهل الحي : كمعاهدة 36 وقرار تقسيم فلسطين ، وكراهية الإنجليز ، والانتخابات ، وتضامن الشرطة مع الشعب ، وسرقة معسكرات الإنجليز ، والاشتراك في المظاهرات . والأحداث الاجتماعية مثل : ليلة مولد السلطان ، والختان ، وليلة الحنة ، والزفة الإسكندراني ، وليلة الزفاف ، والطلاق . وأحداث في حياة الصيادين : كالنوّة ، وموسم السردين . وفواجع مثل : حالات غرق جمعة العدوي والبهاء والراكشي وغيرهم ، والشوطة ، وموت مصطفى عباس الخوالقة . ويكثر الكاتب في عرض الشخصيات الرئيسية والثانوية ، ويأتي بأسمائهم ثنائية , وأحيانا ثلاثية ..وهو إذ يحتفي بالأسماء ، ويغرم بكثرة الشخصيات ، فهو لا يعرج إلى وصف ملامح الشخصية، مركزًا على ما تقوله وما تصنعه من أحداث .. ولنأخذ مثالا من هذه الشخصيات،في رسمه لشخصية ( تفاحة ) الردّاحـة ( 17 ) ، ففي وصفه للردّاحة ونوازعها وطريقتها ما يبين عن التصوير الصادق للواقع. وأبان دور الفتوة الذي أتقنته لقاء أجر معلوم، كما أنها تنوب عن الشخص الذي وكّلها في كل ما يريد .وتتجلى بؤرة الأحداث كلها أو معظمها في حي (بحري ) ، الذي بدا للقارئ بؤرة مركزية تستقطب الأضواء وتكشف ، من خلالها ، المستور . وهو يحيل القارئ إلى مجتمع منتصف الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ، مصورًا عادات ناسه وتقاليدهم .. مما يشكل براعة فذة من الروائي ، في أن ينقلك إلى عصر قديم ـ ( ولد الكاتب في 17 فبراير 1938 ) ـ عاش فيه صغيرا. ربما بعض الأحداث لم يدركها في حينها .. وربما قرأ عنها أو سمع حكايات كثيرة حولها، ناهيك عن خيال المؤلف في نسج خيوط الرواية . وقد أتقن التعبير عن هذا الزمان ، كأنه واحد من أهله ، وأبرز سلوك الناس وأفكارهم ومعتقداتهم .. وناس الرواية خليط متنوع ، قد يكون متجانسًا أو متنافرًا ، لكن ( بحري ) تجمعهم في قارب واحد ، رغم اختلاف الأمزجة والميول ، مثلما يتجمعون في ليلة مولد السلطان أبي العباس ..
ثمة ملمح هام للرباعية ، يبرز في خصوصية بعض الفصول ، التي إذا فصلتها عن السياق ، بدت استقلاليتها كلوحة فنية تشكيلية ، أو أنها عمل قصصي يصح تناوله ـ بمعزل عن سياق الرواية ـ قصة فنية مكتملة التقنية ، وهي في الوقت نفسه عنصر متفاعل مع بقية العناصر / الفصول .. ولعل ذلك يفسر السر في نشر الكاتب بعض الفصول كعمل مستقل في الدوريات المختلفة أو في مجموعات قصصية له ، دون أن يشير إلى أن القصة فصل من فصول عمل روائي في طريقه إلى النشر. والأمثلة للقصص مكتملة العناصر الفنية، نجدها في قصة (حقيقة ما جرى للصياد جمعة العدوي ) ( 18) ، وقصة ( عنترة يسترد جواده ) ( 19 ) ،وقصة ( بركة ) ( 20 ) ، وقصة (إيقاعات صامتة )( 21). وثمة قصة وردت في مجموعته القصصية ( هل ؟ ) بعنوان ( تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام ) (22 ) ، ضمّنها روايته ( إمام آخر الزمان ) في طبعتها الثانية ( 23 ) . والفاصل الزمني بين نشر الرواية في طبعتها الأولى ( عام 1984 ) والمجموعة المشار إليها ( عام 1987 ) ثلاث سنوات . أي أن الكاتب أضاف فصولا لروايته في طبعتها الجديدة ، مما يبين هموم الكاتب المشغول بإبداعاته قبل وبعد نشرها .
