الرد على الموضوع
صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 25 إلى 36 من 51

الموضوع: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

  1. #25 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 24 ـ

    نقرات خفيفة على الباب. نادت الأم على ابنها القابع في غرفته بالطابق العلوي. لم يتوقع أن يزوره أحد. ارتضى العزلة عن الأهل والصحاب والتفرغ للمذاكرة. نزل مهرولا يستقبل مصطفى في زيارته المفاجئة. جلس قبالته مبتسما. قال:
    ـ قارب العام على الانتصاف.. المفروض أن أعوض ما فاتني، وهو كثير..
    ـ لن أعطلك. جئت أخبرك بأني قرأت الفاتحة أمس..
    ـ نرجس ؟
    فرح ونقل فرحته إلى أمه، فجاءت تبارك الخطوبة..
    استأذن بعد دقائق، وقصد بيت أسرة الشيخ محمود. يسأل عن أحواله وظروفه. قالت زوجته :
    ـ لا نعرف متى يخلون سبيله ؟
    قدمت ابنته الشاي. تملكته الحيرة. ماذا يقول ليطمئنهم ؟ هو لا يعرف كيف يطمئن نفسه. كما قيل له : لا تسأل عن رجل غيبته زنازين الحكومة.
    أردفت بعد صمت حائر :
    ـ هناك أمل في الإفراج عن شخصية قيادية، مما يبشر بالإفراج عن مجموعة من المقبوض عليهم، كانوا يعتقدون أنهم تابعون له.
    تنهدت وأكملت في حيرة :
    ـ مجرد كلام نسمعه همسا، وقائلوه يوصون بعدم نقله لأحد.
    قال مصطفى :
    ـ فرج الله قريب.. قد أجلت الفرح لحين خروجه بالسلامة..
    ـ كان الشيخ يقدرك ويحبك..
    ـ إنه أستاذي، وأدين له بالفضل..
    استأذن قاصدا حمزة. يريد أن يطير بخبر خطوبته في كل الأجواء، ويحدث عنه كل الناس. حبذا لو قام بإعلان الخطوبة في مكبر صوت، يسمع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، بأنه خطب جميلة الجميلات، بأنه استجاب لخفقان قلبه..
    ما إن حط قدمه عنده، وشرب الشاي معه، حتى قدم عويس.. فاتحا ذراعيه يحتضن حمزة، في عاصفة من السلامات والتحايا لم يفرغ منها بسهولة. فرح بقدومه وناوله الترانزستور الأمانة. قال عويس :
    ـ يا رجل.. خليه معك..
    ـ هذه أمانة..
    ـ هل طارت الدنيا ؟
    لم يسترح لتصرفه. أفاق على صوت مصطفى :
    ـ أنا اتفقت على خطوبة نرجس.. قرأنا الفاتحة أمس..
    ـ مبروك..
    ما إن شرب شايه، حتى نهض مستأذنا، وقدماه تتنقلان من بيت لبيت، يشيع الخبر السعيد بين أهله وأصحابه، في فرح طفولي، وما أحس بتعب..
    أتاه عويس كالقضاء المستعجل. لا بد أنه ينوي المبيت عدة ليال. وجريا على عادته، أعد بنفسه براد الشاي، وطفق يحدثه فيما جرت به المقادير. إذ لا مأوى له. بدا نخلة تطاول السماء وسط صحراء قاحلة...
    قطع عليهما الحديث اثنان لم يرهما حمزة من قبل. نفى عويس معرفته بهما، أو أن يكونا من بلده. سأل أحدهما :
    ـ من منكما صاحب الغرزة ؟
    خبط حمزة على صدره. سأل الثاني :
    ـ أين الرخصة ؟
    سأله عويس :
    ـ من أنتما ؟
    ـ مباحث شرطة..
    ولكمه لكمة قوية أطاحت به في ركن الحجرة. قال حمزة :
    ـ لا توجد رخصة..
    توجه إلى عويس :
    ـ وأنت.. أين بطاقتك ؟
    قال وهو ينكمش أكثر فأكثر :
    ـ ليست معي بطاقة..
    حملا أدوات الغرزة على عربة نصف نقل.. المنضدة والكراسي وأدوات إعداد الشاي والقهوة والأكواب، والسكر والشاي والبن.. لم يتركوا له شيئا.. حاول حمزة استمالتهما..
    ـ ولا كلمة.. وإلا سأحمل الفرش الذي تنامان عليه. كيف تبني غرفة في ملك الحكومة ؟ من سمح لك بهذا ؟ مدخل النفق أرض ملك للحكومة..
    اقشعر بدنه لسماع كلمة " النفق ".. قال بصوت جهير :
    ـ النفق.. أنا حارس النفق. أنا مهموم به ليلا ونهارا..
    قال الثاني متهكما :
    ـ حارس ؟ من أذن لك بحراسته ؟
    قال بصوت مرتعش :
    ـ أنا خائف عليه.. من الأقدام التي تدنسه، من انهيار قد يحدث له في أي لحظة...
    اقترب أحدهما من عويس، ممسكا بياقة جلبابه :
    ـ ليست معك بطاقة ؟
    قال حمزة مصححا :
    ـ عويس ضيفي.. أقيم هنا من زمن..
    وبكى...
    ـ أنا على باب الله يا سعادة البيه.. ثم إني من أبطال المقاومة في بور سعيد..
    قال عويس في مسكنة :
    ـ سماح والنبي.. نحن على باب الله..
    انهال الاثنان عليهما ضربا ولكما وشتما، فتكوما على الأرض مقطوعيْ الأنفاس.. لم يشفع لحمزة كبر سنه أو بطولاته أو مروءاته، ولا حراسته للنفق وقلقه عليه ليل نهار..
    نظر حمزة إلى صاحبه نظرات شك. تفرس في وجهه وقال :
    ـ منذ حللت، أتيت بالنكبات.. أشك أنهما من أتباعك..
    ولكي يبرئ نفسه اقترح عليه أن يلجأ إلى الفتوة..
    ـ لن يستطيع الفتوة الوقوف أمام الحكومة..
    ـ سأحاول..
    وعد الفتوة بشهامة يحسد عليها أن يحضر ما سلبوه قبل طلوع نهار يوم جديد.. ما هي إلا ساعات قليلة، إذا بالعربة نفسها تعود بما حملت، وردّ الرجلان ما كانا استوليا عليه. فحمد الله وشكر سيد سبرتو، الذي انتفخت أوداجه. كما شتم الرجلين، وطلب منهما الإسراع في إرجاع كل شيء إلى مكانه. قال أحدهما :
    ـ أي خدمة يا معلم..
    تسربت نظرات الشك في أن يكون الرجلان من رجال الشرطة.. المهم.. رجع كل شيء إلى مكانه، وإن شبع ضربا هو وصاحبه..
    وفي شماتة، التقى ثروت فتحي في المدرسة. قال إن أخاه الكبير أوعز للفتوة بضرب حمزة نظير مبلغ سال له لعابه. انتقاما من لسع العصا التي انهال بها عليهما، هو والبنت التي ضبطها معه في وضع مشين !
    هرع فتحي إليه يطمئن على حاله. رأى من واجبه أن يخبره بأنها فعلة ثروت، حتى يتقي شره. لكنه فوجئ به يحكي عن شهامة المعلم الذي أنقذه من رجال مجرمين.. احتدم جدل حول هوية الرجلين. أكد فتحي :
    ـ أعتقد أنهما من أتباعه..
    ثم نصح حمزة ألا يؤذي ثروت، حتى لا يتعرض لمثل هذه المواقف. ثار بشدة. أيترك النفق مكانا مستباحا لأعمال المسخرة والأفعال المشينة ؟ لم يجد مفرا من شرح ما حدث، طبقا لما قاله ثروت.. بدأ الاثنان يقتنعان بالدافع. لكنهما الآن أمام مشكلة أخلاقية، يتصدى لها الرجل مدافعا عن الفضيلة. قال حمزة :
    ـ أأترك النفق مرتعا للسفلة عديمي الأخلاق ؟
    استطرد بعد صمت قصير :
    ـ أغرى المال الفتوة. لكني أشك في علمه سبب الانتقام. إنه مجرد أداة جندها ثروت وأخوه، لكنه لا يعرف أصل الحكاية. لم أعهده يتدخل في موضوع يمس العرض والشرف. لم يقل له أحد ما فعله ثروت. الأفضل أن نقول له، حتى لا يتورط في مثل هذه المسائل.
    أطرق حمزة حزينا، ثم قال :
    ـ أنا صعبان عليّ منه.. إنه دفع رجاله لإيذائي..
    قال عويس :
    ـ قد يكون رجاله قاموا بالضرب دون علمه..
    وخيمت سحابة قاتمة من الصمت الثقيل..
    رد مع اقتباس  
     

