الأعمال الفائزة بمسابقة المربد الأدبية الثالثة 2008



الفائز الأول في قسم الشعر

عبدالعزيز بن عبدالله الحميضي

بغداد : تختصر المسافة

بغدادُ سيّدةُ البلاد
دوماً ترافقني وتسهرُ حين أمرضُ ,
جالساً , ظهري القتادْ
وحين يختنق البكاء ,
ويعلنُ الوقتُ الحدادْ
كالفجر تنهضُ من رحيق الجرحِ ,
شامخةً كما أحلى المدائن
عربيةٌ تاريخها عمرُ السلام
هي وردةُ الأيام والأحلامْ
تهدي لنا طلعاً على تاج الخزام
ترمي غلالتها الشفيفةَ ,
فوق زند الريحِ ,
من عمق البنفسج والجراح
تتزين الطرقاتُ والشرفاتُ
تنتشرُ المحبّةُ في أناشيد الصباحْ
في الرسم , في التلوين ,
بين الناس في الأفراحِ,
تكبرُ في ابتسامات الصغار ,
وفي أهازيج المدائن
في مواويل العصافير الحبيسةْ
في ترانيم اللقاءات الرتيبةْ
بغدادُ تختصرُ المسافةَ بيننا
وتحدّدُ الأبعادْ
تتنفسُ الأشجارُ خضرتَها وترفعُ ماءها
للنخل والأرياف والأنهار
وتوحّدُ الأسماء والأشياءَ والألوانَ والأضدادْ
بغدادُ تكتبُ كلَّ تاريخ الوطنْ
أسفارَ أمتنا وتختزلُ الزمنْ
مذ كان ينحت "حامورابي" في مسلّتهِ الوثيقةْ ؛
أمجادَ بابلَ
يرسمُ الشكل البدائي الجميل
لأحرف اللغةِ العريقةْ
كلماتهُ تحكي عن الأمل المبعثر في الحديقةْ
ومواسمُ الذكرى رمادْ
ها نحن يجمعنا التشتتُ والبعادْ ..
إنّا نؤرخُ حزننا الفصلي ,
بالصمتِ المدنّس والسوادْ ..
ونعيدُ أرشفةَ المواقف ,
والأغاني والمعارك والجهاد ..
نُلغي علاقتنا الحميمةَ ,
تحت ضغط الخوف من "قيلٍ وقال"
فالكلّ رهنُ الإعتقالْ
والكلّ يحلمُ أن يُعيدَ الروحَ
للأحلام .. في صور الخيالْ
***
لا الفجرُ يأسو -بابتسام النور-أنفسنا الجريحةْ
لا الليلُ يُخفي عُريَ حاضرنا , وتتبعنا الفضيحةْ
ماتت على قسماتنا كلماتُنا ,
وخبتْ براكينُ القريحةْ
وكأنما بعثَ الذهولُ عبارةَ الموتِ الصريحةْ
***
ما ضاع ضاعَ ولن تجودَ بهِ " أتى"
ما كانَ كانَ فأين أهربُ من "متى " ؟
...
والأرضُ ما زالت تدور ُ ,
على فحيح الأفعوان ِ
حرباً على الحبّ المجنّحِ بالزنابقِ والأغاني
وأنا الفتى العربيّ -وحدي-فوق أسلاك المنافي الشائكةْ
أبدو غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان ِ
***
رحّالةٌ أنا في جراح الشرق مفقودُ الهويّةْ
من جرحِ قرطبةٍ رحلتُ لجرح بغدادَ الأبيّةْ
مرثيةٌ .. هي كلّ يومٍ, ألفُ قنبلةٍ ذكيّةْ
تلك القضيّة , والحقيقة لم تعد أصلاً قضيّةْ
***
يا وردةَ "السيّابِ" يا رمز الطهارةِ والبراءةْ
من سوف يُرجع للصباح على مدينتنا نقاءةْ
ويجففُ العينينِ للمأمون وهو يرى بكاءهْ
***
شبحٌ كئيبٌ أنت يا وطني وفيك الحزنُ يكبرْ
ما زلتَ منكمشاً وتاريخُ الحضارةِ فيك يصغرْ
...
الغربُ يصعدُ ..
أنتَ تهبطُ في الحضيض إلى اللهبْ
سأظلّ أصرخُ قائلاً
" تبت يدا حُلمي وتبْ "
ويظل وجهكَ بين أضرحة المدائن ينتحبْ
وتظلّ أمريكا تفتشُ في ثراكَ عن الذهبْ
ويظل أبطالُ الخطابةِ يهتفونَ بلا سببْ
ويظل تاريخُ العروبةِ صافعاً وجهَ العربْ

=======
===================
=======

الفائز الأول قسم القصة
نهى رجب

شرفة الدار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


ابتسامته تضيء شرفة الدار، نكاته الطريفة تملأ أجواء الجلسة بروح مرحة، يتوسط الحديث كنورس قائد، تنجذب إليه نجمات السماء فتسهر تطارحنه النقاش.كان قريبا في الشبه من والدي، ولكن حداثة سنه ومشاركته لنا السمر الليلي والمذاكرة والطقوس البيتية الصغيرة جعلته بمثابة أخ كبير.

أذكره طويل القامة مثل شجرة سرو سامقة، أرى صورته الآن مثل ظل أخضر في جدول ماء. يجلس القرفصاء يرتب باحتراس أكواز الذرة الخضراء فوق اللهب، ثم يقوم ليلوح بمروحة الريش، وبين فرقعة الشي وصوت غنائه العذب تتهلل في أيدينا لكنة التصفيق.

اعتاد لبس الجلباب الأزرق ذي الأكمام الواسعة في الدار، وأحب أكل الجبن (القريش) والجرجير والفول الأخضر والفطير الساخن صباحًا. وعندما يسافر عائدا للعاصمة مساء يهفهف على جسده القميص الأبيض المخطط والبنطال الأنيق.

لكل مقام مقال عنده حتى اللغة لها وجهان:
وجه صعيدي يتحدثه عندما يكون بصحبتنا في الدار.
ووجه قاهري ينطقه بين أصدقائه في الجامعة.
أعجبني طموحه وفرحت بحصوله على عمل مرموق في العاصمة، وزواجه بجامعية جميلة، سمعت أخبارا قلائل عن إنجابه صغارا تمنيت أن أراهم.

طواه الزمن في صفحاته بعيدا عن ذاكرتي وانغمست في يومياتي بين أبنائي ومن حين لآخر أسأل عنه فيردون: هو بخير (وليس من رأى كمن سمع). والآن عندما علمت أنه مريض وربما موشك على الرحيل (لا يوجد من يقول الحقيقة لحبيب غائب) لم أدرك ماذا أفعل غير أن أنظر من شرفة الدار وأعد نجمات السماء وأظن أن إحداهن نجمتي التي تنتظرني أن أصعد إليها وأمسك بها مثلما كان يحكي لي وأنا صغيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