والرباعية مزج رائع بين أحداث بيئة سكندرية شعبية وأثر الموروث الديني، بصرف النظر عن الاعتقاد الصحيح والخطأ فيه، وتزخر الرواية بأحداث تاريخية قد يدعمها بتوثيق أو يكتفي بتسجيل وقائعها ويهتم في الرباعية بتسجيل عادات اجتماعية تمتد جذورها في الماضي ، ويمتد أثر بعضها حتى وقتنا الحالي. ولعل أبلغ ما قاله الكاتب عن رباعيته : " وأذكر أني كنت أقبل على كتابة رواياتي: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز، لا باعتبارها قصصًا لها مقومات القصة القصيرة، بل ولا حتى باعتبارها فصولاً في رواية، وإنما باعتبارها " تقارير " عن الحياة في بحري، في الفترة من نهايات الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو. كان شاغلي ـ أحيانا ـ تسجيل القيم والعادات والتقاليد، من خلال الشخصيات التي عرفتها ـ أو أخرى شبيهة لها ـ عن قرب، أعوام طفولتي وصباي ".. مع عنايته " بتضفير الحقائق الموضوعية بالقيمة الجمالية ".. وحرصه على فنية القصـة ( 24 ). والذي يشدّ انتباهنا، ما كتبه الروائي عن أنه لا يترك التفصيلات، مهما بدت صغيرة .. " ما يبدو تافهًا قد يبين توالي الأحداث عن أهميته، والشخصية التي لا شأن لها، ربما ـ في لحظة ما ـ تسفر عن ملامحها " (25 ).. أي أنه من أنصار تسجيل الانفعالات والخواطر ، وأن كل شيء صالح للكتابة عنه . وكل شئ نظنه بعيدًا عن محيط ما نكتب قد يكون مفيدًا للعمل الإبداعي، ونخلص من هذا إلى أن الأديب الحق ينبغي عليه أن يكون تلقائيا وعلى سجيته.
والاهتمام بالتفصيلات الصغيرة مهما بدت تافهة أو بسيطة، يتضح فيما بعد أهميتها في البناء الفني وسياق الأحداث، لكن الأديب الناجح هو الذي يجد في الخواطر والتفصيلات والأحداث صلصالاً طيِّعًا يستطيع أن يخلق منه عملاً إبداعيًّا ناجحا. واستخدم النهج نفسه في روايته التسجيلية (الحياة ثانية ) ( 26 ). ويهتم بالشخصية الثانوية اهتمامه بالرئيسية. وتلك طريقته في الصياغة الروائية التي تهدف إلى الإحاطة والشمول، قدر ما يتيسر له ذلك . ومهما تفوق المبدع في عمله الإبداعي فلن يصل إلى الكمال، لأنه ليست هناك كلمة نهائية في الفن. فالفنان يحاول أن يصور ( بانوراما ) الحياة الإنسانية ، بما فيها من ملهاة ومأساة ، ويحرص أن تكون رؤيته شاملة .
ويتجه جبريل نحو الاهتمام بجزئيات يراها تحتوى الصورة الكلية، لذا لجأ إلى المداخلات والحوارات والوصف والاستشهاد بالشعر وعبارات قالها الأعلام، كما يكثر من الشخصيات التي تسهم في بناء المعمار الروائي، وإن شكلت زحامًا شديدًا ليس في طاقة القارئ العادي استيعابه بسهولة.ورغم أن الحوار كتب بلغة عربية سليمة، يصح نطقها بالعامية والفصحى معًا، فيما يعرف باللغة الوسيطة، إلا أن بعض الحوارات تشذُّ عن هذا، وتُكتب بعامية مقبولة، مثل قول بيومي جلال: " كل اللي ييجي من الصعيد مليح .. " (27)، وهو قول سائر على ألسنة العامة، مما استوجب وضعه بحالته.
