الرد على الموضوع
صفحة 1 من 5 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 51

الموضوع: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

  1. #1 نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    النص الكامل لرواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
    .................................................. ..........

    صدرت رواية "نفق المنيرة" عن اتحاد الكتاب والهيئة المصرية العامة للكتاب.وهي الرواية الثانية لحسني سيد لبيب بعد "دموع إيزيس".
    وتدور أحداث"نفق المنيرة" أيام الستينيات، وقد اتخذ المؤلف من مدينته "إمبابة" مسرحا لأحداثها. وتقع في 304 صفحات، وتضم (49) فصلا. وقد أهدى المؤلف الرواية لروح والده. يقول في سطور الإهداء: "إلى من علمني أسمى المعاني وأنبل القيم.. إلى الذي علمني الصبر وقت الشدائد.. إلى والدي رحمه الله وغفر له".
    ويقوم المؤلف الآن بوضع اللمسات الأخيرة للجزء الثاني، قبل أن يدفع به للنشر.
    ... وهذا نص الرواية
    .........................
    الإهداء


    إلى الذي علمني أسمى المعاني وأنبل القيم
    إلى الذي علمني الصبر وقت الشدائد

    إلى والدي رحمه الله وغفر له
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 1 ـ

    أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين " نفق المنيرة "، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين. أما هو فيعتز باسمه بالكامل حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، مؤكدا أن رمضان والد جده شارك في مد القضبان الحديدية. يتحدث عن نفسه فيقول إنه في مقتبل عمره بدأ يتكسب قوت يومه في غرزة، أقامها من الخوص والخشب عند مدخل النفق، خصصها كمقهى لعمال التراحيل والمزارعين والبائعين الجوالين الذين يجرون عربات الخضر والفاكهة.
    في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق.
    منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
    ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
    هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
    اسمها الأصلي في قول " نبابة " كما ورد في كتاب " جني الأزهار "، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها " إمبابة ". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم " جزيرة إمبابة ". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي : تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة.
    تتناثر العوامات على صفحة النيل بمحاذاة العجوزة، وقليل منها قبالة الكيت كات.. وفي الكيت كات أقيم في الماضي قوس من أيام الحملة الفرنسية، عليه كتابة ونقوش شاهدة على عهود بائدة، ومستعمر كان يبحث عن شمس دافئة قرب أبي الهول والأهرام الخالدة.
    أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع، وانقلب الحال.. هدم السور وبني مكانه جامع خالد بن الوليد. يضحك من أعماقه وهو يذكر ملهى ليليا كان مقاما في البقعة نفسها، يحمل اسم صاحبته الراقصة الأجنبية كيتي. كان يؤم الملهى الباحثون عن سهرات ليلية، من الوجهاء وعلية القوم.. وسكنت في عوامة على النيل سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي آثرت الحياة على صفحة النهر الخالد حتى وافتها المنية منذ شهور قليلة وهي في الثمانين من عمرها. ذاعت شهرتها قبل أن تظهر أم كلثوم. من أغانيها المشهورة " أسمر ملك روحي "، وكان يجتمع في عوامتها نخبة من وزراء مصر.
    ما زالت إمبابة القديمة كما هي.. سيدي إسماعيل الإمبابي، شارع مراد، شارع السلام. إلا أن الترعة الغربية ردمت، وشق فوقها طريق أسفلتي، مزدحم بالمارة والمركبات.
    اختفت المزارع الخضراء، والغيط الذي كان يحلو له الذهاب إليه، وهو في شرخ الشباب، يتنسم هواء يهز أوراق شجر البرتقال. يتبادل الحديث مع فلاح، الذي يعطيه كيزان الذرة، ويسمح له بالتقاط ثمار الفاكهة المتساقطة من الشجر.
    أفاق من تأملاته على صوت سيد سبرتو، الطاغية المستبد، وهو يصرخ بصوت أجش:
    ـ أنت يا زفت..
    هرول إليه مذعورا، كمن لدغته حية رقطاء.. وأخذ الفتوة يعيد برم شواربه..
    ـ الأكل جاهز يا معلم..
    أتى إليه بطبق " مسقعة " أعدته حميدة.. التهم الطبق ولحس بإصبعه " دِمْعَة " الطبيخ.. ودون أن يطلب أسرع يقدم طبقا آخر، فالتهمه كسابقه.
    خبط بكفيْ يده على كرشه، وتجشأ، وهمّ بالانصراف، فطلب منه انتظار الشاي، فثار في وجهه :
    ـ أنا رائح أشرب بيرة من ثلاجة عمك توفيق..
    وعم توفيق ليس أسعد حظا منه، فالمعلم يتجرع زجاجة البيرة، ولا يدفع ثمنها. إنه يعيش على إتاوات وسطو، نظير حمايتهم ـ هكذا يدّعي ـ والويل كل الويل لمن يعترض عليه.
    استراح كثيرا حين انصرف. تمدد على الكنبة البلدي في الصالة الضيقة المطلة على الجسر، ونام نوما هادئا ساعة القيلولة، ريثما تعود ابنته وزوجها من سوق الخضار عصرا.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 2 ـ

    عاد من المدرسة بصحبة زميله. في يده ثلاث كراسات وكتاب إنجليزي. انثنى يمينا، قبل أن يودع زميله ويكمل السير من تحت النفق إلى بيته. إلا أنه أغراه بالسير معه في الشارع الواسع المفضي إلى سيدي إسماعيل الإمبابي ومحطة إمبابة ـ أول محطة يقف عندها قطار الصعيد ـ وقسم إمبابة. كان ثروت لم يكمل حديثه بعد، عما قرأ في كتاب " عودة الشيخ إلى صباه " من تفاصيل جنسية. وقف الاثنان أمام محطة القطار، لاحظ فتحي الاستعدادات لإقامة سرادقات لمولد سيدي إسماعيل الإمبابي. استمع من زميله عما شاهده في مسرح حمام العطار، قبل أن ينصرف كل إلى وجهته. عبر ثروت الشارع العمومي الواسع ودخل الشارع الضيق مخلفا عن يمينه ضريح الإمبابي.. وأكمل فتحي السير حيث عبر قضبان السكة الحديدية وأرصفتها، واخترق شوارع مدينة العمال إلى مدينة التحرير.
    للحديث مع ثروت متعة ذات مذاق خاص، حيث يتطرق إلى أمور جنسية تثير خياله.
    مسرح حمام العطار يقدم فاصلا من الرقص الشرقي للراقصة توحة، التي تعرض مفاتنها على أنغام الموسيقى، إلى جانب ما يقدمه المسرح من تمثيليات واستعراضات فكاهية.. ثروت زبون مستديم لهذا المسرح. كل عام يدخله عدة مرات. انتوى فتحي دخول المسرح عند افتتاحه، والاستمتاع بما يقدمه، وخاصة الفرجة على الراقصة العارية، كما بالغ ثروت في وصفها. تحسس جيبه فلم يجد معه إلا ثلاثة قروش ونصف القرش.. لا بأس، عليه ادخار ما معه، ليكمل من مصروف اليوم التالي. تذكر عمته وما تنفحه من مبالغ كبيرة. يمكنه زيارتها، كما تعود، وهو واثق أنها ستعطيه، دون أن يطلب. عمة كريمة منحها الله زوجًا موسرا. يربح الحاج عبد العاطي من تجارة القطن ما يجعله يعيش في بحبوحة. لا تألو العمة جهدا في مساعدة أقاربها المحتاجين وغير المحتاجين!
    استلقى على الفراش، تخايله صور لم يتعودها. ألهب ثروت خياله بمفاتن المرأة. وليلى حبيبة قلبه، أليست فتاة تتمتع بمفاتن تشده إليها ؟ ثار ضد أحاسيسه الملتهبة. لا.. ليلى مخلوق آخر.. ليلى ملاك لا يصنف مع بائعات الهوى.. أتاه صوتها الرقيق وهي في حديقة المنزل تتحدث مع أمها.. نهض سريعا وأطل عليها من خصاص الشيش يتتبع حركاتها الرشيقة، وصوتها الهامس.. تمنى أن يفتح النافذة ويتحدث إليها حديثا دافئا، يعبر عن مشاعره وتعبر عن مشاعرها. هل يمكنهما تبادل أحاديث الهوى ؟ هل تبادله الحب ؟
    دلفت ليلى وأمها إلى الداخل. عاد يستلقي على سريره حاضنا الوسادة، مقلدا عبد الحليم حافظ في فيلم " الوسادة الخالية ". إنه يشبه صلاح بطل الفيلم، وإن كانت التفاصيل مختلفة. تقلب في الفراش معذبا من حبه الصامت. ظل على هذه الحال إلى أن غلبه النوم.. ثم استيقظ على صوت أمه وهي تحدث أباه، تعاتبه على سيره على قدميه من السيدة زينب ليوفر قرش صاغ أجرة " الأتوبيس ". أعدت طست الماء الدافئ ليضع قدميه المتورمتين فيه، ويدلكهما. حكى لها ما حدث في إحدى المرات حين اندس وسط الزحام. مر عليه المحصل عدة مرات ولم يلتفت إليه. طاوع نفسه بأن يحرص على القرش في يده، إلى أن يطلبه المحصل، عساه ينجح في توفيره ليوم آخر. إلا أن ضميره لم يطاوعه. كان المحصل موليا ظهره إليه، شد من عزيمته في هذه المرة ومد يده ينفحه القرش المعروق في يده، ويأخذ التذكرة، وهو يشد قامته في إباء..
    أنّب نفسه لمجرد التفكير في قضاء ليلة في المولد يلهو فيها ويعبث، باحثا عن اللذة.. بدأ يفيق على صورة الأب المكافح الذي هزمته الحياة في غير موقع، لكنه يواجهها برباطة جأش، وتحمل. بدأ يتنبه إلى أنه ينتمي للأسر الفقيرة. ابتأس لحاله. تطلع إلى المستقبل. إنه يعيد الثانوية العامة، بعد حصوله على مجموع 56 % لم يؤهله لدخول كلية الهندسة. قدم أوراقه إلى معهد الخدمة الاجتماعية. طلبوا منه تقديم بحث اجتماعي، فاختار موضوع " التسول كظاهرة اجتماعية ".. تردد على مكتبة إمبابة في مدينة العمال، واتجه إلى دار الكتب في باب الخلق. قرأ كتبا عديدة تتلاءم مع بحثه. أعجب بالبحث الذي كتبه، لكنه تردد في تقديمه، ودخول المقابلة الشخصية. إنه يطمح إلى دخول كلية الهندسة. قال لأبيه إنه ينوي إعادة السنة، فلم يعارض. طلبوا منه رسم إعادة قيد. لم يتردد أبوه في بيع طاقم الصالون ودفْع الرسم المقرر. انتفض من على فراشه، وجلس إلى المنضدة التي يستذكر عليها دروسه، طفق يكتب الموضوعات التي ينبغي استذكارها الليلة.
    ما إن أحس بوقع خطوات الحبيبة، بصوتها الرقيق تنادي على أختها نجوى، حتى هرع ينظر إليها من خصاص شيش النافذة، ثم فتحها، ناظرا إليها قائلا :
    ـ مساء الخير..
    ـ مساء النور..
    لم يزد الاثنان على تحية المساء شيئا. عاد إلى كتبه، مجددا العزم على تعويض ما فاته في العام الماضي. ما زال الوقت متسعا أمامه.. أول الخريف، الجو منعش ونسمات الليل تعطيه قدرا من الهمة. أتت أمه بقدح الشاي وانصرفت لحالها.
    أتاه صوت المؤذن، فنهض لتوه يرتدي ملابس الخروج على عجل قاصدا أمين، الذي يقيم في المنيرة الغربية. كان على فتحي اجتياز المنيرة الشرقية، عابرا الترعة من فوق ساقيْ نخلتين وضعتا قنطرة عبور. ثم عبر قضبان سكك حديد الصوامع، عبر أرض متربة، حيث بيوت ناس أكثر فقرا منه. أيقظه من النوم. جلسا يتسامران. حكى له قصة حبه لليلى، وقد علقت في ذهنه قصة مجنون ليلى. وتمثل نفسه يشبهه. رحبت به أم أمين، وقدمت الشاي. اعتاد فتحي على مياه المضخة التي تغير طعم الشاي.
    خرجا يتريضان في الشوارع. يتجادلان في مواضيع كثيرة، سياسية واجتماعية ودينية، وفي نشأة الكون ومصير الإنسان.
    دارت مناقشات لم تفضِ بهم إلى شيء ! وفي منتصف الليل انصرف كل إلى بيته.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 3 ـ

    عاد من مدرسته، مارا بسيدي إسماعيل الإمبابي. لاحظ عمالا واقفين على سلالم عالية يتنقلون بها كالبهلوانات، ينصبون الأعمدة وخشبة المسرح والجدران الخشبية.
    اليوم الخميس. عاد من المدرسة في الثانية عشرة. تناول طعامه ونام. صحا عصرا. هيأ نفسه لقضاء ليلة في المولد. لا ينكر الحيرة والتردد. صوت يثنيه عن الذهاب، وآخر يدفعه إلى خوض التجربة. في الأفراح، كان يلذ له أن يندس وسط الزحام ويتفرج على مفاتن الرقص الشرقي وهز البطن. كما أدمن الفرجة على أفلام مصرية بما فيها من رقصات واستعراضات. حيره الفن الذي يجيز ذلك. حيره الحلال والحرام.
    أصبح في قلب المولد، وسط الزحام. خليط من الناس.
    انعقدت حلقات الذكر، وشدت جماعات الطرق الصوفية بأناشيد المديح النبوي.
    شدّه التمايل والأداء الموحد. ودّ أن ينضم إلى الحلقة ويؤدي الحركات نفسها.. وقف لحظات يتمايل مع الإيقاع.. عربات وخيام لألعاب الحظ وألعاب القوى. شاب بارزة عضلات ذراعيه، يحرك الثقل حتى نهاية مساره حيث يرتطم بالهدف فتفرقع بمبة، ويصفق الواقفون. يقوم شخص بإضافة ثقل ثان وثالث.. ينتقل إلى لعبة أخرى، حيث يمسك شاب ببندقية ليسدد هدفا في الوسط، دائرة ضيقة إذا رشقت الخرطوشة داخلها كسب الهدّاف قطعة ملبن !.. هناك لعبة الأطواق. يقوم المتسابق برمي الطوق الخيزراني على مجموعة هدايا. إذا استقر الطوق فوق الهدية كسبها الرامي. شدّه المولد، دنيا زاخرة بالألعاب مبهرة للمتفرجين. بائع العطور يجلس أمام بضاعته من العطر والمسك والبخور وعيدان السواك، إلى جانبه يقف بائع كتب دينية.. أعرض عن كل هذا مدخرا القروش التي معه لدخول مسرح العطار. صوت مكبر الصوت يأتيه من بعيد عن الفتاة المغناطيسية. دفعه الفضول إلى تجاوز دكان حلاق الصحة الذي يقوم بعملية الختان للصبية والبنات، والشحاذين بأسئلتهم الملحة، وعاهاتهم المثيرة للشفقة، ودعواتهم بطول العمر والذرية الصالحة. ولعبة الثلاث ورقات، التي تغري الزبون كي يشارك فيها فيقع في فخ نُصب بإحكام. فتاة تقف على منصة خشبية بمايوه يغطي نهديها وبطنها، يكشف صدرها حتى مفرق النهدين.
    يكرر الرجل حديثه عن الفتاة المعجزة التي ما إن تمس اللمبة " النيون " جسمها تضئ. يتحدث الرجل ـ أيضا ـ عن فتاة ثانية سوف تتمدد في صندوق ويقوم الساحر بنشر الصندوق من منتصفه فينقطع نصفين. المعجزة أن الفتاة تعود سليمة، ببركة سيدي إسماعيل الإمبابي !.. يتوافد الناس للدخول وهم متأكدون أن الفتاة لن يمسها سوء، إنما هي خدعة. يندفع فتحي للدخول مع آخرين. ورجل الإعلان يطلب إفساح طريق للداخلين، دلالة الإقبال الشديد. لا بأس من الفرجة هنا، حتى يحين موعد دخول المسرح. النقود التي معه تكفي للدخول هنا وهناك وشراء قرطاس فول سوداني وقرطاس ترمس.
    جلس على دكة خشبية بجوار شاب ريفي يرتدي الجلباب. ما زال مكبر الصوت يأتيه من الخارج، يستحث الناس على الدخول، حتى لا تفوتهم فرصة العمر.
    تململ في جلسته. الوافدون على المكان يتقاطرون من حين لآخر. اكتظت الدكك بالناس. المكان ضيق. قد يسع عشرين، إلا أنه امتلأ بالعشرات. بدأ العرض بألعاب سحرية، ثم تلك الفتاة التي تتمدد داخل صندوق الساحر، ويغلق عليها أبوابه، ثم ينشره دون أن تئن الفتاة. رأسها تظهر من طرف الصندوق. يتم النشر، وتنفصل القطعتان. يصفق الناس إعجابا. يضم نصفيْ الصندوق ويفتحه فتنهض الفتاة التي يبدو أنها تكومت في أحد النصفين في غفلة من الجمهور.
    النمرة الأخيرة عن الفتاة المغناطيسية، التي تمس اللمبة جسمها فتضئ. يحاول أن يتبين أية وصلات سلكية فلا يجد. يخمن أنها سلوك خفية ! ينتهي العرض. يخرج قاصدا مسرح حمام العطار الذي بدأ الناس يتوافدون إليه. يبدو المسرح أكثر رقيا من مسارح أخرى. الدعاية هادئة تنم عن ثقة زائدة بأن الجمهور يعرف أهمية ما يقدمه العطار. اصطفت بالداخل كراسٍ متواضعة، لكنها أحسن حالا من الدكك. جلس إلى جانبه كهل ذو شارب كث. كثير الثرثرة معه.
    دخان أزرق انبعث من ركن بعيد. جماعة من الحشاشين يتبادلون الجوزة بينهم. امتعض منهم، لكن لا حيلة سوى اللواذ بكرسيه، والفرجة على ما يقدمه المسرح. مطرب متواضع الموهبة يغني عن فراق الحبيب. شتان بينه وبين العندليب الأسمر. تلاه مونولوجست يقدم فاصلا من النقد الاجتماعي. قال مقدم البرنامج عنه إنه من فرقة بديعة مصابني التي اشتهرت في الثلاثينيات والأربعينيات. انتهز الكهل الفرصة ليحكي لفتحي عن فرقة بديعة مصابني، وأنه عاصر الفرقة عند كوبري بديعة..
    قال دهشا:
    ـ كوبري بديعة ؟
    ـ أجل.. كوبري الجلاء كان يعرف من قبل باسم كوبري بديعة نسبة إلى بديعة مصابني حيث كان مسرحها يقع عند مشارف كوبري الجلاء..
    صمت قليلا، ثم أكمل :
    ـ بالمناسبة كان اسمه كوبري الإنجليز، وكان اسمه كوبري البحر الأعمى..
    يربط الكوبري بين الدقي وأرض الجزيرة الممتدة شمالا إلى جزيرة الزمالك، وجنوبا إلى جزيرة منيل الروضة..
    دهش فتحي لكمّ المعلومات التي يختزنها الرجل عن فرقة بديعة والكوبري..
    ـ ما السر في تسمية الناس للكوبري باسم بديعة ؟ هل هو عشقهم للفن ؟
    ـ ما قلته صحيحا.. شهرة بديعة في الثلاثينيات والأربعينيات فاقت شهرة رجال الساسة والحكم.
    قدم المونولوجست فاصلا من النقد الاجتماعي، عن المرأة التي تتدخل فيما لا يعنيها، والحماة التي تنكد على زوج ابنتها. ثم تمثيلية فكاهية بطلها نوبي حسن الظن بالناس، فيقع في مقالب ومطبات.. ثم أعدت خشبة المسرح لفاتنة الرقص الشرقي توحة.. قوبلت عند ظهورها بعاصفة من التصفيق المتواصل. تصايح الحشاشون. رمى أحدهم عمامته، تعبيرا عن إعجابه. كانت ترتدي " بذلة " الرقص التي تكشف جسمها كله، استمتع بمفاتن الراقصة، التي أشبعت فضوله في رؤية جسم المرأة. غازلت توحة ما يعانيه المراهقون من كبت، وأرضت أمزجة المتزوجين الباحثين عن امرأة أخرى !.. تمادت توحة في الإيماءات الجنسية التي قوبلت بتأوهات المراهقين. أنهت توحة رقصتها في منتصف الليل. كان الحشاشون قد وصلوا إلى السكر البين، وتلفظوا بعبارات إباحية استنكرها فتحي وهو خارج. ينتابه إحساس بأن مثل هذا المكان لا يناسبه. لولا صرخة الجنس تلهب جوارحه، ما ارتاد هذا المسرح.
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 4 ـ

    تثاءب وهو يتقلب على الفراش. الجمعة أحب الأيام. إجازة من المدرسة، فينهض من فراشه متأخرا. سمع صوت ليلى، هب متجها إلى خصاص النافذة رانيا في الخفاء إلى الوجه الحبيب ! كانت تتحدث مع أختها لمياء. فتح دلف الشيش ببطء، ناظرا إليها، محييا إياها بابتسامة هادئة :
    ـ صباح الخير..
    أتاه الصوت الرقيق :
    ـ صباح النور..
    دخل الغرفة عاجزا عن إكمال الحوار. لم يزد على تحية الصباح شيئا. وسعته الفرحة فتغنى بأغنية عبد الحليم حافظ " أول مرة تحب يا قلبي "، عامدا أن يصلها صوته. تنبه بعد دقائق إلى أنها ليست في الحديقة.. حرك دلف الشيش غلقا وفتحا، لعلها تسمع فتأتيه، لكن محاولته ذهبت أدراج الرياح.
    كاد يخنقه الدخان المنبعث من الفرن. أوقدت أمه فرن الخبيز، بأقراص الجلة وقطع خشب صغيرة مخلوطة بالنشارة. أحكم غلق الدلف الزجاجية، إلى أن تبدد الدخان، ثم عاد يفتح النافذة على آخرها. يتناهى إليه صوت أم ليلى وهي تحادث أمه:
    ـ الحاج نِفْسه يأكل رغيف سخن يا أم فتحي..
    ـ من عيني..
    ظلا يتحادثان.. أم ليلى ارتقت السور الواطئ وأمه تحادثها وهي تضع أقراص العجين في الفرن. تعمد إلى نقله من مكان لآخر تبعا لحرارة الفرن وحالة النضج. أنهت الحديث واستأذنت بعد أن نادى الحاج عليها..
    بدأ استذكار دروسه، حتى أتاه صوت ليلى تتحدث مع أمه عبر السور الفاصل بين الحديقتين، مقدمة لها كيزان بطاطا لوضعها في الفرن. هرول نازلا إلى الحديقة يتناول منها الكيزان. لمح وردة حمراء زاهية على فرع أخضر. قطفها وقدمها لها زارعا على شفتيه ابتسامة، تحاكي الفرحة المطبوعة في قلبه. ابتسمت ليلى شاكرة. مدت يدها تتناول الوردة والابتسامة معلقة على شفتيها ووجنتيها.
    " اليوم من أجمل أيام حياتي ".. هكذا كتب في كراسة اليوميات، التي يسجل فيها اللحظات السعيدة والمواقف الحاسمة في حياته..
    في المساء، ارتدى القميص والبنطلون وخرج متوجها إلى أمين.. لم يعبأ بطول الطريق الذي يقطعه ذهابا وإيابا دون ملل.. إذا كانت كراسة اليومية تسد حاجة نفسية للتعبير، فإن أمين كراسة ثانية لأسراره وخواطره.. إلا أنه تعمد ألا يذكر له شيئا عن سهرة أمس في مسرح العطار..
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 5 ـ

    انصرف من المدرسة بصحبة أمين. التقيا مصطفى الذي سيطر بحديثه عن نرجس، البنت التي أحبها. شرح كيف التقاها أول مرة، حين جاءت زبونة تريد رتق صندلها. عرفته بنفسها، تلميذة في مدرسة باحثة البادية. يتبادل معها كلمات قليلة. أبانت له أن أخته سعاد دلتها على المحل. أعجب بحديثها. آلمه أنها تكبدت السير من المنيرة حتى شارع مراد. قالت إنها تسكن في المنيرة أيضا بالقرب من سكنه، وأن سعاد صديقتها. أصر أن يرتق الصندل بالمجان.
    التزم أمين الصمت، يسمع ولا يعلق ولا يبدي رأيا. هذه ليست أول بنت يتحدث عنها. عرف كثيرات قبلها. يعمل مصطفى في محل إسكافي. يرتق الأحذية القديمة على ماكينة أو يحيك بالإبرة ما تمزق من جلدها.. ينظف بعدها الحذاء ويلمّعه بالورنيش. يظل يعمل حتى الواحدة ظهرا فيعود إلى داره سيرا على الأقدام، من شارع مراد مخترقا سوق الجمال والجرن وسيدي إسماعيل الإمبابي، مارا بمدرسة التجارة للبنات. ما أكثر أحاديثه مع فتحي عن البنات اللاتي يقصدن المحل، أخراهن نرجس. يعود إلى المحل في الثالثة بعد الظهر، حتى أذان العشاء، فينصرف إلى البيت منهك القوى. يغتسل طاردا رائحة الجلد والورنيش، ويتعشى ويشرب الشاي. ثم يستسلم لنوم عميق، ما لم يخرج مع الصحاب.. حسده فتحي على زبائن المحل من البنات. لم يصدق أن عاملا بسيطا مثله يمكن أن تقع بنت مدارس في هواه.
    استأذن أمين لينحرف يسارا إلى المنيرة، يكمل الطريق بمفرده. آثر مصطفى تمضية بعض الوقت مع فتحي، الذي حكى عن سهرته في مسرح العطار.. حدثه عن الراقصة توحة. تذكر أمور الجنس التي أشبع ثروت بها خياله. تمنى أن يكون مثله. وجد ضالته في مسرح العطار. وجد في صاحبه مستمعا يمكن أن يجاريه. إلا أنه يختلف عنه، فقد لاحظ أنه لا يتحمس لما يحكيه عن المسرح. أدرك أنه من نوع آخر يختلف عن ثروت. لم يتحمس لكلامه، ولا تحمس لدعوته بقضاء أمسية معه، وإن كان منصتا جيدا لما يقول.
    أغراه بالسير حتى بيته، وقضاء وقت معه. شقة ضيقة من ثلاث غرف، قريبة من مسجد زيدان. ينفرد بغرفة، بها سرير سِفَري خاص به، ومنضدة صغيرة منخفضة تكفي صينية الشاي بالكاد، وثلاثة كراسي. دخلت سعاد، بوجه مدور منور. مدت يدها بالتحية. نهض واقفا وسلم عليها، مبهورا بجمالها ورشاقتها. خرجت فلمح ضفيرة الشعر الأسود تغطي ظهرها. عادت بصينية مستديرة، عليها قدحيْ شاي، وانصرفت. قال مصطفى:
    ـ إنها صديقة نرجس..
    ـ ألهذا تعاكس نرجس ؟
    ـ أبدا والله..
    همس في أذنه حتى لا يتنصت له متطفل من أسرته، قال وهو يتحسس بإصبعيْ الإبهام والسبابة شاربه الخفيف :
    ـ إني أحبها.. لا تعجب.. هي بنت ولا كل البنات.. أعجبت بها. جمال وأخلاق..
    ـ هل ستتزوجها ؟
    ـ أتمنى..
    التزما الصمت.. قطعه فتحي بقوله، كأنه يحدثه عن نفسه :
    ـ بمجرد أن تعجبك بنت غيرها ستنسى هذا الكلام، وتقع في حب جديد..
    غضب. أكد أنها ليست بنتا عادية.. أعاد قوله بأنها " بنت ولا كل البنات ".. وتحسس من جديد الشارب الخفيف..
    حين هم بالانصراف، دخل أبو مصطفى يسلم عليه ويسأل عن أحواله. كان عائدا لتوه من ورشة النجارة.
    في المساء، توجه إلى صديقه الذي لا يكاد يفارقه.. يقضي بعضا من الوقت، عاتبا على صاحبه انعزاله عن حياة تموج بالأحداث. عرض عليه أن يخرج معه "ليشمّا الهواء"، فتشجع ونفض عن جسمه التراخي. ارتدى ملابس الخروج، قميصا أبيض بأكمام وبنطلونا تعاقبت عليه أتربة السنين. لاذا بركن في مقهى الربيع المطل على شارع عريض، وموقف أتوبيسات مدينة العمال. لعبا النرد. أحضر النادل صينية الشاي، قائلا :
    ـ أي خدمة يا بهوات..
    كسب أمين الدور الأول، فاتهمه فتحي بأنه " يقرص " الزهر حين يلقي به، لهذا هزمه. اكفهر وجه أمين. لعبا دورا آخر فتعادلا. ارتاح فتحي للنتيجة، فتشجع ولعب دورا فاصلا، انتهى لصالحه. أعطى النادل حسابه، وانصرف مع صاحبه، منفوشا كطاووس. نسيا اللعب وتطرقا إلى أحاديث عن نشأة الكون، حديثهما الأثير، كما تحدثا عن الاشتراكية، والوحدة بين مصر وسوريا التي لم تستمر طويلا. تحمس فتحي للمد الاشتراكي، وإلى الوحدة العربية سبيلا لجمع شمل العرب، بينا انفرد أمين برأيه في أن الاشتراكية تقضي على الملكية الفردية، وأن الوحدة التي ينادي بها عبد الناصر لن تتحقق لأن العرب أشتات مبعثرة.. يبدو أمين عقلانيا في أفكاره، رغم أن فقر أسرته يحتم عليه التحمس للمد الاشتراكي.
    عجب فتحي من موقفه. جابا طرقات المنطقة والأحاديث لا تنتهي بينهما. انتقلا إلى أغنية أم كلثوم الجديدة " أراك عصيّ الدمع "، اتفقا على أنها أكثر من رائعة. السؤال الذي دار حول الأغنية أن جمهور "الست " ربما لا يتفهم معاني الكلمات. بعد ذلك، حدثه فتحي عن سعاد البنت الجميلة التي رآها اليوم لأول مرة، عن أدبها ورشاقتها. عجب من أخيها يعجب ببنت في مثل سن أخته !
    عرّجا على غرزة حمزة. أراحا الأقدام من طول السير، وشربا الشاي الثقيل.
    انضم إليهما، صاحب الشعر المشتعل بياضا من جراء الستين عاما المنصرمة من عمره، التي أعطت ـ في نظرهم ـ انطباعا بحكمة الرجل. أعاد حكاية الرصاصة التي استقرت في فخذه أيام حرب بور سعيد. تطوع في صفوف المقاومة الشعبية. تذكر الأيام المجيدة، وحماس القائد الذي أصر على مقاتلة الغازين. وعند اقتراب الساعة من الحادية عشرة، انصرف كل إلى بيته..
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 6 ـ

    ظهر الاثنين الأول من نوفمبر عام 1965.
    طرق متواصل على الباب جعل أم فتحي تهرع من المطبخ إلى الباب تفتحه، فإذا مصطفى متقطع الأنفاس.. ينزل فتحي السلالم ركضا إثر سماعه صوت صاحبه..
    ـ ادخل.. ادخل..
    لكنه لا يدخل. شده من ذراعه إلى الداخل، وصوته يعلن في ألم:
    ـ التروللي وقع في النيل..
    صكت صدرها بكفها.. ارتدى فتحي الملابس على عجل، وخرج معه، متجهين إلى حيث سقط التروللي باس رقم 44 أمام مستشفى العجوزة.
    خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع.. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال، تخرج معهم في مسيرة جنائزية مهيبة. بعض النساء خرجن بجلابيب البيت، حاسرات الشعر حافيات الأقدام. مِنَ الناس مَنْ ركب سيارات الأجرة ومِنهم مَنْ ركب السيارات العامة ومِنهم من سار على قدميه كأنه يركض.. كان اليوم طويلا قاسيا كأن شمسه لم تطلع.. تقاطر الناس من كل مكان إلى موقع الحادث.. جاءوا من مدينة العمال والتحرير والمنيرة وتاج الدول وأرض عزيز عزت والجرن وعزبة الصعايدة وشارع السلام والكيت كات ووراق العرب والحضر. جاءوا من كل اتجاه وهم يتصايحون ويتباكون..
    قال مصطفى بصوت متحشرج:
    ـ أختي سعاد تعود في هذا الموعد من الجيزة..
    طيب فتحي خاطره:
    ـ ندعو لها بالسلامة..
    ركبا سيارة وكل من فيها يحكون عن المأساة، التي راح فيها غرقى بالعشرات.
    سيارة إسعاف تطلق صوتا كالصراخ، فيخلى لها الطريق. نزلا بعد كوبري الزمالك بمحطة، معتذرا السائق من عدم تمكنه من شق الزحام وإكمال الطريق. سأل فتحي:
    ـ هل أخبرت والدك ؟
    ـ هو الذي أخبرني عن طريق أحد العاملين بالورشة، وسبقني إلى هنا.. قد نلتقي به..
    ازدحم الأهالي على الشاطئ، منهم من قفز عبر سور واطئ، ومنهم من مشى عبر حطام السور الذي كسره التروللي في اقتحامه المجنون. قفز الاثنان فوق السور اختصارا للوقت وشقا لهما مكانا بصعوبة وسط الزحام والصراخ والعويل.
    شقا الطريق عبر أجساد مقهورة مرتعدة. رأوا العيون باكية فانهمرت دموعهما.. أخيرا تطلعا إلى سطح الماء. وصلا بالقرب منه. لم يريا من التروللي المنتحر سوى سنجتين حديديتين ظاهرتين فوق سطح النهر، كأنهما يستجيران بالله من دنيا المشقات. أما التروللي فقد غاص بركابه في جوف المياه. احتضنت المياه الضحايا. زغردت عرائس النيل المنتحرات من عصور قديمة، في محفل مهيب. شاب قفز إلى المياه بثيابه وجاهد حتى وصل إلى مكان التروللي. لم يألُ جهدا في كسر نافذة زجاجية قابلته. امتدت يده تمسك بمن تصادف. شد جثمان بنت إلى ناحيته، حمله بين ذراعيه عائدا به إلى الشاطئ.
    الأهالي يكبرون ويوحدون الله. تصاعد الصراخ والصوات إلى عنان السماء. كان مشهد البنت الصغيرة مبكيا للجميع. امتدت سحابة الألم إلى كل العيون. صبي صغير جرى إلى النهر صائحا:
    ـ أختي.. أختي..
    لم يقصد جثمان البنت الذي حمله الشاب، إنما قصد أن يفعل مثل ما فعل الشاب وينتشل أخته من داخل التروللي الغريق. جرى شبان خلفه، في صراع مرير ليلحقوا به. كاد يغرق. شرب المياه رغما عنه. أنقذ في اللحظات الأخيرة.
    بينا عجوز يضرب كفا بكف وهو يحوقل:
    ـ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. أهي ناقصة ؟ هل نضيف إلى مصائبنا مصيبة أخرى ؟..
    تسارع الشبان في إنقاذه وإسعافه، بينا تطوع شاب في نقل الضحايا والمصابين.. يبدو أنهم جميعا غرقى.. المصابون هم الذين قفزوا من التروللي غب سقوطه، ألقوا بأنفسهم في الهواء. منهم من سقط في النهر فلحقه الأهالي وأسعفوه، ومنهم من سقط على الشط فأصيب بكسور ورضوض. نادى الشاب الواقف عند التروللي الغريق على زميله، كي يعاونه على سحب ضحية تستعصي عليه. تعاون الاثنان، وشدوا ثلاث ضحايا دفعة واحدة. احتضنت كل واحدة زميلتها.
    تعالى الصوات من النسوان، كبّر الرجال ووحدوا الله. عجوز استغرقت في بكاء طويل قائلة:
    ـ عيني على الصبايا..
    لمح والد مصطفى، الذي تميز عن الآخرين بالمعطف الأصفر الذي يرتديه. مد يده يصافحه. منعه الحزن من الكلام. خطا خطوات فلمح ليلى. اقترب منها وحياها. ذهلت عمن حولها. وقفت مع أختيها نجوى ولمياء، يريدان الاطمئنان على بنت خالتهن، التي تستعمل التروللي في غدوها ورواحها إلى المدرسة. قال فتحي ملطفا:
    ـ إن شاء الله سليمة..
    ـ ربنا كبير..
    عاد إلى صاحبه المنهار المستند إلى ساق شجرة. وقف معه لا يدري كيف التصرف. تتقاطر الجثث على أيدي الشبان. تطوعت مجموعة أخرى إلى نقل المصابين إلى مستشفى العجوزة، عابرين الطريق، اختصارا للوقت. جند الأطباء أنفسهم، لإسعاف الحالات البسيطة، وتجهيز غرفة العمليات للحالات الحرجة. أما الغرقى، فقد تكدسوا في صالة، بعدما امتلأت ثلاجة المشرحة عن آخرها، وسموها صالة الغرقى !
    لمح حمزة في حركة دائبة. دخل وتبرع بدمه، ثم خطب في الأهالي يحثهم على التبرع. تقاطر الأهالي ملبين. تلميذات صغيرات هرولن للتبرع إنقاذا لزميلاتهن وزاحمن الكبار. تصاعد صياحهن الممزوج بالبكاء. كان مشهدا لا مثيل له، يفتقد النظام، لكنه الحزن الذي سكن في كل قلب فأدماه. خطب حمزة في البنات النائحات. قال لهن إن الضحايا شهداء عند الله، ندعو لهم بالمغفرة، ومثواهم الجنة التي وعد الله بها المتقين. كان فارس زمانه. لم يكل عن الحركة. جمع بطاطين من أهالي المنطقة، وحث الجميع على المساعدة، كل بما يستطيع.
    على سور النيل وقف شيخ يترحم على الغرقى، يذكر الناس بمأساة الباخرة دندرة. يرد عليه شيخ آخر بأنه ابتلاء من الله العلي العظيم. بينما ثالث اقترب منهما، وذكرهم بالعوامة التي مشت فجأة في اتجاه كوبري الزمالك. ظن الناس أن جماعة من الجن هم الذين ساروا بها. أنقذ من فيها بأعجوبة. نجح رجال الإنقاذ في إرجاع العوامة الشاردة إلى حيث تقف. رأى شيخ معمم الرأس أن الكارثة سببها أننا بعدنا عن شريعة الله. أكد أن ما حدث غضب من الله سبحانه، إزاء القبض على مفكرين إسلاميين ورجال دين. ذعر رجل أشيب الشعر وأمره بالصمت:
    ـ صه.. لا تتحدث في هذا..
    أطلقت تلميذة صواتا عاليا، هز جميع الواقفين، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، حين شاهدت زميلة لها ضمن الضحايا. موكب آخر لبنات المدارس اللاتي نجوْن من الحادث حين تصادف وركبن التروللي الذي يليه. سرن على الأقدام في جنازة يشيب لها الولدان. صرخن بأعلى أصواتهن، دون أن يعرفن مَن الغريق ومَن المصاب ومَن الناجي. يبدو أنهن ينتحبن من هول ما سمعنه.
    اهتزت عجوز للمظاهرة الجنائزية فانخرطت في بكاء مرير.
    اطمأنت ليلى حين أقبلت بنت خالتها ضمن المظاهرة الجنائزية.
    قال لليلى:
    ـ الحمد لله..
    ـ الحمد لله..!
    لكن بنت خالتها كانت ضمن النائحات على زميلاتهن، دامية العينين. لم تهتم بمن يهنئنها على النجاة.
    سعاد، البنت الطيبة التي رآها مرة واحدة فخفق لها قلبه، كانت ضمن الضحايا. اتجه إلى مصطفى الذي بدا عليه أن الصدمة أقوى من احتماله. احتضنه فأجهش ببكاء مرير. عمل على مواساته، إلا أن الكلمات لم تخرج من حلقه، وما ملك إلا أن انخرط هو الآخر في البكاء. سعاد، زهرة البنات، ما أقساها لحظة حين نعرف أن أحباءنا فارقونا. أسند رجلان والدها المنهار، بينا صوت أمها يعلو مخترقا عنان السماء:
    ـ بنتي.. بنتي..
    ـ استعيني بالله يا حاجة..
    ـ بنتي.. بنتي..
    ـ لا حول ولا قوة إلا بالله..
    في المساء، أقيمت سرادقات العزاء في بيوت عديدة. ارتدت إمبابة ثياب الحداد، في يوم لا مثيل له. أقام الجيران السرادقات، وتعانقت أصوات المقرئين وهم يتلون آيات من القرآن الكريم. تنقل حمزة من سرادق لآخر، مواسيا عائلات الضحايا. لم ينم حتى منتصف الليل، كما أنه بذل نشاطا غير عادي أثناء الحادث، غير عابئ بكبر سنه، وما درى بنفسه حتى رقد في منتصف الليل منهك القوى. وسرعان ما راح في سبات عميق. بينا فتحي أخذ يكتب في مذكراته قصة النهر الغاضب ومأساة لا مثيل لها ولا نظير. احتار في سرد خواطره الممزوجة بالألم، لكنه كتب كثيرا عن سعاد ضحية التروللي. انهمرت دموع سخينة وهو يكتب عن العذراء الصغيرة. عجز عن التعبير عن مشاعره. غلبته الدموع، فاختتم ما يكتب بعبارة مختصرة : "إن ما شاهدته يجل عن الوصف. إن مشهد سعاد وهي محمولة على نقالة لن يفارق خيالي ما حييت".. ثم طوى الكراسة وهو يبكي…
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 7 ـ

    ازدحمت الخواطر في رأسه عن حال مصطفى بعد وفاة أخته. أشارت عليه والدته أن تذهب لتعزي الأسرة. هاجس دفين يحدثه أن ما حدث انتقام لسلوكه. حدث أمه في هذا، لكنها أرجعت كل شيء إلى أن الأعمار بيد الله، وإذا كانت هناك حكمة ما فلا يعلمها إلا سبحانه. استقبلتهما سيدات متشحات بالسواد..
    دخلا.. سلمت الأم على مصطفى متأثرة:
    ـ العمر لك يا ابني..
    تركتهما ودخلت مع سيدات في غرفة مجاورة. انفرد فتحي بصاحبه لا يدري ماذا يقول. قال عن أخته كلاما كثيرا، عن وفائها لأصدقائها، عن تفوقها الدراسي. لؤلؤة ثمينة اختارها الله إلى جواره. فوجئ فتحي بنرجس تقتحم مجلسهما بصحبة أمها. انتفض كالمذعور ليقف بمحاذاة مصطفى، مادا يده مثله يتقبل عزاءهما. برغم الثوب الأسود الذي ترتديه، إلا أنه أفصح عن جمال صارخ، أكثر مما يكشف عنه ثوب آخر. عقصت شعرها الأصفر إلى الوراء. عيناها الزرقاوان، ووجهها الأبيض المدور، علامتان للجمال لا تخطئهما عين. لم يفلح احمرار العينين من شدة البكاء، في إخفاء الجمال المعلن. توجهت الجميلة الحزينة هي وأمها إلى غرفة السيدات.. أخذ يحدثه عن وفائها. قال إنها غير ما عرف من البنات. أوضح له :
    ـ نرجس صاحبة المرحومة.. الروح بالروح..
    وأشار بإصبعيْ السبابتين ملتصقين..
    قال وهو حائر:
    ـ لا شك أن الحادث الأليم سيغير من طباعك..
    ـ بالتأكيد..
    لفهما صمت. احتار دليله. فقد رأى مصطفى لم يزل متيما بحبها، أو أنه لم يبن أن المأساة غيرته، وجعلته يزهد الحياة. لِمَ العجلة ؟ مصطفى لم يكاشفه عن تغير الأوضاع، لكنه لم يكاشفه ـ أيضا ـ عن أحاسيسه نحو نرجس. ما بك تتعجل الأمور، تريد أن تصدر أحكاما فورية على كل شيء، المعلن وغير المعلن ؟
    أفاق من صمته، طاردا هواجسه، متخذا موقف فرسان العصور الوسطى في أوروبا، هكذا قرأ عن طبقة النبلاء ! تربع مقرئ في الصالة الضيقة. طفق يتلو سورتيْ يس والرحمن. فاستمرآ الصمت الذي كانا عليه، وأصغيا لآيات الذكر الحكيم.
    ما إن ختم المقرئ، حتى دخلت أمه تسلم على مصطفى ووالده، ولسانها يلهج بعبارات الترحم على المرحومة. صافحهما فتحي دون أن ينبس ببنت شفة.
    عندما خرجا صادفا حمزة في الصالة، يؤدي واجب العزاء للأب المكلوم. اتجه إلى فتحي وأمه، قال كأنه من أهل البيت:
    ـ شكر الله سعيكم..
    واتجه إلى الغرفة يجلس مع الأب وابنه.
    عندما وصلا إلى مسجد زيدان، استأذن من أمه ليزور أمين في المنيرة الغربية، بينا اتجهت هي إلى سوق الخضار. واصل السير في شارع الجامع حتى نهايته، ارتقى ساقيْ النخلتين، أو القنطرة التي صنعها الأهالي ليعبروا فوقها بين المنيرتين.
    لا يدري سر المغناطيس القوي الذي يشده إلى أمين، كأنه وأمين توءمان. كلما تأججت مشاعره، أو تزاحمت الأحداث، هرع إليه يبوح بما يخالجه من أحاسيس.
    لعل أمين منصت جيد، لا يحب إقحام نفسه وقطع حبل الحديث. لكنه لم يكسب صديقا غيره ! هرع إليه يفرغ ماعون الحزن الذي تشبع به أمس واليوم. جلس إليه يحدثه عن الصديقتين الجميلتين اللتين اكتشفهما هذه الأيام.. جميلة غرقت في النيل، وجميلة اتشحت بالسواد حزنا على صديقتها ! وصف له جمالهما الرباني. استرسل يحدثه عن الحب النابت في فؤاده برعما صغيرا ثم اقتلعته فجأة ريح عاتية !.. حدثه عن مصطفى الذي فقد أخته، وعلاقة الحب التي ربطته بنرجس. لكن مصطفى ارتبط ببنات كثيرات، ضحك على عقولهن بمعسول الكلام.
    تنتهي علاقته بالبنت بمجرد أن يجد غيرها. آخر بنت كانت نرجس، زميلة أخته.
    تدخل أمين في الحديث متأثرا بما أصاب مصطفى، مما اضطر فتحي إلى اختصار الحديث عن غرامياته، ويعلق على التروللي المنتحر، والمآسي التي صاحبته !
    حبس في داخله آهة ندم على إطلاقه الكلام على عواهنه. حدث نفسه : "كان لابد أن أراعي المحنة القاسية.. كان لابد أن أتحاشى الحديث عن صاحبي بهذه الصورة المستهجنة". ثم وجد في فروسية ونبل عم حمزة ملاذا يهرب إليه، فتحدث عن شجاعته والدور الكبير الذي قام به. انتهى المجلس بخروجهما للتريض، كما هي العادة، وأصرا على المرور عليه وشرب الشاي عنده، تحية للشيخ صاحب الواجب والمروءة، الذي لا يختلف عليه اثنان.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 8 ـ

    لم ينم هذه الليلة. إن غفلت عيناه، حلت عليه كوابيس أنهضته من نومه في حالة من الفزع لم يعهد لها مثيلا. أتاه حلم مرعب لعمال غير محددة الوجوه، يحفرون مقبرة بعمق لا نهاية له، وهو مستكين ينتظر حتفه في هذا الجب العميق. ولما حان أجله، أحس بقوة تحاول دفعه للسقوط، فصرخ صراخا عاليا، لكن الصراخ لا صوت له، تردد صدى الصراخ في المقبرة التي لا قرار لها.
    ينهض فزعا. يرفع طرف الغطاء الذي انحسر أغلبه من فوقه. ينهض من فراشه، يضيء مصباح الكيروسين المعلق على جدار في ركن من الطرقة الضيقة المفضية إلى دورة المياه. الكل نيام. وهو قلق فزع. حين أفاق، عاد إليه الهدوء وشملته السكينة. ما أقلق نومه رد فعل مباشر للحادث المشئوم، والضحايا من الشباب. ليلة لم تنم فيها إمبابة، ولا العجوزة، ولا المنطقة المحيطة بهما. أغلب الضحايا من طلبة وطالبات المدارس. حاول النوم فخاصمه. أعد قدح شاي لعله يعيد إليه الهدوء. فكر في الذهاب إلى حميدة، لكن الليل انتصف.
    فتح باب الشقة التي لا تتعدى كونها غرفة نوم وصالة ضيقة تفضي إلى مطبخ وحمام. كانت في الأصل عشا مبنيا بالتبن والطين، حوّلها إلى بناء بالطوب الآجر، وغطى السقف بكتل الخشب الضخمة، وألواح الاسبستوس. سكنه المتواضع ملاصق لنفق المنيرة، عند المدخل المؤدي إلى شارع البصراوي الضيق الممتد حتى تلتحم نهايته يمينا ببشتيل حيث المزارع الخضراء. شارع ترابي آخر مواز للسكة الحديدية، والترعة تمتد بامتداده، يؤدي في نهايته إلى مطار إمبابة للطيران المدني الذي أنشئ في نهاية الأربعينيات، ومعهد الطيران الشراعي ومعهد التدريب على الطيران، وسمي لهذا "شارع المطار". سكن حمزة بهذا الموقع المميز، الذي يقع في مفترق طرق، منذ كان شابا في العشرينيات، كأنه حارس على نفق المنيرة، الذي تعبر من فوقه قطارات الصعيد من وإلى محطة مصر. يحس بكل رجة في أرضية الشقة، بحركة القطار، وصفارته المدوية أشبه بصراخ متواصل ينوح على الذين ماتوا وفارقونا..
    انشرح صدره بسماع صوت المؤذن. قام ليتوضأ. فتح النافذة الضيقة فنفذ منها هواء رطب مشبع ببرودة. اتسع صدره للهواء الطازج، وطردت طواعية أشباح الليل وعالمه الخرافي. صلى وسبح وحمد الله وكبّر، ثم دعا ربه أن يصلح الأحوال ويحقق الآمال. كانت آماله محدودة متواضعة، لا تتعدى أن يعينه على مواجهة ما تأتي به الأيام، وأن يحقق لحميدة أملها في ولد تفرح به..
    في الوقت الذي دعا ربه أن تنجب ابنته، كانت هي تتقلب في الفراش، تفكر في حال أبيها، الرجل العظيم، الذي أجهد نفسه يوم ارتمى التروللي في أحضان النيل، غير عابئ بمن يحمل. أخذ والدها يعين الناس على تحمل ما فاجأهم به القدر. حمل بطاطين وأغطية كثيرة من فاعلي خير، وقاد حملة للتبرع بالدم، فتجمهر خلق كثيرون في صف منتظم، وأعان رجال الإنقاذ قدر استطاعته. وفي المساء لم يترك سرادق عزاء إلا دخله. أشياء كثيرة قام بها، منها ما تعرفه ابنته، ومنها ما لا تعرف. حميدة بأبيها معجبة. هل زوجها صاحب مروءة مثل أبيها ؟ هي لم تكتشف بعد خصال المروءة والنخوة عنده. إنها لا تريد أن تتسرع، فزواجهما لا يتعدى سنتين. هي تعذر جابر المشغول بالخلفة. يحلم بولد تنجبه له، تصاعدت آهة الحزن تنهيدة كبيرة من صدرها، تكاد تبكي حظها. تتمنى أن يرزقها الله بولد أو بنت، فكل عطايا الرحمن حلوة..
    تود أن تنجب طفلا تضمه إلى صدرها، تتحسس شفتاه حلمة ثديها، يتغذى من لبنها، تغمره بحنان جارف.. بتلقائية تناولت وسادة صغيرة وضمتها إلى صدرها، وأخذت تحلم بالولد أو البنت. تنهدت وقالت في سرها : يا رب.. كررت النداء، لكنها لم تنجح في حبس صوتها هذه المرة. تنبه زوجها، ففتح عينيه نصف فتحة..
    ـ صحوتِ يا حميدة..
    تحللت من الوسادة، إلا أنه لاحظ حالها ولم يشأ أن يظهر اهتمامه، استطرد:
    ـ الفجر أذّنْ ؟
    ـ مِن بدري..
    بدأت تشعل موقد الكيروسين وتضع قدر الماء للتوضؤ.. ولما فرغا من الصلاة، ارتدى كل منهما جلباب الخروج، قاصدين سوق الجملة بروض الفرج. جهزا العربة "الكارو"، وتريثا إلى حين ينتهي الحمار من تناول أعواد البرسيم وشرب الماء، ولما أطلق نهيقه أدركا أنه شبع. وفي طريقهما مرا على حمزة، فقامت بترتيب فراشه، وكنس الغرفة والصالة.. ثم واصلا رحلتهما اليومية إلى سوق الجملة ليبتاعا ما يسوقانه في سوق إمبابة.. كان الطريق خاليا إلا من قلائل. نادرا ما يلتقيان بأحد. نباح الكلاب التي استيقظت متكاسلة، يتناهى إلى سمعهما من حين لآخر. عبرا نفق المنيرة واتجها يسارا إلى شارع المحطة في اتجاه النيل، مرورا بسيدي إسماعيل الإمبابي. توقفا بالعربة " الكارو " أمام قبة الضريح الخضراء. شخصا إلى نافذة ذات قضبان حديدية طولية. رفعا أيديهما وقرءا الفاتحة. أكثرت حميدة من الدعاء إلى الله أن يهيئ لها من أمرها يسرا. لم تكتف بذلك، أصرت على النزول والاقتراب من المقام. كلما اقتربت، استجاب الله لدعائها ؟ ترى أن الدعاء عند المقام يلقى القبول.
    انتظرها جالسا على عربته، والحمار يقف مستكينا لا يلوي على شيء. كأن هناك لغة ما فهمها الحمار، بأن صاحبيه سيتوقفان قليلا. قرأت الفاتحة والصمدية والمعوذتين، ولهج لسانها بدعاء كثير، بكلمات عفوية.. تدعو الله أن يرزقها بولد، حتى لا يفكر زوجها في تطليقها، وتنعم بأمومة كسائر النساء.
    المقام للولي الصالح الشيخ إسماعيل بن يوسف الإمبابي الذي يرجع نسبه إلى سعد بن عبادة سيد قبيلة الخزرج بالمدينة المنورة، أيام هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها. يقام له سنويا مولد من أكبر وأشهر موالد الجمهورية ويعرف باسم مولد إسماعيل الإمبابي.
    واصلا الرحلة إلى السوق. في نهاية الشارع، مرا على قسم شرطة إمبابة. اتجها يسارا إلى كوبري إمبابة، فعبراه، وقد استطابت نفساهما بهواء الصباح النقي.. في السوق، قصدا مزادا صغيرا لشراء طماطم وكوسة. ورضيا بشروة ملوخية تملأ قفة كبيرة. حملا ما اشترياه على العربة. أعطيا الحمار فسحة من الوقت يأكل من "غلق" التبن، ويشرب الماء من سبيل الماشية القريب.
    حين بدءا رحلة العودة، التقيا بعجوز مسنة فأعطتها حميدة ثلاث قطع من الطماطم. قصدا كوبري إمبابة، عند مدخله عربة البلح الأبريمي، ابتاعت منها قرطاسا صغيرا بقرش صاغ. كان البلح بداية فطورهما وقد لفحت وجهيهما نسمات الصباح المنعشة. حفزت النسمات الحمار على السير الحثيث، غير عابئ بثقل ما يحمل.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 9 ـ

    يحدثنا أحد الكتّاب عن تفاني العالِم الأثري الجليل محمد نافع في عمله وولعه به، حين كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري، التي تشققت جدرانها، فرأى فيما يرى النائم أن الجدران انهارت.. فقام فزعا من نومه ولم يصبر حتى يطلع النهار، وغادر منزله بالعباسية ماشيا على قدميه إلى الغورية فوجد الحال كما هي وأن ما رآه أضغاث أحلام.
    ما حدث لمحمد نافع حدث مثيل له مع حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، الذي استغرق في نومه، وسبح في دنيا الأحلام، فرأى فيما يرى النائم جدار نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع. يتحسس الجدران، يمرر سبابته على شق من الشقوق، تجزع نفسه، يصيح : ربي.. حلم أم علم ؟ يقرص لحم فخذه حتى يتنبه.. يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له، يا هووه.. يا خلق الله .. النفق ينهار.. أنقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ أم انهيار كامل ؟ لا يدري. لا أحد يجيب. يجري كالمجنون. يرفع ذراعيه باسطا كفيه على الجدار متحسسا الشقوق، يبكي، يتألم. الناس في بيوت مغلقة لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات.
    أشرقت شمس نوفمبر في الصباح، فتبدد ما رآه حمزة في منامه، كأنه غير مصدق. إنه مجرد حلم يتبدد في اليقظة، فخرج من بيته يتطلع إلى البناء الحجري، ينتصب في أوله وآخره أربعة أعمدة حجرية شاهدا على متانته.. ولشد ما عجب من أمر النفق الذي يتحمل قطارات تزن مئات الأطنان.. تعبر فوقه ليل نهار، فلا يكل ولا ينهار. سار بطول النفق من بدايته إلى نهايته.. توقف لحظات يتحسس بكفيه الجدار السميك. لم يلحظ تشققات ولا وجد كسرا. لا شيء يعتور النفق. بدا أمام ناظريه سليما معافى. ما رآه في المنام كذب في كذب. هاهي
    الحقيقة ناصعة ساطعة سطوع الشمس الدافئة في نوفمبر. إذن هو الحلم وإرهاصات الغافل عن الدنيا السابح في ملكوت الله. عجيبة هي الأحلام، ترينا فانتازيا تخلط بين الواقع والخيال.. قد تنبئ عما هو آت في مقتبل الأيام.. قد تكون الحاسة السادسة تُري المرء بشفافية تخترق كالأشعة حجب الغيب. تريه ما لا يراه بعينيه، ما لا يطوف بخياله. هدأت جوارحه وشمله الهدوء. اطمأن إلى النفق فعاد إلى غرزته وسكنه، فاصطدم وهو سائر بسيد سبرتو. بدا كالقضاء المستعجل، فاصطحبه معه. قال سيد متهكما:
    ـ ما بك، تائها شاردا.. تذكرني بالمجاذيب الذين أراهم في الحسين..
    تنهد.. إلا أنه فوجئ بكفه تهوي على ظهره كأنما قصمته نصفين..
    عاتبه بصوت واهن:
    ـ ما هذا يا سيد ؟
    ـ إن كان يعجبك..
    التزم الصمت، واصطحبه إلى الغرزة. تركه ليعدّ الشاي، فلانت عريكته وجلس إليه. انتهز فرصة الهدوء الذي شمله، وحكى له ما رآه في المنام.. قال متهكما:
    ـ غطي نفسك " كويس " وأنت نائم، ولا تملأ بطنك بالأكل..
    ضرب المنضدة الصدئة بمقبض يده، قائلا بصوته الأجش:
    ـ نم خفيفا يا خفيف !
    طفق يحدث كل من يقابل عما رآه في المنام، وينصت جيدا لكل كلمة ورأي. إنه يبحث عن تفسير..
    حين مر عليه فتحي وهو عائد من مدرسته، بدا غير مهندم، ونبت شارب خفيف وذقنه أهمل حلاقتها منذ يوم الكارثة. يذهب اليوم إلى المدرسة بعد غياب عدة أيام. جلس إلى كرسي، واسترسل يثني على المجهود الذي قام به وقت الفاجعة:
    ـ قمت بدور بطولي رائع، عجزت الحكومة عن القيام بمثله. يكفي اندفاعك وحركتك المكوكية في كل اتجاه. تسد النقص في كل مكان، أو تنبه إليه. الثواب عند الله تعالى. يكفيك فخرا أننا في المدرسة لا حديث لنا إلا عن بطولاتك..
    دمعت عيناه لهذا المديح، قال:
    ـ فعلت ما أملاه عليّ ضميري. لكن.. ليتني كنت أقرأ وأكتب مثلكم.. ما فعلته هو القليل..
    ـ إنه التواضع.. لقد أديت دورا رائعا لم يقم به المتعلمون. قد رأيتك تتحرك في كل مكان. تدعو إلى التبرع بالدم، تجمع البطاطين، تحث الناس على التبرع بأي شيء. جبرت بخاطر أهالي الضحايا وزملائهم. واسيتهم. عالجت أحزانهم. شاركت في رفع المصابين على النقالات..
    ـ على مهلك يا فتحي يا ابني.. هل نسيت فرسان الإنقاذ الذين اندفعوا إلى النهر الهائج يسارعون في انتشال الضحايا والمصابين ؟ هل نسيت ما قام به الأطباء؟ علمت أن أطباء جاءوا متطوعين. أكثر من طبيب تصادف مرورهم وقت الحادث، فهرعوا يبذلون العطاء. حمزة ليس إلا واحدا من وطنيين كثيرين..
    ـ بارك الله فيك وفيهم..
    كان سيد سبرتو قد انصرف ليعود ويستمع إلى هذا الحديث، فأكلته الغيرة فقال:
    ـ سيد سبرتو كان له دور مهم.. لا تنسوا أنني لم آخذ أية إتاوات يوم الحادثة، الله لا يرجعها، ولا في اليومين التاليين. ومنعت رجالي من فعل شيء خارج عن القانون.
    قال حمزة:
    ـ فيك الخير..
    بينما نكس فتحي رأسه، ولم يعلق بشيء..
    استدار إلى فتحي وحكى له الحلم المفزع، الكابوس.. أجابه:
    ـ إنه رد فعل لكارثة التروللي..
    وجم قليلا وهو يتمتم:
    ـ رد فعل..
    شرح له معنى "رد فعل".. إنه انعكاس لما تحس به نفس الإنسان إزاء مشاكل عظمى أو مصائب تحل بها، فينعكس ذلك قلقا يتعاظم حتى لا يجد المرء مفرا لتخفيف الضغط إلا بهذا الحلم..
    لم يفهم حمزة معظم الكلمات. تحسس شاربه الكث. خجل أن يطلب منه شرحا. ادعى فهم ما يقول..
    أما أمين فقد دخل الغرزة محييا، حين لمح فتحي جالسا. استمع إلى حمزة وما قاله عن الكابوس الذي حل به ليلا، وعقب:
    ـ خيرا إن شاء الله..
    أكد حمزة للجميع أن ما يقلقه أن يكون الحلم نبوءة لما هو آت. استبعد الجميع حدوث شئ. النفق متين ومتماسك. لا داعي للمخاوف..
    قال جابر:
    ـ سلمها لله.. خليها على الله..
    أجاب:
    ـ ونعم بالله..
    قالت حميدة:
    ـ نسأل شيخا من شيوخ جامع الإمبابي..
    قال محفوظ جاره في البيت المقابل :
    ـ الحكومة بنت النفق، وهي مسئولة عنه.. لا تخف، كل شيء سليم وتمام.
    حين انفض السامر الذي تقاطر عليه، لم يكذب خبرا، أحب أن يتأكد من سلامة الجدار المقابل، ربما الشقوق التي رآها في الحلم من هذه الجهة. عبر إلى الجهة الأخرى. عاين الجدار بنفسه. سار بمحاذاته، وفحص حجرا حجرا، لم يجد شقا واحدا أو كسرا ما. تصادف مرور قطار سريع، تعمد أن يضع يده على الجدار، ارتعشت يده قليلا بتعاظم الاهتزازات بالجدار. بعد مرور القطار عاد الجدار إلى حالة السكون، صلدا قويا، شاهدا على تحمّله وسلامته. خشي أن تكون كارثة التروللي بداية لمصائب أخرى لا يعلمها إلا الله..
    ـ ماذا يحدث لو انهار النفق ؟
    سؤال توجه به إلى كل من هب ودب، وتلقى ردودا مختلفة فأنصت إليها جيدا، وهو قلق خائف. لكن ثمة حقيقة ماثلة هي أن النفق حاز على شهادة صلاحية بعد مرور القطار من فوقه. فهل هذا كافٍ لطمأنة حمزة وبرئه من هواجسه ؟
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 10 ـ

    اعتكف بالبيت لا يخرج منه إلا لظروف اضطرارية. أغلبها لتأدية الصلوات في مسجد زيدان. أصبح من أشد الناس حرصا على المجيء قبل الأذان بوقت كاف. يتوضأ وإن كان متوضئا في البيت، لكنه يجدد وضوءه، تأكيدا لما قاله شيخ المسجد إن تجديد الوضوء يضفي على المرء نورا على نور. يتناول مصحفا ويقرأ.. انقطع عن الصحاب. ترك ذقنه تكبر دون أن يمر عليها بموسى الحلاقة.
    يخلو لنفسه. انقضت من أيام الحزن سبعة، وخرج والده يزاول عمله بالورشة. إلا أنه دائم اللواذ بالمسجد. أرسل صاحب المحل في طلبه، ولم يستجب. آثر حياة العزلة والبعد عن الناس. وفي طريقه إلى البيت بعد أن صلى الظهر بالمسجد، أتاه صوت قوي ينادي عليه، التفت وراءه، إلى نرجس التي ابتسمت قائلة:
    ـ أين أنت يا أخي ؟
    ـ في الدنيا..
    ـ حالك يصعب على الكافر.. الله يرحمها.. كانت أختي..
    كانت عائدة من مدرسة التجارة.. ترتدي بلوزتها البيضاء والجونلة الكحلي.
    تبادلا كلمات قليلة. كادت تبكي من حاله. خيم الحزن على اللقاء المصادفة.
    سارا في شارع الجامع قليلا ثم انحنت يسارا بمفردها، وأكمل هو إلى البيت.
    أمه تتأمل أحواله وتبكي، فالهم تضاعف، والحزن ليس على الفقيدة وحدها، إنما على حال أخيها الكبير الذي أهمل عمله وانعزل عن الناس والصحاب..
    زاره فتحي وقد بدا عليه التأثر لوفاة مَنْ رآها أجمل البنات. كاد يقع في هواها حين رآها أول مرة، وصدم بغرقها ضمن من غرقوا. في حلقه كلمات كثيرة حبيسة. التزم الصمت فلم يقل شيئا، بينا تمور بداخله أحاسيس شتى. كاد يقول إن سعاد ضحية أفعاله، وإن الله ابتلاه في أخته ليتعظ، لكنه وجد صاحبه شخصا آخر غير الذي يعرف، فخجل من الكلمات التي لم يقلها، ومن نفسه ومن كل شيء. خجل حتى من إعجابه بها !.. بعد أن رأى أثر الحادث بالغا في نفس صاحبه.. حاول أن يخرجه من عالمه ففشل.. ذلك أنه هو الآخر تغير وتألم..
    تناول مصحفا وتلا سورة الرحمن، ثم شملهما هدوء نسبي، قطعته الأم لتضع صينية الشاي على المنضدة. اشتكت لفتحي من أحواله. يكاد لا يأكل أو يشرب، ورأى فتحي أما عطوفا على ابنها. أبدى ملاحظة، فقال بصوت هامس بعد أن خرجت أمه:
    ـ رغم أنها زوجة أبي، إلا أنها غمرتني بحنانها..
    ـ شيء نادر..
    ـ ماتت أمي وأنا في السابعة، فتزوجها أبي لترعى البيت وترعاني. أنجبت سعاد وأنا في الثامنة. نشأت وكبرت وأنا أناديها "أمي".. أحببت أختي سعاد كثيرا.. ولما تعرفت على صديقتها نرجس، قال أبي حين رآها أول مرة : إنها تشبه أختك، فتعلقت بها أكثر.. نشأ بيننا حب غريب غذته الأحلام والأماني الجميلة..
    أنصت فتحي باهتمام بالغ كأنه يستمع إلى قصة من قصص العجائب. وقع المفاجأة عليه كان سببا للاندهاش..
    عاد إلى شكوى الأم أو زوجة الأب الطيبة، من أحواله بعد وفاة أخته. ألقى على سمعه سيلا من النصائح. قال له إن مصاب الأم في فلذة كبدها فادح، لكنها تبدو أكثر جلدا منه. حاول أن يغريه بالخروج فرفض. عاد إلى البيت متعجبا من أحوال الدنيا. لا تعطي للمرء كل ما يتمنى. عندما اقترب من البيت، لمح ليلى تقف عند عتبة الباب. حياها فردت التحية. لمرآها وقع آسر بدد سحب الحزن. إلا أن القلق ساوره فارتد إلى المنيرة الغربية، مرورا بالشرقية حيث يسكن مصطفى الحزين في أول الحي. قصد أمين الذي انقطع عنه أياما عديدة. يبدو أن الحادث جعل الصديقين يقللان من لقاءاتهما. حكى لأمين تفصيلا حكاية مصطفى، والسر الذي أطلعه عليه بأن التي يناديها أمه لم تكن إلا زوجة أب، لكنها في مرتبة الأم.. حكى له ـ ضمن ما حكى ـ حكايته مع سعاد التي صادفت هواه. كان يود أن يبادلها عاطفة الحب، إلا أن القدر لم يمهله. ابتسم أمين ابتسامة ذات معنى، وقال متهكما:
    ـ هل نسيت ليلى ؟
    وجم ولم يعقب. اكتفى بمجالسته في البيت، ولم يخرجا للتوجه إلى المقهى.
    تحجج بأن الواجب المدرسي لم يكمله، لكنه في الحقيقة أراد أن يهرب من
    نظرات الاستهجان التي قابله بها. وفي البيت أحس بضيق من تصرفاته غير
    الطبيعية. أنب نفسه. هل يصح التحدث عن بنت توفاها الله ؟ هل يصح أن يفشي
    سرا اؤتمن عليه ؟ ضاق من غرفته، قصد الشرفة. رأى في حركة المارة شيئا
    يلهيه عما يشقيه. وفي الشرفة المقابلة، رأى عثمان الأسمر يقف وهو يدندن
    بأغنية عبد الحليم حافظ : "كل كلمة حب حلوة قلتها لي".. تضايق منه. لا
    سيما أنه من حين لآخر يلقي نظرات على الشرفة التي تطل منها ليلى. ظهرت
    ليلى، لا شك أن الصوت نبهها فخرجت إلى الشرفة، خرجت ولم تدخل. يبدو أن
    صوته أعجبها. دخل في ضيق. ارتمى على فراشه متوجعا من وقاحة هذا الرعديد.
    هل يحب ليلى ؟ هل ينافسه في حبها ؟ دمعت عيناه. إنه لا يبوح. حبه من طرف
    واحد. يا له من شقي ! هداه تفكيره إلى حيلة. كتب خطابا غراميا ملتهبا إلى ليلى، ومهره باسم عثمان، كتبه بيده اليسرى، حتى لا يفتضح أمره.. بذلك يقع عثمان في الفخ..
    في اليوم الثالث من فعلته تكاسل ولم يذهب إلى المدرسة، قاصدا ترقب قدوم موزع البريد، وتلصص رد الفعل حين تتسلم الخطاب المكيدة. مر الوقت ولم يقصد الموزع بيت ليلى، فلم يذهب إلى المدرسة في اليوم الرابع. في تمام الثانية عشرة ظهرًا حضر الموزع، واستحى أن ينطق بصوت عال باسم ليلى، مكتفيا بالخبط على الباب. خرجت أمها فقال همسا:
    ـ جواب باسم ليلى..
    ـ غريبة.. أول مرة تحصل..
    اختطفت الخطاب ودخلت سريعا.. بينا جارتها في البيت المواجه تسأل:
    ـ خير يا أم أحمد ؟
    ـ جواب للحاج..
    وأغلقت الباب سريعا..
    دخل واستلقى على السرير، وقد أحس أنه يجني ثمرة فعلته. لم ينتظر أكثر من ربع الساعة، بعدها سمع صوت جارته ينادي على الست أم عثمان، وقد احتدت بينهما الكلمات. حاول ابنها أحمد أن يهدئ ثورتها ويطلب منها الدخول. ما هي إلا دقائق حتى أفاقت لنفسها، وأدركت أنه من الأفضل إنهاء الموضوع حرصا على سمعة البنت!
    رنت العبارة كما سمعها من أمه، حين حكت له فضيحة عثمان. استحثها كي تحكي كل ما سمعته من أم أحمد، وهي تتشكى من أفعال صبيانية تمس شرف ابنتها. أحس فتحي أنه ارتكب خطأ فادحا. ارتمى على الفراش وقد تحول إحساسه بالفرح إلى وخز الضمير. بات ليلته مؤرقا، بل استمر الندم يأكل من لحمه ودمه. عزف عن الطعام والشراب وعن لقاء الصحاب، بل عزف أيضا عن المذاكرة. لم يكن يدري أنه بهذا القبح. لكن ماذا يفعل مع عثمان، الذي كان يحلو له الغناء كلما أطلت ليلى من الشرفة ؟ إنه غزل معروف دوافعه. في الوقت الذي يكتم حبه وهواه..!
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 11 ـ

    صباح الأحد، انتهز الأسطى سيد يوم العطلة وتوجه إلى بيته. رحب به حسين.
    ساد الجلسة صمت طويل قطعه صاحب البيت قائلا:
    ـ أعرف سبب مجيئك. تريد أن تسألني عن مصطفى..
    ـ أنا قلبي عليه. مصطفى في منزلة ابني..
    ـ ربنا يديم المعروف بيننا يا أسطى سيد..
    ـ لم يحضر الدكان من عشرة أيام..
    ـ الصدمة أقوى من احتماله..
    ـ ربنا يصبّره..
    ـ اصبر عليه شوية..
    قدم مصطفى القهوة، وجلس بينهما. انقطع ما كانا فيه يتحدثان. اعتذر مصطفى عن عدم عودته للعمل، مفاجئا الاثنين بأنه قرر ترك عمله والبحث عن عمل آخر ! دهش الرجلان. لطّف الأسطى سيد من عبارته وهو يهم بالانصراف:
    ـ أترك لك فترة لتفكر.. يمكن تشاور عقلك.. مكانك محفوظ إن شاء الله..
    لم يقل لابنه شيئا. اختلى بنفسه مهموما من حاله. دخلت عليه، ووضعت يدها على خدها. بادرها:
    ـ أفكر في أن أعلمه النجارة..
    ـ المهم يوافق..
    ـ صحتي على قدي.. من يقف في الورشة من بعدي ؟
    ـ ربنا يعطيك العمر..
    ـ الأعمار بيد الله. ما دام مصطفى لا يحب شغل الأحذية، يبقى خيرها في غيرها.
    نادى على ابنه، الذي رضخ لطلبه دون مناقشة، وانفرجت أساريره. اقترح على أبيه:
    ـ أرجو أن تعطيني فرصة، وتعلمني.
    ـ النجارة مهنة فيها فن وإتقان..
    تنهد قليلا، قبل أن يستطرد:
    ـ على أي حال، إذا أحببت مهنتك أتقنتها ونجحت فيها..
    لم يكن على خلاف مع الأسطى سيد، لكنه في حال سيئة، تتطلب تغيير حياته، لمجرد التغيير. لم يكن يكره إصلاح ورتق الأحذية وتلميعها، ولا يكره أي مهنة. إنما خالجه إحساس بتفاهة الدنيا التي نعيشها، لو وجد سبيلا للعيش دون عمل، لانقطع للعبادة. أخته زهرة البيت التي اقتطفها الموت من بستان حياته. كان يحكي لها عن حبه لنرجس ورغبته في الزواج منها. كانت كاتمة أسراره. لم تكن أختا فحسب، إنما كانت صديقة يأتمنها على أسرار حياته.
    وكانت واسطة خير بينه وبينها. نصحته كثيرا بأن يسرع في التقدم لخطبتها، لكنه تردد في ذلك خشية أن يرفض أهلها. يخالجه إحساس طاغ بأنه أدنى مرتبة منها. هي في مدرسة التجارة الثانوية، وستتخرج هذا العام حاصلة على الدبلوم، أما هو فقد ترك التعليم في السنة الخامسة الابتدائية. هي في سن سعاد ـ رحمها الله ـ والفارق بينهما ثماني سنوات. عمره خمس وعشرون سنة وعمرها سبع عشرة. يذكر للمرحومة تشجيعها له وقولها إن فارق السن لا يقف عائقا بين قلبين متحابين. كانت تطمئنه إلى موافقة نرجس.
    إنه اليوم في حاجة إلى سعاد تقف بجانبه، تؤازره وتؤنس وحدته. إنها المصباح يبدد ظلمة الطريق، إنها الأنيس يبدد وحشة الحياة. إنها الأخت والصديقة والحبيبة.. واغرورقت عيناه بالدموع. سمعت صوت نحيبه. هرعت إليه واحتضنته واحتوت رأسه في صدرها..
    ـ يا حبيبي..
    علا نشيجه، وطفقت يدها تربت على ظهره..
    ـ كلنا سنموت.. ادعُ لها بالرحمة..
    ـ يا ليتني متُّ وعاشت هي..
    ـ لا تعترض على مشيئة الله.. اذكر الله..
    ـ لا إله إلا الله
    هدأ قليلا. تمدد على الكنبة البلدي. أسرعت تعدّ له قدح الشاي.. أحس أن عبئا ثقيلا انزاح عن صدره..
    توضأ وهرع إلى مسجد زيدان لصلاة المغرب. اقترب منه شيخ وأعطاه كتيبا صغيرا لسورة يس. أوصاه بقراءتها عددا من المرات. هي مفرجة الكرب مخففة البلاء بإذن الله.
    ربت على كتفه بحنان أبوي. تناول يد الشيخ يقبلها، فسحبها منه سريعا..
    ـ العفو يا بني.. أراك تبكي كثيرا كلما رفعت يديك تدعو الله..
    ـ فقدت أعز ما لديّ..
    ـ فقدت مالا ؟
    ـ يا ليت محنتي في فقد المال..
    ـ ارتكبت معصية ؟
    ـ حاشا لله يا شيخ..
    ـ إذن تهون الأشياء الأخرى.. ماذا وراءك ؟
    ـ فقدت أختي..
    ـ ماتت ؟
    أجابه بكاء وتأثر..
    ـ المؤمن مصاب.. ثم.. ماذا أقول ؟ قد استرد الله وديعته.. ادعُ لها بالرحمة..
    تهدج صوته بالدعاء..
    ـ استمع يا ولدي إلى هذه الآيات التي سأتلوها عليك..
    وطفق يتلو بصوت رخيم آيات من سورة البقرة: ﴿ وَلَنَبْلُوَنّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍٍ مِنَ الأَمْْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ * ﴾ .
    وأشار عليه أن يمكث بين صلاتيْ المغرب والعشاء ليشرح له تفسير الآيات الثلاث ويذكر المناسبة التي قيلت فيها. أنصت للشيخ الذي فاض وأسهب وتحلق معه بعض المصلين. فاستروح نسمات لطيفة شرحت صدره وخففت عنه كثيرا من الضيق الذي يعاني. وبعد العشاء، ذهب يشكر الشيخ على اهتمامه وسعة علمه، وركض إلى البيت متناولا المصحف، واسترسل يقرأ الجزء الثاني بأكمله. عازما على سؤال الشيخ فيما استعصى عليه فهمه.
    انهال عليه بسيل من الأسئلة ومعظمها يدور حول المعنى وتفسيره. ولما لمس منه الفهم والاهتمام، قال له:
    ـ إنك أوحيت لي موضوع خطبة الجمعة باكر. ستكون عن صبر المؤمنين عند الملمات والشدائد، فاحرص على أن تصلي الجمعة معنا..
    ـ إن شاء الله..
    وفي الخطبة أطال الشيخ ورفع عقيرته يحدث المصلين عن الصبر في القرآن والسنة. قال الشيخ ضمن ما قال:
    ـ إن الله جل وعلا اختبر عباده المؤمنين في حالات عديدة.. مثل الخوف من الأعداء، والجوع، وقلة المال أو نقصه، أو صعوبة الحصول عليه. اختبرنا في أحبائنا وأصفيائنا، في ذوينا وأقاربنا.. اختبرنا بالموت أو الشهادة في سبيل الله، أو ضحية نازلة أو حادثة.. وما حدث بالأمس القريب ليس ببعيد.. هذه المأساة التي اغتالت أنفسا عزيزة علينا، إنما ابتلانا الله بها ليختبر درجة الإيمان في قلوبنا.. ليختبر قوة احتمالنا.. ليختبر صبرنا.. وإذا كنا نردد القول المأثور بأن المؤمن مصاب.. أفليس ما حدث منذ أيام هو اختبار لقوة احتمالنا وقبولنا بما قضى الله ؟ يا عباد الله اذكروا الله مخلصين طائعين.. يا عباد الله ترحموا على موتاكم.. وادعوا لهم بالرحمة والمغفرة.. وقد توجه الله بخطابه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليبشره بحسن جزاء الذين صبروا على البلاء من عباده المؤمنين. بشّر رسوله الكريم بأن لهؤلاء الصابرين ما يفرحهم ويسعدهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.. ومن هم الصابرون ؟ إنهم... ﴿ الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ * ﴾ .
    انشرح صدر مصطفى، ودعا لسعاد بالرحمة والمغفرة، دعا ربه أن يكون مثواها جنة النعيم.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 22/03/2009, 03:44 PM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 06:09 PM
  3. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 10:28 AM
  4. الأميرة دعاء
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03/01/2008, 04:53 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •