تهميش.. قذارة .. ألم
قراءة في " السوق اليومي* " لهشام حراك.
بقلم لحسن ملواني

مجموعة قصصية تنضح بالواقعية إنها نافذة للرؤية والمشاهدة للمُلْفت وما يستحق التخليد والحجز من أجل التأمل واستحضار العوامل والمآلات . شخصيات مهمشة في فضاءات قذارة الهامش...المعاناة المتوارثة والمصائر المشتركة والهموم اليومية القاتلة للروح والصواب في نفوس مرغمة على تخشين المواقف وتحدي العوائق بشتى الوسائل.
بعبارات زجاجية شفافة مبيحة للكشف الفاضح لحمولتها دون احتشام أو مواربة ...بعبارات بعيدة عن الصدم والاستفزاز من اجل القبض على المراد قدم هشام حراك قصصه بشخصياتها التي استنبتها الهامش المهمل المنسي والذي يشىء إلى انتمائه إليه أو التعاطف مع ذويه على الأقل.
قصص واقعية بامتياز بالرغم من كون بعضها القليل مُعَوَّما فيما يجعله قابلا للبحث عن المسكوت عنه في ثنايا بنيته .
ولتحقيق الواقعية بعمق لجأ الكاتب إلى التعبير العامي أحيانا " الدارج " منسوبا إلى شخصيات ربما لأن حديثها بغير حديثها اليومي قد يحد من تقريب القارئ عنها فلا يصل بعمق إلى التعرف عما ما تقاسيه وترتجيه ، فالخطاب الدارج أنسب لسبر أغوار النفس البشرية...خاصة إذا تعلق الأمر بالقص الواقعي.
إن التوصيف والتقديم الواقعي للحدث يعني من بين ما يعنيه تحنيطه لإبقائه شاخصا يتجدد في الذاكرة والمشهد الواقعي حقيقة للفضاء ومعتلجاته وحقيقة ذاكرة تسجل الهنات كما تسجل التكريمات ...
القصة بواقعيتها وثيقة أكثر من التاريخ فهي الحقيقة بأدائها تؤنب المقترفين المتفرجين كما تؤنب القادرين الصامتين..

وبراعة هشام حراك تكمن في إجادة الأداء الأسلوبي والسردي بصفة أفضت إلى حتمية التعاطف مع أبطال قصصه ، خاصة وأن هؤلاء الأبطال مظلومين الظلم الخاص والظلم العام.
البدايات الآسرة :
لن أكون مبالغا إن حكمت على بدايات قصص هشام بالمقيدة المشوقة لمتابعة القراءة حتى النهاية ، وعتبات النصوص الأدبية لها أهميتها الخاصة في التحفيز إلى القراءة ، علما بان هناك نصوصا وكتبا صرفت المقدمات القراء عنها...والملاحظ أن مقدمات قصص السوق اليومي تتوزع وفق :
-1- البدايات الوصفية كما في قصة :
- قصة(السوق اليومي ):"...الشارع ، الممتد من المسجد الكبير إلى حدود المحطة الطرقية ، به زحام شديد ..." ص 15.
- قصة ( فوز ساحق ): " لحيته كثيفة... أسنانه صفراء وأضراسه سوداء من شدة التسوس ..." ص35.
- قصة (روتين) : " يسير مرتخيا ، ورجلاه تلتويان ، مثل عجلتي دراجة هوائية معطوبتين ..." ص 43.
- قصة (موكب) : " الساحة عبارة عن مثلث متساوي الأضلاع...حول المثلث تجمهر عدد غفير من عباد الله..." ص 47.
- قصة (رحلة عبر القطار ) : " الجو غائم ، ويوحي أن هذا اليوم سوف يكون ممطرا ...البحر هائج أمواجه تتلاطم على صخور شاطئه..." ص 49.
- ...
2 البدايات المباشرة :كما في :
- قصة ( كان بالإمكان أن يكون ) : " كان بإمكان حميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه حقق أمنيته..." ص 21.
- قصة (بلح البحر ) : " - أش هذا ؟
- قال مستغربا ، فأجابه الذي يرافقه ضاحكا ...ط ص 27.
- ...
- هذه البدايات العادية البسيطة لها وقعها على القارئ من حيث تشويقيتها انطلاقا من اختزاليتها في الوصف إن جاءت وصفا ...أو إثارتها لسؤال :
(ماذا بعد ؟ )حين تأتي بعيدة عن مباشرة الطرح.
- النهايات المؤلمة :

- كل نهايات قصص المجموعة نهايات مغلقة بما يجعلها مؤلمة إن لمتكن قاتلة : فمصطفى في السوق اليومي لقي حتفه من قبل الخالة البائعة..و"احميدة " يطعن نفسه بسكين ليضع نهاية مأساوية لحياته ... والطالب الذي فاته الدرس ينتهي به الحال إلى التيه ...والعاطلون انتهى بهم الحال إلى الانسحاب صامتين بعد أن أحرقت شواهدهم...
إنها النهايات المثيرة للتأسف واستشعار فظاعة الفقر وضيق الأفق أمام هذه الشخصيات التي لم تنجح رغم تضحياتها وطموحاتها...
هذه النهايات نهايات مغلقة تضع حدا أمام كل قارئ يحاول البحث عن الاحتمالات كما في القصص القصيرة جدا ذات النهايات المفتوحة المُسْهِِمة للقارئ في الاختيار والتأويل و استحضار النهايات الممكنة.
هذه النهايات مرتبطة بالمدرسة الواقعية في الأدب والتي هي أقرب إلى الخبر اليومي الذي يستند إلى العامل والسبب والنتيجة ...
نهايات كل القصص تخلف التأسف و القلق من أجل الوقائع المأساوية التي تعرضت لها الشخصيات وهي تواجه عراقيل ومثبطات وحرمان الواقع.
شخصيات مهمشة في فضاءات القذارة :
في القصة كل الشخصيات المديرة للأحداث شخصيات مأزومة ...
وأبطال القصص في المجموعة أبطال عمد الكاتب إلى عقد الاتصال بينها وبين غيرها رغم قصر النصوص بشكل لا يتحمل تعدد الشخصيات ، إلا أن الملاحظ هو استغلال هذا التواجد المتعدد لصالح موقعة الشخصية البطل المعبر- فيما نعتقد- عن الوعي والتواجد الجمعي داخل الفضاءات المؤطرة للأحداث...
الواضح أن الشخصيات المحركة للأحداث استوطنها الكاتب فضاءات صور الكاتب -عبر توصيفات تفصيلية - مدى قذارتها وعفونتها بكل ما تحمله من أثاث وأشخاص حتى..." بجانب العربات تناثرت قطع من الروث ، والتبن ، وقشور البطيخ والدلاع ...تحالفت روائحها ثم جعلت تنبعث على شكل رائحة موحدة وعطنة ..." ص 15." وسط المثلث يوجد برميل زبالة وزبال..." ص 47.
" ... لحمه وشحمه يكادان يذوبان تحت جلده ، أو ربما هو جلده الذي يكاد ينسلخ عن باقي جسده...من جبينه وأسفل إبطيه ، يتصبب عرق غزير..." ص 61...
فضاءات المجموعة فضاءات المهمشين المتعايشين مع معضلات الحياة وسدود الانطلاقة ومعانقة الطموحات ونيل الاستحقاقات ...
إنها فضاءات المقت والمحاذير والتفريغ السلبي للمعاناة :
- المقهى برواده الفقراء المهمومين المتسلين بالمخدرات والنرد لتزجية الوقت ...
- السوق الذي يؤوي إليه الفقراء بائعين ومشترين ومتسولين.
- الشاطئ كفضاء تعويضي للتأمل ومآرب أخرى...
- ...
إن المجموعة القصصية برمتها وثيقة أقرب إلى التأريخ لأشخاص يتكررون بمعاناتهم عبر الزمن وعبر أكثر من فضاء...
وبغض النظر عن أساليب القصة المتجهة حاليا نحو مزيد من التكثيف استنباتا للإيحاءات بدل المعطيات المقيدة للتأويل إشراكا للقارئ في الافتراض و الإسقاط ،فالمبدع هشام حراك اختار أن يكتب الواضح بالواضح ، علما أن لكل اتجاه إبداعي قراءه المحبذين له...فالاتجاهات كما الأجناس الأدبية ستظل متعايشة عبر قاسم مشترك اسمه الإبداع والأدبية مع اختلاف في درجة إيحائيتها وحبكتها وتصورها إزاء الإنسان والواقع وغائية الفن والكتابة بصفة عامة.

*السوق اليومي " قصص قصيرة " لهشام حراك - الطبعة الثانية 2006م - البوكيلي للطباعة والنشر.

[72 صفحة - 15 قصة قصيرة ]