كما أن الحوار لا يوظف لبناء الخط الدرامي فحسب، وإنما استهدفه الكاتب وسيلة يتعرف منها القارئ على سير الأحداث، كأنه أراد مسْرَحَة الرواية، بجعل أبطالها هم صانعي الأحداث، فيشخصون أمام القارئ وفي مخيلته من خلال الحوار، دون تدخل يذكر من الكاتب . وإن كان التركيز على الحوار ـ في أغلب الأحوال ـ يفقد الرواية متعة الصياغة التي يتلوّن فيها الأسلوب ويتشكل في قوالب مختلفة. كما أن الاعتماد على الحوار وحده لا يكفي لكتابة رواية تزدحم بشخصيات رئيسية وثانوية، ولم يعد يكفي القارئ أو يشبع رغبته في التحليل أو السرد، وإيغاله في عالم الرواية.. فقد ينصرف ذهنه ـ وله العذر ـ عن متابعة الأحداث. وأسوق هنا مثالاً في فصل ( التحليق بلا أجنحة )، ذلك الحوار الممتع بين قاسم الغرياني ومحمود عباس الخوالقة :
" قال قاسم الغرياني :
ـ لو أن المعلمة أنصاف أقامت فرعًا لنشاطها في المولد ..
قال محمود عباس الخوالقة :
ـ منه لله سيد الفران .. استأثر بأنسية وحده !..
قال الغرياني :
ـ تزوجها على سنة الله ورسوله ..
قال محمود :
ـ كانت تقضي ..
قال الغرياني في لهجة معاتبة :
ـ يا رجل ! .. سيد صاحبك ! ..
قال محمود :
ـ ألم يجد إلا أنسية ليتزوجها ؟! .. " ( 28 ).
دار الحوار حول أنسية المرأة التي أرضت نزوات رجال الحي، وتمنت أن يتزوجها سيد الفران ويسترها .. وتحقق لها ذلك بعد عناء ومشقة. لكن الحوار يدلنا على الفراغ الذي تركته لدي طالبي اللذة الحرام والمتعة الرخيصة. يدلل الحوار على القيمة الفنية التي يحدثها النص حين ينسحب الكاتب، ويخلي مكانه لشخوص، كل يعبر عن رأيه.. يتحسر ابن الخوالقة على ابتعاد أنسية عنهم، ويستريح الغرياني لهذا .. ويكشف التباين هنا أبعاد شخصية كل منهما. وللحوار دلالته ومتعته، دون شرح أو إيضاح .. إلا أن الكاتب نقلنا فجأة من هذا الحوار الممتع ـ دون فواصل أو مقدمات ـ إلى موضوع آخر إذ يقول :
" قطب عم إبراهيم القسط جبهته متذكرًا :
ـ زكي تعلب ؟
ثم وهو يهز رأسه :
ـ نعم .. طرد من المعهد، وسافر إلى بلدته ..
اتسعت عيناه بالقلق :
ـ لماذا ؟..
ـ سألت عنه المباحث لصلته بالإخوان المسلمين .. ففصلته إدارة المعهد ..
ـ هل ألقي القبض عليه ؟
مطّ القسط شفته السفلى :
ـ لا أعرف !.. ودّعته حتى نهاية المسافرخانة .. شيخنا يرفض اشتغال الطلبة بالسياسة ..
أردف الرجل بصوت هامس :
ـ قيل إنه فصل لانتمائه إلى جماعة سرية .. " ( 29 ).
هكذا نقلنا الكاتب من جو إلى آخر، من موضوع إلى آخر، من حال إلى حال، دون أن يهيئ القارئ للتغيير المفاجئ. ودون أن يعقد رباطًا مشتركًا بين الموضوعين.. فالحوار الثاني يتحدث فيه إبراهيم القسط ـ الذي لا نعرفه تفصيلاً ـ كأنه يتحاور مع نفسه في مسألة القبض على زكي تعلب، والموضوع منبتّ الصلة بالحديث عن أنسية وزوجها سيد الفران.. إلا أن تباين المواضيع والنقلات الفجائية قد يكون ـ في الإبداع الروائي ـ مقصودًا لذاته لإحداث صياغة جمالية، أو صنع ( بانوراما ) للحياة قد لا تخضع لتسلسل منظم ، محاكاة لمجريات الواقع ..
(يتبع)