النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة"

  1. #1 مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    نهضة العرب مشكلة!

    بقلم: أحمد حسن الزيات
    ...................................

    نعم، كذلك قال السياسي الخطير ديجول، وقوله من وجهة نظره سديد معقول؛ فإن الجنرال يرى على ما يظهر أن العرب دواب سُخِّروا لنقل الأحمال وجرِّ الأثقال، أو هم على رأيه الأفضل عبيدٌ خٌلقوا للخدمة والاستغلال. ومتى عرف العبد أو الحيوان حقَّه وواجبه، فقد حطَّم راكبه، أو قتل صاحبه!
    بهذا المنطق الفرنسي وحده تستطيع أن تعقل ما قال هذا الرجل. فإذا أكرهت منطق الناس، على تصحيح قوله بالقياس، فقد حمّلته ما لا يُطاق، وكلَّفته ما لا يُدرك! وأي عقل غير عقل الجنرال يُسيغ أن فرداً من نوع الإنسان يرى في نهضة أخيه الإنسان مشكلا تُعقد لحله المؤتمرات، وخطراً تُقام لصدِّه المعسكرات، وسبباً يختصم لأجله العالم بأسره؟!
    لقد زعموا أن «الانتداب» رسالة الغرب إلى الشرق، فهو يحيل صحاريه فراديس، ويجعل أناسيَّه ملائكةً، فما بالهم إذن يتستّرون بالغيظ، ويتنمّرون بالعداوة، لأن العرب قد أدركوا أنهم ناس كسائر الناس، لهم وطن لا يشركون به، واستقلال لا يُساومون عليه، وسلطان لا ينزلون عنه؟! أليس ذلك لأنهم يرمون بنشر مدنيتهم إلى استعباد الجسوم، وبتعميمِ ثقافتهم إلى استرقاق الحلوم، وبفرضِ انتدابهم إلى امتلاكِ الأرض؟
    ***
    أتدري من أسمح من ذلك العتل الغليظ الذي يُلقي بجسمه اللحيم الشحيم على صدر الفتاة الرشيقة في ملأ من الناس، ثم يفغر فاه الأبخر، ويصيح بمثل صوته الأصحل: أحبك فلا بد أن تحبيني، وأدعوك فلا مناص من أن تجيبيني؟ أسمج منه ذلك الطفيلي الرقيع الذي يقتحمُ عليك دارك ويقول لك: صادقْني لأنني أحبُّ طعامك، وضيِّفني لأنني أريد إكرامك، وعاهدْني لأكون سيدك وإمامك، وأطعني لأقوم في كل أمر مقامك، فإن أبيتَ أو تأبَّيت فالسيف، حتى تقول: أنا المضيف وأنت الضيف!
    يا لكثافة الظل! أبهذه الرقاعة الثقيلة والفضول البغيض يطمعون أن يحملوا العرب في شمال أفريقية، وفي لبنان وسورية، على أن يأخذوا «الجنسية» ليعطوا الدين، ويُمنحوا الثقافة ليسلبوا العقل، ويدخلوا في التحالف ليخرجوا من الوطن؟!
    يا لسخافة العقل! أبهذه النية المدخولة والكلام المزوّر يُخادعون خمسين مليوناً من العرب تثور في دمائهم أربعة عشر قرنا من التاريخ المجيد الحافل بالنبوة الهادية، والخلافة العادلة، والفتوح المحرِّرة، والقيام على ملك الله بالعمارة والعدل، والمحافظة على تراث الفكر بالزيادة والنقل؟
    إن العرب بعد اليوم لن يُخدعوا، وإن أبناء الفاتحين لغير الله لن يخضعوا، وإن «جامعة الدول العربية» لهي الظاهرة الأولى لفورة الدم وثورة التاريخ؛ فليتدبَّر ذلك القائمون على إقرار السلم، والموقعون على ميثاق السلامة!
    ــــــــــــــ
    * أحمد حسن الزيات: وحي الرسالة، ط10، دار الثقافة، بيروت 1405هـ-1985م، ج3، ص220، 221.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الزيات.. صاحب "الرسالة"

    بقلم: أحمد تمام
    ........................

    شهدت مصر في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري نهضة أدبية وفكرية، شملت كل فنون الأدب وألوان الفكر، وازدانت الحياة بكوكبة من فحول الشعراء، وكبار الكُتّاب، وأئمة اللغة والبيان، وأساطين العلم والفكر، وقادة الرأي والتوجيه، ودعاة التربية والإصلاح، وجهابذة الفقه والقانون، ونجوم الصحافة والأدب، واجتمع لها من هؤلاء الأعلام ما لم يجتمع لها في قرون طويلة، منذ أن أصبحت مصر إسلامية الوجه، عربية اللسان.
    وكان أحمد حسن الزيات واحدًا من هذه الكوكبة العظيمة التي تبوأت مكان الصدارة في تاريخ الثقافة العربية، وَلَج إلى هذه الكوكبة ببيانه الصافي، وأسلوبه الرائق، ولغته السمحة، وبإصداره مجلة "الرسالة" ذات الأثر العظيم في الثقافية العربية.
    مولد الزيات ونشأته
    استقبلت قرية "كفر دميرة القديم" التابعة لمركز "طلخا" بمحافظة "الدقهلية" بمصر وليدها في (16 من جمادى الآخرة 1303 هـ= 2 من إبريل 1885م)، ونشأ في أسرة متوسطة الحال، تعمل بالزراعة، وكان لوالده نزوع أدبي، وتمتّعت أمه بلباقة الحديث وبراعة الحكي والمسامرة، تلقى الصغير تعليمه الأوّلي في كُتّاب القرية، وهو لا يزال غضًا طريًا في الخامسة من عمره، فتعلم القراءة والكتابة، وأتمّ حفظ القرآن الكريم وتجويده، ثم أرسله أبوه إلى أحد العلماء في قرية مجاورة، فتلقى على يديه القراءات السبع وأتقنها في سنة واحدة.
    الزيات في الأزهر
    التحق الزيات بالجامع الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكانت الدراسة فيه مفتوحة لا تتقيد بسن معينة، أو تلزم التلاميذ بالتقيد بشيخ محدد، وإنما كان الطلاب يتنقلون بين الأساتذة، يفاضلون بينهم، حتى إذا آنس أحدهم ميلاً إلى شيخ بعينه؛ لزمه وانصرف إليه.
    وظل الزيات بالأزهر عشر سنوات، تلقى في أثنائها علوم الشريعة والعربية، غير أن نفسه كانت تميل إلى الأدب، بسبب النشأة والتكوين، فانصرف إليه كليةً، وتعلق بدروس الشيخ "سيد علي المرصفي" الذي كان يدرّس الأدب في الأزهر، ويشرح لتلاميذه "حماسة" أبى تمام، وكتاب "الكامل" للمبرّد، كما حضر شرح المعلقات للشيخ محمد محمود الشنقيطي، أحد أعلام اللغة البارزين.
    وفي هذه الأيام اتصل بطه حسين، ومحمود حسن الزناتي، وربطهم حب الأدب برباط المودة والصداقة، فكانوا يترددون على دروس المرصفي الذي فتح لهم آفاقًا واسعة في الأدب والنقد، وأثّر فيهم جميعًا تأثيرًا قويًا، وكانوا يقضون أوقاتًا طويلة في "دار الكتب المصرية" لمطالعة عيون الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء.
    الزيات معلمًا
    لم يستكمل الثلاثة دراستهم بالجامع الأزهر، والتحقوا بالجامعة الأهلية التي فتحت أبوابها للدراسة في سنة (1329 هـ= 1908م) وكانت الدراسة بها مساء، وتتلمذوا على نفر من كبار المستشرقين الذين استعانت بهم الجامعة للتدريس بها، من أمثال: نللينو، وجويدي، وليتمان.
    وكان الزيات في أثناء فترة التحاقه بالجامعة يعمل مدرسًا بالمدارس الأهلية، وفي الوقت نفسه يدرس اللغة الفرنسية التي أعانته كثيرًا في دراسته الجامعية حتى تمكن من نيل إجازة الليسانس سنة (1331هـ= 1912م).
    التقى الزيات وهو يعمل بالتدريس في المدرسة الإعدادية الثانوية في سنة (1333هـ= 1914م) بعدد من زملائه، كانوا بعد ذلك قادة الفكر والرأي في مصر، مثل: العقاد، والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد، وقد أتيح له في هذه المدرسة أن يسهم في العمل الوطني ومقاومة المحتل الغاصب، فكان يكتب المنشورات السرية التي كانت تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة في أثناء ثورة 1919م، وكانت تلك المدارس من طلائع المدارس التي أشعلت الثورة وقادت المظاهرات.
    وظل الزيات يعمل بالمدارس الأهلية حتى اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسًا للقسم العربي بها في سنة ( 1341 هـ= 1922م)، وفي أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وكانت الدراسة بها ليلاً، ومدتها ثلاث سنوات، أمضى منها سنتين في مصر، وقضى الثالثة في فرنسا حيث حصل على ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة (1344هـ= 1925).
    وظل بالجامعة الأمريكية حتى اختير أستاذًا في دار المعلمين العالية ببغداد (1348 هـ= 1929م) ومكث هناك ثلاث سنوات، حفلت بالعمل الجاد، والاختلاط بالأدباء والشعراء العراقيين، وإلقاء المحاضرات.
    مجلة الرسالة
    بعد عودة الزيات من بغداد سنة (1351هـ= 1933م) هجر التدريس، وتفرغ للصحافة والتأليف، وفكّر في إنشاء مجلة للأدب الراقي والفن الرفيع، بعد أن وجد أن الساحة قد خلت باختفاء "السياسة" الأسبوعية التي كانت ملتقى كبار الأدباء والمفكرين، وذات أثر واضح في الحياة الثقافية بمصر، وسانده في عزمه أصدقاؤه من لجنة التأليف والترجمة والنشر.
