الحلقة الثانية " الإنترنت ومشرفة قسم الأسرة والطفل في منتدى محافظتنا "
لم أكن في طفولتي ولدا مدللا , كما لم أكن مهمشا مهملا , لذلك لم أعش طفولتي مثل ما عاشها أطفال الدلال والنعمة
لم أذكر يوما أني طلبت من أحد لعبة أو ثمنا لها , أو طلبت شيئا مماثلا لما يمتلكه أترابي من لعب و وسائل ترفيه .
كنت ألهو و أمرح مع من حولي بما يتيسر من إفرازات الطبيعة , سيوف من خشب وخيول من جذوع النخيل وكرة من علب المشروبات الفارغة , وهكذا .
نشأة ولله الحمد لا أنظر إلى ما في أيدي الناس , ولم يكن يغريني ما يمتلكون , عودت نفسي أو بالأصح عودت على هذا النسق من الحياة , هي سنة حسنة لعلي أزرعها في نفوس أبنائي مستقبلا .
تحملت مسؤوليات اجتماعية منذ الصغر , كان والدي حريصا على أن يقوم كل فرد بدوره في الحياة , لذلك شاركت في رعي الغنم , وساهمت في حصاد العلف لها , تسلقت النخيل أجني ثمارها , عملت جنبا إلى جنب مع كل من كان بحاجة لمساعدة , كنا نعمل بمبدأ التكافل الاجتماعي الذي حث عليه الدين الحنيف , حالنا في ذلك حال المجتمعات القروية والتجمعات الصغيرة
رغم المسؤوليات التي تحملتها وذكرت شيئا منها ، إلا أني لم أتحمل مسؤولية عاطفية تجاه الغير .
كنت أستمتع بالحنان والتعاطف عندما يأتيني من الغير , كنت أحزن وأتألم كنت أعاني من ضغوط ومتاعب مثل بقية البشر , وكنت أجد اليد الحانية كنت أجد المساعدة والمساندة .
أما أن أكون سندا للغير في شيء عاطفي أو وجداني أو أن أكون يدا حانية رحيمة ؛ فلم يحدث شيء من ذلك مسبقا .
دخل فهدٌ بأناقته المعتادة ونحن جلوس في غرفة المدرسين وقت الراحة .
وقال بصوت المنتصر : بدأت الإنترنت تعمل اليوم في محافظتنا , لم يبدي الجميع اهتماما بالموضوع , فقط أنا والأستاذ فهد و وكيل المدرسة الأستاذ محمد كنا المتحمسين لهذه التقنية .
أحسست بفرح كبير كنت أنتظر هذه اللحظة وكنت مستعدا لها حيث اشتريت حاسبا وهيأته لهذه الخدمة من فترة ليست بقصيرة .
خرجت من المدرسة وخرجت من عالم قريتنا الصغير ودخلت عالما جديدا ليس كعالمي المعتاد .
قرأت وشاهدت أشياء لم أكن لأشاهدها في عالمي الصغير .
زادت الزيارات بيني وبين زميلي فهد وكل منا يطلع الآخر بما اكتشفه في هذا العالم الجديد .
اكتشفت منتدى باسم محافظتنا أنشأه مدرس سابق في المدرسة الثانوية التي تخرجت منها , كانت ترطني به علاقة طيبة و أنا طالب ولكنه انتقل للعاصمة واستقر هناك .
سجلت في هذا المنتدى بمسمى (( سائرٌ بدرب اللا عودة )) و لم أخبر أحدا بذلك , تطورت علاقتي به أحسست بانتماء شديد لهذا المنتدى البسيط .
كان مدير الموقع يحذف الأرشيف القديم ليخفف الضغط على المنتدى كانت المساحة المحددة صغير حاله كحال المنتديات العربية في تلك الفترة , كانت قليلة وتفتقد للإمكانات التقنية التي تتوفر الآن .
نورة " مشرف قسم الأسرة والطفل "
كنت عضوا فاعلا في المنتدى و مطلع على كل جديد فيه , كانت نورة من أنشط الأعضاء كانت تضع موضوعا كل يوم تقريبا , وكانت تكتب موضوعاتها بين الساعة السابعة والنصف والثامنة صباحا .
كنت متابعا لها , ولم أجد موضوعا واحدا لها خرج من دائرة الحزن والألم .
كانت تمتلك أسلوبا ساحرا في وصف أحزانها و آلامها وما تتعرض له من ظلم .كانت مشاعري تحترق و أنا أقرأ ما يخطه قلمها .
كنت أتسأل : أي حالة نفسية تعيشها هذه الإنسانة , وأية متاعب تتكبدها , و أي متغطرس جبار تعيش تحت وطأته , وكيف لمثلها أن تصمد وتعيش كل هذه المدة .
تعقيبات كثير وردود لموضوعاتها , لاحظت أنها لا تهتم بمن يشيد بأسلوبها أو بلغتها في الكتابة , كانت تهتم بمن يعزيها ويواسيها .
بدأت أجاريها و أذكرها بالأجر المعد للصابرين , وأن الاستسلام والضعف لا يولد إلا الهزيمة .
تعلمت من مواضيعها كيف أقرأ السطور وما بين السطور , تعلمت كيف أفهم الإيحاءات والإشارات .
بعد شهرين من التعايش مع واقعها المر وصلتني رسالتها الأولى على الخاص .
تقول فيها " هل تملك طوق نجاتي "
لن أتكلم عن هذه الرسالة وما أحدثته من ضجة كبيرة داخلي , مكثت وقتا و أنا أتأملها , سؤال من أربع كلمات ولكنه يحتاج للإجابة عنه صفحات .
أخيرا أرسلت لها " لا أدري عن أي طوق للنجاة تحتاجين لأعلم أأمتلكه أم لا "
أرسلت لي " هل أنت ملتزم "
أرسلت لها فورا وغضبٌ يجتاحني " أنا مقصر جدا في الواجبات فما بلك بالنوافل , ولكني أحمل بين جنبي قلب يؤمن بالله ويخشى عذابه "
أرسلت لي بعد ذلك " أنا لا أريد سوى هذا القلب "
توقفتُ عن الكتابة ولم أرد .
بعد ساعة وصلتني رسالتها الرابعة : - سأتذكر عبارتها لعل الذاكرة تسعفني - ( أخي العزيز .السائر : أنا فتاة أبلغ من العمر 19 سنة متزوجة من قريب لي من جهة أمي منذ تسعة أشهر , عندما تغيب الشمس تشتعل في داخلي نار عظيمة , تدخلني عالم آخر وتفقدني التركيز فلا أعرف حتى اتجاه القبلة .
أقبل الليل و أقبل معه موعدٌ ينام بجواري وحش مفترس .
أخي العزيز السائر الناس يموتون مرة واحدة و أنا أموت كل ليلة , أتجرع سم الموت مع كل نهشة ينهشني فيها هذا الذئب المسعور , ذئب ينهشني وينشرني ويطويني يأكل من جسمي الغض حتى يشبع فإذا شبع نام على جنبه وأعطاني ظهره
هو ينام ويعلو شخيره و أنا أظل على ظهري غارقة في هول صدمة تتكرر كل ليلة غارقة في صمتي وأنيني أكفكف دمعي بكفي الواهنة و ألملم ما تطاير من شعري , أرتب خواطري و أسطر آلامي لكي أكتبها صباحا عندما يذهب لعمله ’ أنني أموت أيها السائر كل ليلة .. هل تعرف معنى أن تموت كل ليلة .
أيها السائر هل تعرف أين أنا الآن , أنا في قرية من قرى الجوف أبعد عنك وعن أهلى مئات الكيلومترات
أيها السائر هل تملك طوق نجاتي ؟ وهل ما كتبته يكفي ؟ أم أفرغ كنانتي وأنثر ما تبقى من أسراري .
أيها السائر أسمي الحقيقي سارة وليس نورة . طاب يومك وعسى أن يطيب ليلي ... سارة
لن أتحدث عن حالي لحظة القراءة ... كانت حال المذبوح يترنح في مستنقع دمه .
أرسلتها رسالتي الثالثة وحمل ثقيل يرزح فوق عاتقي " نعم أملك طوق نجاتك , وما كتبتي يكفي "
أرسلتها وليتني لم أرسلها .
الحلقة الثالثة " أين طوق نجاتي "