ومن روائع أمير القلم واللسان اخترت لكم
قطعة فريدة

من التاريخ الغزلي
في فنها البديع تترجم لنا ما تملّك قلب صديقه العاشق من لجام الهجر ولوعة مرارته ، والتي أوحت إليه بهذه الرسائل الأدبية البديعة والمزدانة بأسلوب رائع ورصين لتكون منارة مضيئة لمن أراد أن يفهم أسرار هذا الفن ويتمكن من سلامة صنعة القلم فيملك جمال بيانه ومعجزة بلاغته ...
وإن من يقف أمام محراب كلماته وأسلوب سجعه وروعة بيانه ، ويعرف ويتذوق بلاغة لغة روحه يدرك أنه أمام رائد من أئمة الفكر العربي الذي لا يمكن أن ينال منه نائل مهما بلغ مبلغه من فنون الأدب ..
ومع رسائل الأحزان هذه نجد الرافعي - رحمه الله - كان حريصا أن يحافظ على اللغة وأصالتها بأسلوب بلاغي منقطع النظير وهو يروي لنا نفحات الحبّ التي خطفت روحه ؛ وكأنها تاريخ حزن ألبسه بعض بعضه بعد أن وصل به العمر لعقد الأربعين فيزداد حكمة وإنسانية ، ويعترف بأن مصيبة كل رجل ما علم أنه كان طفلاَ كما جاء في مقدمة كتابه :
قال لي هذا الصديق يوما : إني قد بلغت أربعة عقود ولكنها فيما عانيت كأنما تضاعفت إلى أربعين عقدا ؛ وقد انتهيت من دهري إلى السنّ التي ينقلب فيها الآدميّ من وَفرة قوة الحكمة ليثاً ويرجع من قوة الحكمة نبيّاً ويعود من تمام العقل إنساناً . غير أن هذه الأربعين بما تَعَاوَرتْ عليّ قد هدم فيّ بعضها بعضاً ، فإن أكن بناءً فذلك صرْحٌ ممرّد عمل فيه أربعون مِعولاَ فما أبقت حجراً على حجر ؛ وإن أكن حومة فقد اعترك فيها للأقدار جيشاً فما تؤرّخ بنصر ولا هزيمة . يا ويلتا من هذه الدنيا . إنّ مصيبة كل رجل فيها حين يصير رجلا أنه كان فيها طفلاً وما علم أنه كان طفلاً .

ومن ثم يتابع في مقدمة رائعة رسائل الأحزان ليبيّن لنا تجربة صديقه في الحب فيستمطر سحب مشاعره الجيّاشة ، وعواطفه الملتهبة التي أقامت لها صرحا شامخا في قلبه لتبني بعض أركانه المتهدمة ، ومن ثم مرة أخرى تعود فتهدم ما بقي منه فيحار في وصف سحرها ويعترف بأن ثلاث صفات ألبسه حبه لها :
هدمت الأقدار هذا الصديق حتى انحط ما فيه من العزم والقوة فجاءت (هي) تبنيه وتشدّ منه وترمّم بعض نواحيه المتداعية وتقيمه بسحرها بناءً جديداً وتحفتْ به عنايتها زمناً حتى صَلُحَ على ذلك شيئاً فأيسرت روحه من فقرها إلى الجمال والحبّ . ويقول صديقي :
(( إنه ليس على الأرض من يشعر كيف ولدته أمه ولكني رأيت بنفسي كيف ولدت تلك الحبيبة نفسي ؛ مرّت بيديها على أركاني المتهدمة وأعانتها الأقدار على إقامتي وبنائي ، غير أن هذه الأقدار لم تدعها تبني إلا لتعود هي نفسها بعد ذلك فتهدمني مرة أخرى )) .
يصف حبيبته في هذه الرسائل كأنه مسحور بها فيجيء بكلام عُلوي مشرق كتسبيح الملائكة يمازجه أحياناً شيء يحار فيه الفهم لأن أحدنا إنما يرسل فكره وراء قلمه ، أما هو فيرسل نفسه وراء فكره ويستمد قلمه منهما . فمنزلته أن يكتب ثلاث كلمات ومنزلتنا أن نفهم كلمتين ، والإنسان منا كاتب مفكر ؛ أما هو فقد زاد بصاحبته فكان كاتباً مفكراً وملهَماً .

وأجمل ما كان في خاتمة مقدمة كتابه حينما أوجد لصديقه العاشق صنفين من النساء ليختم قوله بأجمل وأعظم الكلم :
يا صديقي المسكين لا يحزُنْكَ فإن آخر الحبّ آخرٌ لأشياء كثيرة .. وأن من بين النساء نساءٌ أولّهن كالشباب وآخرهن من أشياء كالهرم والضجر والضعف والموت .
ويا جمال النساء إن كان في الأشياء ما هو أحسن وأجمل فإن في الأشياء ما هو أنفع وأجدى ، وقد تكون الجدوى والمنفعة من الجمال في بغضه أحياناً أكثر مما تكون في حبّه .
ويارحمة الله من فوق سبع سماواته لقد علمّتنا بما نجده فيسرّنا ، وما ننساه فلا يضرّنا ، أن لا نيأس منكِ أبداً ولو كنا من الهمّ تحت سبع أراضيه.