    وفي (18 من رمضان 1351 هـ= 15 من يناير 1933) ولدت مجلة الرسالة، قشيبة الثياب، قسيمة الوجه، عربية الملامح، تحمل زادًا صالحًا، وفكرًا غنيًا، واستقبل الناس الوليد الجديد كما يستقبلون أولادهم بلهفة وشوق؛ حيث كانت أعدادها تنفد على الفور.
    وكانت المجلة ذات ثقافة أدبية خاصة، تعتمد على وصل الشرق بالغرب، وربط القديم بالحديث، وبعث الروح الإسلامية، والدعوة إلى وحدة الأمة، وإحياء التراث، ومحاربة الخرافات، والعناية بالأسلوب الرائق والكلمة الأنيقة، والجملة البليغة.
    وقد نجحت الرسالة في فترة صدورها، فيما أعلنت عنه من أهداف وغايات، فكانت سفيرًا للكلمة الطيبة في العالم العربي، الذي تنافس أدباؤه وكُتّابه في الكتابة لها، وصار منتهى أمل كل كاتب أن يرى مقالة له ممهورة باسمه على صفحاتها، فإذا ما نُشرت له مقالة أو بحث صار كمن أجازته الجامعة بشهادة مرموقة؛ فقد أصبح من كُتّاب الرسالة.
    وأفسحت المجلة صفحاتها لأعلام الفكر والثقافة والأدب من أمثال العقاد، وأحمد أمين، ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد زكي، ومصطفي عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي الذي أظلت المجلة مقالته الخالدة التي جُمعت وصارت "وحي القلم".
    وربت الرسالة جيلا من الكتاب والشعراء في مصر والعالم العربي، فتخرج فيها: محمود محمد شاكر، ومحمد عبد الله عنان، وعلي الطنطاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي، وغيرهم، وظلت المجلة تؤدي رسالتها حتى احتجبت في (29 من جمادى الآخرة 1372هـ= 15 من فبراير 1953م).
    الزيات أديبًا
    يعد الزيات صاحب مدرسة في الكتابة، وأحد أربعة عُرف كل منهم بأسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير، والثلاثة الآخرون هم: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد، ويوازن أحد الباحثين بينه وبين العقاد وطه حسين، فيقول: "والزيات أقوى الثلاثة أسلوبًا، وأوضحهم بيانًا، وأوجزهم مقالة، وأنقاهم لفظًا، يُعْنى بالكلمة المهندسة، والجملة المزدوجة، وعند الكثرة الكاثرة هو أكتب كتابنا في عصرنا".
    وعالج الزيات في أدبه كثيرًا من الموضوعات السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين الدين والتضامن الاجتماعي، وحارب المجالس الوطنية المزيّفة، وقاوم المحتل، وعبّأ الشعب لمقاومته، ورسم سبل الخلاص منه.. يقول الزيات: "إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل، وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار".
    وقد أخرج الزيات للمكتبة العربية عددًا من الكتب، أقدمها: كتابه "تاريخ الأدب العربي"، وصدر سنة (1335 هـ= 1916م)، ثم أصدر "في أصول الأدب" سنة (1352هـ= 1934م)، و"دفاع عن البلاعة" سنة (1364 هـ= 1945م) وهو كتاب في النقد الأسلوبي، قصره الزيات على بيان السمات المثلى للأسلوب العربي.
    ثم جمع الزيات مقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلته، وأصدرها في كتابه "وحي الرسالة" في أربعة مجلدات، أودعها تجاربه ومشاهداته وانفعالاته وآراءه في الأدب والحياة والاجتماع والسياسة، بالإضافة إلى ما صوّره بقلمه من تراجم لشخصيات سياسية وأدبية.
    ولم يكن التأليف وكتابة المقالة الأدبية هما ميدانه، بل كان له دور في الترجمة الراقية، ذات البيان البديع، فترجم من الفرنسية "آلام فرتر" لجوته سنة ( 1339هـ= 1920م) ورواية "روفائيل" للأديب الفرنسي لامرتين، وذلك في أثناء إقامته بفرنسا سنة (1344هـ= 1925م).
    وقد لقي الزيات تقدير المجامِع والهيئات العربية، فاختير عضوًا في المجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وكرّمته مصر بجائزتها التقديرية في الأدب سنة (1382هـ= 1962م).
    وعاش الزيات بعيدًا عن الانتماءات الحزبية، فلم ينضم إلى حزب سياسي يدافع عنه، مثل العقاد وهيكل وطه حسين، ولم يدخل في خصومه مع أحد، ولم يشترك في المعارك الأدبية التي حفلت بها الحياة الثقافية في مصر؛ فقد كان هادئ النفس، وديع الخلق، ليّن الجانب، سليم الصدر.
    وظل الزيات محل تقدير وموضع اهتمام حتى لقي ربه بالقاهرة في صباح الأربعاء الموافق (16 من ربيع الأول 1388 هـ= 12 من مايو 1968م) عن ثلاثة وثمانين عامًا.
    من مراجع الدراسة:
    نعمة رحيم العزاوي ـ أحمد حسن الزيات كاتبًا وناقدًا ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1986م.
    نعمات أحمد فؤاد ـ قمم أدبية ـ عالم الكتب ـ القاهرة - 1984م.
    محمد مهدي علام ـ المجمعيون في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ 1406 هـ= 1986م.
    --------------------------------
    *المصدر: موقع إسلام أون لاين.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    أحمد حسن الزيات: مهندس البيان

