مـنـاضـل قـديـم
ـ قصة قصيرة ـ

خرج مبكرا من مكتبه الكبير في الوزارة, تمنى عدم المرور بالحرس الذي يصر على أخذ التحية العسكرية, بأقدام تكاد ضرباتها تخسف الأرض من تحتها, بالكاد يسيطر على ارتباكه أمام رهبتها, و كأنها تود تأكيد سطوة الثورة الوليدة, استغرب سائقه, و قد همَ أن يفتح له باب السيارة الفارهة, مسدلة ستائر الشبابيك, لما طلب منه أن يأخذ بقية اليوم إجازة, قبل ذهابه أعطاه بعض النقود كعادته, و كأنه يقدم له رشوة عتقه, من أجل أن يشتري ما يشاء لأولاده, أخذ السائق المال بابتسامةٍ ممتنة, استطال له شاربه الكث, الذي يظلل شفته العليا, يماثل شارب ذلك الوجه, مكفهر الملامح دوما, الذي كان يهتز بعنف كلما علا صوت صياح مسجونيه داخل الزنازين المتعفنة..
أراد أن تتسع خطاه ما استطاع, بعد أن رمى ربطة عنقه على الأرض في نفورٍ كبير, رغم الألم الذي يوخز ساقيه اللتين تورمتا مرارا, و كسرتا أكثر من مرة على مدار أكثر من خمسة عشر عاما من الضرب و تهاوي السياط, فكفلتا تعيينه مستشارا للوزير, أحد رفاقه العسكريين, و ممن اعتلوا الدبابات التي اقتحمت القصر الجمهوري, و إن لم تمضِ سنة واحدة على توظيفه, قبل تعرضه للاعتقال أمام ارتعاب قلبٍ هجس باضطراب نبضاته عن بعد, في ذات اليوم الذي اتفقا فيه على تقدمه لخطبتها من والدها, رغم تخوفه من عدم موافقته بسبب نشاطه السياسي, ما إن استلَم مهام منصبه, التي لم يتبين منها شيئا لحد الآن سوى تلقيه مكالماتاهاتفية, لم يستطع توطيد نفسه على الرد على مجاملاتها بما يتطلب وضعه الجديد من لباقة, و رسائل التهاني و التبريكات التقليدية, أخذ يبحث في سجلات الموظفين, و يسأل من بقي من زملائهم عنها, فعلم أنها قد تزوجت منذ ما يقرب من إثنتي عشرة سنة, ثم سافرت مع زوجها و طفلتهما إلى الخارج, و لكنه ظل يتوقع أن يراها في أي وقتٍ أو مكان, و ليس فقط في غرفة مكتبه الخانقة, رغم تزويدها بشتى وسائل الراحة, لم تلج تفكيره يوما, تتقدم منه, بعد أن تأخذ منه سكيرتيرته التي يثيره حسنها كفتىً مراهق, الإذن بدخولها .. بعينين يتمنى أن تبدد إشراقتهما ضبابية أيامه, المزهوة بالانتصارات, تحملان حنو ابتسامتها التي كانت ترتب له تفاصيل عالمه, رغم فوضويته و تباعد أمانيه, ينزاح عن ألقهما دمع وداعها حتى الباب الخارجي للوزارة, رغم خشونة تحذيرات رجال الأمن, و وجهٍ لم تنل منه السنوات التي غيبته عنها, تتدلى فوق جبينه خصلٌ من شعرها الطويل, ملتمع السواد, المعقوص دوما, و ذلك العطر الذي كان يغار أن يشمه سواه عليها, رغم كل أفكاره التقدمية .. حتى لما أتاه أحد الصحفيين لإجراء حوار معه حول سنوات القهر التي أمضاها داخل أقبية النظام السابق, و التي شق عليه ترجتمها إلى كلماتٍ ترضي فضول القراء المتشوقين لكشف أغوار الجراح النازفة داخله, تقتات على أعصابه ليل نهار, كل ما تمناه عندئذٍ أن تطلع هي على تلك الجريدة, ذات التوزيع المرتفع في كثير من دول العالم, و أن تشاهد صورته التي تصدرت الصفحة, و إن أظهرته بعينين شبه مغمضتين, محاولا إخفاء جفلته أمام وميض الكاميرا الساطع, كوهج الضوء الذي كان يُسلط على وجهه أثناء جلسات تحقيق كانت تنتهي دوما بإرغامه على التوقيع على أوراقٍ لم يستطع أبدا معرفة ما دوِن فيها من اعترافات, و إن كانت قد تضمنت الشتائم و الصفعات و الركل و البصق الممتزج بلزوجة عرق وجهه, و خيوط الدماء النازفة من أنفه و شفتيه المتورمتين ..
