الرد على الموضوع
صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 51

الموضوع: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

  1. #13 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 12 ـ

    لجأ إلى ملاذه الأمين حين تتعثر به السبل. مَن غيره يقدر على الاستماع إلى مزيد من الأخطاء والذنوب ؟ كان أمين لا يشكو من شيء، لكنه يندم على عدم تحصيله للدروس. ثمة مغاليق تستعصي على الفهم. أشار عَرَضا إلى بعض ما يعاني. تحول فتحي بالحديث إلى ما يقلقه، إلى ما أخطأ فيه. يسأله المشورة ! لا يملك أمين حلا لمشكلة صاحبه سوى أن يدع الأمور تمشي خبط عشواء. من العيب أن يفعل هذا، لكن ما حدث قد حدث.
    ـ آه من وخز الضمير..
    عبارة رددها فتحي كثيرا. قال أمين:
    ـ لن تستطيع إعلان الحقيقة..
    ـ إطلاقا..
    غرق الصديقان في لجة الحيرة. انتهى اللقاء كمعظم لقاءاتهما دون حل. عاد فتحي إلى البيت مارا ببيت ليلى. لمحها وهي تدخل فنكس رأسه ناظرا إلى الأرض. أحس أنها كشفته. أحس أنه وغد، عديم الإحساس. كيف يتصرف إن هي واجهته بفعلته الدنيئة ؟ لكن ما الذي يجعلها تكتشف ؟ ربما خطه يفضحه.
    لا.. إطلاقا.. إنه كتب الرسالة بيده اليسرى. كما أنها ليست خبيرة بخطه.
    لم يسبق أن كتب أمامها شيئا، لا باليمنى ولا باليسرى. دخلت إلى البيت.
    بدأ يرفع رأسه.. لحظات مريرة لم يواجه مثلها في حياته.
    ساءت العلاقة بين أم أحمد وجارتها أم عثمان. بدأت الأولى تنعزل عن الجيران، بعد أن كانت تحب أن تسأل عن جاراتها..
    بعد أسبوع من الخطاب المكيدة، أعلنت خطوبة ليلى على كويتي. اقتصر الحفل على الأسرة، ولم يدع أحد من الجيران. تلاحقت الأحداث. وعلم أن ليلى تزوجت بعد الخطوبة بأسبوع وسافرت مع زوجها إلى بلده.
    احتضن الفراغ. من التفاهة أن يقدم المرء على فعلة حمقاء ثم يندم عليها. ماذا أفدت ؟ لم تظفر بها أنت أو جارك الأسمر. سافَرَتْ إلى بلد بعيد حيث لا يراها أحد. أم أحمد أراحتك من عواطفك المضطربة ونفسك القلقة. حسمت الموقف حتى تستر ابنتها من كل عين شامتة.
    بدأ ينعزل عن العالم الخارجي.
    يقبع بغرفته ويكتب أحاسيسه المضطربة. بدأ يكتب عن الملاك الذي طار بجناحين كسيرين إلى البعيد. لمن تغرد أيها الطائر المسكين ؟ من يسمع أناتك ؟ حكى لأمين فصول النهاية لمأساة حبه. تجرأ ـ هذا الكتوم ـ ليبوح بقصة حبه الصامتة لبنت الجيران عايدة. لأول مرة يتكلم. ماتت قصة حبه وهي جنين. ماتت لأنها لم تجد من يرعاها. هي قصة حب من طرف واحد. قال فتحي:
    ـ لكنك لم تكتب مثل هذه الرسالة الحاقدة.
    تنصت إلى حديث أمه مع جارتها عن الألم الذي لحق بها وابنتها من الرسالة الخبيثة التي حملها الموزع. مواجع لم تخطر على بالها، حتى إن أباها حرّم عليها الخروج من باب البيت أو أن تطل من الشرفة. حبسها في البيت وأتى لها بعريس الغفلة الذي طار بها إلى بلده فرحا بصيده الثمين ! كأنه شمشون الجبار هدم المعبد عليه وعلى أحبائه، لكنه لم يهدمه على أعدائه ! لم يواتِ أمها ذرة شك فيه، هكذا استنتج، وارتاح لاستنتاجه. لكن قوارص الندم عاجلته على فعلته التي لا تغتفر. ولا يملك تكفيرا لذنبه إلا كراسة اليومية يكتب سطور الندم على ما فعل، سطورا لا يقرؤها أحد غيره.
    بل تعقدت الأمور أكثر، حين قالت له أمه إن جارتهم أشارت على زوجها ببيع البيت والانتقال إلى سكن آخر خارج إمبابة. كاد يعترف بأنه الجاني، دفعه إلى ذلك غيرته على ليلى.
    أحس بضيق في صدره. حتى أمه لا يستطيع أن يقول لها شيئا.. كتم مواجعه، حتى ما باح به لأمين لم يفده بشيء.. اختلى بنفسه أشبه بالعائش في جزيرة معزولة عن البشر، ومن حوله تلاطمت أمواج عاتية. انشغل بقراءة المجلات القديمة التي يحتفظ بها. أدار المذياع وأنصت إلى برنامج الأغاني الخفيف "من كل فيلم أغنية". تسلى بأغنيات خفيفة ممتعة. ثم عاود الكتابة عن محنته في اليوميات التي خص بها نفسه لا يطلع عليها أحدا.
    لن يريحه إلا كتابة اعتذار لليلى. لكن ليلى تعيش الآن في الكويت، ولا يمكن أن يسأل عن عنوانها، أو يكتب لزوجة غيره شيئا. هل يعتذر لأمها ؟ كيف يفضح سرا ستره الله؟ عثمان هذا الغريم بدا عليه أنه حرّم على نفسه الوقوف بالشرفة، ربما حذره أبوه أو أمه من دخولها..
    كل الطرق للاعتذار مغلقة. كل الطرق الممكنة للبوح بما فعل لا يجرؤ على الاقتراب منها، سوى طريق واحدة هي كتابة أحاسيسه على الورق. مجرد يوميات يدونها ويشبع بها نفسه بالقراءة..


    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 13 ـ

    في الليلة التالية للحلم الكابوس، حلم بزلزال يرج الأرض تحت قدميه، كأنه ساقط في غور كثبان رملية. تغوص قدماه إلى أسفل، والمباني فوقه تتهاوى على أم رأسه، يمد كفيه يدرأ عن نفسه سقوطها. يصرخ طالبا النجدة. صوته يمزق أجواء الفضاء. يتهاوى حجر ضخم، فيغطي رأسه بكفيه، متوهما أنه يدرأ خطرا محدقا. يسقط الحجر الضخم عند قدميه. يحمد الله على أن الحجر لم يسقط فوقه. يحمد الله كثيرا. تنظر عيناه إلى الحائط الماثل أمامه، فوجده سليما. كان قد صحا من نومه. أدرك أن الزلزال لم يكن إلا نسج حلم مخيف متشابكة خيوطه كالعنكبوت، أشبه بالكابوس.
    تنهد في ارتياح حين صحا من نومه ونفض غطاءه وتلاشى كابوسه.
    لكنه قلق من الأحلام المخيفة. قد تكون نبوءة لحادثة جسيمة، أشبه بمأساة التروللي، أو أنها من تداعيات المأساة ذاتها. جدار النفق يشكل إحدى الجدران الأربعة لغرزته وبيته الصغير. أتاه جابر بجلبابه الواسع. جلس يحدثه عن أحوال حميدة، وزهدها في الأكل. نفسها مصدودة. أغفل التعقيب، وحوّله إلى موضوع الحلم بالزلزال. قال جابر:
    ـ لم نسمع طول عمرنا بزلزال يحدث في مصر.. فأل الله ولا فألك.. بلدنا بعيدة..
    هجم عليهما سيد سبرتو بزعابيبه وهيجانه وتعليقاته الساخرة. في هذه المرة هجم على المجلس محذرا :
    ـ إياك تقول كابوس..
    ـ زلزال..
    ـ أأنت موعود ؟.. المفروض تعمل زارا كالحريم..
    وأطلق ضحكة هستيرية.
    ـ أنا خائف من النفق..
    سأل سيد:
    ـ نفق ؟ ماله ؟
    ـ يقع. يحصل له هدم..
    طمأنه جابر:
    ـ ليس بعد مرور القطار فوقه كلام آخر..
    قال متوجسا:
    ـ قلبي لا يطاوعني..
    قال سيد:
    ـ قل إنك خائف على " عشتك " يحصل لها حاجة..
    وخبط جدار النفق من داخل الغرفة، وقال:
    ـ جامد.. حديد..
    أطرق لحظات ثم قال:
    ـ ألم تسمع عما جرى للشيخ محمود ؟
    قال في خوف:
    ـ ماذا جرى ؟
    ـ قبضوا عليه..
    ـ ماذا فعل ؟
    ـ اشتباه أنه من جماعة الإخوان..
    وجم الثلاثة.. قطع جابر الصمت القاتل:
    ـ شيخ جليل، متعمق في الدين..
    ـ ألهذا قبضوا عليه ؟
    ـ ربما هناك أمور تخفى علينا..
    قال سيد، بلهجة العليم ببواطن الأمور:
    ـ قبضوا عليه البارحة بعد أن أمّ الناس لصلاة العشاء. كان في طريقه للبيت..
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 14 ـ

