ـ 25 ـ

أسوار الدير العالية ـ بتداخل حجارتها البيضاء والبنية ـ يبدو من ورائها ـ كالانبثاق ـ برج الكنيسة المفتوح الجوانب ، يتدلى من أوسطه جرس نحاسى ضخم . البوابة الحديدية تفضى إلى ساحة ضخمة على جانبيها أشجار . يتوسطها بناية من الحجارة اختلط فيها البياض والبنى . من حولها خلاء تتناثر فى مدى أفقه بنايات صغيرة وزراعات .
لاحظ أن الراهبات يرتدين الملابس البنية الفضفاضة ، من الرأس إلى القدمين . يختلفن عن الراهبات اللائى يرتدين الملابس البنية المختلطة بالبياض . يتكرر التقاؤه بهن فى شوارع القاهرة .
قالت الراهبة :
ـ هل هى راهبة أم أو راهبة أخت ؟
ـ لا أفهم .. لكنها كانت غير متزوجة ..
ابتسمت :
ـ تقصد راهبة أماً !
كيف تبدو فى ثياب الراهبات ؟ كيف تعيش الرهبنة ؟ هل كان دخولها الدير محاولة للخلاص من حصار الأزمات ؟ أو أنها تريد تغيير حياتها بالفعل ؟
كان قد قرأ ، وحدثته سيلفى ، عن الحياة فى الدير : التقشف ، التأمل ، غرف العبادة ، الجدران العارية ، الزى البسيط ، العمل فى صمت ، لا حوارات جانبية ، ولا كلام بصوت مرتفع .
لم يطل وقوفه أمام البوابة الحديدية المغلقة ..
اعتذرت الراهبة بأن الأخت كريستينا ـ تنبه للصفة الجديدة ، ولتغير الاسم ـ لا تستقبل زواراً :
ـ نذرت الأخت كريستينا نفسها عروساً للسيد المسيح ..
أردفت فى نبرة تمثيلية :
ـ هجرت الدنيا إلى أحضان المسيح ، عذراء ، طاهرة ، فى موكب أصحاب الرب .
رسم على شفتيه ابتسامة تذلل ، وظل واقفا .
قالت وهى تغلق البوابة ثانية :
ـ دعنى أتحقق من الأمر .
مضت إلى داخل الدير .
التقط رسماً على جدار المدخل من اليمين ، العذراء المتوجة على العرش تحمل على ذراعيها الطفل يسوع ، أحاطت برأس كل منهما هالة نورانية .
طالعته ـ بعد انتظار دقائق ـ راهبة ، حدس أهميتها من تجاعيد الوجه ، والشعر الأبيض المتسلل من تحت لباس الرأس ، والنظرة المتجهمة .
قالت :
ـ هذا دير .
غالب ارتباكه :
ـ أعرف .
ـ هل تعرف أن الزيارات ممنوعة ؟
داخل صوته تذلل :
ـ أطمئن عليها وأنصرف ..
قالت الأم إن الأخت كريستينا تطيل التعبد منذ دخلت الدير . اجتازت اختبارات الروح على الصفاء والتجرد . تشارك فى الصلوات ، وفى الطقوس المختلفة .
منذ عادت إلى التردد على الكنيسة ، لم تهز جرس كرسى الاعتراف . تظل واقفة ، حتى تلمح الأب ـ الذى لا تعرفه ـ قادماً بخطواته المهرولة . تطمئن إلى جلستها وراء ثقوب النافذة ذات الخشب المعشق . تهمس باعترافها ، ما فعلته ، وما جرى لها ، فى الأسبوع الفائت ، ما يشغلها وما تعانيه ، لا تنصت إلى نصائح الأب قدر حرصها على أن تعترف ، تتكلم فى كل ما يخطر ببالها ، كأنها تنظر فى مرآة ، أو تكلم نفسها بصوت مرتفع . تخشى أن تتوالى الأيام ، تواجه ما تغيب صورته ، قبل أن تهمس باعترافها الحقيقى . تروى ما حدث دون أن تبدل ، أو تضيف ، أو تحذف .
آلمها أنها أرادت أن تصلى ، لكن الكلمات استعصت عليها ، نسيت ما ينبغى قوله ، مفردات اعتادت سماعها من أمها وأبيها . عجزت عن البوح بما فى نفسها ، وما تطلبه .
لم تتصور أن الأمور ستجرى على هذا النحو . شعرت أنها تتجه إلى هدف لا تعرفه ، شيء مخيف لا تدرى متى يحدث ، ولا كيف تبدو ملامحه .
اختلط كل شىء : هل ما تزال ابنة لميكيل جوتييه وكاترين فرنسيس ، وتقيم فى فيلا الزيتون ، ورحل أخواها إلى خارج البلاد ، وانتقلت أختها إلى بيت زوجها القبطى ، ومعارفها وأصدقائها من غير المصريين .. هل مازال ذلك كله صحيحاً ، أم أن ما عاشته ـ فى الفترة الأخيرة ـ بدّل كل شئ ؟! هل تبدّل شهادة ميلادها ؟ هل تقطع صلتها بالزيتون ؟
هذه الفيلا ليست بيتى .
أنظر إلى ما حولى : الجدران والأسقف والأثاث والنوافذ والأبواب ، المرئيات التى اعتدتها ، أشعر بغربة عن المكان تماماً ـ رغم أنى لم أغادره ـ ولا صلة لى به . طوحت بى حياتى الجديدة بعيداً عن البيت وأهله .
أدركت خطورة ما وراء الأفق ، بما لن تفلح الأكاذيب فى صده . شعرت أن أمراً ما ، قاسياً ، يلوح ، يهدد حياتها .
لم تعد تدرك الصواب من الخطأ .
وجدت فى الرحيل عن مصر فراراً من كل ما أوقعت فيه نفسها ، من كرة الثلج التى تضخمت ، فحطت على صدرها .
أسقطت فكرة السفر إلى أمريكا ، لن يرحب أنطوان بالفكرة ، وإذا سافرت دون أن تبلغه ، فقد يرفض استضافتها ، أو استقبالها . لن ينسى أنه لم يحصل على ما أراد . ظلت الفيلا ملكاً للأسرة ، ربما لا يرد على رسالتها ، أو يرد بالاعتذار .
ناوشتها صورة جان فى سيدنى الاسترالية . حدثها ـ فى رسائله ـ عن البحر والبنايات والشوارع والكنائس والحدائق وتماثيل الميادين . أرفق برسائله بطاقات صور ملونة ، حاولت أن تجد فيها الحياة هناك . تحركت فى داخلها مخاوف الرحيل إلى المجهول ، المغامرة ، ومواجهة ما لا تعرفه .
هى لن تستطيع البقاء فى البيت ، أو أنها لن تستطيع البقاء فيه بمفردها .
فطنت إلى إيماءة المعنى فى كلمات عياد المتكررة عن احترام ذكرى الأب الراحل ، واحترام وصيته .
تأملت الخالة إيفون بالعجز فى ملامحها وتصرفاتها ، ولويجى الذى يلزم البيت . قد تجد عملاً يدر عيها إيراداً ، لكن الإقامة فى بيت الخالة إيفون سيفرض عليها ـ بعد وقت العمل ـ ما لا تطيقه . الملاحظات والتعليقات والأوامر التى كانت تنغص عليها العيش ، قد تتكرر بما لا تستطيع مواجهته ، وقد لا يحتملها العجوزان .
تقاطعت الطرق ، وتشابكت . لم تعد تعرف إلى أين تتجه .
أهملت فكرة الاختفاء من العالم . تلاشت الفكرة فى اللحظة التالية لظهورها . التخلص من الحياة يحتاج إلى شجاعة ، لا تملكها .
ماهر كأنه الأمل المستحيل ، لا تعرف إن كانت تحبه ، أم أنه علاقة عابرة حاولت ـ بالتعرف إليه ـ أن تفر من أزمتها ؟
مثل الومضة التى تستعيد عوالم كاملة ، رأت الأب لوقا فى ملامحه الطيبة ، وثوبه الكهنوتى المختلط الأبيض والبنى .
الدير !
بدت الفكرة قارب نجاة حقيقياً ، تصعد إليه من خطر الأمواج الصاخبة حولها ، يمضى بها إلى اليابسة والأمان وتناسى الالتفات إلى الوراء .
حين زارت الأب لوقا ، لم يجهد نفسه فى تذكرها ..
ارتجفت ملامح وجهه بانعكاس المفاجأة .
اكتفى بالقول :
ـ كيف حالك ؟
عرفت أنه لم ينسها ..
وهو يحاول إخفاء مشاعره :
ـ فى هذا الأمر لابد من الرجوع إلى آراء ربما كانت أكثر حكمة !
عاودت التردد على الدير ، تؤكد ما اعتزمته . تنقر باب مكتب الأب لوقا بنقرات خافتة . يتناهى صوته . تدخل . تقف أمامه حتى يأذن لها بالجلوس . لا تعيد عرض ما حدثته فيه ، ولا يسألها إن كانت قد رجعت عن قرارها ..
لما دفع إليها أوراقاً ، وقال : املئى البيانات ، أدركت أنها تخطو أولى خطواتها إلى داخل الدير .
قالت الأخت :
ـ خدمة الرب يمكن أن تؤدى فى أى مكان ..
قالت سيلفى :
ـ يشغلنى فقط أن أخدم الرب ..
ثم وهى تمسح دمعة فى عينها :
ـ أنا أفر إليه مما أعانيه !
حدثته الراهبة عن حياة سيلفى فى الدير : أداء الصلوات والطقوس ، تنظيف حجرتها ، ترتيب فراشها ، حياكة ـ أو رفو ـ ثيابها .
ومضت على شفتيها بسمة ، وهى تشير إلى امتلاك الأخت كريستينا ـ فهم أنها تقصد سيلفى ـ صوتاً جميلاً ، فهى تشارك فى كل التراتيل داخل كنيسة الدير .
قالت وهى تتأهب للعودة :
ـ منذ دخلت الأخت كريستينا الدير لم يعد لها صلة بالعالم الخارجى .
لم يقاطع فى إصغائه .
حدّست أنه لا ينصت لها .


محمد جبريل ـ الإسكندرية 15/4/2004


[align=center](انتهت الرواية)[/align]