لحم بلحم

الآذان الصادر من مئذنة الساعة المعلقة على الحائط يعلن العاشرة ليلاً..استئذن كل واحدٍ منهم منتحياً إلى مضجعه .. لكنه ظل يسامرها حتى آذان الحادية عشرة ..نظر إلى الحائط فتأكدت أنه يريد الفر إلى غرفته..اصطنعت التثاؤب ثم استأذنته ..فأعاد يذّكرها أن توقظه فى صلاة الفجر..غداً سيقصد وجه كريم فى أمرٍ جلل.

ــ ادع لى أن يوفقنى و يرزقنى إياه.

بسطت كفيها وراحت تمطر بحرارة قلب ملتاع , ودفنت رأسه بين ذراعيها , ولولا ضيق الوقت وصحوها مبكراً كى تنظم أكواب الحليب و الفطائر القديدة من أجل أشقائه لأجلسها حتى الصباح يملأ بؤبؤه من عاطفتها الأبدية .. لكنه أشفق عليها وفضّل أن يتركها بهدوء.

جنحت الأم إلى فراشها وهى على يقين بأمر ولدها الأكبر , فلم تكن تلك هى المرة الأولى , بل سبقتها مرات ومرات منذ أن أصبح هو الأب و الابن .. يصحو مع الطيور ويعود معها .. أوصاه والده بها وبأشقائه , حينما التهمته رصاصات الاحتلال الغاشم , ولفظ أنفاسه فى حجر زوجته الملتاعة .

كان يشعر بأرق .. حاول أن يستدرج النعاس إلى وسادته كى يريح جسده المتعب ولو لنصف ساعة قبل أن تحن ساعة الطيور , لكنه لم يفلح..
الغرفة مفعمة بالذكريات .. هنا صورة جدتى .. وهنا اخوتى وأنا أتوسطهم .. وهنا عروسان , وكانت جميلة ـ أمى ـ بفستان الزفاف .. وهنا مصحف ومسبحة من الكهرمان لأبى , ثم اقترب من النافذة يبعثر نظراته على الشارع الطويل .. هناك مدرستى الإبتدائية .. وفى هذا الركن كنا نختبأ .. وهنا أيضاً تحت النافذة كنت أناديها بأجمل كلمة .. أمى أمى .. كنت أتناسى كتاب اللغة العربية , ودائماً كنت أحصل على كعكة حمراء فى النحو .. وهناك فى اليمين بيتاً كان جميلاً ـ قبل القصف ـ يحتضن " نادية " حب الثانوية .. وفى الخلف " شرين " حب الجامعة .. أما فى هذا البيت القريب , وضعت يدى فى يد عمها , وخنقت بنصرى الأيمن بدبلة فضية منقوش عليها بالإنجليزية " N " وقلب مقروح به شظية عدوٍ أهوج , وفى ذاك البيت أيضاً تزللت المشنقة من حول إصبعى حينما آثرت علىّ ذلك البهرج الزائف ..
أما محمود صديق الطفولة , فيسكن هذه الحارة الضيقة , وتسكنه , وفى الصباح الباكر سنتقابل هناك .. مع الطيور .

قلبه يرتجف ويشعر بمغص يعلو معدته .. تابع عقارب الساعة وهى تنقر الحائط وتلدغ قلبه المقروح .. باقى من الزمن ساعة ويجيىء آذان الرابعة صباحاً ..هذه المرة لم يكن واثقاً النفس .. فى عنقه أرواح جوعى تنتظر عودته .. بل وهُيأ له أنه سيبعث الروح فى الذكريات الريّضة ويعيدها إلى الحياة .. كان على يقين بقدرة الله موزع الأرزاق فى البحر و الحجر .

علت المآذن وساعة الحائط بالتكبير , واستيقظت الأم .. وجدته ساجداً بخشوع .. كان يرددُ :
" اللهم أرزقنى و ثبتنى , اللهم أعزنى "
عانقته مصدقة " آمين آمين " .
كانت العقارب واسعة الخطوة , وسريعة سريعة .. لكن أنفاسه كانت أسرع , ورحابة صدرها تفوح بدفءٍ لم يذق له طعم من قبل .. كان يشعر براحة فى بدنه و هى تلثم جبهته العريضة .. و بدأ نقر قلبه مع نقر الحائط يتنافسان .. بصعوبة شديدة اقتلع نفسه من قفصها الصدرى .. ثم تأبط حقيبة صغيرة أعدها ليلاً .. يحرص عليها كلما قصد وجه ربه الأعلى .. ثم انصرف كبوح النهنهة فى صدر طائر مكسور الجناح.

البيوت العارية نائمة على جانبى الرصيف مخدوشة الحياء .. تشبعت جدرانها بأدخنة البارود المسرطن .. ويأرقها صراخ متآكل لطفلة عاجزة عن النوم ـ ذاب لحم ظهرها ـ :
ـ أمى أمى .. ساعدينى يا أمى .. الكــــلاب تنهش فى ظهرى .
صراخ الطفلة أجج جذوة ملتهبة فى رأسه .. لحومنا سلسة الحصاد ولقمة سائغة لفوهات البنادق .... ولحوم الخنـــــــــازير حرمها الله على أنيابنا .. إذن كيف نأكلهم أكلاً ؟! لم أكن فقيهاً من قبل كى أجد الوسيلة المشروعة , ولم أغص عميقاً فى فتاوى أكل اللحم .. لكن ورد فى كتاب الله أن العين بالعين و الأنف بل الانف .. إذاً فلابد أن اللحم باللحم , وهو قانون فطرى عرفته الطيور الجارحة .

الأزقة لا تزال ناعسة إلا من صراخ الطفلة .. والأبدان التى يحملها على عاتقه مازالت يقظة .. يمشى خطوة و يتلفت خلفه خطوات .. كانت نافذة الغرفة لازالت مضيئة .. قلّب ناظريه هنا وهناك .. بحث بتوجس و ترقب .. كان محمود ينتظره تحت المئذنة .. فأومأ إليه بهرولة .. ساقاه ضعيفاتان هذه المرة .. سأله عن باقى الطيور فأجابه :
ـ بانتظارنا هناك .. باقى دقائق أسرع .

كانوا يجلسون مع الغانيات برؤوس مدلاه , كزجاجات المنكر المتناثرة بغباء فى صحن الساحة ـ وأستغفر الله العظيم مشاهدتهم تبعث فى النفس التقززـ وتساعد على القيىء رائحتهم العفنة وفوح الزجاجات .. وكأسنام البعير المقلوبة كانوا يتكومون .

الأماكن ملتحفة بالسكون , وصراخ الطفلة صار بعيداً .. و الطيور تنتظر بلهفٍ .. وصل محمود و مصطفى واكتمل السرب .. على عجلٍ طوقوا جيادهم و خصورهم بالأحزمة ..كل واحدٍ يحكم وثاقه .. جاء دور مصطفى .. نظر خلفه , فتباينت له من بعيد نوافذ الذكريات وغرفة أمه و عراء البيوت .. أدركه محمود , فجذبه بقوة و زجه داخل السرب , وفى لحظات كانت الطيور متأهبة للتحليق .. تشابكت كفوفهم وراحوا يرعدون بالشهادة , ثم تطايرت أجنحتهم وسط الساحة تعانق القرص الأرجوانى النابت فى حضن الماء من بعيد.....!!