استلبت أقدامه شوارع لم يتوقع أن الحظ سيحالفه برؤيتها يوما, و لو من خلف القضبان التي تنتصب أمام عينيه, لم تخلُ أبدا من سيارات الجيش و القطعات العسكرية و رجال الأمن, أكثر ما لفت انتباهه المتخفون منهم, وقد ظن لوهلة, و رعدةٌ خفية تتناوش أوصاله, أنهم يترصدون خطواته دون أي شخصٍ آخر, راح يتنقل, بلا وعيٍ منه, بين الأرصفة التي ألفت تسكعه الطويل في أعوامٍ مضت, بل كاد ينسل إلى الأزقة التي كان يلجأ إلى تشعباتها هربا من مطارداتهم, و كأنه سيجد كل أبواب البيوت مشَرعةً لإيوائه .. مر أثناء سيره, منهك القوى, من تحت الأعلام الخفاقة, و لافتاتٍ بيضاء, ترفرف بكلماتٍ متأججة الحماس, كبيرة الخط, متوهجة الحمرة, فيما الأغاني الوطنية الجديدة, كما لو كانت قد تم تأليفها و تلحينها خلال عدة دقائق, تصم الآذان, حتى وجد نفسه أمام ذلك المقهى القديم, الذي اعتاد و أصحابٌ, لا يعرف عن أخبار أغلبهم شيئا, الجلوس فيه, يخفون تحت حصير أرائكها المخلعة منشورات الحزب قبل أن يوزعوها فيما بينهم بمنأى عن العيون, بينما تصخب قهقهات أحاديثهم التافهة و نكاتهم الفاضحة أمام الجميع, و خاصةً المخبرين السريين, الذين كانوا يميزونهم جيدا, اتخذ ركنا قصيا عن الشارع الضاج بالحركة القلقة, يواجهه زعيم البلاد الجديد في صورةٍ من الصور التي باتت توزع في كل مكان, بإطارٍ مذَهب, يتطلع إلى وجوه الجالسين, المثقلة بشتى التساؤلات, لا يدري ما الذي جعله يظنهم يوجهونها إليه بالتحديد, أخذ يرشف, بيدٍ يعتريها شيءٌ من الرجفة, في تمهلٍ و تلذذ شديد, من قدح الشاي الحار الذي قدمه له العامل الشاب, لم يتعرف عليه صاحب المقهى العجوز, المشغول بالإشراف على تعليق شرائط الزينة, ملتمعة الألوان, بذات الهمة التي أعقبت الثورة الماضية, دخن سيجارة كاملة, دون أن يقتسمها مع آخرين, كما اعتاد, و شعر بنشوةٍ غريبة لما أعقبها بأخرى, راح ينفث أدخنتها قويا في الهواء, و عيناه لا تنفكان عن البحث في الوجوه عن أي شخصٍ يعرفه, أو حتى كان يتبادل معه سلاما عابرا, ود أن يشارك الشابين الجالسين على مقربةٍ منه أحاديثهما الذي تلاشى همسها أمام توجسهما من تطفل نظراته, فأخذا يتطلعان, بعيونٍ مترقبة, إلى التلفاز المعلق في إحدى زوايا المقهى, في صمتٍ ملبد بذات تعبيرات وجهه و رفاقه في الماضي البعيد, و صوت ذات المذيع الهادر يعيد البيانات الأولى للثورة, و يستعرض قوائما جديدة, تتضمن أسماء المقالين و المحالين على التقاعد, و أولئك الذين صدرت بحقهم أحكام السجن, لفترات متفاوتة, تصل إلى المؤبد, في ذات المعتقل الذي وأد جل سنوات شبابه في جحور جحيمه, و من أمرت المحكمة العسكرية ـ السرية ـ المشَكلة على عجل بإعدامهم في أحد الميادين العامة, دون أن يتم التنويه عن الاستقالة التي أرسلها للوزير صباحا, و التي أضافت إسمه, فيما بعد, إلى قائمة المعادين لمبادئ الثورة و توجهاتها المباركة ...

......................................