    بقلم: د. أحمد هيكل
    ............................

    هذا رائد من الرواد العظام في أدبنا الحديث، وعلم من الأعلام الشامخة في نثرنا المعاصر، بل هو واحد ممَّن عملوا على ازدهار هذا الفن ودفعه في هذا العصر ليسبق الشعر، والذين عملوا على تحقيق هذا الازدهار والوصول بالنثر إلى هذا السبق، ربما لأول مرة في تاريخ أدبنا العربي، هم هذه الكوكبة الموهوبة المثقفة المتفتحة، من أمثال المنفلوطي والرافعي، ثم د. محمد حسين هيكل والعقاد والمازني.. وقد كان من مظاهر هذا الازدهار والسبق، تميُّز كل واحد من الأسلوبين والفكريين بطريقة خاصة في أدائه الفني، على الرغم من اشتراكه مع بقية رفاقه من أصحاب اتجاهه في الخطوط العامة لهذا الاتجاه.. ثم كان من مظاهر هذا الازدهار والسبق كذلك تعدد أشكال النثر وفنونه تعداداً غير مسبوق، حيث شمل المقالة التي انتشرت والقصة التي تميَّزت والرواية التي تأصلت والترجمة الذاتية واليوميات التي بدأت..
    ويأتي "الزيَّات" متألقاً بين الكتاب الأسلوبيين أولاً، ومنفرداً بطريقته الفنية الخاصة بين أصحاب هذا الاتجاه ثانياً، ثم علماً خفاقاً بين كتاب المقال بكل ألوانه آخر الأمر.. وطبيعي أن يكون توجه "الزيات" إلى النزعة الأسلوبية وتفرده بطريقته الفنية، ثم تفوقه إلى درجة أن يكون من الرواد العظام في الأدب العربي الحديث ومن الأعلام الشامخة في النثر المعاصر؛ طبيعي أن يكون ذلك كله نتيجة ـ بعد الموهبة الفذة ـ لثقافة أدبية موسعة وتجارب حياتية منوعة وممارسات إبداعية جادة..
    ولذا يحسن ـ قبل الحديث عن اتجاه "الزيات" وطريقته ـ أن نلم بروافد ثقافته ومسيرة حياته، فنقول: إنَّ "أحمد حسن الزيات" ولد سنة 1885م في قرية "دميرة" إحدى قرى مركز "طلخا" بمصر. وكان مولده كما كانت نشأته في أسرة ريفية، فيها روح دينية ولها نزعة أدبية شعبية.. وقد بدأ تعليمه بحفظ القرآن الكريم كمعظم أبناء القرى في تلك السنوات، وقرأ وهو في مرحلة "الكُتّاب" بعض السير الشعبية التي كان يحبها والده وصحبته، كما قرأ بعض المدائح النبوية التي كانت تهتم بها قريته، ومن هنا تعلق بالأدب في سنه المبكرة، وبدأ أول الأمر يحب الشعر، حتى لقد كافاه والده بإهدائه ديوان المتنبئ، فزاد تعلقه بالشعر وكتب أولى محاولاته الإبداعية بقرض بعض قصائده قبل التحاقه بالأزهر، فتردد على الحلقات التي تدرس علوم الدين وفروع اللغة، ومال أكثر إلى حلقات الأدب، التي كان يشرح في بعضها الشيخ "محمد عبده" كتابي "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" كما كان يدرس في بعضها الشيخ "سيد المرصفي" كتاب "الكامل" وحماسة" أبي تمام و"مفضليات" الضَّبِّي"..
    وتعرف "الزيات" أثناء الدراسة بالأزهر على "طه حسين" و"محمود زناتي".. وجمعت بين الثلاثة الموهبة الأدبية والنزعة الفنية، وكثر تردده مع صاحبيه على دار الكتب.. وحين فتحت الجامعة الأهلية سنة 1908م التحق بها "الزيات" مثل "طه حسين"، واستمع إلى المحاضرات التي كان يلقيها المستشرقون بها من أمثال "نللينو" و"جويدي" و"سانتللانا".. ونال "الزيات" الليسانس من الجامعة سنة 1912م. وكان قد عمل مدرساً للغة العربية في مدرسة "الفرير" الفرنسية منذ سنة 1907، وكان عمله في هذه المدرسة فرصة ليبدأ تعلم اللغة الفرنسية، التي واصل تعلمها حتى أتقنها.. وظل مدرساً "بالفرير" حتى سنة 1914م، ثم انتقل إلى التدريس لطلبة "البكالوريا" بمدرسة مصرية كان اسمها "الإعدادية الثانوية" والتقى في هذه المدرسة بزملائه: العقاد والمازني وأحمد زكي ومحمد فريد أبو حديد، الذين كانوا ضمن هيئة التدريس.. وظلَّ الزيات يعمل "بالإعدادية الثانوية" حتى سنة 1922م، وأثناء عمله بها كان من المشاركين ـ بالكتابة وشحن الروح المعنوية ـ في ثورة 1919م.
    وبعد الثورة وفي سنة 1922، اختير "الزيات" أستاذاً للأدب العربي في الجامعة الأمريكية، فأثبت في هذا الموقع جدارة فائقة ونال سمعة طيبة، والتحق في السنة نفسها بالحقوق الفرنسية، وقضى بها سنتين من الثلاث المطلوبة لنيل الليسانس، ثمَّ قضى السنة الثالثة في باريس ليكمل دراسته القانونية، ونال الليسانس سنة 1925م.. وفي باريس حصَّل الكثير من الثقافة الفرنسية، وخاصة في مجال الأدب، إلى جانب ما حصَّل من الثقافة القانونية..

    وهكذا جمع الزيات إلى ثقافته الأصيلة العربية، ثقافة ثرية غربية، كما جمع بين التعلم في الأزهر على أيدي شيوخ أجلاء، وبين التلقي في الجامعة الأهلية عن بعض المستشرقين المرموقين، ومزج بين الدراسات اللغوية والأدبية والدراسات القانونية والتشريعية.
    وقد أضيف إلى ذلك كله تعرفه عن قرب على بعض الأقطار العربية ذات التاريخ القديم والثقافة الأدبية الغنية، فقد اختير "الزيات" سنة 1929 ليكون أستاذاً للأدب العربي في دار المعلمين ببغداد، وظل بها إلى سنة 1932. وهناك التقى وتعرف بعديد من رجال الفكر واللغة والأدب، وشارك في كثير من الأنشطة الأدبية والثقافية المختلفة، ونال مكانة مرموقة وازداد شهرة وتألقاً.
    وبعد عودته من العراق، لم يشأ الزيات أن يرتبط بمنصب، وإنما اتجه إلى الصحافة الأدبية، فأنشأ مجلة "الرسالة" سنة 1933م، وظلت تصدر حتى سنة 1953 وكانت أقوى مجلة أدبية ظهرت حتى ذلك التاريخ في الوطن العربي كله، كما كانت أوسع مجلات الأدب والثقافة انتشاراً وأبعدها تأثيراً.. وإلى جانب "الرسالة" أنشأ الزيات مجلة "الرواية" التي كانت تختص بالفن القصصي تأليفاً وترجمة ودراسة، والتي ضُمَّت بعد فترة إلى مجلة الرسالة التي أصبحت تسمى "الرسالة والرواية" .. وظلَّ الزيات يخرج مجلته أكثر من عشرين عاماً، يمولها ويشرف على تحريرها وتوزيعها، وكأنه مؤسسة كاملة، تقدم للعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه زاداً ثقافياً وأدبياً أصيلاً ومتطوراً ورفيعاً، شارك في النهوض بالمستويين الأدبي والثقافي للأمة العربية، وربط بينها، وقرَّب بين أذواق بنيها، وخرَّج الكثيرين من أدبائها، فلا نكاد نجد كاتباً أو شاعراً في عصرنا الحاضر ـ ممَّن بدؤوا حياتهم الأدبية في الثلاثينيات ـ لم يفد من "الرسالة" ولم يتأثر بجهود الزيَّات.
    وبعد احتجاب "الرسالة" ـ لظروف اقتصادية قاهرة ـ تولى "الزيات" رئاسة تحرير مجلة "الأزهر"، وظلَّ يعمل في هذا الموقع من سنة 1959 إلى وفاته. وعمل عضواً بالمجمع اللغوي منذ سنة 1948، ونال جائزة الدولة التقديرية سنة 1962.. وعاش آخر سنواته في دعة وسلام حتى لقي ربه في شهر يونيو سنة 1968م.
    وللزيات تراث أدبي تأليفي وإبداعي قيِّم، منه: كتابه "تاريخ الأدب العربي" وكتابه "في أصول الأدب" وكتابه "دفاع عن البلاغة" ثم ترجمـته ـ عن النص الفرنسي ـ لرواية الكاتب الألماني "جوته" المسماة "آلام فرتر" وترجمته لرواية الأدب الفرنسي "لامارتين" المسماة "رفائيل" وأخيراً كتابه "مختارات من الأدب الفرنسي ـ قصائد وأقاصيص".
    ولكن أعظم أثر أدبي للزيات ـ في رأيي ـ هو مجموعة مقالاته التي كان يفتتح بها كل عدد من أعداد رسالته. وهذه المقالات ـ التي كانت تطالع القراء كل أسبوع في صدر كل عدد من "الرسالة" ـ قد جُمعت في مجلدات أربعة، كما أنَّ الرسالة - التي استمرت أكثر من عشرين عاماً - قد ضمَّت في أربعين مجلداً.. وللزيات - علاوة على هذه الأجزاء الأربعة التي تضم مقالاته الافتتاحية للرسالة - مقالات أخرى نشرها في غير الرسالة بعد إغلاقها.. وهذه المجموعة من المقالات قد جمعت في مجلد خامس بعنوان "في ضوء الرسالة".
    وتأتي أهمية مقالات الزيات من كونها تمثل أغزر كتاباته، كما تمثل إسهامه الواضح في النهوض بفن المقال أولاً، ثم تحدد وجهته النثرية وطريقته الفنية ثانياً..

    أما وجهته النثرية، فهي ـ كما قلت من قبل ـ الوجهة الأسلوبية، التي اتجه إليها قبله المنفلوطي، ثم اتجه إليها معه طه حسين والرافعي، وهي الوجهة التي تقابل الوجهة الفكرية، التي اتجه إليها أولاً لطفي السيد، ثم أصَّلها من بعده العقاد وهيكل والمازني.
    وأما طريقة "الزيات" الفنية، فهي ـ كما أسميها ـ طريقة "البيان المنسق أو البيان المهندس".. وذلك أنَّ "الزيات" كان يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية ويجعلها في المحل الأول، كما أنَّ بيانه كان يقوم على التنسيق في الناحية اللغوية، وعلى ما يشبه الهندسة في الناحية التعبيرية، فالجملة في مقالاته تعادل الجملة غالباً، والفقرة توازي الفقرة كثيراً، بل الكلمة تقابل الكلمة في أغلب الأحيان.. ومن هنا يتألف من الكلمات والجمل والفقرات ما يشبه اللوحة التعبيرية، التي تتقابل خطوطها وتتعادل مساحاتها وتتوازن ألوانها، وكأنها لوحة هندسية ترسم على سطح مقسم إلى مربعات، حتى لا ينحرف خط أو تزيد مساحة أو يجور لون.
    و"الزيات" يسلك إلى تحقيق ذلك طريق استخدام بعض المحسنات، ولكن في مهارة فائقة وشفافية شائقة، بحيث لا يشعر القارئ بافتعال التحسين أو تعمد التنسيق، وبحيث لا يهبط الأسلوب بسبب ما هو فاقع أو ثقيل من ألوان الهندسة والتجميل.
    وبعض المحسنات التي يوظفها الزيات من النوع المعنوي كالمقابلة والمطابقة وحسن التقسيم، وبعضها من النوع الصوتي كالسجع والجناس وما يمنح الأسلوب بعض الإيقاع والتنغيم.. وفي كل الأحوال يأتي استخدام الزيات لهذه المحسنات المعنوية واللفظية على كثير من الدقة والمهارة، بحيث يبدو الجمال في الأسلوب وكأنه جمال خلقي طبعي، وبحيث يظهر التنسيق وكأنه أمر عفوي وتلقائي، لا جهد فيه للكاتب، ولا تعمد له من المبدع..
    وهكذا يحس قارئ مقالات الزيات أنَّه يكاد يكون أمام عمل هندسي مصمم بإحكام ومقسم بدقة وفنية ونظام، قد اعتنى صاحبه تقريباً بالحرف والمقطع والكلمة، مثل عنايته بالجملة والعبارة والفقرة، فلا يكاد يتنافر حرف مع حرف، ولا يتصادم مقطع مع مقطع، ولا تخف كلمة وتثقل أخرى، ولا تطول عبارة وتقصر عبارة، ولا يوضع جزء من الجملة "نشازاً" دون جزء آخر يقابله ويعادله، ويكوِّن معه كلا جمالياً أساسه التناسق والتناغم والتوافق.
    "شيَّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوهاانتهت، ولا هذهالسلم التيزعموها ابتدأت، إلا ظلمة أعقبها عمى، وإلا ظلاماً سيعقبه دمار".
    "حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض والتعصب للجنس والتطلع إلى السعادة، إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل، ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه "الأطلسي" واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل أربع سنين كوامل، حتى وهم ضحايا القوة وفرائس الاستعمار إنَّ الملائكة والروح يتنزلون في كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين! وأن الله الذي أكمل الدين وأتمَّ النعمة وختم الرسالة، قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرأوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى هذا الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق...".
    "ثم تمت المعجزة، وصُرع الجبارون، ووقف الأنبياء الثلاثة على رؤوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود، وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنتهك، وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير، وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها تترادف على معنى واحد، هو استعمار الشرق واستعباد أهله".
    "وإذن.. برح الخفاء وانفضح الرياء، وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام".
    هذا هو "الزيات"، وهذا هو أثره الكبير في ريادة أدبنا الحديث بعامة، وفي نهضة النثر بخاصة، وفي ازدهار فن المقال بصفة أخص.. وغني عن البيان أن وجهة الزيات الأسلوبية وطريقته الفنية يمكن أن تقدم أعظم الفائدة إلى كل من يريد أن يصقل قلمه ويحسن كلمه ويسمو بأسلوبه.. وأثر الزيات في ذلك كأثر رفاقه من الكتاب الأسلوبيين، الذين لا غنى عن إبداعاتهم للمتأدبين والمحررين والمشتغلين بالكلمة العربية الجليلة، ومن يريدون أن يبدعوا نثراً فنياً بلغتنا الجميلة.
    ـــــــــــــ
    *الأهرام ـ في 3/6/1996م.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    أوربا والإسلام

    بقلم: أحمد حسن الزيات
    ....................................

    «شيّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمة أعقبها عمى، وإلا ظلماً سيعقبه دمار!
    حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعما للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تُمثل الإخاء والمُساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض، والتعصب للجنس، والتطلع إلى السيادة، إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل. ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطّوه على مياه «الأطلسي» واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهم ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح ينزلون كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة قد عاد وأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرأوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو!
    وعلى هذا الوهم الأثيمِ بذلت الأممُ الصُّغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموعِ والدماءِ والعرق؛ فأقامت مصرُ من حريتها وسلامتها في «العلمين» سدا دون القناة، وحجزت تركيا بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتادُ إلى روسيا، ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقّت أجراسُ النصر في كنائس أخرى!
    ثم تمّت المعجزة، وصُرع الجبارون، ووقف الأنبياء الثلاثة على رؤوس الشياطين الثلاثة يهصرون الأستار عن العالم الموعود، وتطلّعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في هذه الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تُنتهك؛ وإذا التسابيح والتراتيل عُواء وزئير، والوعودُ والمواثيقُ خداعٌ وتغريرٌ، وإذا الديمقراطية والشيوعيةُ والنازيةُ والفاشيةُ كلها ألفاظٌ تترادفُ على معنى واحد: هو استعمارُ الشرقِ واستعبادُ أهله!.
    إذن برِحَ الخفاء وانفضح الرياء، وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام!
    هذه إيرانُ المسلمة، ضمِن استقلالَها الأقطابُ الثلاثة، حتى إذا جَدَّ الجد تركوها تضطرب في حلق الدب، ثم خلصوا نجيا إلى فريسة أخرى!
    وهذه تركية المسلمة، واعدوها وعاهدوها يوم كانت النازية الغازية تحوم حول ضفاف الدردنيل، وهم اليوم يخلونها وجهاً لوجه أمام هذا الدب نفسه يطرق عليها الباب طرقاً عنيفا مخيفاً ليُعيد على سمعها قصة الذئب والحمل!
    وهذه أندونيسيا المسلمة، آمنت بالإنجيل الأطلسي، وقررت أن تعيش في ديارها سيدة حرة؛ ولكن أصحاب الإنجيل أنفسهم هم الذين يقولون لها اليوم بلسان النار: هولندا أوربية، وأندونيسيا أسيوية، ونظرية الأجناس هي القانون النافذ على جميع الناس.
    وهذه سورية ولبنان العربيتان، أقرّ باستقلالهما ديجول، وضمن هذا الإقرار تشرشل، ثم خرجت فرنسا من الهزيمة إلى الغنيمة، واختلف الطامعان فخاس المضمون بعهده، وبرّ الضامن بعهده. ثم قيل إنهما اتفقا! واتفاقهما لن يكون على أي حال قائماً على ميثاق الحريات الأربع!
    وهذه فلسطين العربية يفرضون عليها أن تؤوي في رقعتها الضيقة، الشريدَ والفوضويَّ واللصَّ، وفي أملاكهم سَعة، وفي أقواتِهم فضل! ولكنهم يضحون بوطن العرب لعجل السامريِّ الذهب، ويتخلصون من الجراثيم بتصديرها إلى أورشليم!
    وهذه أفريقية العربية، يسمعون أن ديجول (أخا جان دارك) قد حالف على أهلها الخوف والجوع، ثم انفرد هو بمطاردة الأحرار حتى ضاقت بهم السجون والمقابر، ولا يقولون له: حسبك! لأن السفاكين أوربيون يؤمنون بعيسى، والضحايا أفريقيون يؤمنون بعيسى ومحمد!
    بل هذه هي الأرض كلها أمامك، تستطيع أن تنفضها قطعة قطعة، فهل تجد العيون تتشوّف، والأفواه تتحلّب، والأطماع تتصارع إلا على ديار الإسلام وأقطار العروبة؟ فبأي ذنب وقع خُمس البشرية في هذه العبودية المُهلكة، وهو الخمس الذي انبثق منه النور، وعُرِف به الله، وكُرِّم فيه الإنسان؟ ليس للثلاثمائة مليون من العرب والمسلمين من ذنب يستوجبون به هذا الاستعمار المتسلط إلا الضعف، وما الضعف إلا جريرة الاستعمار نفسه. فلو كان المستعمر الأوربي صادق الحجة حين قال: إننا نتولّى شؤون الشرق لنقوى الضعيف ونعلِّم الجاهل وندفع المتخلف، لوجد من العرب سنداً قويا لحضارته، ومن الإسلام نوراً هادياً لعقله؛ ولكنه ورث الخوف من الإسلام عن القرون الوسطى، فهو يُسايره من بعد، ويُعامله على حذر. وإذا عذرنا قسوس العصور المظلمة فيما افتروا عن جهالة، فما عذر الذين كشفوا الطاقة الذرية إذا جمدوا على الضلال القديم، وكتاب الله مقروء، ودستور الإسلام قائم!!
    لقد فشلت مذاهبهم الاجتماعية كلها، فلم تستطع أن تُخلِّص جوهر الإنسان من نزعات الجاهلية الأولى؛ فلم يبق إلا أن يجربوا المذهب الإسلامي ولو على سبيل الاقتباس أو القياس.
    لا نريد أن نقول لهم: أسلموا لتحكموا، وتعلَّموا لتعلموا، فإن هذه الدعوة بعتاقها عن الغاية القريبة عوائق من العصبية والوراثة والتقاليد والعادة؛ ولكنا نقول لهم: تصوروا نظاماً واحداً يصلح لكل زمان ومكان، ويقطع أسباب النزاع بين الإنسان والإنسان: يوحِّد الله، ولا يُشرك به أحداً من خلقه؛ ويقدِّس جميع الشرائع التي أنزلها الله ولا يُفرِّق بين أحد من رسله، ويُؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن: ويُسوِّي بين الأخوة أجمعين في الحقوق والواجبات، فلا يميز طبقة على طبقة ولا جنساً على جنس ولا لوناً على لون، ويجعل للفقير حقا معلوماً في مال الغني يؤويه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع، ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم بأمره طاغ، ولا يُصر على غيه مستبد، ويحرر العقل والنفس والروح فلا يقيد النظر، ولا يحصر الفكر، ولا يقبل التقليد، ولا يرضى العبودية، ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي، ويوحد الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعّال في السلوك.
    وجملة القول فيه أنه النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية، فلا يعترف بالعصبية ولا بالجنسية ولا بالوطنية، وإنما يجعل الأخوة في الإيمان، والتفاضل بالإحسان، والتعاون على البر والتقوى. فإذا تصوّرتم هذا النظام، فقد تصورتم الإسلام. وإذا أخذتم به فقد اطمأن العالم المضطرب، واستقر السلام المزعزع. ولا يعنينا بعد ذلك أن تُطلقوا عليه لفظاً يونانياً أو لاتينيا ما دمتم تسلمون وجوهكم إلى الله، ولا تُسلمون قيادكم لمحمد!
    .........................................
    *مجلة «الرسالة»، (العدد 653) في 7/1/1946م.
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    أحقا مات علي محمود طه؟!

    بقلم: أحمد حسن الزيات
    ....................................

    أحقا رفاق علي لن تروه بعد اليوم يُحيي المجالس بروحه اللطيف، ويؤنس الجلاس بوجهه المتهلل، ويدير على السُّمار أكؤساً من سلاف الأحاديث تبعث المسرَّة في النفوس، وتُحدث النشوة في المشاعر؟
    أحقا عشاق علي لن تسمعوه بعد اليوم يُنشد القصائد الرقيقة ويُخرج الدواوين الأنيقة، ويصوِّر الحياة بألوان من الشعر والسحر والفتون، في إطار من الجمال والحب واللذة؟
    أحقا أصدقاء علي لن تجدوه بعد اليوم يبذل من سعيه ليواسي، وينيل من جاهه ليُعين، ويجعل بيته سكناً لكل نفس لا تجد الدعة ولا الأنس، ومثابة لكل طائر لا يجد الروضة ولا العش؟
    أحقا عبادَ الله سكت البلبل، وتحطَّم الجام، وتقوَّض المجلس، وانفض السامر، وتفرَّق الشمل، وأقفر الربيع، وأصبح علي طه الشاعر العامل الآمل أثراً وخبراً وذكرى؟
    لقد حدَّثني في تليفون المستشفى يوم الأربعاء، فبشَّرني أنَّ قلبه انتظم، وجسمه صحَّ ووجهه شبا، وأن الأطباء سمحوا له بالرجوع إلى بيته، وأن استقباله في الدار سيعود، وأن مجلسه في (الأميريكين) سينعقد، وأنه سينتظرني يوم الجمعة في مكتبه ليقرأ عليَّ النشيد الأول من ملحمة "اليرموك" التي اقترحتُها عليه، وربما خرج معي بعد القراءة إلى نزهة هادئة في طريق الأهرام؛ ثم ختم عليَّ حديثه الطويل بضحكة حلوة فيها أمل، وعبارة فكهة فيها تفاؤل!
    ولكنما كان بين يوم الأربعاء الذي حدثني فيه هذا الحديث، ويوم الجمعة الذي ضرب لي فيه هذا الموعد، يوم الخميس الذي سكن فيه قلبه الطيب فما ينبض بحياة ولا حب، وسكت لسانه الحلو فما ينطق بنثر ولا شعر: طلع صباحه الأسود المشؤوم على غرفة علي وهو يلبس ثيابه ويُداعب أصحابه، وينظر في الداخل فيرى طاقات الزهر تزين المنضدة، وفي الخارج فيرى ممرضات المستشفى يُجمِّلن الممشى، فيهفو الشاعر المعمود إلى أزاهره التي تنفح قلبه بالعطور، وإلى عرائسه التي تغمر قلبه بالشعور، فيخرج ليؤدي ما عليه من المال للمصحة، ومن الشكر للأطباء؛ حتى إذا أبرأ ذمته من حقوق الناس أدار فيمن حوله من أصدقائه وذوي قرباه نظرة فاترة حائرة، ثم أسبل عينيه وخر مغشيا عليه! فخفَّ إليه أساته الذين بشروه بالعافية ووعدوه بالسلامة، وأخذوا يقلِّبونه ويفحصونه فإذا الجسد الجيَّاش بالشباب والقوة هامد لا حراك به ولا حس فيه! وهكذا في مثل ارتداد الطرف ذهب من أرض الآدميين إنسان، وغاب من سماء العبقريين فنان.
    والهف نفسي على أحبائه وقد مسَّهم ما مسّني من غصَّة الريق وحرقة الجوى حين نعاه إليهم الناعي! لقد كان كل معنى أقرب إلى علي في أذهانهم إلا معنى الموت، لذلك ظلوا متبلِّدين ساهمين، يُقلِّبون الأكف أسى وحسرة، ويُحرِّكون الألسن إنكاراً ودهشة!
    لا يا بديع الزمان! ليس الموت كما زعمت خطباً صعب حتى هان، ولا ثوباً خشن حتى لان! إنما الموتُ نقيض الحياة وبغيضها من أزل الدهر إلى أبده، لا تقترب من مظنته، ولا تأنس بناحيته، ولا تسكن إلى ريحه، حتى يفجأها كالقضاء، ويدهمها كالوحش، ويختلها كاللص! وهل الدنيا كلها بمن فيها وما فيها إلا معركة لا تفتر بين البقاء والفناء والجِدَّة والبلى؟ أرحامٌ تدفع، وأجداثٌ تبلع، وهجوم فيه المرض والشهوة والأثرة، ودفاع فيه الطب والسياسة والخديعة، وصرْعى هذه المعركة الضروس لا ينفكُّون يتناثرون من بين شقي الرحى الهائلة أشلاء لا تُشبع جوف الأرض، ودماء لا تنقع غليل الثرى!
    عرفت عليا منذ سبع وعشرين سنة على الضفاف الخضر من مدينة المنصورة، وكان منذ عرفته شاباً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يُبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!
    كان كالفراشة الجميلة الهائمة في الحقول تحوم على الزهر، وترف على الماء، وتخفق على العشب، وتسقط على النور، لا تكاد تعرف لها بُغية غير السبوح، ولا لذة إلا التنقل. ثم تتبّعته بعد ذلك في أطواره وآثاره فإذا الفراشة الهائمة على أرباض المنصورة تُصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، و(الأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و(الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية؛ وإذا الشاعر الناشئ يغدو الشاعر المحلِّق تارةً بجناح المَلَك، وتارةً بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة والشياطين بالناس.
    كان علي ـ واحسرتاه عليه! ـ من أصدق الأمثلة للشاعر الذي خلقته الطبيعة، والشاعر الذي تخلقه الطبيعة يكون في ذاته وفي معناه نشيداً من أناشيد الجمال، ولحناً من ألحان الحب؛ فيكون شاعراً في أخلاقه ومُثُله وأحلامه وهندامه وسلوكه، وفي نمط حياته وأسلوب تفكيره وطريقة عمله وطبيعة صداقته.
    وأشهد لقد كان علي ـ برَّد الله ثراه ـ نسَقاً فريداً في الصفاء والوفاء والمروءة والمودَّة. كان لا يطوي صدره على ضغينة، ولا يُحرِّك لسانه بنقيصة، ولا يقبض يده عن معروف، ولا يعقد ضميره على غدر؛ فلم تدَع له هذه الصفات النادرة عدوا، لا في نفسه ولا في الناس، فعاش ـ ما عاش ـ وادِع البال في سلام الحب وأمان الصداقة.
    قضى عليٌّ عمره بالعرض لا بالطول، وقدَّرَ عيْشه بالكيف لا بالكم، وجعل همَّه في الحاضر لا في المستقبل، ونظر إلى الشعر نظر البلبل إلى الشدو، فكان يصدر عنه بالطبيعة إعلاناً لوجود، وإبرازاً لنفس، وكمالاً لصورة، وجمالا لحياة! لذلك كان شعره تعبيراً صادقاً عن شعوره، وتصويراً ناطقاً لهواه، ونظاماً متسقاً مع خلقه وطبعه في الحرية والأصالة والوضوح والأناقة والسهولة والسلامة.
    إن حياة علي محمود طه كانت أشبه بالطيف، خفق خفوق المَلَك على حواشي الروض ثم عبر، أو الحلم نعم به رائيه في إغفاءة الفجر ثم زال، أو حبَّات الندى تلألأت في وجه الصباح ثم ذهبت في متوع الضحى، أو قطرات المطر سطعت في نفح النسيم ثم تبدّدت في عصْفِ الريح. فالحزن على وفاته حزن على حبيب قضى، وخير مضى، ووفاء غاض، وفن ذهب. فإذا بكَيْنا فإنما تبكي علينا لا عليه، وإذا سألْنا الله العوض منه فإنما نسأله لنا لا له. وكل ما نملكه للفقيد العزيز أن ندعو الله أن يتغمده برحمته، وأن يُنزله منازل الأبرار في نعيم جنتِه.
    ........................................
    *مجلة "الرسالة"، العدد (856)، في 7/2/1369هـ (28/11/1949م)، ص1641، 1642.
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    ونحن هنا يا أستاذنا الفاضل
    الدكتور حسين
    نشكرك على ما نقلته لنا من روائع وكنوز ودرر ثمينة للكاتب المصري صاحب وحي الرسالة بأجزائها الثلاث لـ أحمد حسن الزيات , وهي من الروائع التي بحمد من الله وفضل تزدان بها مكتبتي ..

    ودمت بألف خير
    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: مع أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بنت الشهباء مشاهدة المشاركة
    ونحن هنا يا أستاذنا الفاضل
    الدكتور حسين
    نشكرك على ما نقلته لنا من روائع وكنوز ودرر ثمينة للكاتب المصري صاحب وحي الرسالة بأجزائها الثلاث لـ أحمد حسن الزيات , وهي من الروائع التي بحمد من الله وفضل تزدان بها مكتبتي ..

    ودمت بألف خير

    [align=center]شُكراً للأديبة الأستاذة
    أمينة أحمد خشفة (بنت الشهباء)
    على التعليق الجميل،
    مع تحياتي
    [/align]
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10/10/2012, 09:20 AM
  2. جاري صاحب المواشي خليل النمري و"السير"غلوب باشا!! حقائق تكتب لأول مرة !!
    بواسطة ماجد عرب الصقر في المنتدى الرسائل الأدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02/10/2012, 10:07 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  4. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12/12/2011, 12:53 AM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •