(9)

نزلا من الأوتوبيس في محطة الإسعاف. عبرا الطريق في اتجاه مبني الشهر العقاري.
اخترقا زحام العرضحالجية والنداءات والشتائم والشهود وباعة الاستمارات والطوابع وكتب القانون.
صعدا الدرجات الرخامية في المبني ذي الطوابق الثلاثة، يعلوه ـ متآكل الأطراف ـ العلم المصري ذو الألوان الثلاثة. في دائرة تحته نقش للعلم المصري القديم ذي الهلال. الأعمدة العالية، والبواكي في واجهة الطابق الأول، تفصل بينها وبين البناية طرقة طويلة بامتداد الواجهة، أرضيتها من البلاط الرمادي المربع، تطل عليها نوافذ من الحديد والضلف الخشبية.
تبعته إلي الصالة الواسعة، في المواجهة. اصطفت في داخلها مكاتب، انشغل الموظفون وراءها بأوراق ودوسيهات ومناقشات مع المترددين علي المكاتب.
مال علي الموظف الجالس وراء المكتب، علي يسار المدخل:
ـ نريد أن نتزوج..
لم يكن قد أعد نفسه لعلاقة زواج، الصداقة علاقتهما المعلنة، حتي نظرات أنطوان المتوجسة أهملتها، وصمتت عن التوضيح.
نبهه شيء ما في نظراتها، وارتباك تصرفاتها، وملاحظة النظرات المتسللة، وميل صوتها إلي الهمس.
واربت الباب، فدفعه مقتحماً:
ـ هل تتزوجينني؟
قال الرجل:
ـ ما يمنعكما؟
ـ هي مسيحية وأنا مسلم..
ـ تزوجا بعقد مدني..
ـ لا أفهم..
ـ عقد لا شأن للمأذون به..
ـ هل هو عقد صحيح؟
هتف الرجل:
ـ أنت في إدارة حكومية..
استطرد وهو يرنو إلي سيلفي بنظرة متسائلة:
ـ كم عمرك؟
ـ الحادية والعشرون.. وأشهر..
لحقه صوت الرجل:
ـ يحسن أن تحصل علي موافقة الكنيسة.
***
التقي بها الأب يوحنا في شارع سليم الأول. ابتسم لارتباكها الواضح:
ـ لماذا لا تزورين الكنيسة؟
ـ أتردد عليها أحيانا.
وأغمضت عينيها كالمتنبهة:
ـ زرتها قبل شهر..
قال الأب:
ـ كنت تترددين عليها دائماً..
ورنا إليها بنظرة متوددة:
ـ إنها مساوية للبيت في حياتنا.
وربت ظهر كفها بطرف إصبعه:
ـ احرصي علي صلاة الأحد..
لم تعد تتردد علي مكتبه داخل الكنيسة، أو تجلس للاعتراف. حدّست أن أنطونيو روي له ما يدفعه إلي مجاوزة الإنصات.
لو أنه أرهقها بالأسئلة، ربما اخترعت من خيالها، وبدّلت ما حدث. هو الأب يوحنا، وليس أباها ولا أمها ولا إخوتها، ولا حتي ماهر. خافت أن يؤذيها بما لا تتوقعه.
منحتها عيناه إيماءة مشجعة:
ـ أنتظرك لتؤدي طقوس الاعتراف..
تغيرت ملامحها:
ـ لم أفعل ما يدفعني إلي الاعتراف!
قال أنطوان للأب يوحنا:
ـ لا أحد يملك إقناعها..
رسم الأب علامة الصليب علي صدره:
ـ إن كل ما يحدث هو بمشيئة الرب!
قال الأب لسيلفي في لهجة محرضة:
ـ الكنيسة ترحب بك، ولو لمجرد الزيارة!..
وضغط علي الكلمات:
ـ لا يكون المسيحي كذلك إلا من خلال عضويته في الكنيسة..
في دهشة:
ـ أصبح راهبة؟
ـ بل تكثرين من التردد عليها
ران علي صوتها انكسار:
ـ أحاول.
وهو يهز رأسه في عدم اقتناع:
ـ إذا لم يستخدم الإنسان عضلة ما فلابد أنها ستضعف.
وواجه عينيها:
ـ أذكرك بالزائدة الدودية!
وتقلصت ملامحه بالتأثر:
ـ أخشي أنك فقدت روح الصلاة..