ماري شمل .. المستشرقة التي أحبت الإسلام
كانت (ماري شمل) نموذجاً للذين أحبوا الحضارة الإسلامية حباً صادقا ووقفوا على الإسهامات العظيمة التي قدمتها للإنسانية ، وقدموا من خلال دراساتهم وأبحاثهم خدمات رائعة للإسلام ، بل وقدم بعضهم تضحيات باهظة لأجل الثبات على مواقفهم.



لقد نعى المجلس الأعلى للمسلمين بألمانيا (شمل) بعد وفاتها في فبراير الماضي – عن عمر يناهز الثمانين عاما – في بيان له بأنها (كانت السفيرة الرفيعة بين الإسلام والغرب ، وكانت شخصية نادرة كرست حياتها في دأب وحب لإزالة الشكوك لدى الغربيين حول الدين الحنيف) ، معتبراً رحيلها فجوة يصعب سدها في جدار حوار الحضارات.

وكان تميز (أنا ماري شمر) عن جل المستشرقين وفلاحها في إدراك الكثير من الأهداف السامية التي عجز عن تحقيقها غالبية نظرائها مرده إلى الخلفية التي تعاملت بها المستشرقة الألمانية مع الحضارة الإسلامية التي درستها ، فقد ارتكزت هذه الخلفية على الكثير من الحب والرغبة في اكتشاف الجوانب المضيئة فيها.

الحملات الحاقدة :

في شهادة التكريم التي صاحبت جائزة السلام لعام 1995م التي حصلت عليها – والتي تعد أهم جائزة من نوعها بعد جائزة نوبل للسلام – عللت اللجنة المانحة للجائرة قرار إسنادها للمستشرقة الألمانية بما يلي : ( تمنح رابطة الكتاب الألمان الجائزة لماري شمل ، التي كرست جهدها طيلة حياتها من أجل التعريف بالإسلام ، وإيجاد روح القبول له ولمظاهر الحياة في إطاره ، ومن أجل إيجاد إمكانية التقائه بأبعاده التجديدية حضاريا مع الغرب).

ولقد شكلت مناسبة حصول (أنا ماري شمل ) على جائزة السلام لرابطة الكتاب الألمان سنة 1995 فرصة سانحة لانقضاض الجماعات المسيحية واليهودية المتطرفة عليها من خلال حملة إعلانية استهدفت التشكيك في قيمتها العلمية ونزاهتها والحط من مكانتها لدى الرأي العام في بلادها وفي الغرب عموماً غير أن الحملة فشلت فشلا ذريعاً بل ساهمت في تسليط مزيد من الضوء على جهودها.

وقد ركز الحاقدون حملتهم المغرضة على (شمل) في ثلاث ادعاءات رئيسية أولها تنديدها بكتاب سلمان رشدي الكاتب الهندي (آيات شيطانية) فقد اعتبرت الكتاب مساساً بمشاعر المسلمين ، وإساءة إليهم ، ولقد زعم المغرضون أن شمل قد أيدت فتوى الإمام الخميني التي صدرت سنة 1989 ضد الكاتب ، وذلك في كتابها (ومحمد نبي الله .. منزلة الرسول في الإسلام).

ويرد الدكتور نديم إلياس في كتابه (سيقهر الماء صم الحجر) على هذا الادعاء بقوله: (إنه مجرد من الأمانة العلمية ، فقد صدر الكتاب المذكور عام 1981 أي قبل 8 سنوات من صدور الفتوى ، كما أن الكاتبة قد ذكرت ردا على هذه الادعاءات بقولها : إنها إنسانة غير سياسية ، وما يهمها في القضية هو عدم المساس بالمشاعر الدينية الخاصة).

أما الادعاء الثاني فحول نفس الكتاب الذي يدل على ذلك أيضاً زياراتها المتكررة لإيران ، والحفاوة التي كانت تستقبل بها هنالك ، فضلا عن كتابتها مقدمة كتاب (الإسلام كبديل) للسفير الألماني السابق (مراد هوفمان).

ويرد الدكتور إلياس على هذا الادعاء أيضاً بذكره أن شمل قامت بزيارة لإيران بعد 24 عاماً من الثورة الإسلامية بناء على دعوة من جامعة طهرن لإلقاء محاضرة حول موضوع التصوف والفلسفة ، فيما لا تعتبر زيارة المؤسسات العلمية تأييداً لتوجهات الأنظمة القائمة في دولها.

أما فيما يتعلق بكتابتها مقدمة كتاب السفير هوفمان ؛ فإن شمل لم ترتكب بذلك جريمة ؛ فهوفمان قد مثل الدولة الألمانية لسنوات طويلة ، وهو يعد واحداً من ألمع شخصيات هذه الدولة ، وأكثرهم احتراماً.

ويستند الادعاء الثالث ضد شمل على ما جاء في كلمة ألقتها بمناسبة تأبين الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق ، حيث قال : (سوف يصل التاريخ إلى حكم إيجابي متزن حول الرئيس ضياء الحق). وهو ما عده الكارهون (تأييداً لهذا النظام العسكري بالرغم من موقفه من حقوق الإنسان والتسلح النووي).