  2. #26 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 25 ـ

    تباعدت لقاءاتهما، رغم الحنين الجارف. فرض فتحي على نفسه قيودا صارمة. لا مضيعة للوقت. الوقت للجد والمذاكرة. أول المتضررين أمين، الذي لم يكن يعبأ بقيمة الوقت، أو أنه متكاسل. إلا أن فتحي فاجأه بزيارة، خارقا كل المواثيق التي قطعها على نفسه. للاستثناء دوافع. أوضح لصاحبه أن الفتوة أوعز لاثنين من البلطجية بضرب حمزة وإهانته، هو وصاحبه عويس. لم يرتكب ذنبا يستحق العقاب. أحب تلقين ثروت وفتاته درسا لا ينسونه، مما حدا بثروت أن يوعز لأخيه الأكبر بالتصرف. قال فتحي كلاما كثيرا، عن الفتوة الذي لا يهمه شيء سوى الحصول على المال بأي ثمن، من كل عملية بلطجة، سرقة كانت، أم ضربا.. جالا في شوارع إمبابة حتى منتصف الليل. أخذ فكرهما يصول ويجول في أمر البلطجي.. رأيا أن يقصدا المجني عليه، يؤنسان وحدته. جلسا يشربان الشاي. قال فتحي ملطفا :
    ـ سأقاطع ثروت..
    قال عويس :
    ـ المعلم طرد البلطجية من إمبابة كلها. اتضح أنهما اشتغلا لحسابهما في عملية مشبوهة !
    قال فتحي :
    ـ هل سيد سبرتو من الضعف الذي يجعل أحد رجاله يخونه ؟
    أجاب حمزة :
    ـ على العموم، وعد المعلم ألا تتكرر المهزلة..
    أكد عويس على ما قال :
    ـ لك مكانة عند المعلم..
    ضحك فتحي وهو يقول :
    ـ لِمَ ضُربت يا عويس ؟
    قال في مسكنة :
    ـ أنا.. رحت في الرجِْلين..
    بدأ يشرح ما حدث في منتصف الليل، من تطهير قام به للمنطقة من الأوباش الذين يأخذون من الليل ستارا لأفعالهم الدنيئة. اعتبر ما أداه واجبا أملاه عليه ضميره، كما أنه امتداد لبطولاته في المقاومة الشعبية ببور سعيد.
    قال فتحي :
    ـ لا تنس ما قمت به من عمليات إنقاذ ومساعدة المصابين، في كارثة التروللي..
    ـ كلنا ندين لك بالفضل.
    قال أمين في حماس :
    ـ أنت تستحق وساما..
    شمله الهدوء إزاء ما يسمع من مديح. همس لعويس بأريحية :
    ـ جهز دور شاي، على حسابي..
    وأدار الترانزستور يستمعان إلى أغنية أم كلثوم " أنت عمري ".. في الليل المتأخر، التف الثلاثة حوله، وهو يروي قصة بناء نفق المنيرة والسكة الحديدية تمتد قضبانها فوقه، كما رواها أبوه وجده. كيف شارك رمضان ـ كبير العائلة ـ في أعمال الحفر، وإن كان لا يذكر السنة التي تم فيها الحفر، مكتفيا بقوله إن هذا ما سمعه من أبيه محمد وجده صابر نقلا عن الجد الأكبر رمضان.. قال عويس :
    ـ لم تذكر لنا قصة الرصاصة التي أصابت فخذك..
    قال وهو يبتسم :
    ـ تعرفونها جيدا..
    ـ نريد أن نسمعها من جديد.. نحن لا نمل سماعها..
    وطفق يتحدث إليهم، ولا يمل الحديث أبدا...
    أما مصطفى، فما إن تناهى إليه ما حدث، باتفاق جبان بين صبري وسيد سبرتو. هرع إلى صبري، الذي يعرفه زبونا بورشة والده. استماله بالقول الحسن، ثم قصّ عليه ما حدث من أخيه، مما اضطر حمزة إلى ردعه.. أي أنه قاوم شرا لا نرضاه. أنكر صبري معرفة الدافع. يبدو أن أخاه لم يقل الحقيقة كاملة. خفّ لنجدة أخيه حين اعتدى عليه، دون معرفة التفاصيل. قال إنه مستعد للاعتذار. أجابه مصطفى :
    ـ يحق لثروت أن يعتذر.. هو المخطئ..
    أبى ثروت الاعتذار لأحد، وإن كان توبيخ أخيه منعه من التمادي في غيه. وعد أخاه ألا يقترب من نفق المنيرة، وألا يدوس لحمزة على طرف. لكنه لم يعده بعدم الاقتراب من الحرام. قال صبري إنه لن يدافع عن أخطاء أخيه. هرع مصطفى إلى المعلم سبرتو، يلومه فيما حدث لعم حمزة، فأنكر أنه شارك.. وأن اثنين من رجاله خرجا عن طاعته، ونفذا عملية قذرة لا يرضاها. أحس فايز أنه يكذب، كي يتجمل! يكفيه أنه لجأ إلى الإنكار. قال في حسم:
    ـ أنا طردتهما من إمبابة كلها، وليسا من رجالي.. بل إني سأضربهما بيد من حديد، إن أقلقا راحة أهل بلدي وناسي..
    توجه معه إلى حمزة، لكز عويس قائلا :
    ـ قم اعمل لنا شاي. أما أعزم نفسي عندك يا حمزة..
    ـ بيتك ومطرحك..
    ـ إننا جميعا نعتذر لك. إمبابة كلها تقدم الاعتذار.
    قال حمزة :
    ـ مجيء المعلم شرف أعتز به..
    الكل يعتذر، لكن لا أحد يتألم من الجرح الغائر في قلبه. هل يمكن للكلمات مداواة جراح القلب ؟
    قال عويس وقد بدا عليه التأثر :
    ـ الكل يعتذر لعم حمزة، ولا أحد يطيب خاطري بكلمة، مع أنني ضُربت أكثر، ولا كان لي في الدور ولا في الطحين..
    شده الفتوة من ياقة جلبابه، ليتغدوا جميعا على حسابه..
    الاعتذار كلف حمزة الكثير. فقد أصر سبرتو على أن يتغدوا جميعا عنده. كان لابد أن تمتد المائدة لتكفي الأربعة. أحضر لهم وجبة دسمة من الكفتة والطرْب والسلَطة. أعلن المعلم عن استعداده لتحمل مصاريف الغداء، إلا أنها عزومة مراكبية، كما يقول المثل الشائع. فقد أخرج المحفظة من جيب الصديري، قائلا في شهامة :
    ـ عنك يا حمزة.. رقبتي سدادة..!
    أمسك بيده كي يرد محفظته مكانها :
    ـ عيب يا معلم..
    لم يكذب خبرا، فأرجعها سريعا كما أخرجها.
    عند الانصراف، انتحى بالمعلم جانبا، وحدثه في أمر عويس الذي لا يريد أن يرحل، رغم مضي نحو أسبوع على زيارته الأخيرة. قال له :
    ـ ولد مسكين.. الظرروف تعانده. سوف تنال الثواب الكبير، لحين صلاح أحواله..
    ولم يزد. قبل الضيف الذي فرض نفسه وأقلق باله. إنه كالاحتلال الذي كان جاثما على صدر الوطن. ما باليد حيلة.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #27 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 26 ـ

    احتد مع ضيفه الجاثم على صدره. أرجع إليه سبب الغارة الهمجية. دافع عن نفسه وأقسم بأنه مجني عليه مثله. لم يأخذ منه حقا. ترك له البيت وخرج مزمجرا، قاصدا حميدة. لقيته ابتسامتها الربيعية كأجمل ما تكون الوردة المتفتحة. حدث جابر عن الولد عويس الذي يتدخل في شئونه، وكلما كلم المعلم في أمره، يوصيه بالصبر، فالولد معدم ومقطوع من شجرة. قال جابر :
    ـ الولد بائن عليه وش خير علينا كلنا...
    ـ خير.. كيف يأتي الخير من ورائه ؟
    ـ اصبر عليه لما حاله يتعدل.. منذ زارك والبركة حلت..
    ـ كيف ؟
    قال وهو يراجع زوجته بنظرة :
    ـ لم نكن نريد إعلان الخبر..
    ـ خبر ؟!
    جال بعينيه بين وجهيهما، فما رأى إلا بشرا وابتساما. قفزت الفرحة تلقائيا إلى قلبه. قال :
    ـ تبقى حميدة حاملا..
    قالت :
    ـ بعد خمس سنين صبر..
    ـ ربنا كبير يا بنتي..
    قالت حميدة بصوت ملؤه الإيمان :
    ـ يمكن ربنا كرمنا، لما أكرمنا عويس..
    ـ ربنا يهيئ الأسباب..
    قال والفرحة تسبقه :
    ـ لما يهلّ علينا وليّ العهد بمشيئة الله، سأقيم فرحا..
    قامت لإعداد الشاي، فأمرها جابر بالجلوس والراحة، ونهض يعدّه بنفسه..
    اختفى جابر فجأة. أجابت على تساؤل بدا في عينيْ أبيها :
    ـ زمانه يجئ..
    دخل منتفخ الأوداج حاملا أكياس الموز والبرتقال. قالت تداعب أباها:
    ـ سوف تصبح جدا..
    ـ هذا يوم المنى..
    سنوات طويلة من الصبر والانتظار. لم يبدِ تبرما. لم يفكر في زوجة ثانية تنجب له الولد. ما أعظم صبرك النبيل. ها أنت يا زوجي العزيز تجني ثمرة الانتظار الطويل. فرحة جابر أكبر من فرحتهما معا. فرحة باتساع الأرض كلها. عمت الفرحة العائلة. بدأت أخته تتردد على البيت تساعد في أعمال كنس ومسح البلاط، وغسيل الأواني والملابس.. لا ضير من دخول المطبخ لإعداد الغداء. كما أنه لم يتحرج في المساعدة في أعمال الطبيخ، لتجهيز أكلات بسيطة كقلي البطاطس والبيض والباذنجان. إنه يساعد فيما يقدر عليه. أصر على الذهاب إلى سوق الجملة بمفرده، طالبا منها الخلود إلى الراحة التامة.
    أطرق حمزة. لكنه حرره من صمته بتقشير إصبع موز له، واستحلفه بالغالي في بطن حميدة أن يتناول الموزة. سأل وهو يلوكها في فمه :
    ـ تفتكر الولد عويس مسكين بصحيح ؟
    ـ أجل..
    ـ طيب.. أستأذن..
    ـ إلى أين ؟
    ـ أروح أطيب خاطره بكلمتين..
    قالت حميدة :
    ـ ونحن نجيء معك..
    التقوا عويس بفرحة صبيانية لا توصف ! فجأة أصبح ابن حلال مصفّي. تغير مزاج صاحب الغرزة من كاره له، إلى صفيّه وخليله. وليس مدهشا قوله :
    ـ نفسي آخذك في أحضاني.
    رغم أنه لا يدرِي سرّ التحول المفاجئ. تُرى، هل ندم على كل ما بدر منه، فأحب أن يبدأ صفحة جديدة ؟ إذن، ما الداعي لهذه الزفة، فيأتي بربطة المعلم هو وابنته وزوجها اللذين يلتقيهما لأول مرة ؟ إزاء هذا التحول غير المبرر، بدأ ابن البارحة يعزز نفسه، ويقول لمضيفه إنه يبحث عن عمل، ومما سيكسبه يدبر به سكنا رخيصا في حجرة صغيرة، ويرجوه أن يتحمله أياما أخرى. أجابه في تطييب خاطر :
    ـ أتحمل ؟ إذا لم تحفظك الأرض، حفظتك رموش عيني..
    قال :
    ـ أصيل يا عم حمزة.. وما تأمر به سأنفذه. أساعدك في كل شيء.
    تبادل الأربعة أحاديث شتى في جو يسوده الود والصفاء. انتهزها فرصة ليدير مذياعه الذي بحجم راحة اليد، على محطة تذيع أغنية لأم كلثوم. ونهض يعدّ براد الشاي دون أن يأذن له صاحب الدار. تضاحكوا وتسامروا.. كان حمْل حميدة الموضوع الخفي، باعث السعادة لكل من في البيت، وإن لم يعرف عويس بهذا الحمل، وهو ما أعجزه عن تفسير مظاهرة الحب التي زفوه بها !.. هذا الحمْل جعلها ملكة متوجة. يزهو فرح داخلي في شعاب نفسها. تستعجل الأيام كي ترى وليدها بين ذراعيها تحضنه، تقبله، تربت على ظهره، تقفز به في الهواء. متى يجئ هذا اليوم ؟ الصبر يا رب..
    وفي الصباح، أحبت أن تزور ضريح سيدي إسماعيل الإمبابي.. تقرأ الفاتحة، وتدعو الله أن تمر شهور الحمْل المتبقية بسلام.. أخرجت من صدرها كيس النقود، ووضعت ما تجود به في صندوق النذور، وأوقدت شمعة طافت بها حول الضريح، بينما صلى جابر ركعتيْ شكر لله تعالى، على عطاياه ونعمائه.. وطفق يدعو كثيرا حتى بللت الدموع خديه.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #28 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 27 ـ

