(1)
خمن أن نهاية الصداقة الطارئة، حين يهبط أحدهما ـ قبل الآخر ـ في المحطة التي يريدها. لكنهما نزلا في المحطة نفسها. سارا، وتكلما، ودعته لزيارتها.
اعتاد النزول من الأتوبيس في شارع سليم الأول. يخلف وراءه سوق الخضر والبنايات المتوسطة الارتفاع، ومحال بيع الأدوات الكهربائية والأقمشة والخردوات، ومبني كنيسة اللاتين. يميل إلي شارع نصوح الهندي. يخترق تقاطعه مع طومانباي. يستعيد ملاحظته عن الغبار الذي يضيع حرصه علي لمعة الحذاء. تبطئ خطواته أمام بناية حديثة البناء، أمامها بقايا حديد التسليح، وشقفات الطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت والرمال والزلط.
علي اليسار، بالقرب من نهاية الشارع، تطالعه الحديقة الصغيرة، تحيط بالفيللا البيضاء ذات الطابق الواحد. تشابكت، وغطت معظم الواجهة، أشجار الجوافة والجهنمية والفل والياسمين والبانسيانا بزهورها الحمراء. يجلس الأب في الشرفة الحجرية المستطيلة، يعلو صوته بالأغنيات التي لا يعرف ماهر لغتها. يصعد الدرجات الرخامية إلي الشرفة. يكتفي الأب بابتسامة مجاملة، ثم يعاود الغناء، أو يتجه إلي الباب المتصل بالحديقة. يضغط علي الجرس. يتوقع ـ كما حدث في المرات السابقة ـ أن تفتح شقيقتها الباب. تفسح له الطريق وهي تنادي: سيلفي..
***
لم يقدر أن لقاء المصادفة سيكون انفراجة الباب لكل ما حدث.
زاحم المندفعين في أتوبيس 153 من ميدان التحرير.
اندفع نحو كرسي ناحية اليمين. طالعته استغاثتها الصامتة تحت النافذة، القامة المتناسقة، الشعر الحنطي المسدل إلي الكتفين، العينان الزرقاوان الباسمتان، الأنف الدقيق، الشفتان النديتان، الغمازتان اللتان تضفيان عذوبة علي وجهها.
بدت غريبة في وقفتها داخل محطة الأتوبيس. ليست غربة المكان، وإنما غربة الملامح والزي الذي ترتديه. فستان فوق الركبة، أزرق، قصير الكمين، وحذاء مكشوف، وبيدها مظروف ورقي.
أومأ لها برأسه، فصعدت لتجلس مكانه. السيدة البدينة ارتمت علي الكرسي بمجرد تخليه عنه، فأفسدت كل شيء. علا صوتها بنبرة توبيخ:
ـ حجز الكراسي في السينما..
اكتفيا بتبادل نظرات الارتباك.
خلا الأتوبيس من معظم ركابه قبل محطة كوبري القبة. وجدت مكاناً، وجلس إلي جانبها. فاجأته بالشكر، وبمؤاخذتها للسيدة البدينة. ودعته في محطة نصوح. تجدد ـ بعد أيام ـ لقاء المصادفة. ابتسما بما يعني تعرف كل منهما إلي الآخر. تشبثت بساعديه، وسبقها في اندفاعهما وسط الزحام حتي جلسا متجاورين.
قدم نفسه:
ـ ماهر فرغلي.. موظف بدار المعارف..
همست باسمها:
ـ صوفيا جوتييه.
لاحظت أنه لم يلتقط اسمها، وإن تظاهر بأنه عرفه.
قالت في نبرة متباطئة:
ـ صوفيا ميكيل جوتييه.. لكنهم في البيت ينادونني سيلفي.
ـ مصرية؟
أدرك ـ في اللحظة التالية ـ سخف السؤال..
قالت في همسها:
ـ طبعاً..
ورفت علي شفتيها ابتسامة:
ـ هل أبدو أجنبية؟
حدس أنها أجنبية. لم يتصور ـ في حدسه ـ البلد الذي تنتمي إليه، وإن بدت غريبة عن المكان، كأنها تنتمي إلي عالم آخر..
أزاحت خصلة متهدلة من شعرها جانباً، وهي ترفع رأسها:
ـ ربما لأن أبوي من أصل أجنبي..
تناثرت الكلمات، فعرف كل منهما عن الآخر ما لم يكن يعرفه. اجتذبه غياب التكلف عن كلماتها وهي تتحدث عن أسرتها المقيمة في الزيتون.
اكتفت بالتلميح في حديثها عن إخوتها. لم تذكر أسماءهم ولا إن كانوا أكبر أو أصغر منها.
قالت: إخوتي، وواصلت الكلام.
حدثته عن أبيها النمساوي الأصل، وعن أمها الإيطالية. كان أبوها رئىساً لبنك باركليز، فرع بورسعيد. قتله المصريون في أحداث 1956. الأم أميرة إيطالية سابقة، لا تعي سيلفي أنها رأتها تغادر البيت إلا لزيارات متباعدة إلي شقيقة لها في بولاق. لا تدري كيف التقيا في مصر، ولا ظروف زواجهما، لكنهما أنجبا أربعة أبناء: ولدين وابنتين.
قال:
ـ ترفضون تحديد النسل.. مثل المصريين.
كان يستنكر في نفسه سرعة الانفعال بما يدفعه إلي إبداء رأي قد لا يتدبره، كلمات تسبق تفكيره. يؤلمه الاستياء الذي تتقلص به الملامح، وربما العبارات الرافضة.
قالت دون أن تجاوز هدوءها:
ـ نحن مصريون..
حدثها عن عمله في قسم المراجعة بدار المعارف. يشغله منذ تخرجه في دار العلوم:
ـ ميزة عملي أن مكتبي يطل علي النيل.
وهي تئد ابتسامة رفت علي شفتيها:
ـ هل تجلس للفرجة؟
ـ لا بأس أن أطل ـ وأنا أعمل ـ علي منظر جميل..
أشارت إلي مبني هائل علي تقاطع سليم الأول وسنان:
ـ هذه مدرستي.. النوتردام دي زابوتر..
قال:
ـ هل هي قريبة من البيت؟
ـ مجرد أن أعبر الشارع..
ـ كانت دار العلوم قريبة من بيتي.
كلمها عن أعوام دراسته في دار العلوم، عن أساتذته: علي الجندي ومهدي علام وأحمد الحوفي وعمر الدسوقي وتمام حسن. قلد كلاً منهم في محاضراته: المفردات، طريقة الكلام، ردوده علي أسئلة الطلاب.
أصاخ سمعه لحديثها عن أيام الدراسة: الدخول إلي الكنيسة قبل الحصة الأولي، البنات المسلمات يقضين فترة ما قبل اليوم الدراسي في حوش المدرسة، الصلوات التي تستغرق وقتاً أطول من وقت تلقي الدروس، الملابس البيضاء ترتديها الطالبات في المناسبات الدينية، وفي الأعياء، يترنمن بالقداس، وبالألحان الدينية، زيارات الآباء من معهد الدومينيكان، والمطران من كنيسة البازيليك، استغناء مدرب الكرة الطائرة عن عضويتها لأنها أقصر مما يجب، ادعاؤها ضرورة العودة إلي البيت ـ في أوقات الدروس الصعبة ـ لرعاية أمها المريضة.
تهمس ضاحكة:
ـ أمي مريضة بالفعل منذ أشهر!
لم تشغله ـ في البداية ـ طبيعة العلاقة، ما إذا كانت الصداقة الطارئة ستثبت في علاقة دائمة. اطمأن إلي أن الصداقة ستشهد نهايتها حين يسبق أحدهما الآخر في النزول إلي المحطة التي يريدها، لكنهما تأهبا للنزول في المحطة نفسها.
سارا متجاورين، تكلما..
تعددت لقاءاتهما علي باب كنيسة اللاتين، في التقاء ناصيتي طومانباي ونصوح، أمام سراي البرنسيسة الملاصقة لمدرسة النوتردام.
يهبط من الأتوبيس علي ناصية السور الخلفي لسراي الطاهرة، يمضي بقية الطريق علي قدميه.
استمهلته ـ ذات عصر ـ قبل أن تميل إلي نصوح الهندي، ويواصل السير في شارع السلطان سليم ـ:
ـ قلت إنك خريج دار العلوم.
أومأ برأسه مؤمناً.
قالت:
ـ أحتاج إلي دروس في اللغة العربية، ستزورنا لهذه الدروس.
استطردت لارتباكه الصامت:
ـ مجرد حيلة لاستضافتك.