ويقول أيضاً مؤلف (سيقهر الماء صم الحجر) في تفنيده لهذا الادعاء : (أن مجرد التمني لا يعني أن الكاتبة قد أطلقت حكمها على صلاح النظام أو خلافه ، كما أكدت شمل أن زياراتها لباكستان كانت دوما زيارات علمية ، فضلا عن لقائها بجميع عناصر المعارضة خلالها ، وفي مقدمتهم أسرة الرئيس السابق ذو الفقار علي بوتو).

خدمة السلام :

لقد وجدت (أنا ماري شمل) خلال مسيرتها الحافلة الكثير من المحبين والمدافعين بقدر ما وجدت من الأعداء والمناوئين ، وقد جاء الرئيس الألماني السابق (رومان هرتسوغ) على رأس المتعاطفين مع (السيدة الفاضلة) : حيث حرص على أن يسلم بنفسه جائرة السلام لعميدة المستشرقين ، وأن يقول في حقها كلمته الشهيرة : (إنها هي من مهدت لنا الطريق للإسلام).

وتدافع ماري شمل عن الإسلام بقولها : إنه هو الذي أنتج الحضارة التي سارت على سنة تحية (السلام) والمساواة والعدالة بين البشر.

وبصدد ردها على المعارضين لها ولمنهجها في الدراسة والبحث تقول: إن طريقي ليس هو طريق التصريحات والبيانات ولا هو طريق الإثارات والزوابع ، إنني أومن أن الماء الصافي سوف ينتصر بحركته الدؤوبة على مر الزمن على صم الحجر ، إنني أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولا وأخيرا ، إلى من توجه إليه (جوته) في الديوان الشرقي بقوله :
لله المشرق
لله المغرب
والأرض شمالا
والأرض جنوبا
تسكن آمنة
بين يديه
هو العدل وحده
يريد الحق لعبده
من مائة اسم من أسمائه
تقدس اسمه هذا

سيرة علمية وعملية حافلة:

ولدت (أنا ماري شمل) في مدينة (ايرفورت) الألمانية يوم 7 من أبريل عام 1922 م ، وقد بدأت تتعلم اللغة العربية في الخامسة عشرة ، وحصلت على درجة الدكتوراه في الاستشراق من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة برلين سنة 1941 عن ( دور الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية) ، وهي لم تتجاوز سن التاسعة عشرة ، وبعد 3 سنوات حصلت على درجة الأستاذية من جامعة (مايورغ) ، وتعد شمل أصغر من حصل على مثل هذه الدرجة العلمية في هذا الوقت ، كما حصلت سنة 1951 م على درجة دكتوراه ثانية في تاريخ الأديان.

قامت ( شمل) سنة 1952 بأول زيارة لها إلى العالم الإسلامي وبالتحديد إلى تركيا التي عادت إليها في عام 1956 لتستقر بها 5 سنوات حيث عملت كأستاذه مساعدة في العلوم الإسلامية واللغة العربية في جامعة أنقرة لتشغل لاحقاً منصب أستاذة كرسي تاريخ الأديان في كلية العلوم الإسلامية بذات الجامعة ، حيث كثفت دراساتها في تلك الفترة عن الإسلام في شبه القارة الهندية.

رجعت المستشرقة الألمانية إلى بلادها سنة 1961م لتشغل في جامعة ( بون ) منصب مستشارة لشؤونها العلمية في مجال الدراسات الإسلامية إلى جانب عملها كأستاذة للغة العربية والعلوم الإسلامية ، ورئاستها تحرير مجلة ( فكر وفن) حتى سنة 1973وهي مجلة علمية نشرت من خلالها الكثير من أبحاثها عن الأدب الإسلامي ، كما تنقلت ( شمل) بين العديد من الجامعات العالمية المرموقة كأستاذة زائرة ، فقد حاضرت لسنوات طويلة في جامعة (هارفارد) وجامعة نيودلهي في الهند ، والمجلس الأمريكي للعلوم ، وجامعة (ايوا) في نيويورك ، ومعهد الدراسات الإسماعيلية في لندن.

نالت المستشرقة الألمانية نظير مسيرتها العلمية الحافلة الكثير من الجوائز وأوسمة التكريم ، لعل أهمهما جائرة (فردريش ركارت) الألمانية سنة 1965 ، ووسام القائد الأعظم لجمهورية باكستان الإسلامية سنة 1966 ، ووسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى سنة 1982 ، بالإضافة إلى نيلها جائزة السلام التي فتحت عليها نيران الاعتراضات من قبل المؤسسات اليهودية مثلما ذكرنا.

وكانت قد ترددت أنباء عن إسلام شمل ، غير أنها لم تشهر إسلامها حتى وفاتها ، ويصفها المفكر الإسلامي (عبد الحليم خفاجي) في معظم كتبه بـ (مؤمنة آل فرعون).

بالإضافة إلى تكريمها من قبل الرئيس محمد حسنى مبارك ، حيث منحها وسام الاستحقاق قبل ثلاثة أعوام ، فيما منحتها جامعة الزهراء الإيرانية درجة الدكتوراه الفخرية قبل رحيلها بأربعة أشهر تقديرا لجهودها في خدمة الإسلام ، وفي ألمانيا كرمها المجلس الأعلى للمسلمين عام 1998 في احتفال خاص.

مجلة الكوثر ، العدد 45 ، يوليو 2003.