    في غمرة الترحيب المفاجئ بإقامته، أحس بالسعادة التي لم ينعم بها يوما ما. هذه ليلة خالدة سرقها من عمره الشقي. تُرى، هل تدوم أم أنها سحابة عابرة سرعان ما تنقشع ويظهر واقع البؤس الملازم لظله ؟ حمزة متمسك به، على غير العادة. قال إنه وش السعد، هكذا دفعة واحدة !.. عرف منهم أنه مع قدومه ظهرت تباشير الحَمْل لسيدة لم يرها سوى الليلة. بقدومه انقشعت كوابيس الظلام. منذ قام بمحارة الجدران، طردت الكوابيس، واسترد النفق عافيته، شامخا دون تشققات، وبقدومه زاد زبائن الغرزة ! قال حمزة :
    ـ كسبت بمجيئك أشياء كثيرة وثمينة.. أكثر مما كسبته لو أجرت لك المكان..
    استنفرته الكلمات. ندم على انفلات اللسان الذي قال ما يكدر صفوه ويعكر مزاجه. قال عويس :
    ـ أنا أدفع أجرة المبيت للمعلم سبرتو..
    اندهش. كيف ؟
    ـ كم تدفع ؟
    ـ ريالا في الليلة..
    ـ أيتاجر على حسابي ؟ يا له من مستغل بشع..
    ـ ألم يتفق معك ؟
    وجم. تريث قليلا. كيف يواجه الفتوة ؟
    ـ أفهم من كلامك أنه لا يعطيك شيئا ؟
    ـ ولا مليم...
    ضحك عويس وهو يقول :
    ـ وأنا أبيت عندك وفي بطني بطيخة صيفي, أعتبر المبيت عندك أرخص من أي مكان.
    تباينت مشاعر الاثنين. لاذا بصمت محير، كل له مشكلة تخصه. الفتوة يرضيه بمعسول الكلام، ويطيب خاطره، في الوقت الذي يستغله أسوأ استغلال. إنه يتقاضى أجر مبيت عويس، وهو أحق به.. كما أن عويس يكلفه أكلا وشربا.. إن صدق الفتوة في شيء ففي قوله إن الولد عويس معدم مقطوع من شجرة. واستنجد بالمعلم ظهرا وسندا يحميه.. كما أنه وفر له إقامة رخيصة، بما فيها الأكل والشرب. كيف يواجه الفتوة ؟ عملية صعبة معقدة، قد يكون ضحيتها هذا الشاب الفقير الذي احتمى بداره، وليس ذنبه تلك اللعبة القذرة التي لعبها الطاغية. سأل نفسه في حيرة : هل يمكنك الوقوف في وجهه ؟ ضحك ساخرا من نفسه. إنه كالذبابة أمام بطش فيل ضخم. ما يقدر على القدرة إلا القادر يا عم حمزة. هاجس آخر يتردد في جنبات نفسه، بأن عويس حلّ له مشاكل عديدة. قدم له خدمات لا تنكر. إنه لو طلب منه أن يكنس ويمسح الأرض لفعل.. كما أنه وش سعد حقا وصدقا.. فحميدة قرة عينه بدت عليها أعراض حمل، والكابوس الذي كان يجثم على صدره ليلا انقشع وتبدد.. لا تنس يا حمزة أن قراءتك القرآن جلبت الفائدة. بكل المقاييس لا تنكر أن لعويس أيادي بيضاء بشهادة الجميع، ولديه قناعة تامة في هذا.
    أما عويس فقد انزوى في ركن آخر من الحجرة يفكر في همّه. ترك قريته ميت نما، ونزح إلى القاهرة بحثا عن فرصة عمل ومأوى، هربا من زوجة أبيه الظالمة.. تلك الزوجة التي بثت في نفس أبيه كراهية عمياء، فآثر أن يهرب من البلد سرا، دون أن يعرف أحد طريقه. أرض الله واسعة. لم يتعلم. ولما تعدى عمره الخامسة عشر، بدأت زوجة أبيه تطلب منه البحث عن عمل. أي عمل ووافقها أبوه. من السهل أن يعمل في الغيط مع أبيه، أو مع غيره من المزارعين. لكن المعاملة القاسية نفرته من البيت كله. آثر أن يترك الجمل بما حمل، فأرض الله واسعة، وتحقق له ما تمنى. ففي المنيرة، التقى أحد أهلها، فدله على المعلم سيد سبرتو، الذي اتفق معه على المبيت في بيت صغير مع عجوز طيب القلب، نظير دفع ريال عن اليوم الواحد. لم يكن يعرف أن حمزة لا يتقاضى منه شيئا. إذن فهو مدين لهذا الرجل الطيب. كيف يعوضه عن الخسارة ؟ نكس رأسه متألما متأذيا. فبعد أن كان يعيش بكرامته، نظير أجر يدفعه. بات مشاركا للمعلم في ظلمه. دنيا عجيبة. ما يتكسبه من بيع الخضار في السوق أقل القليل، إذ يعطيه أحد معلمي السوق بعض أقفاص الخضار يبيعها لحسابه. قد ينقده أقل من ريال، أو ريالا، أو أكثر قليلا.. فيتوسل إليه ألا ينقص نصيبه عن الريال. فبدأ المعلم ينقده ريالا ثابتا، سواء زاد مكسبه أو قل.. فكيف يعوض حمزة عن الضرر المادي ؟ هل في إمكان المعلم أن يزيده خمسة قروش أخرى يعطيها لصاحب البيت تعويضا مؤقتا ؟ أم يشتغل عند أبو سلطان صاحب محل الجزارة المواجه لمسجد زيدان ؟ وماذا عن الأجر ؟ صارح حمزة بما ينتويه..
    ـ لا أريد منك شيئا.. ولا تكلم المعلم في شيء.. استمر في اتفاقك معه.
    صمت طويلا، ثم استطرد :
    ـ يكفيني أنك قدم خير، وأنني ارتحت لك. أعتبرك ابنا لي. لي بنت وحيدة متزوجة، كما تعلم، على الأقل تساعدني في عملي هذا..
    ـ والريال الذي يأخذه المعلم دون وجه حق..
    ـ لا حيلة لنا في هذا.. إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
    فترة صمت أخرى، تلبدت فيها سحب الحيرة في خاطر عويس. قال :
    ـ في هذه الأيام، بدأ المعلم يأخذ الريال من المنبع، من معلم الخضار الذي أتعامل معه..
    ـ لا تشغل بالك..
    ـ سأبحث عن عمل أفضل، بعيدا عن أعين الفتوة..
    ـ سيكيد لك..
    هربا من جحيم التفكير في مشكلة بلا حل. حين تواجه بسلطة قوية، لا بد أن تكون قويا مثلها، أو أقوى منها. هذا ما لا يستطيعانه. هربا من الحيرة المطبقة على صدريهما، بأن امتدت يد حمزة إلى براد الشاي، بينما انشغل عويس في ضبط موجة المذياع على إذاعة أم كلثوم.. وطفقا يسمعان أغنية " غلبت أصالح في روحي ".
    رد مع اقتباس  
     

  5. #29 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 28 ـ

    مضت إجازة نصف السنة، قضاها في المذاكرة، معتبرا إياها بياتا شتويا، أو انكماشا في البيت، شاحذا همته نحو تحقيق مجموع كبير في الثانوية، يؤهله إلى تحقيق أمنيته في دخول كلية الهندسة. انصرف عن تضييع الوقت. لا يخرج من البيت إلا للضرورة القصوى، واضعا نصب عينيه صورة أبيه المكافح، الذي لا يدخر وسعا في تلبية طلباته، حتى لو كانت على حساب راحته وصحته. شعر بتأنيب الضمير لهذا اللهو العشوائي، وهذا السراب الذي يجري وراءه دون تحقيق شيء نافع.
    ذات مرة جمعه وأباه وأمه لقاء.. ما أندر اللقاءات بينهم.. كانوا ملتفين هو وأخواته حول الطبلية يتناولون الغداء. قالت فاطمة وهي في الإعدادية، إن فتحي يرى صعوبة في اللغة الفرنسية. نفى ذلك بشدة قائلا :
    ـ أبدا.. هي مادة لطيفة.. لكن الصعوبة في أنني أحيانا أنطق الكلمة الفرنسية بالنطق الإنجليزي. هذا خطأ نبهني إليه مدرس الفصل.
    لم يعلق أبوه.. مضى على تلك الملاحظة يومان، أخبره بعدها أنه اتفق مع زميل له في المصلحة لإعطائه دروسا في الفرنسية. تردد في البداية. طمأنه بأن أجرة الحصة زهيدة لن تكلفه كثيرا، فقد راعى شفيق زمالتهما.
    لأول مرة يأخذ درسا خصوصيا، باستثناء مدرس اللغة العربية، وهو في الابتدائي، الذي أعطاه شهرا واحدا، ثم اعتذر لمرضه.. كان ذلك منذ تسع سنوات.. كان الدرس ثقيلا حيث يضطره المدرس إلى حفظ قصائد شعرية قصيرة، ومعاني الكلمات وشرح الأبيات.
    أعطاه والده عنوان الأستاذ شفيق في حي شبرا. استقبله هاشا باشا، ذاكرا خلق أبيه وصفاء نفسه. أجلسه مع زوجته سناء، وابنتيه مارسيل ومريم. شده جمال الأختين. القامة المديدة، والشعر الأسود المسدل على الظهر، بعد إحكامه بشريط ملون أو " توكة ". العينان الواسعتان الذكيتان. البشرة البيضاء الناعمة. من ينظر إليهما يظنهما توءمين. كانا أميل إلى الصمت. جلسا معه حول المنضدة المستديرة. حين سمح شفيق بخمس دقائق راحة، تبادلوا كلمات ترحيب وتعارف. أسره الجمال القبطي. هام بالوجهين الجميلين، فأحب دروس الفرنسية وظل يترقب مواعيدها كل اثنين وخميس.
    أعطى الفرنسية وقتا للمذاكرة، يجور على الوقت المخصص للمواد الأخرى، رغبة منه في الظهور أمام الجميلتين متفوقا. تغلب على مشكلة نطق الكلمات، وبرع في هذا، حتى صار أميل إلى التحدث بالفرنسية أكثر من الإنجليزية. نقل عن أستاذه شفيق أن الفرنسية لغة ثقافة وحضارة.
    قال أمين لصاحبه متهكما :
    ـ يموت الزمار وإصبعه يلعب !
    بعد أن قص عليه حكايته مع مارسيل ومريم، وصف له جمالهما الأخاذ. إلا أنه صدم بتعليقه الساخر وفهم منه أنه هوائي النزعة، بكل بنت معجب. إنه أسير هوى مَنْ يقابل منهن، حتى قال أمين مواصلا تهكمه :
    ـ لو كان لي أخت، لخشيت عليها من نظراتك..
    اقترب من منطق صاحبه. قال مبررا :
    ـ لكل بنت مسحة جمال تتميز بها. ومن طبعي البحث عن مسحة الجمال أو لمسته في كل بنت أصادفها. هكذا خلقني الله. ليس معنى هذا أنني أقع في غرامهن جميعا !
    تضاحكا. رضخ لتبرير صاحبه، وسلم بطبعه. وفي نوبة مداعبة قال أمين :
    ـ قلت إن الأختين كالتوءمين.. فكيف تفرق بينهما ؟
    ـ نبرة صوت مارسيل أميل إلى قلبي.. ذلك أنها تتحدث معي أكثر، بينما تلوذ أختها بالصمت. مارسيل ترتدي عادة الجيب والبلوزة، ومريم ترتدي الفستان..
    بعد صمت قليل، أكمل :
    ـ ثم إن مارسيل تجلس عن يميني. لكل منا مقعد لا يغيره.
    قال أمين في حسد :
    ـ يا بختك.. كان نِفْسي أكون معك..
    ـ وتعجب بمريم..
    الحسد كلمة قالها دون أن يشرح لصاحبه أي حسد يقصد ؟ وفي داخله، يرى أنه يحسد فتحي لتعرفه على بنات كثيرات، ولأنه أكثر مذاكرة منه. هو غير راض عن نفسه، أميل إلى تضييع الوقت أكثر من صاحبه، فاقد الأمل في تحقيق تقدم. ورغم رسوبه في العام الماضي، إلا أنه لا شيء يحفزه للمذاكرة. بينما يرى فتحي قد نجح العام الماضي ويعيد السنة لتحسين مجموعه. شكواه أنه لا يجد الحافز الذي يدفعه للمذاكرة.. بدأ فتحي يحفزه، ويدعوه إلى تغيير عاداته، والالتفات إلى دروسه. إلا أنها صرخة في واد. فأمين محبط على الدوام، لديه إحساس بالدونية، بمعنى أنه أقل في الوضع الاجتماعي من قرنائه. وهو يجد لذة في قراءة جريدة أو كتاب غير مدرسي، كأنه يجد اللذة فيما هو غير ملزم أن يمتحن فيه ! وهو ـ أيضا ـ كثير الاستماع إلى أغاني نجاة الصغيرة بصوتها الدافئ، الذي يستشعر فيه أن المطربة تكاد تغني له وحده، وهذه متعة تجذبه إليها. وهو ـ علاوة على ذلك ـ كثير التحسر على حبه الضائع لعايدة. الفتاة الوحيدة التي دق لها قلبه، لكنه لم يتقدم خطوة واحدة نحوها. واكتفى بلقاءات المصادفة بحكم الجيرة، فتلتقط أذناه بعض كلمات مما تقول، ويرد عليها بكلمات مقتضبة ليس وراءها هدف ! ولا شيء غير هذا ! وهو بطبعه كتوم، لا يبوح لأحد عن مشاعره وأحاسيسه، وإن نطق بها مرة أو أكثر لصاحبه الوحيد !
    طلب من صاحبه الخروج، تحررا من حبسة البيت. تجولا كعادتهما في شوارع المنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير.. وعلى مقهى الربيع كانت جلستهما المفضلة، إلى منضدة في ركن داخلي، اتقاء لسعات البرد. لعبا النرد فتعادلا. ارتاحا للنتيجة فنهضا.. وجل حديث فتحي عن مارسيل ومريم، اكتشافه المذهل، وتهيؤه للقائهما غدا الخميس.. وأن عليه مذاكرة واجب الأستاذ شفيق الليلة.. إلا أن الثرثرة داؤه المزمن، يقابلها عند أمين صمت مطبق !
    عرجا على نفق المنيرة، وتجالسا مع حمزة وصاحبه عويس، الذي أكمل لهما السهرة بأغنيات أم كلثوم من مذياعه الترانزستور، حتى انتصف الليل، ثم انصرف كل إلى بيته..


    [align=center](يتبع)[/align]
    رد مع اقتباس  
     

  6. #30 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 29 ـ

    الشهور الأولى من عام 1966 بطيئة مملة. لم تعطِ للفتية فتحي وأمين وثروت فرصة لإثبات وجودهم أو إشباع ميولهم. كل منهم له مزاج نفسي خاص به. علاقة ثروت بفتحي سطحية. نماها جرأته الوقحة في التعامل مع البنات، وترويجه لكل ما يهيج غرائز الفتى، عن طريق صور فاضحة وقصص ماجنة وأماكن الرقص التي يرتادها، ساعدته حالة أبيه المادية وغفلة عين الرقيب. يشرئب فتحي إلى هذا العالم وهو منبهر. يود أن يخوض تجربة واحدة مما يحكي عنها ثروت، بدافع الفضول، أو أن يعيش كما يعيش الآخرون ! هكذا يلتهب خياله وتستبد جموح المشاعر به. أما أمين فلم يختلط بثروت ولا يستريح له. قد يتبادل معه كلمات قليلة في أوقات متباعدة، تكشف عن بعد المسافة بينهما أكثر مما تكشف عن أي وجه للتقارب. كانا أشبه بقطبين متنافرين. في الوقت الذي توطدت فيه العلاقة بينه وبين فتحي بفعل الإطلالة على عالمه ومروياته التي تشبه من يصارع طواحين الهواء. فقد وقع في هوى بنات كثيرات، دون أن تكون هناك قصة حب متبادلة بينه وبين أي منهن ! كما أنهما يتناقشان في شتى أمور الفكر والدين والسياسة وغيرها، ويتجادلان كثيرا حولها. تشهد شوارع إمبابة الواسعة والضيقة مجلسا " متنقلا " للأمة يضم عضوين دائمين وحيدين يتناقشان في أدق الأمور ! ما أشد خلافاتهما وخصوماتهما الفكرية، لكنهما لا ينفصلان أبدا. يشتد أزرهما بارتباطهما بتلك الوشيجة التي لا يفكر أحدهما في حلها !
    تلك الشهور من العام الجديد سماها فتحي شهورا حاسمة، ففيها يتقرر مصيره التعليمي. أدرك خطورة المرحلة، فابتعد عن صنو روحه مرغما، وإن جمعتهما لقاءات متباعدة.. أما مصطفى فقد غير اتفاق الزواج من شخصيته. حوله إلى إنسان آخر ينظر إلى الحياة بعين التفاؤل، ويحسب الأيام الثقيلة المريرة التي ابتعد فيها الشيخ محمود إلى جهة غير معلومة !..
    الامتحانات على الأبواب. ووجد في دروس الفرنسية متنفسا ربيعيا، إذ يجالس فتاتين، يشجعانه على الاستذكار، ليس في الفرنسية فحسب، وإنما في كل المواد. مارسيل في الثانوية مثله، ومريم في الصف الثاني الثانوي، إلا أنها تصر على الجلوس معهما لتستفيد. شجعها أبوها على ذلك، لكي يشعر أن تلاميذه كثيرون، يشبع بذلك الرغبة القديمة في أن يكون مدرسا، وليس مجرد موظف في مصلحة حكومية لا يدري به أحد. مريم لديها الدافع. تلتقط قواعد الفرنسية وتعبيراتها. قالت لهما إنها تستفيد بطريقتها.. فحين تذاكر دروسها الأبسط، تبدو لها أسهل. مارسيل فتاة جذابة، ملكت على فتحي كيانه. بلوزتها ذات أزرار، تصر على أن يبقى الزرار العلوي مفتوحا فيتبدى النهر الفاصل بين نهديها المتمردين، يتدلى فوقه سلسلة ذهبية يزينها صليب صغير، يتمرد هو الآخر على صدرها.
    ذات مرة، قال إن الكراسة التي كتب فيها الدروس نسيها في السيارة العامة. قالت مارسيل :
    ـ أمهلني إلى الحصة القادمة، وأعطيك كراستي تنقل منها..
    ـ أنقل عشرين درسا.. هذا صعب..
    ـ يمكنك استعارتها عدة مرات..
    ـ أشكرك..
    في الحصة التالية، فاجأته بكراسة جديدة، نقلت فيها بخطها المنمنم الرقيق كل الدروس العشرين. انشرح صدره واتسعت ابتسامته. قال لها بصوت خفيض ممتن :
    ـ أشكرك.. جدا..
    ثم استدرك قائلا :
    ـ كلمة الشكر لا تكفي.. عموما هي مفاجأة سارة..
    قال شفيق منهيا حرجه :
    ـ مارسيل أختك..
    امتد بينهما فرح داخلي لم تكشف عنه الخلجات..
    إلا أن الفتى المراهق سقط في أتون حمى الملاريا، أرقدته الفراش قبل بدء الامتحان بيومين. اضطر إلى حضور الامتحان وحرارته 39 درجة. وفي المساء توجه إلى الطبيب، الذي أدرك ظروفه وأعطاه جرعات دوائية مكثفة، كما أعطته الممرضة حقنة في الوريد، فأسلم لها ذراعه لتلف حول عضلة الذراع خرطوما، وشدته على آخره، حتى تتمكن من تحديد مكان الوريد. وانصرف هو عن وريده الخفي، متأملا تقاطيع الممرضة الحسناء، مكتشفا فيها ـ هي الأخرى ـ مسحة جمال تميزها عن غيرها. قالت له بعد انتهاء حقنه :
    ـ بالشفاء..
    عرف أن اسمها نادية. أضافها إلى قائمة البنات اللاتي صادفنه، وحفظها أمين عن ظهر قلب. في اليوم التالي، حضر الامتحان وحرارته مرتفعة. العرق يتفصد من وجهه. أحس المراقب باضطرابه. قرأ ما كتبه في موضوع التعبير، فأعجب بأسلوبه وصياغته الأدبية الرائعة واستشهاده بأبيات شعرية رقيقة.
    انقضت أيام الامتحان بين السهر والحمى. يذاكر كيفما اتفق. يقرأ ملخصات ومراجعات ليلة الامتحان. تحرص أمه على إعطائه الجرعات في مواعيدها. تحثه على الاستعانة بالله الشافي. وبانتهاء الامتحان، شفي من المرض. ترى أمه أنها عين أصابته. أما أمين فلم يحضر امتحان الفرنسية. دهش صاحبه، الذي منعه المرض من السؤال عنه. زاره بعد الامتحان يسأل عن سبب تغيبه الثلاثة أيام الأخيرة. قال إنه فقد الأمل في النجاح.. وبذلك عرف النتيجة سلفا.. هي إعادة السنة للمرة الثالثة ! تعلق فتحي بمستقبله بين الرجاء والأمل. فوجئ بنجاحه بمجموع يؤهله لدخول كلية الهندسة. كانت فرحة أبيه لا توصف. ونجح ثروت بمجموع هزيل، إلا أنه فرح كما لو أنه حصل على المجموع النهائي، فما كان يأمل في شيء أكثر من النجاح.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #31 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 30 ـ

    ارتدى ثيابا جديدة، كأنه ذاهب إلى حفل عرس، كأنه هو الذي نجح. استقبلته ابتسامتها المتفائلة. ما أحلى كلمة " مبروك " حين يقولها حبيب لحبيب. ما أحلى القلب حين يرقص فرحا.
    زادت فرحته حين زفت إليه بشرى الإفراج عن الشيخ محمود. كاد لا يصدق. طبع قبلة على جبينها، قائلا :
    ـ حلاوة رجوع الشيخ بالسلامة..
    زفت البشرى إليه بفرحة غامرة. أفرج عن الشيخ. أخيرا أفرجوا عنه، بعد انقضاء شهور عديدة وهو ملقى في زنزانة. قيل إنه عذب، وقيل إن اسمه دسّه حاقد، بينما هو لا يرتبط بأي تنظيم سري أو علني. قيل ـ أيضا ـ إن اسمه كان مكتوبا في مفكرة أحد المقبوض عليهم، فاعتبروه أحد رجالهم. العجيب أن الشيخ لم يتفوه بكلمة واحدة فيما جرى خلف القضبان. طوى الصفحة لا يريد فتحها. واصل قراءة كتاب الله العزيز وتدبر محكم آياته.. إلا أنه لم يعد يؤم المصلين في مسجد زيدان أو غيره من المساجد. اعتكف في داره، معتمدا على محل بقالة صغير، بدأ يزاول عمله فيه من آن لآخر. ابنه الكبير محمود ـ لا يتعدى عمره خمسة عشر عاما ـ بدأ يعلمه قواعد البيع وأسعار السلع.
    احتضنه في شوق، وأنس بصحبته في داره. حكى له عن خطبته لنرجس فبارك الخِطبة، ثم استدرك :
    ـ اكتفينا بقراءة الفاتحة، وأرجأنا كل شيء لحين الإفراج عنك. البراءة تعني الكثير يا أستاذنا..
    قال الشيخ ممتنا :
    ـ الحمد لله على كل حال. أخبروني أنك قمت بدور عظيم وأرهقت نفسك، وصرفت من جيبك الكثير..
    ـ كله من خيرك. نحن ننتظر الوقت المناسب لك، حتى نحدد موعد عقد القران.
    ضحك الشيخ :
    ـ أأنت مستعجل ؟
    ـ وبي شوق..
    ـ إذن.. أنا جاهز في أي وقت من الآن..
    طار بالخبر إلى أبويه، وإلى نرجس وأهلها. اتفق الجميع على موعد الحفل الخميس القادم، على أن يتم الزفاف بعد تأثيث بيت الزوجية.
    دعا أصدقاءه فتحي وأمين وحمزة وعويس ورأفت ومحفوظ وغيرهم من الأهل والجيران والمعارف. كأن الفرح فرحان : عقد قرانه، والإفراج عن الشيخ دون إدانة.
    اصطحب نرجس لأفخم محل لتختار أحلى الفساتين. اختارت له بدلة الفرح. اشترى أيضا الشراب والحلوى والملبس.. علقت الزينات في الطابقين الثالث والرابع، في سكن الشيخ وسكن العروس.. امتدت الزينات حتى ناصية الشارع..
    أعجب الجميع بالرقص البلدي الذي أداه عويس مع إيقاع الطبلة ممسكا بالعصا، كأنه من أهل الصعيد رغم إنه وافد من بحري، ورغم حياته الحبْلى بالهموم. اعتلى المنصة مطرب الحفل، وأدى بعض المونولوجات الشائعة، والاسكتشات الفكاهية، ثم غنى أغنيتين للعروسين. عقد المأذون القران وسط زغاريد النسوة وتهليل الشباب. أصر الشيخ محمود أن يكون أحد شاهديْ عقد القران. تلازم الأستاذ فريد والأسطى حسين معا، كما تلازمت والدتيْ العروسين أيضا. عم البشر الجميع. أما حمزة فقد قام بنفسه بتوزيع أكواب الشربات، وأطباق الحلوى، كما قام بالترحيب بالمدعوين كأنه والد العريس أو العروس. هو لا يجد ضيرا في هذا، إذ يرى لزاما عليه أن يعتبر نفسه من أصحاب الفرح ويؤدي واجب الحفاوة بكل الذين شرفوا الحفل. ساعده عويس في التوزيع. اتجه حمزة إلى الركن الذي يجلس فيه أمين وفتحي وقال :
    ـ عقبى لكم يا شباب.. إن شاء الله..
    تقاطر إلى الحفل أصدقاء ومعارف وجيران الشيخ مجددين التهنئة بالإفراج عنه، مباركين العرس..
    انطلقت الزغاريد حين بدأت أم العريس تفتح علبة الشبكة وعرضها عليهم، ثم بدأ في تطويق عنق أحلى البنات بسلسلة ذهبية تتدلى في وسطها تحفة ذهبية مربعة منقوشا عليها " ما شاء الله "، ثم طوّق ذراعها بالغوايش. أخيرا تناول الخاتم ووضعه في إصبع السبابة مع الدبلة.
    كان الفرح فرصة للمعلم سيد سبرتو ليقف على ناصية الشارع مرحبا هو الآخر بالمعازيم، دون تفويض من أحد. جلس على مائدة العشاء حين ألفى مقعدا وحيدا خاليا فاعتبره مجهزا له ! قام بالواجب وأكثر. أما عويس، فقد استطاع معالجة هزال جسمه، بأن جلس على مائدة العشاء، بدعوة كريمة من مصطفى، له ولحمزة، ودعا معهما فتحي وأمين. كما نال عويس حظه مرة ثانية حين دعاه الأسطى حسين ظنا منه أنه من معارف ابنه، فلبى الدعوة سريعا واتجه إلى المائدة.. بعدها لم يجد مكانا يضع فيه الطعام، حتى قطع الحلوى اعتذر لمن يقدمها له. التقطت أذناه ما قاله الشيخ محمود الجالس بالقرب منه لأحد المدعوين، عن حديث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه من الواجب على المرء ألا يملأ أكثر من ثلث معدته طعاما، ويترك الثلث الثاني لشرابه، والثالث لنفَسِه. انزعج عويس حين سمع الحديث الكريم، حيث بدا أنه أكل وملأ المعدة بالثلاثة أثلاث وزيادة !!
    قصد عويس معالجة الأنيميا الحادة التي عانى منها منذ الصغر، ووفد بها من قريته " ميت نِمَا ". لاحظ حمزة هذا فقال له :
    ـ كفى ما أكلت وشربت..
    ـ أصل مصطفى غالي علينا..
    ـ إن كان حبيبك عسل....
    ـ يا عم حمزة، هذه ليلة العمر. الأكل والشراب كثير والحمد لله..
    ـ عقبى لك يا عويس..
    رد مع اقتباس  
     

  8. #32 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 31 ـ

    وصلت بطاقة ترشيحه لكلية الهندسة جامعة عين شمس. توجت البطاقة كفاحه وإصراره على تحقيق أمنية غالية، فقد أصر على إعادة السنة، ليحصل على مجموع يتناسب مع طموحه. تهللت الفرحة في وجه أبيه، الذي رأى في دخول ابنه الهندسة انتصارا له. زف الخبر إلى زملائه في العمل، ووزع عليهم المشروبات، حلاوة النجاح. كما زف الخبر إلى رؤسائه المهندسين، قائلا لهم إن ابنه التحق بالهندسة. هنأه الأستاذ شفيق، وقال له إن مارسيل التحقت بالكلية نفسها. توجه فتحي إلى أستاذه بشبرا، يهنئه ويهنئ مارسيل. سارع بالتهنئة حيث وجدها فرصة لرؤيتها. حمل معه علبة شيكولاتة. جلسا بشرفة البيت وحدهما. كانت مارسيل رقيقة كالنسيم الهادئ، جميلة كأفروديت.. رقبتها المديدة تشي بطابع الجمال الفرعوني، وشعرها المنسرح يشي بالشعر المغسول بماء النيل. قدمت مريم شربات المانجو. قالت مارسيل :
    ـ سمعت من أبي أنك كنت مريضا أثناء الامتحان..
    ـ لا شك أن أبي أخبر كل من في المصلحة..
    ضحكت. أكمل :
    ـ كانت أياما عصيبة..
    واسترسل يحكي أيام الصراع مع المرض وكيف كان يذهب إلى لجنة الامتحان وحرارته 39 درجة، بما يوحي لها أنه بطل يصارع المرض ويحصل على النجاح بنحت الصخر ! روى لها إعجاب المراقب بموضوع التعبير، وشد أزره.
    توجه من شبرا إلى عمته ببولاق أبي العلاء. زف إليها الخبر السعيد، فاحتفت به على طريقتها، بأن أعدت له عزومة عشاء فاخرة، ونقدته مبلغا محترما من المال، لم يحلم به في حياته، وأطلقت الشغالة الزغاريد.
    لأول مرة يحتضنه أبوه هذا الحضن الدافئ الممزوج بفرحة غامرة. لقد عوض الله صبر رجب خيرا. التف الأخوات حوله، بينا يمسك بيد أمه يقبلها.
    لم ينسَ في غمار البهجة صاحبه أمين. من الواجب زيارته. سارع إليه عابرا القنطرة المصنوعة من ساقيْ نخلتين، إلى المنيرة الغربية، مجتازا سكك حديد صوامع الغلال. أخبره أنه التحق بمدرسة معاوني الحركة التابعة لمصلحة سكك حديد مصر. هذا أقصر طريق للتخرج والعمل بعد ستة شهور من الدراسة والتدريب. ليس أمامه حل سوى هذا. إنه في حاجة إلى المال ليساعد نفسه أولا، ويساعد أباه المريض. شد من عزمه قائلا :
    ـ يمكنك إعادة قيد بالثانوية العامة من المنازل. لن تخسر شيئا من المحاولة..
    أومأ بالصمت. قال :
    ـ من الصعب المذاكرة من جديد، لرابع مرة..
    ـ حاول..
    في البيت، انتظرته مفاجأة أخرى، إذ زارتهم أم ليلى وفي صحبتها ابنتها لمياء، التي كبرت وأصبحت في قوام ليلى. هنأته بالنجاح والتفوق. تذكر حبيبة القلب ليلى. أين هي الآن ؟
    سأل في جرأة لا تواتيه كثيرا :
    ـ كيف حال ليلى ؟
    أجابت :
    ـ بخير.. لم تزر مصر منذ سفرها للكويت..
    صمتت قليلا، وتناولت من أمه عصير البرتقال.. فكررت التهنئة، مرتين، مرة بالنجاح والثانية بدخول الهندسة.. ثم التفتت لفتحي قائلة :
    ـ أنجبتْ تامر..
    كأنها تصدمه. كأنها تخبره أن ليلى لم تعد لك. ليلى زوجة رجل آخر. ليلى أم...!
    كل النجاح الذي حققه، لا يساوي شيئا أمام نظرة حانية من ليلى. إنه قزم. يتردد بين جنباته صوت مناوئ بأن ليلى صفحة طويت. عليه أن يقر بذلك، ويلتفت إلى مستقبله. ها هي مارسيل لؤلؤة تتلألأ في عينيه.. لكن.. قصتك معها ليست لها نهاية مريحة. لن يوافق أهلها على ارتباطه بها. اختلاف العقيدة لا يعترف بهوى القلوب. شرد طويلا إلى أن تنبه إلى أم ليلى تضاحكه وتكرر التهنئة وتهم بالاستئذان، وتتركه يطوي في ألم صفحة الماضي القريب.
    أهاجته الذكريات عن ليلى. فتح كراسة اليوميات. أخذ يقرأ التواريخ، والموضوعات التي كتبها عنها. إنها تحتل مساحة كبيرة من يومياته. فتح صفحة جديدة كتب فيها تاريخ اليوم، وتحدث عن زيارة أم ليلى وما خلفته في نفسه من أحاسيس الوجد والجوى. زاحمتها بنات كثيرات، لكنها الملكة المتوجة، المتربعة على عرش قلبه. شده الحنين إليها. كانت الكتابة متنفسا طبيعيا.. يطفئ مصباح الغرفة، ينام، فتراوده أحلام عن ليلى تناديه من الحديقة، فيطرب لسماع صوتها الحبيب !
    أما حمزة، فقد أقام له حفلة متواضعة أحياها ترانزستور عويس، الذي شدت فيه كوكب الشرق بأحدث أغانيها. حضر الحفل المتواضع أمين ومصطفى وجابر ومحفوظ. حضر سيد سبرتو واقترح أن يشارك بزجاجات بيرة على حسابه. لكن الحاضرين تشككوا في أنه سيدفع مليما واحدا. ربما كان مقلبا من مقالبه، ويضطر حمزة المغلوب على أمره تسديد ثمنها لعم توفيق. علاوة على ما أفتى به مصطفى من أن شرب البيرة حرام. الذي يسكر كثيره فقليله حرام.
    لذا، أعرض عنها الجميع، تنازلوا عن الكرم الحاتمي غير المسبوق، وارتضوا أكواب الشاي، إلا أن مصطفى فاجأهم بنوبة كرم حقيقية، إذ استأذنهم وعاد بلفافة كفتة وطرْب وسَلَطة وعيش، فأكلوا حتى شبعوا..
    صاح عويس في الآكلين :
    ـ على مهلكم.. أصل أنا يتيم الأم وأكلي بطيء..
    بادره مصطفى بعمل سندويتش إضافي له قائلا :
    ـ هذا تكملة لنصيبك..
    أخذ السندويتش، ونهض يعدّ براد الشاي. ولما عاد المعلم سبرتو كانت الوليمة قد انفضت، فأصر مصطفى على أن يحضر لفافة خصيصا له، انتحى جانبا وأتى عليها، ثم قصد ثلاجة عم توفيق.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #33 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 32 ـ

    فجر الاثنين التاسع والعشرين من أغسطس 1966 ـ الثالث عشر من جمادى الأولى 1386 ـ أعدم سيد قطب إبراهيم، المولود في التاسع من أكتوبر 1906 في قرية " موشه " بأسيوط. خريج قسم الآداب بكلية دار العلوم بالقاهرة عام 1933. اتهم بتكفير المجتمع. قرأ الناس الخبر في الصحف، وتباينت الآراء. هل يجوز إعدام من نختلف معهم ؟ بعض رجال الدين قالوا إنه مخطئ، والبعض قال غير ذلك. قال نفر من العامة :
    ـ أعدم لأنه من الإخوان المسلمين..
    قال آخرون :
    ـ انحرف بفكر الجماعة عن جادة الطريق..
    قال واحد من الناس :
    ـ لو لم يكن إخوانجيا، ما حوكم..
    رد عليه صاحبه :
    ـ الله أعلم..
    اختلف الناس فيما بينهم..
    ـ إنهم يحاربون التنظيم الذي يخطئ الحاكم..
    قال شاب لصاحبه :
    ـ يا أخي.. هل نحمل همّ شيخ أعدموه ؟ ليس الوحيد الذي نصبت له المشنقة..
    مصطفى الذي اهتز لخبر الإعدام، هرع إلى الشيخ محمود، طالبا الرأي والمشورة إذ تبلبل فكره واحتار في أمره.. قال لشيخه :
    ـ لو أعدمنا كل من يختلف معنا، لأعدم الآلاف، وصمتت آلاف أخرى عن الكلام..
    ـ الإعدام لاختلاف الآراء ليس أسلوبا حضاريا..
    اتكأ على مسند المقعد وأكمل :
    ـ لكي أبسط الأمر.. سيد قطب دعا إلى تكفير المجتمع، مما رأت الحكومة أنه يشكل خطرا على نظام الحكم. الخلاف ظهر في أن سيد خطّأ رجال الحكم في بعض الأمور.. النقطة التي أعارضها أن يكون الموت جزاء المخالف.. في هذا أتفق معك. ذلك أن إعدام المفكر، قد يكون لترجيح آراء سائدة في عصره، يثبت بعد ذلك خطؤها. وبذلك لا نستطيع رد الظلم عنه.
    قال الشيخ محمود لمصطفى :
    ـ لا ندّعي له العصمة من الخطأ.. عنده من الأخطاء مثل ما عند غيره. لم تحُلْ أخطاء ابن حجر والنووي وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم من أبناء الأمة من الاستفادة بفكرهم..
    قال مصطفى :
    ـ هم أئمة...
    أكمل الشيخ :
    ـ إلا فيما وقعوا فيه من أخطاء..
    اقتنع بمنطقه، لكنه أبدى اعتراضا...
    ذكره الشيخ بآلاف الشهداء في فلسطين والجزائر ومصر وغيرها، وهم يحاربون الاستعمار.. ذكره بالزعيم الليبي عمر المختار الذي أعدمه الجيش الإيطالي ولم يرحموا شيخوخته.
    الاتجاه السائد عند بعض الناس أن سيد مارق. أخطأ في حق أمته، وهدد أمن بلده ! الاتجاه السائد ألا يتجادل الناس فيما قررته السلطة لمصلحة الوطن وأمنه. تحمس فتحي لما تحقق من مكاسب اشتراكية، أدت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات. يتردد داخله صوت عن حال أبيه الموظف البسيط، الكادح من أجل توفير لقمة عيش كريمة لهم. ترى.. هل تجاوزته التغييرات ؟ أم أن كثرة عياله سبب في سوء حاله ؟ عارض أمين الاشتراكية. دارت بينهما معارك كلامية لم يصلا فيها إلى حل يرضيهما. يرى أمين أن الإسلام خير داع للتكافل الاجتماعي، اشتراكية الإسلام أرقى من الاشتراكية القادمة مع الرياح الشيوعية. أما فتحي فقد دفعه حبه للزعيم إلى التمسك بالاشتراكية كحل حتمي يحمي الفقراء من بطش الأثرياء. أما حمزة فقد رفع صوته الأجش متحمسا :
    ـ عبد الناصر زعيم وطني.. حرر البلد من الاستعمار، وأمم شركة قناة السويس، ودعا إلى الوحدة العربية..
    انضم فتحي إلى حمزة في الدفاع عن الزعيم الذي قاد ثورة بيضاء.
    قال عويس في انحياز كامل للرجل الذي آواه :
    ـ يسلم فمك يا عم حمزة..
    احتبست الكلمات التي يريد أمين قولها. إنه لا يقوى على مواجهة هذا الحماس الجارف.. قال في إيماءة غير حاسمة :
    ـ ليس بالحماس وحده...
    ثم سكت. قال فتحي :
    ـ لابد أن تتوحد كلمتنا وتتحد إرادتنا..
    قال أمين في نبرة عالية، بعد أن استمد شيئا من الشجاعة :
    ـ لابد من حرية الرأي..
    رجع فتحي إلى بيته مبلبل الخاطر، مشتت الفكر. يراجع نفسه. يرى فيما قاله صاحبه بعض الحق الذي ينبغي التمسك به. لكنه معجب ـ في الوقت ذاته ـ بحماس حمزة. فكرتان تتجاذبان خاطره. لكل منهما وجاهتها ومنطقها. فهل من طريقة تجمع الميزتين في ماعون واحد ؟!
    توحيد الكلمة وحرية الرأي.. كيف يجتمعان ؟
    رد مع اقتباس  
     

  10. #34 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 33 ـ

    بعد أن أطعم حماره من زكيبة التبن، واستسقاه، ربطه في ذراعيْ العربة الخشبية، وجهز نفسه لرحلة يوم جديد، بعد أن منع حميدة من مصاحبته، حتى لا يتسبب في إرهاقها..
    ـ من اليوم، الزمي البيت.. صحتك أهم..
    ـ طيب.. خذ بالك من نفسك..
    أوصته :
    ـ لا تنسَ قراءة الفاتحة وأنت تمر على سيدي إسماعيل الإمبابي..
    ـ طبعا..
    في الطريق، مر على حمزة يقرئه السلام. فوجئ بجابر يأتي بمفرده. قفز عويس جالسا على العربة قائلا :
    ـ بالإذن يا عم حمزة..
    ابتسم قائلا :
    ـ بالمرة اشترِ لنا خضارا..
    مشى من نفق المنيرة، مستديرا يسارا إلى شارع المحطة، مارا بالضريح.. فنزل ودعا الله أن يعين حميدة في حَمْلها، وقرأ الفاتحة. لم ينس أن يضع في صندوق النذور ما تجود به يده.
    كان عويس رفيق طريق، ارتاح إليه كثيرا. شاغله بأحاديث مرحة. ولما سارا على كوبري إمبابة، سد أذنيه لدي سماعه صفارة القطار، وارتعب من هزات الكوبري أثناء سير القطار.. ضحك جابر :
    ـ الله يجازي شيطانك.. أأنت تخاف من خيالك، أم قلبك خفيف ؟
    ساعده في حمل أقفاص الخضر والفاكهة. كان خفيف الحركة سريع البديهة. وفي رحلة العودة لم ينسَ البلح الأبريمي الذي تحبه حميدة، واشترى لعويس قرطاس جميز. واصلا رحلة العودة، وقد بدأت أشعة الشمس تقوى وتلهب الجلد.
    ـ انشرح قلبي لما شفتك. أحس أنك جئت بالخير كله..
    ـ الله أعلم..
    ـ يا ليت سمّوك مسعد..
    ـ أنا ولد نحس.. كلما مشيت في طريق، ألقاه مسدودا قدامي...
    استرسل يحكي عن قريته " ميت نِمَا " وحياة الجحيم مع زوجة أب لا تطيقه. تدبر له المكائد حتى يقسو عليه أبوه. لم يجد حلا سوى ترك القرية والنزوح إلى القاهرة. دون أن يعلم أحد عنه شيئا. افترش الأرصفة يبيت عليها مع المتشردين والخارجين عن القانون. حتى التقى المعلم سيد سبرتو، الذي عرض عليه أن يؤويه عند حمزة، نظير دفع إتاوة. رضي بشروط المعلم الذي أفهمه أن ما يدفعه له أجرة المبيت. ارتاح لعم حمزة.. دمعت عيناه وهو يقول:
    ـ وجدت فيه أبا حانيا..
    توقف جابر بعد عبوره الكوبري، واستظل بشجرة، بعد أن وضع جوال التبن للحمار. جلسا. استكمل حديثه عن استغلال المعلم سيد. ليس له من وسيلة إلا المبيت عند عم حمزة، حتى يدبر عملا وسكنا. قال جابر :
    ـ حمزة مبسوط منك..
    ـ أنا مستعد أخدمه بعينيّ مقابل مروءته..
    قال جابر ضاحكا :
    ـ وما حكاية الترانزستور ؟
    ـ هو أمانة عنده.. لم أجد مكانا آمنا غير بيته..
    شرد قليلا ثم قال :
    ـ عند ما هربت من القرية، أخذت ملابسي وحاجياتي الشخصية، والترانزستور..
    ـ وماذا عن أبيك ؟
    ـ أشك أنه يبحث عني..
    ـ لِمَ ؟
    ـ ربما فرح برحيلي. فقد حلت المشكلة التي كانت تؤرقه، وخلا الجو له ولزوجته..
    ـ أليس لها أولاد ؟
    ـ اثنان.. طفل عمره ثلاث سنوات، وطفلة لا يزيد عمرها عن سنة واحدة..
    نهضا ليواصلا رحلة العودة إلى حمزة ثم إلى سوق المنيرة، حيث يقف جابر لبيع الخضر والفاكهة، يساعده ـ في هذه المرة ـ عويس. وفي العصر، أعطاه أجره، فعاد إلى عم حمزة شاكرا ربه..
    رد مع اقتباس  
     

  11. #35 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 34 ـ

    دخول الجامعة بالنسبة له بداية حياة جديدة، كما كتب في يومياته. رأى أن الحياة تبتسم له، تعطيه ما يتمنى. في اليوم الأول، حرص على لقائها وإعطائها جدول المحاضرات. عرّفها برقم الفصل الخاص بها، أو " السيكشن " كما يطلقون عليه بالإنجليزية. تجولا في أرجاء الكلية. تعرفا على شئون الطلبة والمكتبة وغرفة العميد وغرفة الوكيل، ومدرج فلسطين المخصص لطلبة إعدادي. ربما كانت الكلية في القديم قصرا أثريا. في المدرج، جلست مارسيل في الصف الأول، صف الطالبات. آثر فتحي الجلوس في المنتصف، حيث تعرف على زميله القادم من بني سويف. حسان ودود بطبعه صريح القول. تآلفا سريعا، وتصادقا..
    تباعدت اللقاءات بين فتحي وأمين.. فقد انصرف الأخير في دروس مدرسة السكة الحديدية، ترقبا للوظيفة، لعله يرفع عن والده المريض مشقة مصاريفه الشخصية، ويعاونه في الأحوال المعيشية. انشغل فتحي بالدراسة الجامعية. لكن التباعد ليس مرغوبا فيه. ففي نية كل منهما تدبير لقاء قريب.
    قنع ثروت بالالتحاق بمعهد زراعي. صلاته بفتحي شبه مقطوعة.. وانشغل مصطفى بنرجس، وتأثيث بيت الزوجية، على أمل تحديد أنسب موعد للزفاف..
    كلما زارها، مر على شيخه وجلس إليه في لقاء سريع يستزيد فيه من علمه الواسع. بحكم ترتيب الأدوار، كان يمر على شيخه أولا ثم يثنّي بها. قالت تداعبه :
    ـ أتمنى أن تبدأ من الدور الرابع..
    ـ أمرّ على شيخي دقائق قليلة، وأجعل زيارتك مسك الختام.
    ابتسمت وطلبت من الشغالة إعداد عصير الليمون.
    تتحول حياتهما من حسن إلى أحسن. ساعدهما التفاهم المشترك بين الأسرتين، والنوايا الحسنة التي لم تشبها شائبة. الكل يرجع ذلك إلى بركة الشيخ التي حلت عليهم. نرجس زاد تألقها وأشرق وجهها أكثر فأكثر..
    حين أرادا تحديد موعد الزفاف، اقترح أن يتم بعد ذكرى المرحومة. لم يبق عليها سوى ثلاثة أسابيع.. وجم الاثنان وجمدت ملامحهما. رجعا إلى اللحظة التي فارقتهما سعاد. هي الحبيبة والأخت والصديقة. هي الحياة الجميلة التي افتقداها. شرعا يقرآن الفاتحة على روحها الطاهرة. قال مصطفى :
    ـ لا شك أنها في ضجعتها الأبدية راضية عن زواجنا. كانت أمنيتها أن أقترن بك..
    أمسكت بيده، ضمتها في راحتيها. شفتاها المرتعشتان تؤكدان في صمتهما أن لا انفصال بينهما إلا بالموت. انهمرت دمعتان فمسحهما بالسبابة..
    ـ الله يرحمها.. سنحيي الذكرى ليلة وفاتها، أول نوفمبر إن شاء الله.. أصر الشيخ محمود أن يتلو القرآن بنفسه.
    خفضت رأسها ناظرة إلى أصابع قدميها :
    ـ تعش وتفتكر..
    أصاب حميدة بعض الآلام فهرع بها إلى المستشفى. قالوا إنها في حاجة إلى راحة تامة وأعطوه أدوية. رجع بها إلى البيت ورجاها ألا تتعب نفسها في شغل البيت. قالت وهي تتوجع :
    ـ الشقة تحتاج إلى تنظيف..
    ـ الراحة مطلوبة، لأجل صحتك والجنين في بطنك..
    ـ حاضر يا جابر..
    ـ لا داعي تقلقي أباكِ.. يكفيه همومه..
    ـ حاضر..
    تردد فتحي وهو يسير وسط الملاهي والألعاب وطاولات البخت التي نصبت في ذكرى إسماعيل الإمبابي. أحس أن وضعه الجديد كطالب جامعي يمنعه من ارتياد أماكن اللهو الرخيص. استرجع ما رآه في العام الماضي. تاق لرؤية الراقصة توحة، ومسرح حمام العطار، والعوّاد الذي قيل إنه كان يعمل في فرقة بديعة مصابني، وصاحب الاسكتشات الفكاهية والنوبي المتضايق دائما من حماته. ألعاب البمب والنشان، بائع الطراطير، كشك الحلاق الذي يجري عمليات الختان للأطفال. بائعو الحمصية والسمسمية والملبن. عربة سندوتشات الجبن والكبدة والبيض والبسطرمة. الفتاة التي ما إن تمسها لمبة الفلوسنت تضيء. عالم عجيب خليط من أشكال وألوان قد لا تتفق فيما بينها. شده العالم الغريب، جاس وسط زحمة المولد، يتفحص وجوه الفقراء البسطاء.. منهم من جاء من قرى بعيدة وافترش الرصيف الملاصق للمقام وعلى امتداده، حاملا معه أواني الأكل والشرب، وحصائر القش مبسوطة على الرصيف، فرشت عليها مخدات وأغطية. حلقة الذكر والمنشدين يلتف حولها النساء والرجال والأطفال. سرت في بدنه رجفة دفعته إلى مسرح حمام العطار. نفس الرجل يعرض بصوته الهادئ ما عرضه في العام الماضي قضى على تردده، وشق لنفسه طريقا مع الداخلين. اقتعد كرسيه وهو يعجب لدوران العام بسرعة، كأن العام انقضى شهرا في حساب الزمن ‍‍! تذكر ثروت وارتياده الملاهي. هو يتعرف على المكان بدافع الفضول. لا ينكر أن الراقصة شبه العارية تجذبه. تحير في أمره. إنه يتصرف بدوافع لا يرضى عنها. إنه ينتصر للفضيلة، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يمانع في رؤية ما يراه بعض الناس من صنوف اللهو، حتى يصدر الحكم بنفسه. لا ينكر أن الكبت يدفعه إلى التحرر من قيود المجتمع.. لذا، يذهب إلى الملاهي والسينما ـ يشاهد أفلاما معينة ـ ولا يذكر شيئا من هذا لأقرب الأقربين منه. أمين مثلا، أخلص أصدقائه، لا يقول له إنه دخل مسرحا أو ملهى أو سينما.. تعيش بداخله شخصية تتناقض في سلوكها مع طبيعته التي يحب أن يظهر بها. منتهى التناقض. دفعه الارتباك إلى الصمت. الرقصة التي يشاهدها تكرار للرقصة التي شاهدها منذ عام. بدلة الرقص هيَ هي لم تتغير. الفرقة الموسيقية التي تصاحب الراقصة، الوجوه والملابس والآلات نفسها.. لا جديد.. الجديد الذي لم يفعله، أن يخرج من الشرنقة التي حبس نفسه داخلها، أن يمزق الأقنعة ويبدو بمظهره وواقعه، لكنه لا يستطيع.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #36 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 35 ـ

    الشغالة التي أحضرها عويس لتخدم في بيت أسرة ثروت، هربت بعد اتهامها بسرقة المجوهرات. أشاع ثروت الخبر لفتحي وآخرين، وادّعى أنها من بلده " ميت نما "، وترضى بقليله. لم يمض أسبوع حتى تركت البيت وهربت غانمة بما سرقت. قال ثروت إن أخاه حرر محضرا ضد عويس والشغالة التي لا يُعرف لها مكان. هرع إلى بيت حمزة عند أول النفق. صارحه بالتهمة. أقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يعرف لها عنوانا. وجدها تتسول في السوق فرأف بحالها، ورحب أهل ثروت بها.
    قال فتحي :
    ـ ألم تقل لثروت إنها من بلدك ؟
    ـ قلت هذا حتى أطمئنه..
    صرخ بأعلى صوته :
    ـ فتحت صدرك لسارقة، وادعيت أنها من بلدك. ستقبض عليك الشرطة.
    قال حمزة والضيق يشتعل في صدره :
    ـ يا عويس.. أريد الابتعاد عن سكة ثروت وعائلته. أنت غاوي مشاكل ؟
    تنهد مستطردا :
    ـ القصد.. أنت تقب وتغطس وتعثر عليها.. ما اسمها ؟
    ـ عزيزة..
    ـ تحضر عزيزة من تحت الأرض، حتى تنفذ بجلدك من محضر الشرطة، وإلا تكون متواطئا معها..
    ـ ما معنى متواطئ ؟
    ـ يعني شريك في الجريمة يا فالح..
    ـ يا نهار ما طلعت له شمس..
    قال فتحي :
    ـ ضروري تبحث عنها، وإلا ستقبض الشرطة عليك وعلى حمزة الرجل الطيب الذي يؤويك..
    ذرع السوق جيئة وذهابا بحثا عنها. سأل البائعين والتجار والشحاذين الذين يفترشون الأرض الترابية باسطين أيديهم. المشكلة التي واجهته أن عزيزة لا يعرفها أحد. يبدو أنها حديثة عهد بالشحاذة. هو لم يرها إلا في هذا اليوم، فصعبت عليه. أحب أن يسدي لها معروفا، بعد أن قصده ثروت في شغالة، فوعده أن يحضر له فتاة أمينة على البيت الذي سوف تخدم فيه.
    اتجه إلى فلاحات يفترشن الأرض وأمامهن المشنات الخوص مليئة بالبامية والملوخية والكوسة وغيرها من الخضر. سأل بائعي الكرشة والفشة والبمبار. سأل بائعي لحم الرأس والمخ والكبدة. سأل الفرارجية والعلافين والعطارين والجزارين. لم يدله أحد عليها. حدث نفسه : " ما الحل إذا لم تجدها ؟ ". أجاب لتوه : " سأرضى بنصيبي وأسلم نفسي للشرطة، وأبعد الشبهة عن الرجل الطيب الذي أدين له بالفضل". سينام في السجن المظلم مع اللصوص وأرباب السوابق المختلفة، ويفترش الأرض. ما عليه من كل هذا، إنه اعتاد البهدلة والهرجلة. اطمأن إلى أنه في السجن سيعطونه طعاما. ربنا لا ينسى عباده. في السجن، لن يسأل عنه أحد. هو مقطوع من شجرة. هاجس يؤكد له أن حمزة رجل شهم، سيأتي له بالطعام من حين لآخر، ويعوض له أكل المساجين. حمزة معجون بالمروءة والشهامة. التقى عددا من البنات، كل واحدة يجد نفسه غير متأكد من أنها عزيزة، جلابة المشاكل. قد تكون إحداهن، لكنه غير متأكد. حدث نفسه : أنت ناقص حيرة.. عيشتك كلها قلق وحيرة. كلما استقرت بك الأحوال، تفاجأ بمصائب تنزل عليك كالقضاء المستعجل. ذرع السوق ـ من جديد ـ ذهابا وجيئة، والشوارع الضيقة المتفرعة منه. التقى خمس بنات في مثل سنها، ولم تواته الشجاعة في التحدث إليهن. غاب عنه شكلها وملامحها. اضطر للرجوع إلى حمزة بخفيْ حنين، مسلما أمره لله، فالسجن داخله لا محالة..
    عاد إلى حمزة مطمئنا إياه بأنه سيعترف أمام القاضي بأن عزيزة من طرفه، وأنه مسئول عن تصرفاتها. أنهى كلامه قائلا :
    ـ أما أنت يا عم حمزة، فأنت لا لك في الدور ولا في الطحين..
    قال وقد صعب عليه حاله :
    ـ أنت ؟ مسئول عن تصرفات عزيزة ؟ أنت حالك يصعب على الكافر.. ليس لك في الدور ولا الطحين.. أنت تفتح صدرك دون ذنب جنيته..
    ـ أنا الذي أتيت بعزيزة...
    هلع الاثنان بطرق عنيف مفاجئ، تقافز عويس بحركة سريعة تنم عن الفزع، استند إلى حافة السرير، بحيث لا يراه الداخل إلا إذا نظر إلى أركان الغرفة كلها. فتح حمزة الباب فإذا بفتاة تصرخ في حدة :
    ـ أين عويس ؟
    ـ من أنتِ ؟
    ـ أنا عزيزة..
    ضرب حمزة كفا بكف من المفاجأة عير المتوقعة، قائلا لعويس :
    ـ جاءت برجليها..
    ـ أريد حقي من عويس، عديم الضمير والأخلاق..
    اتهمت عويس في أخلاقه. ما الحكاية ؟ أهو لغز ؟
    واجهها عويس بحدة :
    ـ أين المجوهرات التي سرقتها ؟
    انخرطت في بكاء متواصل مصحوب بنشيج، ثم قالت :
    ـ سرقتها ؟.. عيب.. نعم أنا بنت فقيرة وعلى باب الله، لكني شريفة. اسأل صاحبك عديم الشرف والأخلاق ماذا فعل...
    قال حمزة متلهفا :
    ـ ماذا فعل ؟
    حكت حكاية ثروت الدنيء الذي حاول الاختلاء بها، فلكمته في صدره، وتملصت منه. هربت من البيت مضحية بتعب وشقاء أسبوع خدمة دون أن تتقاضى مليما واحدا..
    صمتت قليلا، ثم أكملت :
    ـ أول ما التقيت عويس، جريت وراءه، كي آخذ حقي منه..
    فرح حمزة ببراءة عزيزة. إنه يشك في سلوك ثروت منذ رآه يختلي بفتاة أسفل النفق، مما حدا به إلى ضربهما بالعصا الطويلة..
    قال عويس :
    ـ أتصدق ما تقوله عزيزة، بعد ما لهفت الذهب ؟
    أطبقت على زمارة رقبته. كاد يلفظ أنفاسه. قطعت عليه سبل المقاومة، أو حتى أخذ النفَس. كل ما استطاعه أن يحوّل عينيه إلى حمزة يستنجد به. جاهد كي يخلصه من الخناق الملتف حول رقبته، لكن قبضتيها أمسكتا بشدة..
    صرخ فيه :
    ـ بطل هبَل.. البنت دمها حر. واضح أنها صادقة في كل كلمة قالتها..
    استراحت لما قاله حمزة. أنهت الضغط المميت على رقبته. أكمل حمزة :
    ـ لو حصل قضية ومحكمة، سأدافع عن عزيزة بما أعرف عن ثروت، وأدفع للمحامي ما يريد من أتعاب..
    انتقلت حكاية عزيزة من لسان لآخر، ووصلت إلى مصطفى، الذي انتفض لما سمع، هرع إلى صبري ـ شقيق ثروت ـ يحذره من مجون أخيه..
    نمى إلى علم الفتوة حكاية عزيزة. اشتكى له حمزة وعويس ومصطفى. عرفت بنفوذه فلجأت إليه تحكي ما حدث من طأطأ لسلام عليكم، فوعدها بإنهاء الموضوع. أحس الجميع بحاجتهم لسيد سبرتو يقف في صفهم في هذا الموقف، الذي تتهم فيه بنت بريئة. الكل يعرف أنه يجمع إتاوات ينفقها على نفسه وعلى رجاله.. لكنه ـ في نظرهم ـ يذود عن شرف أهل الحي ويدفع عنهم المكائد. بدأوا يتقربون إليه، ويرددون في أنفسهم : " إن جاءت على الفلوس، أمرها بسيط ".. المهم أننا نلجأ إليه حين نفتقد الأمان. يجمع الأموال، لكنه ضد السرقة وما يمس العرض والشرف. رأى حمزة في المعلم ملاذا آمنا، ورجلا يعتمد عليه في الشدائد والملمات.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 22/03/2009, 02:44 PM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 05:09 PM
  3. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 09:28 AM
  4. الأميرة دعاء
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03/01/2008, 03:53 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •