فداؤنا الحديث داء الانتحار وداء كل عجز ونكوص وهو أننا نهاب ألم الجسد ولا نصبر على عنت البلوى وتبريح العذاب "
ومع هذا فهناك وجهة نظر أخرى لا تنفر من الموت ولا تعشقه وإنما تسلم به كضرورة من ضرورات الحياة ولوازمها، وتتمثل هذه الفكرة في سطور خطها هيدجر قائلا ( عندما نرى أن الوجود الإنساني وجود نحو الموت، يصبح الموت عنصرا ضروريا من عناصر الوجود الإنساني ).
فالحياة حلقات تؤدي كل منها إلى لاحقتها وهي تطور هابط نحو غاية محتومة لا مفر منها.
والملاحظ أن سمير الفيل في هذا الديوان ( سجادة الروح ) يسعى إلى التوحد، فلا تكاد تخلو قصيدة من توجيه الخطاب إليه من ( أنا ) الشاعرة في شكل أنا أو ياء المتكلم، الإهداء ص 3: وفي مقابل ياء المتكلم نجد كاف الخطاب:
" الميه مالحه
والأنين هيلا هيلا هوبا
وبدب بقدكم حبه وراء حبه
العضم وحده اللي باقي
في حين لا يغيب المعادل الآخر وهو ( أنا ) الشاعرة:
" طرف الهوا عيني
دمعت واتهزيت
جسدي بيتطوح لكنها قلبي رسوخ الجبل
الهزة دي من سكة امبارح
وانا اللي كل مشاعري
زي الحجارة الدبش "


وفي ذلك نجد توحد الضمير بين المتكلم والمخاطب، أو يظهر هذا الوجود بين: أنا وهو في شكل الخطاب الموجه فمعظم خطاب الشاعر موجه إليه:
" خبط في جنبي السؤال
اللي خبيته عن أولادي
خبيته عن نفسي
وفضلت أطارد ضل أبطالي
على الحيطان جرانيت "
ويصل الخطاب إلى التوحد:
" حجرين معسل وانطرح ع الأرض
حجرين وأصلي وأصوم
وأدخل في نفس اليوم
جنة الدراويش
فما تسرقوش الشعر من قلبي
ما تبعتروش فرحكم على عتبة الحواديت
نفسي أشوفكم تصحوا
صحوة التوت
على فروعهأو يأخذ شكلا من الحوار بين الطرفين: ( أنا ) و ( هو ):
" أدي الظلام سارح
في ملكوت البشر الطيبين
أدي حبل الأنين
لافف على نفس الحناجر
كان يجرى إيه لو الغنا يسافر
كان يجرى إيه لو خبطت إيدي على بابه "
ويأخذ الخطاب إلى ( هو ) شكل النداء أو شكل الاستفهام بمعظم أدواته:
" أنا ضد أم أني مع
أنا واحد تقسمت ملامحه
في البوادي والصحاري الأربعة )
( أصعد سماوات من ضيا
هل يستوي الشوف والعما
هل يستوي الفرع اللي دبلان
بالنخيل اللي نما؟ )
ولعل في هذا ما يفسر تنوع الخطاب لدى ( سمير الفيل ) وان كانت غالبيته تتجه إلى الـ ( هو ) هذا التنوع بين:
أ - مخاطبة امرأة أخرى:
" خدش روحي زجاج المرايا
وصبح برتقالي اللون
بضيه يرميني
فادخل كل البنات اللي حبيتهم
في القلب جوايا "
وهذا الخطاب للمرأة الأخرى أمام امرأة مغايرة للرؤية الشعرية عند الشاعر، فهي مرأة حديثة تنظر ( للأنا ) نظرة شعر ( الحداثة ) حيث الإحساس بالماضي والحاضر والمستقبل.
ب - مخاطبة الرفقة والصحاب:
" معقول أخش النار في حلم
وأخرج خلسة ع الجنة
قمت لقيت غيديه منقوشة بالحنة
فوق رأسي ( علوش ) نفسه
لكنن كان رفيع زي صاحبنا ( محمد الغندور ) "
" ( يا بيرم ) ادخل في
عباية ( النديم )
يا ( شاذلي ) حود على بيت
( وجيه )
يوسف يا قط
سلمك لساه مكسور "
فهنا نجد صراعا بين ( الأنا ) والـ ( هو ) صورة لما يوجد في الحياة من صراع.
خمسين م الأنين
د - مخاطبة الذات:
وأمام هذا التنوع في خطاب الشاعر هل هناك فرصة للأنا النرجسية؟
ربما أدت كثرة الأنا في شعر ( سمير الفيل ) إلى هذا الوهم في القراءة العجلى، لكن التمهل يصل بنا إلى نتيجة مهمتة هي أن النرجسية مظهر خادع عند الشاعر، لأنها سرعان ما تصل من الخاص إلى العام فتبدوا النرجسية خداعا لمن يتسرع في نظرته النقدية، إذ تكون ( الأنا ) ( الكلمة المفتاح ) لرؤية الماضي بالحاضر والمستقبل والخاص بالعام والمعلوم بالمجهول، والمحسوس بالغيبي كما رأينا في تنوع الخطاب فيما سبق، مهما تعددت صور الخطاب علوا وانخفاضا كما نفهم من مصطلحات الصوفي مثل النسخ: أي انتقال روح إنسان إلى حيوا ذي منزلة عالية كالأسد مثلا.
أو الفسخ: أي انتقال روح إنسان إلى جمادات كالصور والمعادن.
أو المسخ: أي انتقال روح إنسان إلى حيوان وضيع.
أقول هذا تفسيرا لأي قناع يتخذه الشاعر في خطابه، وفي تعبيره بالأنا، فقد يستعيد واحدا من هذه المصطلحات دون إفصاح إذا خاطب أسدا وضيعا، أو خاطب نجما، أو تمثالا أو خاطب كلبا، أو هرة، فإن ذلك لا يبعدنا عن نفسه.
فليس شرطا أن يكون الخطاب موجها لشخصية من النماذج العليا، مع ملاحظة أنه شتان بين نظرة الشعار هنا للنماذج العليا ونظرة بعض الشعراء الآخرين.
البحر مدينته:
" ما الأرض دي دمياط والوقت:
" سيولمخاطبة من البشر اللي ماشيين في الحياة
رغم العيون متفنجلة
ما في شوف
ده لأنهم في الكون ضيوف
عشر سنين حبو
وشعرة حب بيطرد الفرنجة من مئات السنين "
والشاعر ابن البحر، ماذا لو زاد وعي الشاعر بالمكان؟ ولا شك أنه سيكون رؤيته ورؤاه معا، إذ سيجعل هذا المكان بمثابة ( البيئة الشعرية ) له، سواء أكانت هذه البيئة هي البيئة الواقعية
وهي بنت البحر، بنت النهر
والشط اللي لساه يئن أنين
ويتمناها شط البيئة المثالية يتخيلها ويتمناها ويحلم بها.
هنا يخلق كل شاعر مدينته كما يتخيلها ويحلم بها تطلعا إلى مكان جديد لعالمه الشعري.
المدينة عند الشاعر تعني دلالات ثرية في ديوانه ( سجادة الروح ) ففيه كل ما يراه لدى الشعراء المعاصرين حول المدينة الواقعية الكبيرة التي تسحق الصغير وتدوسه أو تقتله كما حدث لشاعرنا في قصيدة ( اللوري 48 ):
" يمكن أغمض عين
وافتح التانية
واحسب جميع اللي باقي ف عرمي بالثانية
ما يهمنيش عيني اللي مطروفه
ولا اللوري عدى على صدري عشر مرات "
التاريخ والهروب للتراث:
في هذه الوسيلة نجد في قصيدة ( القاهرة المملوكية ):
" مزركش صدره بالخيط الحرير
متصور أنه بالمنظر وهزه سيفه
هيبقى حر
واقف على الأفريز
وجنبه حصانه النبيل"
أنه ـ سمير الفيل ـ يقدم للمأساة وأسبابها فأصحاب العقول يتعبون وأصحاب المتع الجسمية ينعمون في الثراء بلا حدود وهذا الشعر في الزمان يرتبط بعنصر الزمن حتى يصل إلى الانسحاب من الحاضر:
يفوت اللوري من فوقي
لحد جسمي ما استوى والأرض
فبقيت برق ورقة البفرة
لحم وعضام ودم وأفكار "
" ¼ محتاج أعيد ترتيب حروفي من الأول
اللوري عاد ودهسني من تاني
خريت أغاني وبكا وجروح
وقلت يا رب
السهل فين؟ كل ما شفته صعب " (
وهكذا كان الضميران ( أنا ) و ( هو ) وهكذا كان هروب سمير الفيل للتراث.
ومما سبق يتضح أن ( سجادة الروح ) لا يمثل في ما يتعلق بموقف الشاعر من الحياة رفضا للحاضر وتبرما بالدنيا لا يمثل وحدة معنوية متألقة وعلاقة منسجمة متكاملة الأطراف والعناصر وإنما هو مرحلتان:
1- عتمة: ويضم قصائد ( اللوري 48/ تراب الفلوس/ كالم عن الاحتضار/ خدوش/ الدروب/ البقية في حياتي/ الداء/ سهاري وصوابعها الفتيل/ كان الوجع لبلاب ).
2- نور: ويضم قصائد ( العزا باب الفتوح/ الضي المسكين/ سجادة الروح/ في القاهرة المملوكية/ الأرض فاس جديد ).
وهاتان المرحلتان ( نور ـ عتمة ) هما مرحلتان بارزتان يصدران عن معنى عميق واحد هو الحياة، والإحساس بالزمن الحاضر ـ المميت ـ والسياق المكتنف لحياة الفنان ولكنهما مختلفان في المعاني الفرعية المولدة من الأصل إلى حد يمكن معه الحديث عن مقابلة كبرى في صلب هذا الديوان ومنعرج حاسم في مجرى التجربة الشعرية.
ومن وجوه التطور الحاصل في هذا الديوان الخروج من البحث والسؤال في مستوى الظرف إلى التعيين والتقرير فلقد تيقن الشعار بعد تقدم تجربته و اتساع أفق العالم الشعري أن الصباح هو الأفق وما قبل الكون أي ما قبل اللحظة التي تم فيها الانحدار من الأفق العام على صميم الذات.