77جاسم الرصيف
ــــــــــــــــــــ
يوم الريح غير المريح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
حرب اميركا في العراق ، يصفها الأمريكان بالكارثة ، والورطة ، والهزيمة ، وغير ذلك ، ويصفها العراقيون اكبر مجزرة ضد البشرية سوّدت وجه هذا القرن ، واكبر جريمة حرب لطخت بياض البيت الذي سكنه بوش . وكان كل من يستخدم هذه التوصيفات في السنتين الأولى والثانية في اميركا يتهم بعار الخيانة الوطنية والتخلي عن القيم الأمريكية ، ولكن هذه المفردات صارت لوازم يومية لوصف ما يجري في العراق على ألسنة اغلبية امريكية لاتقل عن ( 70% ) من الأمريكان ، وهم ليسوا عربا ( قومجيين ) ولا اسلاميين متطرفين ، لأن نيران جرائم اصحاب العمّات ، كردية وعربية ( سنية شيعية ) ، الذين ورطوا اميركا بحربها ضد العراق وفقا لأكاذيبهم ، نالت دافعي الضرائب الأمريكان في عمق حياتهم اليومية ، بعد ان ضربت الشعب العراقي في صميم وحدته ومعيشته وأمنه في آن .
( التغيير ) الذي رفعه اوباما شعارا يستند الى الحقيقة المذكورة ، وعلى ارضية صرح عنها الرجل في قوله ( لن اثق بمن صنعوا هذه الحرب ) ، اخذ فعله ينعكس حتى على أداء محافظي الحزب الجمهوري المتزمتين ، فراحوا يرقّقون قواتهم المسلحة في العراق باضطراد ، لتقليل الخسائر البشرية التي ماعاد يتحملها الشارع الأمريكي ، فضلا عن الخسائر المادية التي قدرت بثلاثة ترليونات دولار رافقت ركودا إقتصاديا سحق كاهل ذوي الدخل المحدود ، ويذهب البعض الى أبعد من هذا فيقول ان هذا الترقيق العسكري يمهد لحالة إنسحاب آمن مفاجئ من العراق يوم لاتبقى فيه معدات عسكرية ثقيلة غير الطائرات ، كما انه يمهد لضربة إسرائيلية امريكية لأيران .
واذا كان من ابرز معالم إطار الترقيق العسكري هذا هو اضطراد سحب القوات النظامية ، فمن المستجدات التي تؤيد هذه التحليلات وتعززها ما نشرته صحيفة الغارديان اللندنية عن شركات الأمن الخاصة ، او قوات المرتزقة الأجانب العاملة في العراق ، وابرزها شركة بلاك ووتر التي اعلنت انها ( تستعد للرحيل ) ايضا . ومع ان صحيفة الغارديان بوّبت رحيل قوات المرتزقة هذه على سجل إنتهاكاتها الإجرامية لإنسانية العراقيين ، من خلال عملها في حراسة السفارة الأمريكية و ( حماية المسؤولين الحكوميين الموالين للإحتلال ) ، إلا ّ ان الأمر يبدو أبعد من هذه التعمية بكثير اذا ما تساءل المرء عن علاقة الظرف الزمني بين إنسحاب القوات النظامية مع إنسحاب القوات غير النظامية .
وأول المؤشرات التي تسوّغ الإنسحاب ، وتعتم على حيثياته في آن ، هو إدعاء قوات الإحتلال وقوات المرتزقة المحليين في آن على أن الوضع الأمني قد تحسن في العراق ، مع ان قوات الحكومة مازالت تمارس لعبة ( عسكر وحرامية ) بين المحافظات ، وثانيها : مسح جرائم فرق الموت التي أسس لها الإحتلال الأميركي الأيراني المركب بياقة مقتدى الصدر الذي إختفى من المشهد الأمني في توقيت عجيب غريب صادف الإنتخابات الأمريكية ومشهد الإنسحاب الأمريكي ، وتحولت قوات الصدر من مقاتلة الإحتلال الى الإستقتال من اجل كراس في الحكومة التي نصبها الإحتلال ذاته ، وثالثها : مدّ نفوذ ميليشيات الصحوة السنية بالمال المنهوب من ثروات العراق ثم مطّها الى تشكيلات سياسية تحت خيمة الإحتلال ، وبذلك تحاشت القوات الأمريكية كل المخاطر القاتلة لها في حالة إنسحاب غير آمن .
ولعل سؤالا كبيرا يطرح نفسه بصدد إنسحاب قوات المرتزقة غير النظامية : من سيحمي السفارة الأمريكية إذن ؟! ومن سيحمي ( المسؤولين العراقيين الموالين للإحتلال ) ؟! وقد يجيب أحمق : القوات العراقية !! . فنذكر ونذكّر بأن هذه القوات هي مربط الفرس في التغطية لإنسحاب امريكي آمن ، لأنها موالية كليا لأميركا ولأيران ــ التي تريد لأميركا ان تنسحب لتمد أيران أطرافها من خلال هذه الحكومة مباشرة الى حدود السعودية والكويت والأرن وسوريا وتركيا ــ ولأن هذه القوات لاتعدّ بأي حال من الأحوال خطيرة على الأميركان اذا ماحاولت اللعب بذيلها من حيث انها بلا دروع وبلا طائرات حربية ولاقوات بحرية تحميها، كما انها ملغومة بمئات ، ان لم نقل بألوف ، من العملاء الأميركان .
( استراتيجية بلاك ووتر للخروج من العراق ) هو عنوان التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية ، والتي لم تستبعد وجود رابط فعلي بين عزم اوباما على سحب القوات الأمريكية من العراق ، وهي أصل قوات المرتزقة هذه ، خلال ( 16 ) شهرا من توليه الرئاسة ، اذا فاز ، ولكن المؤكد ان إنسحاب هؤلاء جاء بقرار من الحزب الجمهوري الحاكم حاليا ، على حقيقة ان ال ( 16 ) شهرا هي تقديرات خبراء عسكريون اعلنوها قبل ان يرشح اوباما نفسه للرئاسة ، فيعد ما يجري في هذا الإطار إقرارا من ادارة بوش بأنها في حالة إنسحاب رسمي ، ربما قبل فوات الأوان ، وضياع فرصة الإنسحاب الآمن ، في ظل ظروف عراقية مؤاتية على غفوة من كل الأطراف ، وظروف امريكية تعين على إنسحاب مشرّف تحت راية تحسن الأوضاع في المستعمرة الأمريكية الأيرانية الكوندية .
ولكن يمكن للمرء ان يستقرئ من كل هذا معالم المسألة الأكثر أهمية للعراقيين وهي ان : يوما غير مريح ، ستتم فيه مواجهة ( المسؤولين الحكوميين الموالين للإحتلال ) ، يقترب في ظل إنسحاب امريكي مريح .