اللغة في مجموعة قصص مريم الضاني
( سرداب التاجوري ).؟..( 1)
إن الفكرة القصصية مهما كانت محلقة وعميقة ، تسقط إذا لم يتم تقديمها ضمن قالب لغوي محكم ومناسب ..، لذلك بدأت بعنصر اللغة عند مريم لأهميته
توحي القراءة الإنطباعية الأولى لقصص مريم ، بلغة سلسة وتلقائية غير متقعرة ، لا تتعمد غريب المفردات لإثبات قدرتها اللغوية ، وحين نتعمق في قراءة قصصها ونحللها نجد أننا أمام لغة لا يعتورها الضعف ، ولم يتسلل إليها الملل ، وكذلك نشعر بأن مريم جالسة أمامنا ( تحكي ) أكثر مما تقص ، بتلقائيتها المفرودة على مساحات القصص في المجموعة .
إن مريم ( تبوح ) دون تعمد البوح ، بما يجعل اللغة متماهية مع غرضها من جهة ومع السرد من جهة أخرى .
ففي قصة( أسبرين ) التي تدور حول التقاعد وانشغال الزوج بامرأة ثانية ، يبدأ بوح مريم التي تعبر عن حزنها لتقاعدها فتقول ( أين مملكتي التي أفلت شمسها ) ويتوالى البوح الشجي ، لكنها عند سماع صوت سيارة زوجها تعبر بعمق ..
( أزيز سيارة سالم شحنني بالحماس ) ....!
( فنثرت على عنقي ....قطرات من عطر العود )
لغة حميمة وتلقائية ...
ثم نقرأ لفتة رائعة وهي تعبّر عن اهتمام الزوج بالمرأة الأخرى من خلال تلفونها ( أغلق هاتفه ونظر إليه ( بودّ ) ....وكلمة ( بودّ ) هذه ربما تكون أعمق كلمة دالة معبرة في هذه القصة .لأبعادها وعمقها ودلالة اهتمامه بالمرأة الأخرى على حسابها رغم تهيؤها له ....ثم تعبر بشجن عميق وبوح شجي حقا ..وآسر وحزين ...( اتكأت بظهري على الجدار ...وتنهدت بحرقة ..آآآآه ) .
وتقفز إلى كلمة ( سحر ) ..مباشرة
سحر وما أدراك ما سحر ...!؟ طالبتها الجميلة .....وزوجته الأخرى ...!!!!
سحر ( تلك البئر المطمورة ...التي ما خلت أنني ذات يوم سأنزع غطاءها وأنزل دلوي ...إلى أعماقها السحيقة لأخرجها مترعة بالوجع ).. إن مريم هنا تكتب قصيدة حزينة عاتبة ، في حين تختلف لغة مريم وهي تتحدث بلسان التلميذات الصغيرات في قصتها
( ثلاث على طريق ) فتقول ( مع السلامة يا أبلة ...يا عسولة ..)
لكنها حين تحدث نفسها في نفس القصة تعود إلى شجوها
( أكاد أسمع زفيف الرياح ) ، ( أنصت إلى وقع قدمي ووجيب قلبي ...وتهدج أنفاسي ) ..................وقع ....ووجيب وتهدج ....كلمات عميقة دالة على حالتها النفسية .
ونقرأ في نفس القصة تعبيرا شديد الدلالة كلمة ( وتناءيت عن البيوت ) ..تناءيت ...كلمة تختلف تماما عن معنى ( بعدت ) فهي كلمة تتضمن بدء ووسط وتنامي البعد التدريجي ...وجاءت في مكانها تماما لتعبر عن تنامي الإبتعاد عن البيوت تباعا .
ولنقرأ دقة استعمال مريم لكلماتها المعبرة في هذه الجملة
( أحستا بدنويّ الشديد ، فأجفلتا ....وركضتا ...مبتعدتين ...!!!!!!)
أحستا .....فأجفلتا على الفور كردة فعل للإحساس الفوري( استعمال الفاء في أجفلتا ) ..لكن حين يتم استيعاب الحالة وإلى أن يفكرا بالهرب ...ستمر برهة زمنية قصيرة ..هنا تقول مريم ( وركضتا ) ( بالواو) التي تفيد مسافة زمنية أطول قليلا من الفاء ...
تماما كما ورد في سياق الأية القرآنية
( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر) فرغم تتابع الحركة السريعة لكن برهة زمنية ستفصل بين توقف السماء عن الإمطار وبدء بلع الأرض للماء المتساقط .
وتتابع ( فتوقفتا .....ثم سارتا ) وهكذا تستعمل حروفا تفصل بينها مسافات زمنية تتماهى والحالة الحركية للفتيات الصغيرات .
وفي ( طرب وحرب وبرتقال )
تتوهج اللغة ..وتغضب وتتوتر مع الحالة النفسية لشعور بطل القصة ، فعند سماع نبأ
( انفجار في بغداد ) تقول ( كأن يدا تعتصر قلبه ) ولاحظوا معي الألم الذي ينز من كلمة ( تعتصر ) ..وعند سماعه محاضرة بعيدة عن الأحداث الجارية تقول ( لم يطق ) وهو تعبير دال جدا ،وتتصاعد حدة التعبير اللغوي ...حين سماعه نبأ ( غارة على غزة ) وخوفه على أهله ومنزله وحارته فتقول مريم ( كان في حالة ذهول وانفعال ، و( يضرب رأسه بيديه ) ويتنامى إحساسه أكثر فأكثر لتقول ( أحس أن أطرافه قطع من الثلج ) وتختم هذا التنامي بكلمة ( لم يصغ إليه أحد منهم ) وهو ينادي على أولاده ليمكنوه من سماع الأخبار ..،
وتعود إلى الحديث بلسان الأطفال ...في قصة ( مارد ) ( سألني وائل بلثغته الواضحة ) ، لكنها في نفس القصة وبين اختلاط لحظات شاعرية رومانسية مع زوجها ولحظات تذكرها لحبيب أو زوج سابق ....تدخل في تعبيرها اللغوي عمق النفس الإنسانية وهي تقول
( انتصب بيني وبينه ذلك الجدار السميك ) وبالذات في كلمتي (انتصب..جدار وسميك) لتعبر عن حاجز فاصل وقوي بينها وبين زوجها وهو تذكرها للزوج السابق ...!!
وتتابع بلغة معبرة أخرى لتقول ( ألقم ثديي ...وأهدهدها ) هل هناك كلمة أبلغ تصويرا ودقة لحالة الرضاعة من ( ألقم ثديي...!! )
وفي نفس القصة المليئة بالبوح تعبر عن الشرخ بينها وبين زوجها فتقول ( ثمة صوتٌ مبهم ، يمتزج بالنبض ) ..ما أبلغ كلمة مبهم وأبلغ منها ( يمتزج بالنبض ) .
أما في قصة ( ضوء )
ونقرأ تعبيرا وصورة جديدة تماما ومحلقة استعملتها مريم في وصف شارع اسفلتي فتقول
( شارعا إسفلتيا أسودا ...كآهة طويلة ) ...الشارع آهة طويلة ما هذا الإبداع يا مريم ...!
وحيت تريد أن تعبر عن حالة اللامبالاة وعدم الإهتمام في نفس القصة من نبأ تهجم الفاتيكان على النبي الكريم ماذا تقول ...( وشوارع المدينة ، التي تعبث بشعرها وتبتسم ببلاهة )
هذه تماما حالتنا كعرب هذه الأيام أمام حصار غزة
( الإبتسام ببلاهة ...!! )
ولكي تعبر عن الأمل في وجه الطفل الصغير تقول ( ابتسم للصغير ، وظل يحدق ، في ذالك الضوء ، الموشك على الإنبثاق ) ( ابتسم ، يحدق ، ضوء ، موشك ، انبثاق ) ولو جمعناها لكانت تعني الأمل ببساطة ..!!
يتبع .....