    لم يعد الشيخ يؤم المصلين. ظن مصطفى أن نزلة برد أصابته. سأل خادم مسجد زيدان، قال إنه لا يعرف..
    قال مصطفى للإمام الجديد:
    ـ كان يخطب الجمعة أول أمس، وصلى بنا العشاء وأوتر.
    ـ أريد أن أطمئن عليه..
    استغرب..
    ـ أأنت أيضا لا تعرف شيئا ؟
    تنهد الإمام وقال:
    ـ قد نعرف أخباره غدا..
    ـ ألم يعتذر ؟
    أومأ بصمت حذر.
    حواره مع الإمام الجديد شابه عدم الفهم وتقطع الكلمات. رأى أن يسأل عنه..
    استغرب غموض الموقف. همس أحد الشيوخ في أذنه:
    ـ لا تحاول الذهاب إليه..
    ـ لا أحاول.. ما الخبر ؟
    ـ سنغلق المسجد حالا..
    همس في أذنه بعد أن تلفت حواليه واطمأن إلى عدم وجود أشخاص:
    ـ لعلك تعلم أن سيد قطب مقبوض عليه منذ أربعة شهور.. يبدو أنهم يقبضون على رفاقه، وكل من له صلة بالجماعة. ربما قبض على شيخنا ضمن من يقبضون عليهم..
    خرج وفي رأسه تتصارع الأفكار عن مصير الشيخ الغائب، الذي كانت كلماته بلسما وشفاء.
    سأل عنه البقال المجاور للمسجد. أجاب باقتضاب:
    ـ لا تسأل عنه هذه الأيام..
    ـ لماذا ؟
    ـ أصله مقبوض عليه..
    ـ لم ؟
    ـ لا أعرف..
    قال صاحب البقالة وهو ينصرف:
    ـ لا تقل لأحد إنني أعطيتك عنوانه.
    ضحك من خوفه المتزايد وقال:
    ـ لم أكن في حاجة إلى العنوان. أعرف بيته جيدا..
    كيف لا يعرف عنوانه وهو يسكن في الطابق الثالث، ونرجس في الرابع. لم يدخل البيت قط. لكن نرجس دائمة الحديث معه عن جيرانهم، ومنهم هذا الشيخ المؤمن..
    أسرع الخطى إلى بيت الشيخ. التقى بزوجته التي أكدت الخبر بأنه قبض عليه عقب صلاة العشاء، ولا تعرف مكانه، ولا تعرف سببا. قالت كلماتها بصوت هامس لا يسمعه أحد غيره.
    عاد إلى البيت مبلبل الخاطر، لا يعرف إلى أين يلجأ. حكى لأبيه ما حدث فقال في أسى:
    ـ البلد ليس فيها أمان..
    ـ قبضوا على الرجل الطيب..
    سرح به الخاطر في أحوال الدنيا. لقد أحب الشيخ برغم قصر المدة التي عرفه فيها. إنه النافذة التي أطل منها على أمور كان يجهلها. تمنى لو أكمل تعليمه ليستطيع التفقه في الدين. قال لأمه إنه يتمنى أن يكمل تعليمه مثل فتحي وأمين، ويتعمق في الدين أكثر فأكثر..
    دعت له من قلبها أن ينير الله طريقه ويشرح صدره بالإيمان..
    إن كان موت سعاد أدمى قلبه، فقد ابتلاه الله بجرح ثان، بمحنة شيخه الجليل.. "حماك الله وكشف عنا الغمة، وهدانا جميعا إلى الطريق القويم".. أكثر من الصلاة والدعاء. طفق يرتل الآيات الثلاث من سورة البقرة التي أسهب الشيخ في شرحها له عن ابتلاء المؤمن. حقا يا شيخنا المؤمن مصاب، ليختبر الله قوة إيمانه..
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 15 ـ

    احتدم النقاش بين الصاحبيْن، حين أخبرهما حمزة باختفاء الشيخ محمود. لم يلتقياه، إنما سمعا عنه. لا يعرفانه حق المعرفة. لكنهما أثارا قضية زوار الفجر الذين يقبضون على أشخاص دون تهمة أو محاكمة, تعرض أمين إلى قضيته الأثيرة، فتحدث مع صاحبه عن الديكتاتورية التي تتحكم في أقدار الرجال. بلد بلا ديمقراطية، لا وزن لها ولا قيمة. لابد من الرأي الآخر.. لابد..
    طفق يحدثه محتدا، وهو يهوي بقبضة يده، من حين لآخر، على السطح الصدئ للمنضدة، فترتج رجا، كأنما تتوجع من المناقشة الساخنة. دافع فتحي عن الزعيم الذي يحبه، عن جمال عبد الناصر. أيده حمزة. قال إنه بطل العروبة، والانتصارات. سكتا عن النقاش ليستمعا إلى خطبة حمزة الحماسية. حدثهما عن اشتراكه في المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد. استنفرته خطب الزعيم، فقيّد اسمه ضمن المتطوعين. ذهب إلى هناك بإرادته واختياره. لم يجبره أحد. أعاد على مسامعهما ما سبق أن قاله لهما ولجميع الناس عن إصابته برصاصة. رفع جلبابه ليكشف فخذه، يريهما أثر الندبة التي أحدثها الجرح. وكيف استخرجوا الرصاصة من لحمه. تحدث مزهوا.. قال:
    ـ لا أنسى خطبته في الجامع الأزهر، وصرخته المدوية : "سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم أبدا..".
    برغم كل شيء تمسك أمين بموقفه.. تشدد.. حتى يبدو لمن يرى الصاحبيْن، أنهما سيفترقان ولن يلتقيا بعد اليوم.. افترقا وكل متمسك بموقفه.. اكتسى وجهاهما بسحب قاتمة. حتى إنهما نسيا أن يحددا موعدا للقاء آخر، كما اعتادا في كل مرة..
    التمس أمين طريق العودة إلى بيته، مكفهر الوجه. أحس أنه يعزف عزفا منفردا للحن لا يطرب أحدا. أما فتحي، فقد كره تعصب صاحبه ضد الزعيم الذي أحبه.. أحبه لمواقفه الصلبة، لمحاربته الاستعمار، لاعتزازه بالكرامة، لرغبته الأكيدة في تحرير شعبه من قوى البغي والعدوان. كما أن صاحبه انتقده لتصرفه غير اللائق مع ليلى. هو جامد الإحساس لا يدري لغة القلوب !
    عاد فتحي إلى بيته متبرما من صاحبه. لكنه ـ أيضا ـ يلوم نفسه على تصرفه غير الأخلاقي، ومع مَنْ، مع أعز وأغلى البنات. إلا أن الندم لا يفيد بعد ما وقعت الفأس في الرأس.. كما أن ليلى ليست ملكه، إنها في أحضان رجل آخر، وفي بلد بعيد.. ما كان قد كان. عليه أن يتصالح مع واقعه ويدع أحلام اليقظة والانزواء والانطواء. عليه أن يواجه ذاته. هو يلوم نفسه لأنه أحب سعاد حين رآها أول مرة. صادفت هوى في نفسه، قبل أن تنطق بكلمة واحدة ! هل يتخاصم مع نفسه، أم يراجع تصرفاته ؟ التطهر مطلوب. مكاشفة النفس من الفضائل. أمين لا يستغني عنه. ما أكثر ما احتدما وتخاصما لكنهما يرجعان صاحبين، إلفين متلازمين. حدث نفسه عن خيوط الوهم التي ربطته بليلى، أو هذا الحب من طرف واحد ! إنه كتوم مع الآخرين، ثرثار مع أمين، كأن صاحبه مرآة يرى فيها نفسه، يراجع فيها هندامه، يهذب فيها مشاعره.. عيب أمين أنه لا يحب عبد الناصر.. لو أنه أحبه لأصبح خلا وفيا.. هذا عيبه. ليته يتخلص منه.. ليتك يا أمين تتخلص منه ! حدثه في هذا كثيرا فما ازداد إلا تشبثا واعتزازا بموقفه، واعتبرها قضيته التي لا يتنازل عنها، حتى لو انطبقت السماء على الأرض ! وفي المقابل يرى أن حبه لعبد الناصر لا يعادله حب، لنفرض أن هناك بعض الأخطاء لكنها تغتفر لوجه الزعيم الذي أحبه.. يعجب به لمبادئه ودعوته لوحدة الأمة العربية، وتصديه للعجرفة الاستعمارية، أليس هو صاحب المقولة : "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"..؟ أليس هو نصير الفقراء والبسطاء؟.. إنه من أسرة موظف بسيط، رفع جمال رأسه عاليا وجعل التميز بالعمل.. كان أجدى بأمين وأبوه معدم أن يؤيد الزعيم، وحاله الاجتماعي أصعب من حاله، أو كما يقول المثل " حاله يصعب على الكافر " !
    تمضي الأيام، وفتحي يتعذب لما فعل. إنه لا ينسى. وتأتي الأيام بخبر ساءه، فقد ارتحلت أسرة ليلى من المنزل الذي يؤويهم، واستأجروا شقة في العجوزة. أجّرا المنزل بسبعة جنيهات كل شهر. أخيرا، أسدل الستار على الأسرة بكاملها. ودّعتها أمه خير ما يكون الوداع، وتبادلا الدعوات بالتزاور. أما أبوه فلم تسمح له ظروف عمله أن يشارك في مراسم التوديع. انطوى لائذا بغرفته، خجلا من نفسه. أحس أنه سيرتبك إذا صافح أم أحمد وأولادها، أو أنه سيتلعثم و تنكشف المكيدة..
    لماذا لا ينوع في علاقاته بالأصدقاء ؟.. لماذا قدر عليه أن يلازم أمين ؟ لماذا لا يلتقي ثروت ومصطفى مثلما يلتقي أمين ؟ عرفت قدماه الطريق إلى مصطفى.. المكلوم في أخته..
    أشياء كثيرة تغيرت في حياته. لم يعد هذا الشاب المستهتر الذي تسنح له الظروف بالتعرف على البنات، حتى نرجس حبه الأخير، حبه الصادق.. زهد في السؤال عنها.. ترى من يسأله بعد أخته، التي كانت حمامة السلام بينهما ؟ كانت تقول، تؤكد :
    ـ اخترت لك نرجس أعز الصديقات لتكون زوجة، لا نزوة.
    عاهدها بأن تكون محطته الأخيرة. لم تسترح لقوله "محطته الأخيرة".. فاعتذر لها وقال "حبي الأخير".. بدأ حبه لنرجس يغزو قلبه، ليس لأن أخته أملت عليه ذلك، إنما استشعر فيها البنت الطيبة الوفية.. لكن.. من يحمل رسائله إليها ؟ من غير سعاد يستأمنها على أسراره ؟
    فوجئ بفتحي يأتيه من غير موعد. رحب به. قال وهو يهم بالجلوس:
    ـ لماذا أطلقت لحيتك ؟
    ـ أهملت حلاقتها لما ماتت أختي، وها أنا أهمل حلاقتها بعد ما فجعت في شيخنا.. الهم لما يكثر...
    ـ لابد أن وراء الشيخ سرا خطيرا..
    ـ لا خطير ولا حاجة.. كل ما هنالك أنه يفسر كلام الله، وهو خير الكلام.. فوجدوا فيما قال دعوة لعصيان الحاكم.. ونسوا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. سمعت...
    وأكمل بصوت مهموس حتى لا تسمعه الحيطان..!
    ـ والعهدة على الراوي.. سمعت أنه سب عبد الناصر..
    قال مصطفى متضايقا:
    ـ دسيسة من حاقد.. أو ربما تكون إشاعة.. كثرت الأقاويل المتضاربة عن الشيخ.. قد سمعت أنه حددت إقامته في داره، لا يخرج منها ولا يزوره أحد. وفهم أهل البيت هذا التوجه فالتزموا بالحيطة حتى لا يتعرضوا للانتقام من السلطة..
    قال فتحي:
    ـ لعل المقصود منعه من إلقاء خطبة الجمعة..
    وافقه مصطفى:
    ـ كثرت الشائعات، ولم نعد نعرف أين الحقيقة ؟
    عقب فتحي:
    ـ على رأيك.. كثرت الشائعات..
    فرك يديه كأنه يغتسل بالماء وهو حائر حزين.. ودعا الله أن يقيل الشيخ من عثرته.
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 16 ـ

    نهض من نومه فزعا، إثر حلمه المتكرر. انهار النفق. تهاوت أحجاره. لم ينبئه الحلم عن تشققات تنذر بكارثة محتملة، إنما أفزعه بالانهيار الكامل. التراب المنبعث دخانا حجب عنه رؤية المشهد. قام يرتجف. نطق بالشهادتين، ثم أوقد شمعة. جلس في ضوئها الشاحب، متدثرا ببطانية، ما بين اليقظة والمنام.. لم يكمل نومه.. أعمل الفكر في الكابوس الذي يأتيه بصورة متكررة. تنصت والليل ينتصف إلى كلمات هامسة بين اثنين. نهض مرتابا. هل يحلم من جديد ؟ ارتدى الطاقية والكوفية وخرج، فرأى عن بعد شبحين يسيران تحت النفق. تسمّر مكانه مستغربا، فما عهد رِجْلا تسير في مثل هذا الوقت إلا عسكري الدورية، كل ساعة أو ساعتين. نادرا ما كان يقطع النفق بخطواته الرتيبة. عند انتصاف الليل يلجأ إلى ركن يلوذ به اتقاء لسعات البرد. تتبعت عيناه الخطوات. غريب أمر الاثنين، يسيران في الليل الدامس، والشوارع خالية تماما من المارة. رجع إلى غرفته يحتمي فيها من برد الليل. لم يشأ إضاءة المصباح، حيث اعتاد أن ينام في الظلام، مكتفيا بشمعة يوقدها وهو راقد على السرير. نادرا ما كان يضئ المصباح الكهربائي. يستعمله أول الليل حتى ينام. وإذا قلق بعد ذلك يضئ الشمعة. ما هي إلا دقائق معدودات، ثم طاوعته قدماه ليخرج، كي يتحسس النفق. ربما حدث ما لا تحمد عقباه. لم يجد شيئا. النفق قائم في مكانه كالجبل الأشم. سار في اتجاه المنتصف. ما هي إلا خطوات قليلة حتى لمح الشبحين يقفان في منتصفه، وقد اتخذا الليل ستارا. احتضن الشاب فتاة متحسسا مفاتنها. كانا في وضع مشين.. لك الله يا نفق المنيرة. هل صرت موطئا لكل من هب ودب ؟ هل أصبحت مكانا للدعارة ؟ نكص على عقبيه مسرعا، دون أن يسمع له صوت، وأحضر العصا الطويلة. كتم أنفاسه وهو سائر عائدا إليهما، مفاجئا الاثنين بضربات متتالية موجعة، صارخا بقوة:
    ـ هي البلد ناقصة ؟
    صعقا من هول المفاجأة. أحسا بشبح يهبط من السماء. ظنت البنت أنه عفريت. صرخت وجرت هلعا. جرى الشاب في أثرها، هاربا من لسعات العصا. وقف الرجل وقفة صلبة خوفا من أن يرجعا لممارسة الرذيلة. وإذا بصوت الشرطي يقبل نحوه حين سمع الصراخ. سمع صوت حذائه الميري يدب على الأرض، وصوته ينادي:
    ـ من هناك ؟
    ـ أنا حمزة يا شاويش..
    اقترب منه.. استطرد:
    ـ قلة أدب.. بنت وولد يمارسان الرذيلة في نص الليل. ماذا لو أضاءت الحكومة لمبة أو فانوسا؟
    رجع مع الشرطي الذي استأنس به فأكمل معه وردية الليل. دعاه لشرب الشاي، فلبى الدعوة. جلس في الغرزة يحتمي فيها من البرد، ويأنس برفقته. انتهز الفرصة وحكى له الحلم المزعج المتكرر، عن انهيار النفق. قال:
    ـ يمكنك يا شاويش إبلاغ المسئولين للكشف على النفق.. يمكن الحلم نبوءة لمأساة جديدة محتملة..
    ـ مجرد حلم.. مستحيل أن ينهار النفق.. لن يصدقني أحد..
    قال حمزة:
    ـ ومن كان يصدق أن التروللي سيقع في النيل ؟ قلبي لا يطاوعني يا شاويش..
    ـ خليها على الله
    ـ ونعم بالله
    استمتع الشرطي بصحبته. امتد بينهما الحديث في أمور شتى، حتى سمعا صوت المؤذن يأتي من مسجد زيدان والمساجد القريبة. استأذن قائلا:
    ـ ليتك تلقي نظرة إلى النفق، ربما رجع الملعونان..
    ـ خلاص.. الفجر طلع والدنيا أمان..
    ودع رفيق الليل، وتوضأ لصلاة الصبح، ثم خرج يتبين النفق، ويتحسس جداره. رآه ليلا في صورة ضبابية لا تكشف عن شيء. عندما يتنفس الصبح، ينحسر ضباب الليل، وتنقشع غيومه. الصورة الآن أوضح. تأكد له أن النفق نظيف، خال من الأرجل الفاسقة، وأنه سليم !.. تنهد في راحة من قلق مستبد !..
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 17 ـ

    توجه إلى مسجد زيدان ليصلي الجمعة. لن يعتلي الشيخ محمود المنبر، لن يؤم المصلين. أنصت للخطيب الجديد، الموفد من وزارة الأوقاف. كان حذرا في كلامه الموجز. ركز في خطبته على طاعة ولاة أمورنا، فطاعتهم واجبة. وأنهى الخطبة القصيرة بالدعاء للمسلمين، ولزعيم البلاد أن يحفظه ويعينه في تحمل أعباء الحكم. كأن الشيخ الجديد يقرأ من ورقة مكتوبة، يتعجل النزول من على المنبر. لكَ الله يا شيخنا العزيز.. أين أنت الآن ؟ تُرى، هل تلزم دارك كما يقول البعض ؟
    أمّ الشيخ أهل الدار، زوجته وأمه وأولاده الثلاثة لصلاة المغرب، بعد أن فرغوا من الصلاة، انصرفت الزوجة لإعداد العشاء، وانصرف الأولاد يستذكرون دروسهم، بينا جلست الأم على الكنبة البلدي تدعو الله أن يزيل الكربة ويكشف الغمة. انزعجت لصوت طَرْق على الباب. قلقت الزوجة. خرجت من المطبخ إلى الصالة. الشيخ يتجه ناحية الباب، إلا أن زوجته نبهته ألا يترك غرفته حتى تنجلي الأمور. لم تتردد الأم المسنة في الاتجاه إلى الباب، وإن سيطر الخوف عليها. سألت:
    ـ من بالباب ؟
    ـ أريد الشيخ..
    ـ اترك اسمك في ورقة وسنبلغه حين يعود..
    ـ أنا واثق أنه موجود.. لا داعي للإنكار يا حاجة.. أنا لست مخبرا.. أنا من مريدي الشيخ.. هل تحرمينني لقاءه ؟
    ثم تناهى إليه صوته الحبيب:
    ـ أدخليه.. إنه مصطفى..
    قالت الأم الرؤوم همسا، وهي تفسح له الطريق:
    ـ ألا تخشَى أن تكون مراقبا ؟
    ـ لا يهمني..
    قال الشيخ:
    ـ أخاف عليك..
    ـ وأنا قلق عليك..
    ـ الحمد لله.. أستغل وقتي في الاستزادة من معاني القرآن، وإعادة قراءته المرة بعد المرة. كلما قرأت أحسست في الآيات عذوبة وحلاوة، كأني أقرؤها لأول مرة.. كما شغلتني السيرة النبوية العطرة، صلى الله على صاحبها وسلم.
    ـ بودي أن أسألك، إذا سمحت لي..
    ـ تفضل..
    ـ مم تعيش ؟
    ـ أولاد الخير كثيرون..
    قال مصطفى مطيبا خاطره:
    ـ شدة وتزول.. المؤمن مصاب سيدنا الشيخ..
    ـ من أكون أنا ؟ هل نسيت ما فعلوه بالشيخ الباقوري ؟ فرضوا عليه عزلة نتيجة وشاية أو وشايات، وانصرف عنه الصحاب وأصحاب الحاجات. أشاعوا عنه أنه منحرف السلوك. أعوذ بالله مما يرجفون. ألزموه داره وجردوه من مناصبه. أبعدوه عن الوزارة وأتوا بآخر. كان ذلك منذ سنوات عديدة..
    ـ يخيل إليّ يا شيخنا أن الأخيار ينكل بهم، وحفظة القرآن والدعاة ترصدهم العيون..
    ـ إنهم يدّعون أن السياسة لا صلة لها بالدين، لكن.. تطرفوا في سوء ظنهم بالناس..
    إلا أن الشيخ الباقوري لم يعدم الخل الوفي الذي لم يأبه بالحاكم، فزار صديقه مخففا عنه مصابه. وفي هذا قال لمعي المطيعي في الجزء الثاني من كتابه " هؤلاء الرجال من مصر " : " إن المهندس أحمد الشرباصي أصر في وفاء نادر على أن يزور صديقه وبصفة متصلة، وأبلغ ذلك للسلطان الذي تظاهر بالموافقة وأثنى على وفاء الشرباصي ".
    حين همّ بالاستئذان، نصحه الشيخ قائلا:
    ـ لا تحاول أن تكرر الزيارة، حتى لا يضعون اسمك في القائمة السوداء.
    احتضن الشيخ والدموع تترقرق في عينيه.. سأله إن كان في حاجة إلى شيء.. ثم أعطاه أمانة، أرسلها له أحباؤه ومريدوه.. مبلغا من المال يكفي لإعاشته شهرا أو أكثر.. تردد في أخذه، لولا إلحاح مصطفى الذي قال:
    ـ من خيرك وعطائك.. الكل يذكرك بالخير، ويحبك..
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 18 ـ

    ما أكثر تردد الأسطى سيد على بيت حسين النجار، يطلب منه التدخل كي يواظب مصطفى على عمله. لم يكن لدي الأب حيلة. ما أكثر نصائحه بأن الحزن لن يعيد إلينا أحباءنا. قال مصطفى :
    ـ بصراحة.. مللت العمل مع "الجزمجية".
    ـ مضى عامان على شغلك مع الأسطى سيد. أنت الذي ارتضيت هذه المهنة ولم ترض العمل معي في النجارة. أنت الذي أحببت هذه المهنة..
    ـ كنت أحبها...
    تدخلت الأم قائلة لزوجها:
    ـ عندي حل.. يتعلم النجارة في ورشتك وتبقى الورشة ـ بعد عمر طويل ـ ورشته..
    بادر مصطفى بالموافقة.. تنهد الأب حاسما الأمر مع ابنه:
    ـ على بركة الله.. من بكرة تنزل معي..
    ـ لك عندي أكون في الورشة في الثامنة صباحا..
    التفت الأب إلى زوجته:
    ـ أما الأسطى سيد.. فهو "يشتري خاطري".. الأفضل أعتذر له، وأقول له الحقيقة..
    زارهم سيد دون موعد، بعد يومين من زيارته الأولى. رحب به حسين. أجلسه بجانبه، ربت على ظهره، شاكرا تفضله بالزيارة..
    ـ كنت على وشك زيارتك.. سبقتني بالفضل..
    رتب كلمات اعتذار، لكن سيد لم يمهله..
    ـ يهمني مصلحته..
    فاجأهم مصطفى الذي عاد لتوه من الخارج محترق الأعصاب، ملتهب الأحاسيس. علا صراخه:
    ـ ظلم.. ظلم.. ظلم..
    وجم الاثنان. عملا على تهدئته كي يفهما الموضوع.. قال بصوت مخنوق:
    ـ علمت أن الشيخ محمود اعتقل..
    حين عاد إليه هدوءه، نقل ما سمعه من زوجته...
    بعد أن صلى الفجر في بيته، سمع طرقا على الباب. فتحت الزوجة فدخل ضابط واثنان من العسكر. قال الضابط : "لديّ أمر بالقبض على محمود عبد الرازق ..". همت بالصراخ فنهرها الضابط برفق.. أشار بكفه على رقبته، أي أن جزاء الصوات هو القتل بلا رحمة. كتمت الزوجة صوتها وهي تنتفض..
    خرج الشيخ بعباءته واقتادوه في عربة جيب إلى حيث لا يدري أحد مكانه، وخلّف زوجة تبكيه وأولادا صغارا يصرخون ويبكون..
    نكس حسين وسيد رأسيهما. ران على مجلسهما صمت قاتل. طفقا يطيبان خاطر مصطفى، يخففان عنه همومه..
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 19 ـ

    عند انصرافه من المدرسة، قرر العودة بمفرده، لتغيب أمين اليوم. لم تكن لديه رغبة في اصطحاب ثروت ـ كالمعتاد ـ حتى منتصف الطريق، إلا أنه فرض نفسه حين التقاه. لديه شحنة هائلة من الخواطر والأحاسيس لا يأتمن عليها أحدا سوى أمين، برغم خصومتهما الفكرية، التي ظهرت بوضوح عند لقائهما مع حمزة. بدأ ثروت حديثه بشكواه من أنه لم يفتح كتابا. قال فتحي متضاحكا:
    ـ اطلع منها..
    استرسل يحكي مغامراته العاطفية مع البنات، والكتب الصفراء التي أدمن قراءتها. ذكر فتحي ما قاله حمزة عن شاب وفتاة، والعلقة الساخنة التي تلقياها منه في منتصف الليل. صمت صاحبه للمفاجأة. ظن أنه يكشفه، فقال مندفعا:
    ـ أنا المقصود..
    ـ أنت ؟
    قال مهونا:
    ـ بعقله خلل. أنا غيّرت المكان.
    ـ أين ؟
    ـ الأماكن كثيرة.. تحت السلم، أو عند سور مستشفى الحميات، أو الأرض الخلاء المجاورة للنفق..
    أوقفه عند ركن، ليريه صورا فاضحة.. علق فتحي:
    ـ لو شافها عم حمزة، كان خنقك..
    دس الصور في جيبه، مبديا استياءه:
    ـ هل يرى نفسه مصلحا اجتماعيا ؟ حمزة شبع من الدنيا.. نحن شباب صغير، نريد أن نتمتع ونأخذ حظنا..
    ـ هل تواجهه ؟
    ـ لا يا عم.. أستأذن.. وأكمِلْ سكتك لوحدك..
    مر على حمزة الجالس على كرسي فألقى عليه التحية، وعرج على المنيرة، قاصدا أمين يسأل عن سبب تغيبه. أفرغ ما في جعبته من حكايات تخصه. لم ينس أن يحكي حكاية ثروت الذي شبع ضربا هو وعشيقته ! مر أمين بفترة تراخ وتكاسل عن الذهاب إلى المدرسة. شكا لصاحبه من المذاكرة. كثيرا ما تتوه منه السطور ويشرد في الدنيا..
    اتفقا على زيارة مصطفى الذي اختفى عنهما. رحب بهما وروى لهما عن اعتقال شيخه. تطرق الثلاثة إلى الظلم الذي حاق به. ولما استيقظ حسين من نوم الظهيرة، أحب أن يجالسهم، ناصحا إياهم بعدم الخوض فيما جرى للشيخ مع أحد.
    رجع عصرا ونام وهو يمني نفسه بالمذاكرة في المساء، فالنصف الأول من العام قارب على الانتهاء. من المهم أن يذاكر، ويحصل على مجموع كبير، تعويضا عن السنة التي أعادها. صادف عثمان قرب عتبة البيت، فنكس رأسه متحاشيا النظر إليه.
    أقلق نومه صوت حديث متبادل بين أبويه، يتأرجح بين الهمس غير المسموع، والحدة التي تقترب من الزعيق. تنصّت قدر جهده. أبوه يعرض بيع البيت ويستأجر شقة، حتى ينهي الضائقة المالية التي تنغص عليه حياته.. ويدفع أقساط البيت المتأخرة سنة كاملة، ويسدد الديون المتراكمة. الأم تحذره من بيعه، فالبيت " يؤوينا جميعا " ـ على حد قولها ـ والأولاد السبعة لن تسعهم شقة مؤجرة. عرضت الذهاب إلى أخيها تطلب منه مبلغا من المال. اكتفى بما سمع، وأجفل عينيه. شرد به الخاطر إلى ما يعانيه أبوه. فلماذا يهمل في دراسته ؟ لم يشعره أبوه بقسوة المعيشة بدخل متواضع. إنهما يعانيان في صمت مذهل ! لماذا يضيع الوقت ؟ أمه الحانية تحدب عليه، كلما رأته منكبا على دروسه تسأله إن كان يريد شايا، وتظل ساهرة ترعاه. هو الابن البكر الذي انعقدت عيه الآمال.
    أمين مكافح مثله. لكن الحظ العاثر لازمه فرسب في الثانوية العامة. وثروت لاهٍ مستهتر. أما مصطفى فقد صدم مرتين.. الأولى في غرق أخته، والثانية في اعتقال مريده الشيخ.. أفاق لواقعه الجديد.. وبعد أن كان يعوض عدم استكمال تعليمه بالتعرف إلى البنات اللاتي يتقاطرن على محل إصلاح الأحذية والصنادل، اكتفى بنرجس أملا يراوده في الزواج منها. لكن فتحي غير متأكد من مشاعر مصطفى تجاه حبيبته. لم تأت مناسبة للحديث معه في هذا. حتى نرجس نفسها قدّرت أحزانه ولاذت بالصمت. هي الأخرى فجعت في صديقتها وزميلتها. المصاب مصابها أيضا.
    أما أنت يا فتحي.. إنك تحب من طرف واحد. كأنك تجري وراء سراب. لم تشأ أن تصارح من تحب بمكنونات فؤادك. ليلى أحببتها من طرف واحد. يبدو أن الجيرة دافعك للتعلق بها. وإذا كانت جارتك ليلى أخرى، لهمت بها شوقا، وتبتلت بحبها. وسعاد، حين وقع بصرك عليها أول مرة، وقعت في حبها، ولم تبرأ بعد من حبك لليلى ! تعلقت بسعاد، ونسيت حبك لليلى ! إن ينسَ فلا ينسى تعليق أمين اللاذع على غرامياته:
    ـ كلما رأيت بنتا أو عرفتها، أعجبت بها وأحببتها..
    تعبير ساخر أفاقه من حالة الحب التي يعيشها في الخيال ! ليلى تزوجت وسافرت مع زوجها إلى بلده، فماذا جرى للدنيا ؟ لا شيء. الدنيا تسير في فلكها المرسوم. وماذا عن حياته ؟ هل مات من قسوة البعاد ؟ هل احتج لبعادها وأضرب عن الطعام ؟ هل سهرت عيونه لم تنم ؟ لم يحدث شئ من هذا، وسارت الحياة. دع عنك كل هذا. انظر إلى حال أبويك. ما سمعته عن ضائقتهما المالية يجعلك تفكر في تغيير المسار. هل تستطيع ؟
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 20 ـ

    تشبث بالفرصة المواتية، حين قال أبوه كلمة عارضة:
    ـ أتمنى أفرح بك..
    وقالت أمه في لهفة:
    ـ نفسي ومنى عيني..
    بادرهما:
    ـ أنا فعلا أفكر في الزواج.
    نظر بطرف عينه إلى زوجته الثكلى، قائلا:
    ـ اختاري له يا ست الكل..
    ـ ربنا يجبر بخاطرك.. مصطفى يستأهل أحلى البنات..
    سألها وهو يتحسس شاربه:
    ـ من ؟
    ـ ليس هناك سواها.. فاطمة بنت عمه..
    ـ أتمنى..
    وجم. اكفهر وجهه. قال في حسم:
    ـ أنا اخترت واحدة ثانية..
    ـ أهناك بنت أحلى من بنت عمك ؟
    نكس رأسه، مثبتا عينيه في الأرض:
    ساد صمت مشوب بالذهول، قطعه الأب قائلا:
    ـ يعني بنت عمك وحشة..
    ـ يا بخت من يتزوجها. لكن الموقف عندي مختلف. أنا...
    بعد تردد طويل:
    ـ أنا أعامل فاطمة كأختي..
    بعد صمت محير، قال بلهجة قاطعة:
    ـ أنا اخترت نرجس..
    قبل أن يدافع عن اختياره، بادرت الأم:
    ـ فكرتني بالمرحومة.. كانت صاحبتها الروح بالروح..
    وانبجست دمعتان جائرتان، خيم بعدها صمت حزين !
    رفع رأسه متشجعا وقال:
    ـ لا تنسوا أن أختي اختارتها لي..
    جلست بجانبه واحتضنته، متنازلة عن رغبتها. وجم الأب وقد أخرسه تبدل الحال. استسلم، وقد شاب تفكيره بعض التردد. قال:
    ـ أنا لا أعرف أسرتها، ومستواها الاجتماعي بالنسبة لنا...
    ـ هي تحبني وأنا أحبها..
    أشرق وجه الأم بابتسامة الرضا. قال الأب:
    ـ على بركة الله.. ويفعل الله ما يشاء..
    أحس بسعادة غامرة. اختلى بنفسه، مستلقيا على السرير، يستدني طيف أخته، حين تمنت أن يتزوج نرجس، واثقة أنها ستغير من طباعه وتحوله إلى إنسان آخر. نعم، صدقت سعاد فيما قالت. إنه يتشبث بها، يراها عالمه الأثير. انصرف عن اللهو التافه، وارتضى بها حبيبة. أسعده أكثر فرح أبويه. اقتنعا بسهولة، وباركا الزواج. يكفي أنها كانت صديقة سعاد. يكفي أنها اختارتها له. هي وصية غالية يجدر به العمل بها. الله يرحمك يا سعاد. الفاتحة على روحك..
    نهض عن الفراش رافعا يديه في اتجاه القبلة، وقرأ الفاتحة.. عمّ الارتياح الثلاثة. تملكتهم بهجة آسرة زغردت في قلوبهم، وإن كان الأب لم ير نرجس ! ود لو يطير بالفرحة إليها.
    اختلى بابنه في المساء. انشغل أكثر منه.. كأن الأب هو الذي سيتزوج. سأله عن تفاصيل كثيرة. طمأنه بأنه سيساعده بالمال. بدأت الأم الثكلى تفرح وإن لم تخلع ثوبها الأسود، وما خلعت طرحتها السوداء. أقلقت زوجها في الصباح الباكر، في السادسة والنصف. نهض ونظر إلى المنبه، ثم أكمل نومه قائلا:
    ـ أنا أصحو، كما تعلمين في السابعة..
    هزت كتفه:
    ـ أريد أن أتكلم معك يا حسين قبل ما تروح الورشة..
    ـ فيم ؟
    نهض وهو يفرك عينيه، منصتا لها:
    ـ نطلب من مصطفى يحدد موعد الزيارة..
    ـ متى ؟
    ـ اليوم..
    ـ بهذه السرعة ؟
    ـ خير البر عاجله..
    ـ البنت تلميذة..
    ـ نشبكها لغاية ما تأخذ الشهادة..
    همس في حيرة:
    ـ في أي سنة ؟
    ـ ثالثة ثانوي تجاري..
    أطرق واجما.. تريثت لعله ينطق حرفا واحدا. سألت:
    ـ فيم تفكر ؟
    ـ ولا حاجة. لكن.. مصطفى لم يأخذ أي شهادة..
    ـ وما له.. صنايعي.. والصنعة مستقبله..
    تحاشى التعليق. قالت تحسم الأمر:
    ـ سأطلب من مصطفى تحديد موعد مع أبيها..
    استسلم دون ارتياح.. عاد يكمل نومه، لكن القلق ساوره وطيّر النوم من عينيه. نهض يتناول شايه وإفطاره، ثم ارتدى المعطف الأصفر، وذهب إلى الورشة، ولسان حاله يردد : "ليفعل الله ما يريد".
    طار بجناحي الشوق إلى فتحي، الذي انزوى هذه الأيام، قاطعا عهدا بأن يعوض ما فاته من دروس بالسهر المتواصل، وهجر الأصحاب. إلا أن الزيارة المفاجئة فرضت نفسها. جلس واضعا ساقا على ساق، وقد اتسع صدره، بفعل إحساس جديد ساوره بأنه على أعتاب الزواج ! صارحه بعزمه التقدم لخطبة نرجس. زهرة العمر المتفتحة المشرقة.. منية النفس.. قال فتحي ناصحا:
    ـ لم يمض الأربعون يوما على وفاة أختك..
    كيف فاته هذا، وفات أمه وأباه ؟ أخذ يحسب كم مضى على الفاجعة.. ثلاثون يوما بالتمام والكمال.. إذن، ليس ثمة مشكلة.. لينتظر عشرة أيام أخرى.. لينتظر أسبوعين، ثم يتقدم لوالدها. سأل فتحي:
    ـ كيف حال الشيخ محمود ؟
    ـ انقطعت أخباره. اقتصرت الزيارة على زوجته وأولاده على فترات متباعدة.
    ـ كان الله في عونه..
    لحظات صمت انقطع فيها الكلام، يندفع بعدها قائلا:
    ـ جئتك لأمر يقلقني..
    ـ خيرا إن شاء الله..
    ـ أنت تعلم أنني لم أكمل تعليمي…
    ـ لكنك تشتغل.. كنت أتمنى أن أشتغل مثلك، لأخفف العبء عن والدي، وأتزوج ليلى.. فتقدم غيري وتزوجها..
    شرد فتحي في بحر الحياة المتلاطمة أمواجه..
    ـ أحدثك عن شيء آخر.. هل تقبلني زوجا...؟!
    قاطعه قبل أن يكمل سؤاله:
    ـ الحب يصنع المعجزات.. لا شيء يمنعك من الارتباط بها.. ما دمت تحبها وهي تحبك.. الحب يصنع المعجزات.. الحب يصنع المعجزات..
    قال كلماته في حماس منقطع النظير، كأنه يهتف في مظاهرة حاشدة !
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 21 ـ

    لا يدري كيف طاوع سيد سبرتو ووافقه. بدأت الحكاية بما يرويه حمزة لكل الناس عن الكابوس الذي يجثم على صدره، وأن نفق المنيرة ينهار، أو به تشققات تنذر بالخطر. رغم أن الكل يطمئنه بأن الخطر المحتمل مجرد مخاوف لا أساس لها من الصحة.
    استمع سيد سبرتو لهذه الحكاية مرات كثيرة..
    ـ هي تهيؤات..
    ثم جال في الغرفة الضيقة بنظرة خبير متمعن لقوالب الطوب المبنية بها جدران الحجرة، والأسمنت غير المحكم الموضوع بينها. بدت الفراغات تجاويف غير منتظمة، وثمة نتوءات أسمنتية. وفي الحمام والطرقة رشح مياه بدا أثره على الجدران. قال في حسم:
    ـ شقتك آيلة للسقوط، وليس النفق..
    ـ كانت عشا بناه مزارع بالتبن والطين، دون أن يأخذ أجرا.. ثم أعدت بناءها على حسابي بالطوب..
    تطلع إلى سقف تنتظم فيه قوالب خشبية تبدو فيها آثار شقوق متفاوتة الطول..
    اقترح عليه أن يغطي الطوب بمحارة أسمنتية، ويكسو الأرضية بالبلاط.. استوقفه في الكلام:
    ـ على مهلك..
    بادره:
    ـ لو عملت المحارة والبلاط، لن يزورك الكابوس. الخلل في الحجرة الفطيس التي حبست نفسك فيها.. وليس لها منفذ هواء..
    أشار حمزة إلى الكوة الصغيرة المغلقة بشيش خشبي..
    عارضه:
    ـ وأنت الصادق، هي أشبه بزنزانة المساجين..!
    صعد على كرسي خشبي، وفتح دلفة الشيش..
    ـ يا سلام لو الحيطان بالمحارة.. لو توافقني.. الحجرة تنوّر، وتنزاح الكوابيس التي تخنقك كل يوم. أما البلاط...
    قاطعه :
    ـ لا.. تكفي المحارة..
    بسط يده ليأخذ العربون، في إشارة إلى أنه سيقوم بدور المقاول.. نقده ثلاثة جنيهات، وادخر الجنيه الرابع يدبر به حاله. بدأ سبرتو في نقل الأثاث المتواضع في الشارع.. سرير وكنبة وكرسيين.. والمرتبة والمخدات.. في حركة سريعة.. عاونه حمزة.. وعده أن يحضر المونة والأنفار.. أوفى بوعده بعامل واحد، أحضر معه الأسمنت والرمل، وأدوات الصنعة المتواضعة. واعدا حمزة ببدء العمل صباحا..
    يبدو أن حمزة تورط. لم يعجب حميدة وضع أبيها الذي أذعن لسيد سبرتو، وأعطاه فرصة التعامل معه. ليس وراءه إلا المشاكل والمصائب. طلبت منه أن يقيم في شقتها مؤقتا، فاعتذر وقال إنه لابد أن يباشر عمل الصنايعية. اختفى سيد سبرتو، تاركا عويس يعجن المونة ويطرطش الأسمنت قبل طبقة المحارة السميكة.
    عويس يأكل ويشرب مع حمزة، ويطلب منه السجائر "عيني عينك".. وفي آخر النهار، ينصرف بعد أن يأخذ البقشيش.. يبدو أنه يدفع أجرة عويس بأسلوب آخر. ولما سأله إن كان سبرتو أعطاه أجرا، قال في مودة ووضوح :
    ـ البركة فيك يا عم حمزة..
    رضخ للوضع الجديد، محدثا نفسه : "أيام وتعدّي".. فليس هناك حل آخر، "يلمّ به الدور".. حتى يتسلم بيته بالمحارة. كما أنه يتحاشى مواجهة الفتوة. رأى أن الحل في مهادنة عويس والرضا بما قسمه الله. شرح لعويس الوضع المأساوي الذي هو فيه، في عز الشتاء.. إلا أنه بدا شخصا غريب الأطوار، فهو يعمل بتؤدة، وتطوع أن يبيت معه ليؤنسه، ويكمل شغله ! فهم حمزة أن رفيقه لا مأوى له، ولا عمل.. ولا مصدر دخل يعيش به. رق لحاله. أحس أنه أيسر حالا منه، بفضل مكسبه من الغرزة. معيشته مستورة بحمد الله، إذا قارن حاله بحال هذا العامل البائس. وأكبر في الفتوة شهامته في تدبير عمل لمثل هؤلاء المساكين ! إزاء هذا الإحساس لا يملك إلا استضافته والإكثار من الحفاوة به. ما إن يحل الغروب، حتى يتناوب أقداح الشاي معه.. ووجدها فرصة ليحكي تفصيلا حياته وخاصة اشتراكه في أعمال المقاومة الشعبية ببور سعيد. وأنه أطلق رصاص بندقيته على جندي مظلات هبط فجأة. أراه أثر الرصاصة التي صوبت نحوه وأصابت فخذه. وفي ليلة أخرى حدثه عن كوابيس الليل التي تؤرقه. أحضر عويس ملابسه في صرة صغيرة. بدأ حمزة يتعاون معه، فيناوله قصعة المونة، وهو واقف على السلم، واكتسب خبرة في خلط الأسمنت بالرمل، وكيف يخمّر المونة..
    زارهما سبرتو، فأعجب بالتعاون المثمر بينهما، ولهف جنيهين آخرين، وتغدى معهما من حلة المسقّعة التي أعدتها حميدة، فأتى الثلاثة على الحلة عن آخرها، إلا من بقايا دمعة بدت آثارا تدل على الوجبة الشهية التي امتلأت بها بطونهم. أمسك عويس بآخر رغيف عيش، ليغمس به هذه البقايا. ثم نهض يعدّ الشاي..
    أصبح من واجبات عمله التي لم يكلفه بها أحد، إعداد الشاي له ولحمزة، وتعدى ذلك إلى زبائن الغرزة أيضا. مساعدة منه، في الأوقات التي لا يعمل فيها.
    اقترح عليه أن يأتي له بجهاز ترانزستور يسليه، جهاز مستعمل لن يكلفه أكثر من جنيهين. بادر بالرفض لضيق ذات اليد. أغراه بالدفع عندما يفرجها الله. إلا أنه تشبث بموقفه قائلا:
    ـ لا أحب أن أكون مديونا لأحد..
    ـ طيب.. تقسيط..
    ـ ولا تقسيط..
    ـ طيب أحضر ترانزستور من عند واحد صاحبي..
    ـ وتأخذه بعد ذلك..
    أومأ بالإيجاب، وإن كان لا يعرف متى سيترك عويس بيته، ويعفيه من هذه الضيافة الثقيلة المكلفة ؟ إنه أشبه بـ "اللصقة الأمريكاني"، أو أنه "احتلال مقنّع".. لكنه كتم في قلبه وصبر، إلى أن يحلها الذي لا يغفل ولا ينام.
    قارب العمل على الانتهاء، وإن كان سيره بطيئا جدا، أبطأ من مشية السلحفاة. استنزف عويس نقوده جنيها فآخر. والوجبة التي كانت تكفيه وحده، بدأ يعدّها لاثنين. زادت المصاريف وأثقلت كاهله. شرد قليلا، وأخذ يحسب لو أحضر بنفسه أمهر صانع في البلد، فسوف ينجز عمله في يومين فقط، وينهي عمله بطريقة ممتازة، ويكلفه ربع ما يتكلفه الآن. راجع نفسه بأن عويس معدم ويعتبر العطف عليه ثوابا يجزيه الله عليه.
    مضى أسبوعان حتى انتهى عويس من عمل المحارة. قال حمزة في أدب:
    ـ ستكون لك وحشة..
    ـ أبدا.. أنا ممكن أعاونك في الغرزة، ونبقى شركاء !
    قال مصدوما:
    ـ شركاء ؟
    ـ أجل..
    ـ لما أشوف المعلم سبرتو..
    أول ما رآه مقبلا عليه قال متضايقا:
    ـ هلل عويس عامل محارة، أم احتلال بريطاني ؟
    حكى له الحكاية من طأطأ لسلام عليكم. بينما تشاغل عويس في سماع أغنية لأم كلثوم من الترانزستور، متظاهرا بأنه لا يسمع الحديث الجانبي، إلا أن آذانه منصتة لما يقولان..
    قال سيد:
    ـ أنا أخذت فيه مقلبا. على كل حال، سأراضيه بخمسة جنيهات..
    ـ هذا كثير يا معلم.. أنا دفعت الكثير..
    ـ طيب أعطني جنيهين وأكمل الباقي من جيبي، حتى أطرده بكرامة..
    ـ كرامة ؟
    رضخ حمزة، وأعطاه الجنيهين، آملا أن يكونا آخر ما يدفع دون وجه حق. همس في أذن حمزة وهو يجمع حاجياته في صرة من القماش:
    ـ أترك الترانزستور أمانة عندك، يسليك في وحدتك، ويبقى في الحفظ والصون..
    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 22 ـ

    فارق حمزة هذا الشاب الذي دخل حياته منذ أيام قليلة، وقلب بيته رأسا على عقب.. فقد غطى الطوب الأحمر بمحارة أشاعت في نفسه الراحة النفسية، كما ترك عويس ترانزستور يؤنسه في وحدته. ثمة بهجة بعد وحشة، أو هي البهجة التي لم يعهدها. لم يتوقع أن تبتسم له الحياة يوما ما. ورغم ثقل الضيف وإقامته الجبرية دون رغبة من صاحب البيت، إلا أنه لا ينكر التغيير الذي طرأ على حياته. وفي الوقت نفسه، تنفس الصعداء عند مغادرته البيت. وشبه رحيله برحيل الاحتلال الإنجليزي عن البلد.. رحلوا مرتين، الأولى عام 1954، والثانية بعد انتهاء العدوان الثلاثي عام 1956.. ورنت من جديد عبارة الزعيم جمال عبد الناصر : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. وسنبني تاريخا ومستقبلا..
    قد يكون لعويس عيوب، منها تدخله السافر في حياته، ورغبته في إقامة مستديمة معه، حيث لا بيت له، ولا مأوى، على حد قوله.. إلا أنه ترك بصماته بحلوها ومرها.
    زارته حميدة بعد أن خلا بيت أبيها من " الرجْل الغريبة " كما قالت.. أعجبت بالمحارة والونس الذي أحدثه الترانزستور.. قال لها :
    ـ لأول مرة لم يزرني الكابوس..
    ـ فأل الله ولا فألك.. نشكر عويس الذي أرسله الله ليبدل حياتك..
    ـ لكنه ترك الترانزستور، كمسمار جحا، عساه يحضر في أي وقت ليأخذه..
    ـ كل وقت وله أذان..
    بدأت حميدة ترتب فرش السرير والكنبة، وتكنس وتمسح البلاط، وتضيف لمسات المرأة فيما لم تفلح فيه لمسات عويس..
    ـ البيت بقى جنة.. يشرح القلب..
    ابتسم حمزة منشرح الصدر، سألها عن صحتها، ففهمت ما يعنيه :
    ـ لم يأذن الله بعد..
    ـ فرج الله قريب..
    ـ ونعم بالله..
    ـ وكيف حال جابر ؟
    ـ إنه لا يشير من قريب أو بعيد، لكني أحس في عينيه وفي نبرات صوته رغبة في الإنجاب.. صبر طويلا..
    لم تستطع أن تمنع دموعها من الهطول..
    ـ اصبري يا حميدة..
    ـ أنا صابرة يا أبي، وراضية بحكم الله.. إنما جابر..
    بعد لحظات شرود، قالت والألم يعتصر قلبها :
    ـ تعرف يا به إذا أحب جابر أن يتزوج بأخرى، لن أمانع.. لن أمانع في أن أعيش مع ضرة.. المهم ربنا يعطيه ولدا.. لست أمانع في شيء، حتى لو طلقني ليتزوج غيري..
    أجهشت ببكاء حاد ونشيج متواصل..
    ـ لا حول ولا قوة إلا بالله
    نكس رأسه متألما. أحست حميدة بالألم الدفين. أحبت تغيير الحديث. تركت أباها يتمدد على الكنبة، وتمددت هي على السرير..
    ـ ماذا عن حلمك المفزع عن النفق المهدود ؟
    ـ الولد عويس الله يجازيه، عمل لي غسيل مخ، لدرجة خلتني أنسى الكابوس إياه..
    ـ أنا حاسة إن الحلم فسر. الحلم بشرى بأنك تجدد البيت.. لعل النفق المقصود منه البيت الذي جددته..
    لم يشغل نفسه كثيرا، قال بلا اهتمام :
    ـ ربما..
    ـ ينقص البيت البلاط للأرضية، بدل ردم التراب..
    ـ أنتِ تتكلمين على طريقة المعلم وعويس.. عويس أعلن استعداده أن يبلط الأرضية..
    ـ أيفهم في هذا ؟
    ـ إنه يقول عن نفسه إنه صاحب سبع صنائع، لكن البخت ضائع..!
    فوجئ بقدوم مصطفى في زيارة غير متوقعة.. تململت حميدة مستأذنة..
    ـ اِجلسي.. معنا.. مصطفى ليس غريبا..
    ـ ما غريب إلا الشيطان.. كيف حالك يا مصطفى ؟
    ـ الحمد لله..
    عرض مصطفى ما يحيره ويشغله. ليس لديه موضوع سواه، أن يتقدم للزواج من نرجس، مهجة القلب.. وما في ذلك يا مصطفى ؟ أبدا، لا شيء.. إنه يخشى أن يرفض طلبه. ولماذا تتوقع الرفض ؟ قال فيما قال :
    ـ الحمد لله إن الست حميدة معنا، فنستنير برأيها..
    قالت تشد أزره :
    ـ لا يعيب الرجل إلا جيبه..
    ـ الحمد لله.. انتظمت في العمل بورشة أبي. بدأ يعتمد عليّ في شغل الورشة. وأعمل على اكتساب خبرة في شغل النجارة. أستطيع الاعتماد على نفسي.
    قال حمزة :
    ـ توكل على الله..
    كرر ما قاله لفتحي، إنها في الثانوية التجارية، وهو بدون مؤهل. قال حمزة :
    ـ بلغني أنك كنت تتماشى معها، وأنها تحبك..
    ـ رأيت أن التقدم لخطبتها تصحيح لمسار حياتي..
    ـ وفقك الله..
    يمر مصطفى بأزمة نفسية حادة، ذلك أنه يعلق آمالا كبارا في أن يتزوجها. طلب من أبيه تأجيل الزيارة حتى يرتب الأمور. هو مبلبل الخاطر، يسأل كل من يلتقيه حلا للمشكلة التي تؤرقه. إنه يحبها ويتمنى أن يتزوجها. هذه وصية أخته، وما قاله الشيخ قبل اعتقاله..
    ـ زواجك منها إعلاء لحبك لها وحبها لك..
    رتب مع جارها رأفت صديقه، ليتفق على موعد للزيارة. جاءه الرد بأنهم يفكرون.. مضت عدة أيام كأنها الدهر، حتى جاءه رأفت باش الوجه :
    ـ قالوا لي يتفضل هو وأسرته..
    ـ متى ؟
    ـ في الوقت الذي تريد..
    ـ اليوم..
    ضحك رأفت قائلا :
    ـ اترك لهم فرصة اليوم..
    ـ غدا..
    ـ ليكن بعد غد.. الاثنين..
    احتضنه في فرح، وطار بالخبر إلى أبويه. بدا راغبا في معانقة كل من يلتقيه..
    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 23 ـ

    سبقته الفرحة إلى بيتها. اصطحب والديه في مسيرة قصيرة عبر شوارع المنيرة الضيقة، مرورا بمسجد زيدان، حاملا معه " زيارة " من الحلوى والملبس والشيكولاتة والشربات. راجع أمه، ربما نسي نوعا آخر. استقبلهم أبوها وعمها. جلسوا في غرفة الاستقبال، يزينها صالون إبيسون فرنسي الطراز، مذهب الحواف والأرجل. تجمّل الأرضية سجادة حمراء منقوشة بزخارف ومنمنمات دقيقة. تبودلت التحايا وعبارات المجاملة. كان عمها أكثرهم حديثا، معرفا بنفسه، شارحا سكنه في بيت العائلة القديم بالقلعة. متحدثا عن عمله في المقاولات منذ شبابه.
    قدم مصطفى نفسه ببساطة وتواضع :
    ـ نجار في ورشة أبي..
    قال أبوه :
    ـ إنها ورشته..
    قالت أم نرجس :
    ـ ربنا يطيل عمرك..
    أعرب عن استعداده لكل ما يطلب منه. سأل الأسطى حسين عن طلباتهم وشروطهم. أجاب الأستاذ فريد :
    ـ لما تحضر بنتي وأمها..
    بادره الأسطى حسين :
    ـ نرجس بنتنا، نعرفها عز المعرفة..
    تنهد للجرح الذي لم يندمل :
    ـ كانت صاحبة سعاد..
    ـ الله يرحمها يا أبو مصطفى..
    دخلت نرجس الشقراء، تسبقها ابتسامتها ورقتها، مخلفة وراء ظهرها شلالا من أسلاك الذهب، مشطته وأسدلته على شكل ذيل حصان. سلمت على الوالدين يدا بيد، ثم مدت يدها إليه، ضغط عليها بحرارة، رانيا إلى عينيها الزرقاوين، كأنه يقول لها : " ها أنذا أفي بوعدي، وآتي خاطبا ".. اتسعت ابتسامتها دون أن تنبس بكلمة.
    جلست إلى جواره. ثم تبعتها أمها التي أخذت تحييهم.. وساد صمت قطعه أبو مصطفى :
    ـ أهلا عروستنا..
    ـ أهلا يا عمي..
    ضحك عمها قائلا :
    ـ من اليوم، أصبح لك عَمّان..
    توجه أبو مصطفى إلى والدها طالبا الموافقة على خطوبة نرجس لابنه. قال كلماته بلهجة رسمية، كأنه يخطب في حشد من الناس. رحب فريد، وعلت الابتسامات على الوجوه. بعدها ساد صمت قصير.، ثم قال حسين :
    ـ طلباتكم واجبة..
    قال فريد وهو يضبط النظارة في مكانها :
    ـ ليست لنا طلبات..
    قالت أمها :
    ـ البنت بنتكم..
    أضاف الأب :
    ـ نوصل نرجس لغاية البيت بكل ما تحتاجه وزيادة.
    حاولوا الخروج من حصار المجاملات للاتفاق على التفاصيل. انحصرت طلبات فريد في المهر ومؤخر الصداق وقائمة الأثاث..
    حين طلب حسين تحديد موعد الخطوبة، قال فريد :
    ـ جارنا الشيخ محمود، كما تعلمون، متغيب عن بيته منذ فترة.. لذا نحن مضطرون إلى إرجاء الفرح لحين رجوعه بالسلامة..
    قال مصطفى بحماس :
    ـ إن شاء الله يرجع، ويعم الفرح..
    قال حسين :
    ـ طيب نقرأ الفاتحة..
    انطلقت بعدها زغاريد أم نرجس، وامتنعت أم مصطفى قائلة :
    ـ لولا القلب مجروح، كنت...
    انهمرت رغما عنها دمعة حزن، أخفتها سريعا، ثم تغلبت عليها بإطلاق زغرودة قصيرة، ثم قالت :
    ـ العمر لكِ يا نرجس.. العمر لكَ يا مصطفى..
    قالت أم نرجس :
    ـ ربنا يصبّرك..
    همست في أذن أمها بكلمة، فأخفت ضحكة مباغتة. قالت لها :
    ـ قولي له ما تريدين..
    نكست رأسها في الأرض، لائذة بالصمت. تحللت أمها من رفضها وقالت لمصطفى :
    ـ نرجس تريد أن تكلمك في موضوع...
    ـ تفضلي...
    ـ لا.. تريدك على انفراد..
    قال الأستاذ فريد :
    ـ تفضل يا مصطفى معها في غرفتها.. ربما تريد أن تطلعك على غرفتها..
    ـ طبعا...
    نهض، ونهضت في أثره. شيعتها أمها بضحكة من القلب :
    ـ بنات آخر زمن..
    قال الأستاذ فريد :
    ـ خليها براحتها..
    دخلت سنية الشغالة بصينية الشربات تطوف بها على الجالسين، ثم قدمت طبق الفواكه، وآخر به بيتي فور وكعك وغريبة..
    انخلع قلب مصطفى لهذا الاستدعاء غير المألوف. هل تتراجع نرجس وترفض الزيجة ؟ كان بإمكانها إلغاء الزيارة وتصارح أهلها بذلك.. أما وقد قرأ الجميع الفاتحة، فلا يحق لها أن... لكن... لابد أن يسمع ما لا تريد قوله أمام الآخرين، حتى لو آلمه. خفف وطأة الألم الذي يعانيه. طفق يجول في غرفتها النظيفة المرتبة، متفحصا محتوياتها. لم ير غرفة بهذا الجمال. الشقة كلها تشي بغنى الأسرة وبحبوحة العيش. أسرتها متوسطة ميسورة الحال. سرير نرجس مغطى بمفرش مطرز بورود ذات ألوان زاهية. في الحائط المقابل للسرير دولاب الملابس، ومكتب للمذاكرة. ثمة منضدة تتوسط الغرفة عليها زهرية، وحولها ثلاثة كراسي. تتدلى من السقف نجفة تتدلى منها حبات كريستال متلألئة. أصغر من نجفة الصالون قليلا، لكنها تشبهها في الأناقة والجمال. جلسا حول المنضدة، وتبادلا نظرات صامتة قبل أن يتكلما. لاحظ إطارا مذهبا يتصدر الكومودينو، وضعت داخله صورة لأعز الصديقات.. تناول الصورة واحتضنها، ثم قبلها. قال في ارتياح وحنان :
    ـ نرجس.. أنا تحت أمرك..
    ابتسمت قائلة :
    ـ هل تحبني مثلما تحبها ؟
    ـ كل الحب..
    ـ والماضي ؟
    ـ أي ماض ؟
    ـ أعرف أن لكَ مغامرات عاطفية..
    ـ طيش شباب وانتهى حين التقيتك..
    ـ طيب إياك تنظر لواحدة غيري..
    ـ حاضر يا أحلى البنات..
    نظرت في عينيه تستكشف صدقه، ارتأتهما مرآتين صافيتين..
    أضاف :
    ـ تقدري تقولي إنه كان لعب عيال..
    ـ نِفْسي أصدقك..
    ـ وحياتك عندي..
    تناولت مصحفا من على المكتب، وقالت :
    ـ طيب احلف على المصحف..
    ـ على أي شيء أحلف ؟
    ـ احلف وخلاص..
    تضاحكا.. ثم قال والضحكة تغمر وجهه كله :
    ـ طيب وحياة كتاب الله...
    تداركت فأكملت :
    ـ احلف إن ما قلناه في هذه الغرفة لا يقال لأحد..
    أقسم لها كما طلبت وعجز عن كتم الضحكات، أتت أمها على صوتها.. مستأذنة :
    ـ أَدخل يا أولاد ؟
    ـ ادخلي يا نينة..
    ـ علام تضحكان ؟
    ـ لا شيء..
    ـ يعني.. سر ؟
    أكملت نرجس، مصممة :
    ـ والسر في بير..
    دخلت أمه هي الأخرى تستطلع الخبر، فبادرتها أم نرجس :
    ـ خير يا أم مصطفى.. شيء من الدلع، لا أكثر ولا أقل..
    ـ ربنا يفرحكم العمر كله..
    وكانت ليلة من أحلى ليالي العمر..
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 22/03/2009, 03:44 PM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 06:09 PM
  3. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 10:28 AM
  4. الأميرة دعاء
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03/01/2008, 04:53 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •