رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*اغتيـــــــــال*
......................
(إلى المناضلة الفلسطينية مروة جبر)
لكزه الواقف إلى جانبه وهو يشير بامتداد ذراعه إلى المدينة فى أسفل :
ـ أطلق الرصاص على أى شئ يتحرك ، ولا تشغلك النتائج ..
وحدجه بنظرة محرضة :
ـ هذه فرصة ممتازة للتدرب على الجسد الحى ..
سأل فى دهشة :
ـ أقتل ؟
ـ من تتردد فى قتله سيقتلك ..
ثم وهو يهز قبضته :
ـ لا مجال للتردد فى مواجهة الموت !
أسند البندقية على الساتر الرملى ، وتأمل المدينة فى أسفل . الشارع الواسع ، المسفلت ، تتفرع منه شوارع جانبية . البيت على اليمين ـ يفصله عن الساتر ساحة دائرية ، صغيرة ، على ناصيتها طابقين ، شيد من الطوب الأبيض ، وسقفه من القرميد الأحمر ، تسلقت لبلابة حافة النوافذ الخشبية ، العالية ، وكست الجدران ، وصعدت إلى السطح . تحت البيت دكان بقال يقف أمامه شاب فى حوالى الخامسة والعشرين ، يرتدى قميصاً طوى كميه ، وبنطلوناً من الجينز . فى طرف الرصيف شجرة تين تساقط معظم أوراقها . لم يعد إلا الفروع الجرداء ، المتشابكة . يترامى ـ من بعيد ـ صوت سرينة إسعاف ..
معظم النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين على جانبى الشارع المواجه ـ مغلقة ، أو تطايرت ، البنايات مشيدة من الحجارة و الطوب الرملى المتداخل بتكوينات من الخشب .
ثلاثة دكاكين فقط ظلت مفتوحة . البقال ، ومخبز ، وصيدلية ، ومقهى تجاورت فى داخله كراسى ذات قيعان مجدولة من الخوص ، حول طاولات قديمة مختلفة الأحجام . رواده ثلاثة ، ثبتت عيونهم ـ من وراء النافذة الزجاجية المفتوحة ـ على بقايا البيت المتهدم ، وولدان أمسكا بخيط طائرة ورقية ، يتابعان ارتفاعها فوق البنايات . وإلى جوار الرصيف كومة زبالة ، تعبث فيها قطة ، والسماء ملبدة بالسحب ..
ظل المعركة التى دارت ـ قبل ساعات ـ بين الجنود والفلسطينيين المسلحين ، امتص حركة الطريق . المارة قليلون ، خلت الشوارع . تناثرت آثار المواجهة : دماء متخثرة على الجدران والأرصفة وفوق أسفلت الطريق ، طلقات رصاص فارغة ، مزق ورقية متطايرة ، زجاجات ، علب صفيح وكرتون ، غيمات التراب ـ بفعل القصف ـ غطت واجهات البيوت ، كومات الحجارة تناثرت أمامها ، تشى بأنها سقطت من فترة قريبة .
لم يشاهد المعركة ، وإن تابع تعليقات زملائه . رفض الفلسطينى أن يسلم نفسه . رآه الجنود وهو يقتحم الباب ، ويتركه ـ باللهفة ـ مفتوحاً . وقف الجنود والبولدوزر أمام البيت ذى الطوابق الثلاثة . علا صوت الميكروفون يدعو السكان إلى إخلائه . انطلق الرصاص من النافذة العلوية . دارت المعركة فى دقائق ، ثم تهاوت الطوابق الثلاثة . لم تذكر التعليقات إن كان من فى المنزل قد فازوا بحياتهم ، أم ماتوا بين الأنقاض .
طالت مناقشات الضباط .. الأخذ والرد ، الأسئلة والأجوبة . هل من الأجدى فرض حظر التجول ؟.
حسم القائد الأمر بالقناصة ، وتسيير الدوريات . وقفته ـ وراء الساتر ـ لإطلاق الرصاص على من يلمح ، ولو مجرد سيره أمام البناية . إطلاق الرصاص بلا تردد . اصطياد من تلتقطه الشبهات سهل ، إن أغلقت المدينة أبوابها على الفارين ، وظلت الأبواب مفتوحة ، وأطل الناس من النوافذ والشرفات ، وجلسوا على المقاهى ، وأمام الدكاكين ، وداخل البيوت ..
أمر نقله من صحراء النقب إلى مدن الضفة الغربية ، فرض توقعاً طيباً . تصور فى الحياة بين الناس ما يطرد الملل . يطل ـ فى وقفته ـ على صحراء ممتدة ، اختلطت فيها الرمال ومساحات الخضرة والبنايات الصغيرة المتباعدة والمعسكرات . أربكته نظرات السكان العرب ، التقط منها ما لم يستطع تحديده ، وإن غاب عنها الود والألفة . لم يكن يستطيع أن يرد النظرات المتطلعة ناحيته ، تحدق فيه ، تحاصره . حرص على ما ألزمته به الأوامر . كن قريباً من القوة لتحتمى بها . يشكل ـ داخل المدن ـ مجموعة مع جنديين أو ثلاثة ، يحتفظون بكامل الأسلحة ، يقيسون المسافة مع نقاط التفتيش والحواجز والعربات المصفحة والدبابات ..
تركت له الأوامر تحديد الهدف . يضغط زناد البندقية على ما يثير الريبة . يقتل قبل أن يستوضح ، أو يسأل ، أو يتأكد . الأوامر الصريحة تساعده . لا تحدق فى ملامح من تصوب إليه . الشك يكفى للضغط على الزناد . هذا هو الهدف ، فاطلق رصاصاتك عليه ، لا تتردد ، إذا ترددت فى قتل عدوك ، فسيبادر هو بقتلك . إما أن تتركه حياً ، أو تفقد حياتك . ظل إسقاط المسئولية فى القتل الخطأ بلا معنى . قانون الحرب لا يعرف المشاعر الطيبة ..
ترامى هدير سيارة . بدت مقدمتها فى انحناءة الشارع الجانبى . توقفت فى موضع محطة الباصات . خلفت عجوزاً يرتدى العباءة والعقال والكوفية الفلسطينية . أسند راحته على قبضة العصا . جال بعينيه فيما حوله ، كأنه يتوقع أحداً فى انتظاره . تأكد من إمساكه بالعصا جيداً ، وعبر الطريق إلى الشارع المقابل ..
أحس برغبة فى أن يسدد بندقيته إلى موضع ما ، أحد ما ، يضغط على الزناد . لا يرفع إصبعه . أصدر صوتاً من بين شفتيه : تك ، تك ، تك . تظاهر بالضغط على الزناد . ثم أرخى ساعده ..
هز رأسه يطرد النوم ، فرك عينيه . أغمضهما ، وفتحهما . ثم أعاد النظر إلى الواقف بجانبه ، وإلى الطريق والبنايات أمامه ..
تحسس البندقية وهو يرمق مسلحاً يعبر المسافة بين تقاطعات شارعين . قبل أن يلتقط البندقية من فوق الساتر ، كان المسلح قد اختفى ..
قرب جهاز اللاسلكى من أذنه ، يستمع إلى اختلاط المكالمات والملاحظات والأوامر ، ربما يكون بينها ما يأمره بفعل شئ . يحدد له الهدف الذى ينبغى أن يصوب إليه رصاص بندقيته ..
أغلق الجهاز ..
ركز نظرته على الجسد الأنثوى ، يبين عن قسماته فى العباءة السوداء . قدمت من شارع جانبى ناحية دكان البقال ..
خمن من تلويحة يد الشاب أنه ينتظرها ..
اطمأن ـ بنظرة جانبية ـ إلى زميله خلف الساتر الرملى ، قرفص فى إغفاءة بين جوالين . أسند البندقية على الساتر أمامه . ثبت النظارة المكبرة على مدخل الدكان . وقف أمامه الشاب والفتاة . الحاجز الخشبى فوقه رخامة تحتل معظم مساحة الواجهة ، ماعدا مساحة صغيرة سدت بباب ذى مفصلات ، ينفذ منها إلى الداخل ..
مد يده لها بالمصافحة . استبقى يدها فى يده ، وضغط عليها بكفه . لما ربتت صدره بيدها ، حدس أنهما يعرفان بعضهما . ما يراه ليس أول لقاءاتهما ..
تابع إشارة الشاب ناحية البناية المتهدمة . قال كلاماً كثيراً ، أضاف إليه تعبيرات يديه . مرر جانب يده على رقبته دلالة الموت ..
أزاحت العباءة عن مقدمة الرأس ، فبرزت خصلة من شعرها . أظهرت التأثر فى إسناد ذقنها على قبضة يدها ، وإعادة النظر إلى المكان بعينين متأملتين ..
رفع الشاب رأسه وذراعيه إلى السماء ، وقال ما لم يتبينه ، ثم مسح براحتيه على وجهه ..
قال الشاب ما فطن إلى معناه فى اتجاه نظرة الفتاة إلى الناحية المقابلة ..
التفت ـ بتلقائية ـ إلى مصدر ترامى هدير سيارة . مد عنقه ، وزوى عينيه . تبين عربة مصفحة ، بداخلها ضابط وثلاثة جنود . مالت إلى الشارع الجانبى أسفل الساتر الرملى ، واختفت ..
قرن الشاب كلماته بإيماءة إلى الدكان : هل يدعوها إلى الدخول ؟
كان الدكان من الداخل معتماً ، لم يستطع تبين ما إذا كان خالياً ..
تحركت شفتا الشاب كمن يهم بالكلام ، ثم سكت . لزم صمتاً ، واكتفى بالنظر إلى قدميه ..
نبهته إلى أنه وضع زرار القميص العلوى فى العروة الثانية . اتجه إلى الناحية المقابلة . تأكد من وجود الأزرار فى مواضعها ، وعاد إليها بابتسامة معتذرة ..
ظل صامتاً ، وإن استحثته بنظرة مشجعة على الكلام ..
شوحت بيدها ، وابتعدت خطوات . لحقها . مد ذراعيه . أعادها إلى وقفتها أمام الدكان ..
أزاحت خصلة الشعر المتهدلة على جبينها ، وواجهته بنظرة متسائلة . انتفضت لسقوط ورقة يابسة من فوق الشجرة . طفرتها بطرف إصبعها . تأمل نثارها على الأرض ، وداست عليه ..
خبط جبهته علامة التذكر . اتسعت ابتسامتها ـ رد فعل لما قاله ـ فتوضحت الغمازتان فى وجنتيها ، والتمعت أسنانها البيضاء . قربت فمها من أذنه . قالت ما أضحكه حتى ضرب ركبته ..
أخفضت عينيها ، فحدس أنه قال ما أربكها . أشاحت بوجهها حتى لا يفطن إلى ما قد تعبر عنه عيناها ..
لو يعرف ماذا يقولان ؟ ماذا يقول لها ؟ ماذا تقول له ؟ . التخمين صعب ، وإن حرك الشاب يده بما يشى أنه قال ما لديه ..
ظلت أصابعها على ظهر يده ، كأنها استراحت إلى هذا الوضع . داعبت ظهر كفه بظفرها . عاد إلى احتواء أصابع يدها بين راحته ، يضغط عليها بآخر ما عنده ، وهى تضحك . وضعت سبابتها على شفتيه ، دلالة أن يصمت . تظاهر بأنه سيعض إصبعها . احتضن الإصبع ، ورفع إلى شفتيه ، وقبله . تراجعت بأعلى كتفيها ، وأعادت خصلة الشعر المتهدلة بهبة هواء مفاجئة ..
أحس بتوتر يتولد داخل نفسه ، لا يدرك بواعثه ، وتملكه إحساس بالمحاصرة . لم يستطع السيطرة على انفعاله . اختلطت المشاعر فى داخله . تداخلت ، وتشابكت . غاب حتى إحساسه بالزمان والمكان . حاول أن يتجه بنظراته إلى أعلى ، حتى يعود إلى نفسه ..
كانت الشمس قد مالت نحو الغروب . انحسرت عن الأسطح وأعلى البيوت ، وتقلصت الظلال . تناثرت سحب كثيفة تشى بمطر وشيك ، ودارت أوراق الشجرة المتساقطة فى دوامة بتأثير الهواء المندفع من تلاقى الشوارع الجانبية .
تأكد من وجود رأس الشاب فى دائرة التلسكوب ..
ضغط على الزناد .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*الثورة*
............
حين وصل إلى نهاية الرواية ، كان مصير الفتاة يشغله تماماً . بدا الظلم أشد مما يستطيع احتماله ، كأنه الموت ، أو أقسى ..
أغلق الكتاب بعنف ، ونزل إلى الطريق ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*الإستاكوزا*
..................
ـ 1 ـ
البحر حصيرة ..
تابع سرباً من غربان البحر يحلق فوق الخليج ، يحرك أجنحته ، ويطير بلا صوت . أعاد النظر إلى السمكة فى قاع الطراحة . ليست من الأنواع التى اعتاد صيدها فى المينا الشرقية وخليج الأنفوشى . المرجان والبورى والمياس والبربونى . شكلها ما بين الجمبرى والكابوريا ..
تفحص المعلم محمود الطويل السمكة . قلبها فى يديه :
ـ هذه استاكوزا ..
علا صوت زناتى حلبو متسائلاً :
ـ الأنفوشى لا يعرف الإستاكوزا .. إنها صيد خارج البوغاز.
قبل أن تهلك السمكة فى وقت الأسئلة ، قذف بها المعلم محمود الطويل إلى الماء . قال لنظرة الدهشة فى عينى زناتى :
ـ فلنعطها فرصة للتكاثر فى مياه الأنفوشى !
جرت الإستاكوزا ـ بسرعة مذهلة ـ فى اتجاه البحر .
ـ 2 ـ
طالت قعدة صياد السنارة محروس الشاطبى على المصد الأسمنتى . النفايات فى أسفل تعلو برائحة نفاذة . الصمت يعمقه أزيز لف بكرة السنارة ، وصوت موتور يتناهى من وراء قلعة قايتباى . أرهقه الملل ، فمضى . نشر صيادو الجرافة شباكهم ـ يحدها إطار الفلين ـ على دائرة واسعة . لم يكن فيها ـ بعد جرها إلى الشاطئ ـ سوى صغار الأسماك ـ تساقطت من الثقوب ـ والطحالب والأعشاب .
تكرر إلقاء الطراحة ، وسحبها . لم يكن فيها إلا كميات من الإستاكوزا . أنستهم غياب الأسماك الأخرى التى اعتادوا صيدها . نزع القشرة المتغضنة ، والتلذذ بطعم قطع اللحم الوردية اللون . لمحها الرجال تتخلل أعشاب البحر الطافية فوق المياه ، تزحف فوق الرمال ، وبين الأصداف والقواقع والطحالب وبقايا الأعشاب وزيوت المراكب والقناديل الميتة . تتخلل الأحجار الصغيرة والحصى والجحور والصخور المدببة بالخضرة اللزقة ..
ـ 3 ـ
تكاثرت الإستاكوزا . تقافزت فوق المياه . لامست الأجساد . زحفت فوق رمال الشاطئ . تسللت إلى ورش المراكب والكبائن ما بين الحجارى وسراى رأس التين ..
أدرك الرجال أن الإستاكوزا تأكل ما تصادفه من بيض السمك . اختفى البيض من أماكن الفقس والتوالد . اللحم الشهى ـ مخلوطاً بالأرز ـ على موائد الطعام ، دفع الرجال إلى إهمال نصيحة إمام أبو العباس بصيد الإستاكوزا ..
ـ 4 ـ
حين تبين الرجال تحرك الإستاكوزا على المتبقى من غزل الصيد وقطع الفلين والقصبات والإسفنج والحبال والأشرعة ، أهملوا تصورهم بأن جزر البحر مضى بالطحالب والأعشاب إلى الأعماق . التهمت الإستاكوزا ـ الآلاف من الأجساد الصغيرة ، المتحركة ـ ما صادفته من الغزل والفلين والطحالب والأعشاب . حتى مخلفات المراكب لم تعد تطفو فوق الأمواج ، ولا يقذف بها المد على الشاطئ ..
أكلت الإستاكوزا كل ما بلغته أقدامها الصغيرة ، الكثيرة ..
لم يعد إلا الرمال المنداة بالمياه .
ـ 5 ـ
اختفت البلانسات واللانشات والفلايك وبلوطات الخشب من الورش المتلاصقة . اختفت حتى السفن الغارقة فى مياه الخليج . حتى المعدات الخشبية تآكلت . لم يعد إلا أخشاب متكسرة ، وبقايا فلايك ، وهياكل بلانسات متآكلة ..
قبل أن يظهر أهل الأنفوشى إشفاقهم على مصير الكبائن من الحجارى إلى سراى رأس التين ، كانت أسراب الإستاكوزا قد زحفت إليها . علتها ، تسللت إلى داخلها ، انشغلت بالتهام أبنيتها الخشبية . رمقت الفئران المتقافزة فوق قطع الحجارة الضخمة ما يحدث . اختبأت فى الشقوق ..
ـ 6 ـ
خلا البحر والشاطئ تماماً . لا أسماك ، ولا طحالب ، ولا أعشاب ، ولا سفن ، ولا كبائن . رفرفت الأعلام السوداء فى مواقع متناثرة على امتداد الشاطئ ، تحذر من النزول فى المياه . ألقى المد بأعشاب البحر الخضراء ، الداكنة ، على الشاطئ . اختلطت بزيت البواخر الضخمة ومخلفات البلانسات والقواقع والرمل وقطع الأخشاب وبقايا الأطعمة . ضرب الموج صخور الشاطئ بعنف . تعالى الرذاذ ، وارتمى على امتداد الطريق . نعقت غربان البحرـ وهى تحوم فوق القارب ـ وصرخت ..
عانى الناس حيرة التوقع ..
زاد تكاثر الإستاكوزا . لم تعد فى حجمها القديم . بدت أكثر امتلاء وقدرة على الحركة . زحفت ، وتقافزت ، وعلت أصواتها بصيحات وحشية . غطت المياه والرمل بكتلة من الرءوس ، كأنها تلاصقت ..
نفض زناتى حلبو ساقه من الإستاكوزا العالقة بها ..
صرخ لرؤية الإستاكوزا فى الأجساد التى قتلها الخوف ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*حصار الأسئلة*
........................
(إلى محمد الحديدى)
زوت الراهبة ما بين عينيها ، تحاول أن تتذكر :
ـ أنت ؟
تأمل الزى البنى المنسدل إلى ما فوق الصندل والجورب الأبيض ، وغطاء الرأس الأبيض المنشى ، أحاط بالوجه ذى الملامح الدقيقة ..
قال :
ـ زكى .. شقيق محرم السلامونى ..
هزت رأسها دلالة التذكر :
ـ زرته مرات مع أبيكما ، ثم أصبح الأب يأتى بمفرده ..
لم يجد سوى الكذب وسيلة لمواجهة نظرة التأنيب فى عينيها :
ـ عدت بعد فترة سنوات من العمل فى الخارج ..
قالت وهى تمضى داخل الطرقة الطويلة ، فوق أرضيتها مشاية بنية تمتص وقع الأقدام :
ـ حالته متقدمة ..
ثم وهى تبتعد :
ـ زياراتك ستفيده كثيراً ..
الطرقة المستطيلة ، تتوسط جدارها صورة للمسيح جالساً على العرش ، فى داخل المركبة السماوية ، تحيط برأسه هالة نور ، ويحمل كتاباً فى يده اليسرى . تمتد على الجانبين أبواب غرف متقابلة ، مقفلة ، تنسدل عليها ستائر من القطيفة الداكنة الحمراء ، الحائلة اللون . كل ستارة مفتوحة من الجانبين ، على مقابض معدنية ، وتمتد ـ أمام الأبواب ـ سجاجيد صغيرة ، لها شراشيب كثيرة بألوان متداخلة ..
كان قد أطال الوقوف إلى جانب الكشك الخشبى ، انشغل فى داخله العجوز ذو البشرة التى كساها البهاق بصف علب السجائر والمناديل الورقية وأكياس الشيكولاتة والبسكويت ..
حدجه العجوز بنظرة متسائلة :
ـ هل تريد شيئاً ؟
ـ لا ..
وأشار إلى المبنى الحجرى الصامت ، أغلق بابه ونوافذه :
ـ لم أتصور أن الدار تغلق هذه الساعة ..
قال العجوز :
ـ موعد الافتتاح من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء ..
تطلع ـ بتلقائية ـ إلى الظلال التى بدأت تنسحب من أعلى البنايات المقابلة ، وقال فى لهجة تسليم :
ـ سأنتظر .
حين علا صوت المفتاح فى رتاج الباب الحديدى الضخم ، كانت الظلال وانعكاسات الضوء تفترش المكان . حدس أن المبنى صمم بحيث يسمح للهواء بالمرور فى الحجرات المتقابلة ..
ظلا صامتين ..
أنحف مما انطبع فى ذاكرته ، وتداخل البياض والسواد فى رأسه ، وسقطت من فمه سنة علوية ، وبدت عيناه أميل إلى الجحوظ ، وإن لم تفقدا وجهه ما به من وسامة ظاهرة ..
تردد مع أبيه لزيارته فى الدار الحجرية ، ذات الطابقين . الحديقة الترابية ، تسلقت سورها الحديدى الأسود فروع اللبلاب وست الحسن . تديرها الراهبات للعجائز من الرجال والنساء . وكان أبوه يحرص ـ فى كل زيارة ـ على أن يضيف إلى الإعانات التى تنفق منها الدار .
ثمة عجائز ـ أربعة أو خمسة ـ جلسوا على كراسى متناثرة ، تحت أشجار الكافور فى جوانب الحديقة .
شك من نظرته المتسائلة أنه يعرفه ..
قال :
ـ أنا زكى .. أخوك ..
ـ أين ضحى ؟
ـ فى بيتها ..
ـ لم تعد تزورنى ..
ثم وهو يتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنت أيضاً لا تزورنى ..
ـ وماذا أفعل الآن ؟
ـ كان أبى يزورنى مساء كل خميس .
قال وهو يغالب التأثر :
ـ هذا ما سأفعله . قد أزورك فى الأسبوع أكثر من مرة ..
حل الصمت ثانية ..
انشغل بشروده ، وعدم قدرته على التركيز ، وبطء فهمه ، وكلماته التى بلا معنى . استعاد ملامح واضحة ، ويغلفها الشحوب : طريق المقابر خلف القلعة ، الليلة الأخيرة فى مولد الحسين ، زحام شارع الموسكى ، ترقب أمه لصنع القهوة فوق السبرتاية ، جلسة أبيه إلى أصدقائه فى مقهى الكورسال ، وشيش التليفزيون بعد انتهاء السهرة ، صياد يجذب الحبل ليرسى قاربه على الشاطئ ..
لا يذكر متى أدرك أنه قد مضى زمن على حياته بمفرده . ألف الحياة دون أن يشاركه فيها أحد .
داخله سأم لا يعرف بواعثه . يردفه حنين إلى ملامح وأماكن طال غيابها ، فبدت كأطياف . أحس أن هناك ما ينقصه ، وأنه فى حاجة إلى من يجعل لحياته معنى .
قال الطبيب :
ـ الحالة مستقرة وإن كانت لن تشفى ..
أظهر القلق :
ـ هو مريض إذن ؟
ـ طبعاً ..
وهمس :
ـ نوع من التخلف العقلى ..
لم يتصور هذه الحالة التى صار عليها أخوه . لم يكن ينتبه إلى كلمة واحدة مما يدور حوله . يبدو غائباً عن الدنيا . يحدث أشخاصاً وهميين .
قال :
ـ هل الرعاية جيدة ؟
أطلت من عينيه نظرة غير فاهمة ..
قال :
ـ هل يقدمون لك طعاماً جيداً ؟ ملابس نظيفة ؟ تشاهد التليفزيون ؟ ..
قالت الراهبة :
ـ نحن نعطى ذوى الظروف القاسية من التبرعات التى نحصل عليها .
قال :
ـ ظروف أخى النفسية وحدها هى السبب ..
وحرك أصبعين فى دلالة :
ـ أترك له فى الأمانات أكثر من حاجته .
لمح فى عينيه انبثاق دمع ، وهو يديرهما إلى الناحية المقابلة :
ـ أريد أبى .
ـ أنا الآن أبوك . اطلب ما تريده منى ..
ـ لا أريد إلا أبى ..
وعلا صوته بنشيج :
ـ أريد أبى .
شرد محرم فيما لا يتبينه . جاراه فى الصمت ..
فاجأه بالسؤال :
ـ هل حضر أحدكم الغسل ؟
ـ أسامة زوج ضحى ..
ـ وما يدريك أن الميت هو أبوك ؟
ـ رأيته مكفناً . أعرف تكوين أبى الجسدى ..
لم يكن الموت مما يشغله ، لكن الخوف من الموت اقتحمه للمصير الذى ربما يواجهه محرم : من يدفع له إيجار الدار ؟ من يزوره ، ويطلب عرضه على الأطباء ، ويحاول استثارة ما فى نفسه من ذكريات ؟..
تنبه إلى أنه خلف البيت وراءه ، ثم عاد إليه .
المدخل غارق فى رمادية خفيفة . لاحظ تآكل السلالم الحجرية ، وتكسر الدرابزين . تحسس طريقه بالتساند على الحائط ، مطلى بالجير ، عليه رسوم أحجبة وأكف وباخرة يتصاعد الدخان من مدخنتها ، وخيوط زرقاء تمثل أمواج البحر ، ورسوم للكعبة ، وجمل ..
آخر زيارة إلى البيت مع أبيه منذ ثلاثة أعوام ، ربما قبل ذلك بأشهر . اتصل به أبوه ليصحبه إلى بيت شقيقته . طلبت تدخل الأب لحل خلافات لا تنتهى مع زوجها . اعتذر بمشاغله . بدا صوت الأب في التليفون محملاً بالغضب :
ـ كيف أطمئن إلى تحملك المسئولية من بعدى ؟
وداخل نبرته توجس :
ـ هل قررت الانسلاخ بحياتك ؟!
الجدران متآكلة ، تقشر طلاؤها ، فصنع أشكالاً وتكوينات ، وسرت الرطوبة بالصدأ فى النافذة الحديدية المطلة على المنور الخلفى . السجادة تتوسط مساحة الصالة ، تغلب عليها النقوش الزرقاء ، فوقها ـ لصق الجدار ـ كنبتان متقابلتان ، مستطيلتان ، من الخشب ، بمساند ، و كراسى وطاولات تعلو منها رائحة القدم ، عليها فازات فى نهاياتها زهور صناعية ، وقبالة الباب مرآة هائلة ، أكل الصدأ حوافيها ، وتخللها ، تغطى معظم مساحة الجدار . وفى الجدار المقابل صورة فوتوغرافية كبيرة للكعبة الشريفة . وتدلت من السقف نجفة من الزجاج الملون المقلد للكريستال . وثمة صرصار ـ فى الزاوية ـ انقلب على ظهره ، بدا من توالى حركة أقدامه أنه حى ..
اختارت الجلوس فى زاوية الكنبة . فتش ـ فى ملامحها ـ عن الصورة القديمة التى أحبها . كأنه يودعها ذاكرته ، يختزن ما بدده توالى الأعوام .
لم تتبدل الملامح كثيراً ، وإن ران على التصرفات ما أثار إشفاقه . كلماتها لا تزيد عن الهمس ، وتتجه بنظراتها إلى الأرض . أضافت الأعوام شعيرات بيضاء تسللت إلى الرأس ، ودوائر من التجاعيد الخفيفة حول العينين والفم . أهملت الزغب الأصفر الخفيف فوق شفتيها . ترتدى جلباباً واسعاً أشبه بجلابيب الرجال ..
داخلته عاطفة حقيقية ، لعلها غابت منذ سنوات طويلة . شعر أنها قريبة منه ، أنها تنتمى إليه ، وينتمى إليها ..
لماذا لم يفعل ـ من قبل ـ ما يريد أن يفعله الآن ؟ لماذا تأخر عن زيارتها ؟ ما الذى شغله عن الزيارة ؟
لم يستطع ـ بينه وبين نفسه ـ أن يصل إلى إجابة . كرر إرجاءه للأمر ، حتى أهمله تماماً ..
لاحظ نظرتها المتأملة ..
هل ما تزال على عادتها القديمة فى محاولة قراءة مشاعره ؟ هل يبدو ارتباكه ، وعجزه فى البحث عن الكلمات المناسبة ؟
أومأت برأسها ناحية الزوج الجالس فى الزاوية المقابلة :
ـ أنت لم تلتق بزكي من أعوام ..
ران على قامته ذبول ، وبدا أقصر مما كان . هل هو تقدم السن ؟
غاب الجسد المتماسك ، والضحكة المقهقهة ، والصوت العالى . مالت كلماته المرحبة إلى البطء ، ووضحت الثاء بدلاً من السين فى النطق . خمن أنه ركب طقما للأسنان . ترهل جفناه ، ومال بياض عينيه إلى الصفرة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته ، وتناثرت فى وجهه بقع من الشعر المختلط السواد بالبياض . أكثر من لعق شفتيه بلسانه ، فأدرك أنه يعانى السكر . ارتدى جلباباً من الكشمير ، وترك قدماه حافيتين ..
حل صمت مفاجئ . عانى ارتباكاً لم يدرك بواعثه . بدا أنها تعانى الشعور نفسه ، وإن لم يفسره على نحو محدد . هل لمفاجأة الزيارة ، أم أنه استدعى ما كانت قد أهملت تذكره ؟
نادى على الولد الواقف خلف الباب الموارب . تلقاه بذراعين مفتوحتين . تعلق الولد بعنقه ، وأسلم له خديه يقبلهما ..
قالت ضحى فى لهجة محايدة :
ـ هذا مرتضى .. لم تره منذ ولادته ..
وأومأت إلى مرتضى :
ـ قبل خالك .
أضافت لنظرة الولد المتسائلة :
ـ هذا خالك .
أجلس الولد الأصغر على ركبته . قبل خده ، ومسح بيده على شعره ..
قالت ضحى بلهجتها المحايدة :
ـ محيى .. انقطعت زياراتك قبل ولادته ..
لاحظ أنها تضع فى معصمها ساعة أبيه ، وتدير أصابع يدها على المسبحة التى ظل أبوه ممسكاً بها حتى وفاته .
وضع انفعاله فى تقبيل الولد :
ـ شاطر فى المدرسة ؟
اكتفى محيى ـ دلالة التأكيد ـ بإيماءة من رأسه ..
ماذا ورث الولد منه ؟
أخفق ـ حين أعاد تأمله ـ فى التعرف على الملامح المشابهة ، وإن حدس أنه ورث عن أمه امتلاء الوجه ، والعينين المسحوبتين ..
لو أنه تزوج !.. ربما أنجب أبناء يماثلون الولدين فى العمر ، وربما كانا أكبر منهما ..
وهو ينزل الولد من تحت إبطيه إلى الأرض :
ـ هل تزورين محرم ؟
قالت :
ـ إن زرته .. لابد أن أحمل معى هدية ..
وهو يدارى انفعاله :
ـ أتكفل بدفع مصاريف الدار ..
ـ لن أذهب بيد ورا ويد قدام ..
ـ ربما زرته غداً ..
رمقته بنظرة مستنكرة :
ـ ألم تزره حتى الآن ؟ ألم تزره منذ وفاة أبينا ؟
غلبه الصمت والارتباك . هل تلمح ضحى بأنه هو السبب فيما يعانيه محرم ؟ هل هو المسئول ؟
قالت وهى تربت فخذه :
ـ أنت الآن أخونا الكبير .. وأبونا ..
تمنى لو أنها تخلت عن كلماتها الملمحة . لو أنها أظهرت غضبها ، ولامته على غيابه الطويل .
يدرك أن الإجابة لن تقنعها . حين أدار الكلمات فى ذهنه ، لم يقتنع هو نفسه .
المشاغل !.. كلمة بلا معنى فى توالى السنين .
قال أسامة فى لهجته المتباطئة :
ـ أبوك كان ينعى همنا ..
وسكت .
ومضت القامة الطويلة ، والكتفان العريضتان ، والبشرة السمراء ، والعينان اللتان تحتويان من يحدثه.
استعاد ما روى عقب وفاته . هل مات ميتة ربه ؟ أو دس له السم فى الطعام ؟ أو قتل فى ظروف رفضت الشرطة أن تخبرهم بها ؟
قتله الإحساس باليتم ، وإن عانى توالى المشكلات ـ فيما بعد ـ وانفضاض أقاربه وأصدقاء أبيه . باعد العجز بينه وبين ضحى ومحرم . قلت زياراته ، ثم انتهت ..
شعر ـ وهو يهبط السلم ـ بنظراتها تتبعه من وراء ظهره . لما وصل إلى البسطة ، استدار ، ورفع رأسه . كانت تستند بصدرها على الدرابزين . لوحت بيدها وهى تقول :
ـ لا إله إلا الله .
قال :
ـ محمد رسول الله .
أشفق على محرم مما يعانيه ، كأنه يمضى إلى دنيا غير الدنيا .
بدا أمام خيارين : إما أن يفعل شيئاً ، يدفع نقوداً زائدة ، أو يهدد ، أو يتوسل حتى ، لتصير معاملة الدار لأخيه على ما هى عليه ، أو أن يصحبه إلى البيت ، وهو ما لن يستطيع تدبره ، ولا يعرف كيف يتولى رعايته بمفرده .
أزمع ألا ينصرف حتى يطلب محرم الطعام . يعيد قطعة الجبن والبيضة وحبات الزيتون . يصر على الخضار واللحمة والأرز . يجلس معه حتى يفرغ من تناول الطعام . يصحبه إلى حجرة نومه . يفرد الغطاء فوقه . يطمئن إلى نومه ..
مضى داخل الحجرة وراءه ..
التفت محرم ناحيته مستغرباً . ثم تجاهله . اتجه بالكلام إلى ما لا يتبينه . لا تتصل جملتان بمعنى محدد ، فالكلمات غامضة ، مختلطة ، لا يفهم ماذا يعنى محرم ، ولا إلى أين يتجه بكلماته . تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ أن يتبادل مع أخيه حواراً كالذى يتبادله الأخوة ، كالذى يتبادله الناس . يسأل ويجيب ، يأخذ ويعطى ، يفض عما بنفسه ..
أطال إليه النظر ..
تملكته الحيرة فلم يدر كيف يتصرف . هو يريد أن يفعل شيئاً ، لكن ما يراه يبدو أقسى من أى تصرف . كان يحرك ذراعيه ، ويهز رأسه ، ويوجه حديثه إلى من لا يراه .
ظلت الكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، مجرد كلمات متقطعة ، متناثرة ، لا تعبر عن معنى محدد ..
لو أنه استطاع أن يستعيد أخاه ، ينتزعه مما هو فيه ..
واجهه محرم بنظرة مؤنبة ، وهو يشير إلى الفراغ :
ـ هذا أبونا .. لماذا لا تكلمه ؟!
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*التحليق بلا أجنحة*
.............................
اقتحمه شعور بالغربة ..
لم يعد يدرى لماذا هو فى هذه المدينة ؟ وإلى أين تمضى الشوارع ؟ وإلى أين يتجه ؟
هذه ليست أولى رحلاته إلى الخارج ، لكنها أولى رحلاته إلى لندن ..
حين استقل الطائرة ، كانت المدينة ـ فى مخيلته ـ مجرد تصورات . لا قسمات محددة : بنايات وساحات وميادين وشوارع وأسواق وجسور وتماثيل وأبراج كنائس وحدائق .
أدرك أنه يعرف شوارعها ، وإن عانى الغربة . انطبعت ملامحها فى ذهنه من أحاديث مرجريت وقراءات الصحف ومشاهد التليفزيون . اعتاد أسماء الوست إند وبيج بن وكوفنت جاردن والمتحف البريطانى وهايد بارك وقصر باكينجهام ..
تأمل مبنى المطار . صالة هائلة يتفرع منها العديد من الأروقة والردهات والسلالم المتحركة ، وإعلانات النيون تعلو الجدران ، وصفوف الكراسى ، وكاونترات الجوازات وشركات الطيران ، وعربات نقل الأمتعة ، ووجوه المسافرين .
أزمع أن يقضى ليلته فى فندق . ينتظر طلوع النهار ، ثم يبدأ البحث ..
***
أحس ـ وهو يغادر الفندق فى غبشة الصباح الباكر ، أن اليوم كله أمامه .
ترك حقيبته فى الحجرة ، حقيبة واحدة ، متوسطة . استعان بخريطة سياحية ، تعرف فيها على الأماكن المهمة . نقاط ينطلق منها إلى الميادين والشوارع وضفتى التايمز . يستطيع أن يتنقل فى أحياء المدينة الواسعة ، يبحث عن الشقة فى أكثر من عنوان ، فى أكثر من حى .
تلاشى الحنين الذى كان يناوشه إلى المطارات والفنادق والمدن والأسواق والبشر الذين لم يلتق بهم من قبل . همه أن يرى الولد أمامه ..
شرد فى صورة مرجريت . فرضت عليه ـ فى هذه اللحظة ـ نفسها : السحنة ، والتصرفات ، وطريقة الكلام ..
قال :
ـ تربية الطفل مسئولية أبيه وأمه ..
قالت :
ـ هذا صحيح .. لكنها مسئولية الأم أولاً ..
ـ دعينا من الأولويات . إنها مسئولية الوالدين ..
تخبطت علاقتهما . بدا الانفصال نهاية مؤكدة . ما حدث ليس شرخاً فيسهل التئامه . إذا تكسر الشيء ، تحطم ، يصعب أن يعود إلى ما كان عليه . وجد فى الإرجاء ما قد يأتى بالحل . تغاضى عن إصرارها على مضايقته . أهمل المعايرة ، والتلميز ، والعبارات المفعمة بالتورية ..
التقيا ـ للمرة الأولى ـ فى رحلة للأقصر . رافقها فى زيارتها لمعابد الكرنك ، ومعبد الأقصر فى البر الشرقي ، والمعابد الجنائزية ، ومقابر وادى الملوك والملكات ، ومقابر الأشراف فى البر الغربى ..
بدت مسحورة وهى تجيل النظر فى ما حولها . هذه مدينة المدائن الأثرية . لو أتيح لى الاستقرار فيها . لو تحولت إلى نخلة تطل على طريق الكباش ..
قبل أن تبدأ فى إعداد حقائبها ، همس :
ـ هل تتزوجيننى ؟
حدس ـ من دائرة السحر التى تعيش فيها ـ أنها ستوافق . لكن المفاجأة أخذته لموافقتها . لم تناقش الأمر ، ولا تحدثت عن ظروف من أى نوع ..
لم يعد يتردد على الشقة إلا لتغيير ملابسه ..
حاول ـ بكل طاقته ـ أن تظل الأمور على تماسكها . تفادى الرياح والنوات والزلازل والأعاصير ..
أذهله قرارها ..
قال :
ـ لن تخرجى !
علا صوته بما لم يعهده فى نفسه . شعر أنه لابد أن يكون سيد نفسه للمرة الأولى . يناقش ، ويقبل ، ويرفض ..
دفعته بيد غاضبة ، وخرجت . اكتفى ـ فى ذهوله ـ بمتابعتها ، وهى تقفز فى نزولها على السلم ..
حين ضغط على الجرس ، ترامى الصمت من الداخل . خبط على الباب بقبضة غاضبة ..
ظل الصمت سادراً ..
أدار المفتاح فى الباب .
كان دولاب حجرة النوم مفتوحاً ، وخالياً من ملابسها . بدا السرير خالياً ، ومرتباً . لا آثار نوم فوق الوسادة ، أو فى الفراش . حتى طيات الأغطية ظلت فى موضعها ..
عرف أنها تركت البيت .
أجهده البحث . تنقل بين أحياء القاهرة . يسأل من كانت تعرفهم ، ومن عرفهم بها . حتى من لم يجاوز تعرفها إليهم حفل الزفاف ، سألهم عنها . طالعه هز الرأس ، مط الشفتين ، القول من خلال الدهشة المتسائلة : لا أعرف . لا يشعر بالتعب إلا حين يسلم جسده إلى الفراش .
تعددت الشوارع التى سار فيها ، والسلالم التى رقاها ، والأبواب التى طرقها ، والسحن التى طالعته . هزة الرأس دلالة النفى تغنى عن القول : لا أعرف . لا أحد يعرف البيت ، أو مرجريت . حاول ـ برسم الكلمات ـ تقريب الصورة فتنشط الذاكرة ، وتتجسد الملامح . لكن نظرة النفى جدار يصد ما يفعل ..
تكرر النفى ، ففرضت التوقعات القاسية نفسها . شعر أنه غير قادر على مواجهة الموقف . تنامت فى داخله هواجس خمن بواعثها . فقد الرغبة فى الحياة . لم يعد لها أى معنى ..
لم يعد أمامه سوى احتمال أن تكون قد صحبت الولد خارج مصر . لا يدرى كيف ولا متى أعدت أوراقها وأوراق الولد ، ولا من الذى ساعدها حتى طارت به . سيطرت عليه فكرة السفر إلى لندن . بدا السفر وسيلة وحيدة لرؤية الولد . يعرف العنوان من مراسلاتها لأمها ، لكنه لا يعرف موضعه إن كان فى قلب المدينة ، أم فى ضاحية لها ، أم فى مدينة إقليمية ..
سار دون أن يعرف جيداً موضع الشارع الذى يقصده .
الفجوة واسعة بين ما كان يتصوره وما يراه . حدثته عن الشقة فى شارع أوكسفورد . قالت إنه يمتلئ بالعرب . الملامح العربية كثيرة . يذهبون للتسوق فى الشارع . الشقة فى الطابق الثالث من بيت تتوسطه . تحدثت عن المقهى فى أسفل البيت ، تضطر للسير بين الكراسى المشغولة حتى تصل إلى الباب الخارجي . خطر له أن يسأل رجل على ناصية الطريق . عانى التردد ، ثم واصل السير .
حدّس أنه يدور فى دوائر . ينتهى إلى النقطة التى بدأ منها . يدرك أنه سبق له رؤية المكان ، فلا معنى للبدء من جديد ..
مضى نحو مكان لا يعرفه .
المدينة الهائلة غابة من البنايات والشوارع والميادين والبشر واللافتات وإعلانات النيون والحدائق والتماثيل والأبراج .
تجول بلا هدف ، لا يدرى إلى أين يتجه ، ولا المكان الذى يريده . ثمة هاتف ـ لا يدرى كنهه ـ يجتذبه إلى مكان ما . يطيل الوقفة ـ دون تأمل حقيقى ـ أمام واجهات المحال ، يغسل وجهه فى نافورة تتوسط ميداناً ، على ناصيته لافتة باسم ميدان " ترافالكار " ، يجلس فوق مقعد خشبى بحديقة عامة . يستعيد يوم صحب الولد إلى خارج البيت ـ لأول مرة ـ ليرى الشمس ، لحظة بصق طعم البن من ثدى أمه ليفطم ، أخذه إلى الحلاق ليصفف شعره بعد أيام من ولادته . يدفعه الشوق لرؤيته ، يراه ، يحتضنه . إذا لم يعثر على الولد ، فلن يكون لديه شىء يصنعه . لو أن عناء البحث ـ باليأس ـ انتهى ، ستصبح الحياة بلا معنى ..
مال إلى شارع إيدجوير الواسع . طالعته اللافتة الزرقاء على ناصية الشارع . هو بالقرب من شارع أكسفورد . الشارعان ، المنطقة كلها ، تمتلئ بالعرب : المطاعم اللبنانية والشرقية . الشاورما والطعمية والحلويات الشرقية واللافتات المكتوبة بالعربية ..
حدّس أنها هنا . ستطالعه فى لحظة ما قد لا يتوقعها ، لكنها موجودة فى شقة ما ، فى هذه البنايات المتلاصقة التى تفصلها الشوارع والحدائق والميادين ..
لندن مدينة كبيرة ، متشعبة ، هى واحدة من الملايين التى تسكن فيها . لا يعرف أين على وجه التحديد ، لكنه يثق من وجودها ، ويثق أن الولد يعيش معها . هى فى بيت من هذه البيوت المتلاصقة أمامه ، من حولها حدائق ، تعلوها أسقف القرميد المائلة ..
أدرك أنه من الصعب أن يمضى فى قلب المدينة ، دون أن يركب سيارة عامة ، تصل إلى أماكن محددة ، يعرف أنها تصل إلى المكان الذى يقصده ..
هذا هو الحى كما وصفته . نسى اسم الشارع ، ورقم البيت . لكن ذاكرته احتفظت باسم الحى ، ربما لسهولته . يتأمل ملامح النساء . يطيل تأمل من يجتذبه الشبه بينها وبين مرجريت . خطواته لا تتبعها ، لكنها تبحث عن الولد ..
صرخ لاختطاف الحقيبة الجلدية الصغيرة من يده . جرى وراء الشاب الزنجى بآخر قوته . سبقه . وضع قدمه فى طريقه ، فسقط الشاب من طوله ..
رد له الشاب الحقيبة . قال وهو ينفض نفسه :
ـ أخف الحقيبة . لن تجرى وراء كل من سيخطفها !
***
توالت أيامه فى المدينة ، دون أن يفقد الأمل . طرد الخاطر بأنه لن يستطيع لقاءها فى هذه المدينة الواسعة ، الغامضة ، الغريبة .
كشف باب المقهى المفتوح والنوافذ الزجاجية عن قاعة واسعة ، صفت فيها موائد ، تتقابل حولها الكراسي .
مال ـ بالتعب ـ إلى الداخل ..
النافذة الزجاجية المغلقة ، بامتداد الواجهة ، جلس وراءها ، يتابع حركة المرور ، ويلمح الداخلين والخارجين .
تشاغل بتأمل المكان ..
ثمة رجال ونساء تقابلوا على الموائد ، وامتلأت الكراسى العالية ، أمام الطاولة الرخامية فى الوسط ، من ورائها أرفف فوقها زجاجات متباينة الألوان ، وأغنية بالفرنسية تترامى من مسجل فى موضع قريب .
تنبه إلى رائحة عطر أنثوى .
التفت بتلقائية . لم يلحظ متى جلست المرأة على الكرسى المجاور ، لكنها كانت تتجه ناحيته بنظرة تعد بما استطاع فهمه ..
تملكه شعور أنه التقى بها من قبل . لا يدرى أين ولا متى . رآها فى مكان ما ، ولعله رآها فى حلم . زادت من المساحيق فى وجهها ، فلم يتعرف ـ من النظرة السريعة ـ إلى ملامحها ..
عاود التطلع إليها .
لاحظ العينين الخضراوين ، عمقتا من خلال الرموش الطويلة والكحل ، والأنف الصغير ، والشفتين المصبوغتين بحمرة قانية زادت من غلظتهما ، ووضعت شامة صغيرة ، مستديرة ، على خدها الأيمن . أدرك من صفرة إصبعيها حول السيجارة ، والسواد فى أسنانها ، أنها تكثر من التدخين ..
عاد إلى تشاغله بتأمل المكان : الأضواء الشاحبة ، والنداءات ، والأغنية الفرنسية الكلمات ..
سحب قدمه من ضغطة حذاء متعمدة . بادرته بالحديث بصورة مفاجئة :
ـ هل أنت آسيوى ؟
ثم وهى تزوى ما بين حاجبيها :
ـ هندى .. باكستانى ..
قاطعها :
ـ مصرى .
ـ جئت للسياحة ؟
ـ لا أمتلك رفاهية السائح .
وهز رأسه فى تأثر :
ـ جئت لحل مشكلة !
روى لها الأمر من بداياته .
وضعت متابعتها فى نظرة ثابتة ، اتجهت بها إليه . هو يروى ، يفض ما بنفسه ، يتهدج صوته بالتأثر ، يغمض عينيه لاستعادة ما مضى . هى تهز رأسها .
***
صحا على ضوء الشمس يقتحم عينيه .
انتفض . تلفت حوله ..
الحجرة الخالية تختلف عما يتذكره حين قدم مع المرأة أول الليل . لاحظ تهدج صوتها ، ونظراتها الداعية . هتف فى داخله صوت يشجعه على المغامرة ، الاستجابة إلى التعبيرات والإيماءات المحرضة . تملكه إحساس أنه يفلت فرصة ربما لن تعود . واتته جرأة لم يتوقعها فى نفسه . لامس يدها المسترخية على الطاولة . لم تسحبها . صحبته إلى شارع جانبى . استقلا المصعد إلى الطابق الخامس .
الشقة الواسعة تسبح فى إضاءة خفيفة ، علقت على الجدران أقنعة إفريقية ، وأقواس ، وسهام ، وفرش على الأرض جلود حيوان . على الطاولة ـ وسط الصالة ـ سلة كبيرة مليئة بالفواكه ، وشمعدانان متجاوران ، وفى الأركان أصص الزهور تصاعدت منها نباتات حلزونية .
استأذنت لتبدّل ثيابها ..
عادت ـ بعد دقائق ـ حافية ، ترتدى قميص نوم من الشيفون الأسود ..
ماذا حدث له فى أثناء الليل ؟
يذكر صحوه ، لكنه لا يذكر ما حدث فى النوم ..
هبط إلى الطريق .
استقبلته الشوارع والساحات والميادين والبنايات وتقاطعات الطرق والأشجار وجلسات المقاهى والوجوه التى لا تعرفه . تشاغل بقراءة لافتات الطريق والمحال ، يحاول استعادة المكان . حتى البنايات الهائلة ، لا يتذكر أنه رآها من قبل . اقتحمه شعور أن كل ما رآه ـ فى الليلة السابقة ـ لم يحدث ، وأن المرأة لا وجود لها ..
واصل السير .
لم يعد يدرى مقصده . نسى ما يريده ، ما يبحث عنه ..
أخذته الشوارع . تقاطعت الطرق ، وتفرعت . اختلطت ـ فى عينيه ـ السحن والقامات والأزياء والأصوات . أدرك أنه فى مدينة غريبة ، لم يرها من قبل ..
طالعه فى أفق الطريق ما يشبه الغلالة التى تتخلل المرئيات . بدا المارة ـ من ورائها ـ كأطياف ، أو كأشباح . يتعالى وقع الأقدام على الأرض المنداة ، دون أن يستبين الأجساد ، ولا الوجوه . حتى أضواء الشوارع والمحال ، غلفها الشحوب . تلاحقت الغلالات ، تشابكت ، تحولت إلى موجات من الضباب المتكاثف . تصاعدت موجات الضباب حتى غطت البشر والأبنية وأسفلت الطريق ..
لم يعد يعرف من هو ، ولا فى أية مدينة يعانى التلفت ، لا يعرف شيئاً مما يتحرك حوله ..
لماذا هو فى هذه المدينة ، وإلى أين يتجه ؟
اشتد الضباب ، فغابت الرؤية .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*ارتحال السكون*
.........................
طرف الخيط يصعب التقاطه . وصل النتائج بأسبابها ربما ساعد على توضيح ما غمض . أتابعك وأنت تميلين من ناحية شارع سيدى داود إلى شارع الحجارى . لا أحاول اجتذابك إلى حديث بسؤال ، أو ملاحظة . أكتفى بهزة الرأس . أظهر التأثر لرؤيتك وأنت تفتحين الباب الزجاجى ، وتعيدين ترتيب البضائع على الأرفف ، وفى الفاترينة ، وتكنسين داخل الدكان وخارجه . حلوى من كل الأنواع . علب الشيكولاتة والبسكويت ، وأقراص المشبك والكعك والمعمولة ، ومكعبات الزبدة والكيك والجاتوه، والمرطبات والمياه الغازية ، والدولاب الزجاجى على أرففه قطع التورتة بتكوينات مختلفة ، وصينية الهريسة تعلو النيران الهادئة ..
لم يعد فى حياتى قبل ولا بعد . خلت مساحة الصورة إلا منك . لم أعد أرى فى الدنيا فتاة أخرى . أضع اهتمامى ـ بالساعات ـ فى وقفتى وراء النافذة . أتابع كل ما تفعلين . ألحظ حتى التصرفات العفوية . أخمن الكلمات التى ترافقها ابتسامة وجهك ، فى بيع الحلوى للزبائن . أرهف سمعى كأنى أريد التقاط الهمسات المتبادلة بينك وبين مدحت شاهين . أهمل حتى مواربة ضلفتى النافذة عندما تقتحم الشمس الشقة ، بعد أن تتجه إلى الناحية المقابلة. ذلك ما كنت أحرص عليه ، أو أغلق النافذة تماماً ، منذ الظهر إلى ما بعد المغرب ..
أذكر متى ظهر مدحت شاهين فى حياتك ، فى حياتنا . هز المفتاح فى يده وهو يتجه ناحية دكان أدوات الصيد الملاصق لدكان الحلوانى الذى تعملين فيه . القامة طويلة ، والبشرة نحاسية ، والعينان تشيان بنظرة مقتحمة . تابعت انشغاله بترتيب كومات الغزل والحبال وقطع الفلين والإسفنج وبراميل القطران والبوص والسنارات والسكاكين والخطافات وطعم السمك .
لاحظت ـ من وقفتى فى النافذة المطلة على ناصية شارع الحجارى ـ أنه قدم نفسه فى اللحظة الأولى ، كأنه قدم للتعرف إليك . تحولت هزة الرأس المحيية ـ فى الأيام التالية ـ إلى مناقشات ، وأخذ ورد ، وملاحظات . اعتدت وقوفه بعيداً عن دكان أدوات الصيد ، ووقوفه أمام دكانك . بدا كشيطان برز فى حياتنا ليفسدها . يشغلك حتى عن نفسك ، ويقتلنى بالتوتر ..
حين يقرر المرء أن يحب ، فهو يبحث عمن يبادله العاطفة . تصورت ظهوره فى حياتك بداية علاقة جميلة تأنسين إليها . ألمح التماع عينيك البنيتين ، وارتعاشة أنفك الدقيق ، والحمرة التى تغطى وجنتيك . تابعت لهفتك وأنت تنظرين إلى دكان الصيد المغلق . التوتر ينطق فى ملامحك وتصرفاتك . لما عاد ـ فى اليوم السابع ـ على شفتيه ابتسامة فقدت المعنى ، حدست أن غيابه ليعرف ما فى نفسك ، ليزيد من شوقك للقائه ، وإيلامك .
كنت أضيق ـ أحياناً ـ بسكوتك عن تصرفاته ، وقبولك ما لا ينبغى أن تقبليه . أتململ فى وقفتى وراء النافذة لرؤية تطور العلاقة بغير ما كنت أتوقعه . يناوشنى الفضول ، والرغبة فى المتابعة . يداخلنى شعور بالضيق ، وربما الغضب ، لصمتك أمام ما يقوله ، أو يفعله . تؤلمنى نظرة الرضا فى عينيك . تتصاعد فى أعماقى موجات غضب تجاه تصرفاته فى مواجهة عجزك الواضح . تثيرنى قدرته فى السيطرة على حياتك : الثياب ، ومفردات الكلام ، وطريقة المشى ، والجلوس . حتى ما تضيفينه إلى جسدك أو تختزلينه من كيلو جرامات . كأنه أخطبوط يقيد تصرفاتك ، يمنعك من الحركة ، يعتصر حياتك ، تواجهين الموت لو أنك حاولت المقاومة ..
فقدت صبرى تجاهك . أعانى ما يفعله . أرتجف للتصرف الذى يمليه عليك ، كأنى أنا المقصود بنصائحه وملاحظاته وأوامره . حتى الثياب التى أحدس أنه دفعك إلى ارتدائها ، تمنيت لو أنك رفضت نصيحته .
بدا الأمر شخصياً . أحسست أنه يخصنى ، وأنك تخذليننى بصمتك عن تصرفاته . فى لحظة شعرت بميل إلى الغثيان . أرفض مجرد الإشفاق على ما بدت عليه العلاقة بينك وبينه . أفسد ـ بتصرفاته ـ صورتك الجميلة . غابت النظرة الطفولية الصافية . حل بدلاً منها توتر ينعكس فى ارتجاف أنفك وعينيك ، والارتباك الذى يسم تصرفاتك . تخفضين رأسك أمام عباراته القاسية ـ لابد أن تكون قاسية ـ وتكور قبضة يده بما يعنى التهديد .
أحدس مشاعرك وما تعانين ، من تعبيرات يديك ، وملامح وجهك ، والدموع التى تمسحينها بكم البلوزة البيضاء ..
لم تعد متابعتى فضولاً ، ولا حب استطلاع . شغلنى ما يحدث . أضيق بتصرفاته ، وأحزن لصمتك عما يفعل . تشغلنى توقعات أخشاها ، ولا تفطنين إليها ، وإن اكتفيت بالوقوف وراء النافذة ، وتأمل ما يجرى فى الناحية المقابلة .
همس فى أذنك بما لم أتبينه . انعكست كلماته ضيقاً فى ملامحك ، وأشحت بيدك . عاد إلى أذنك بفمه . حدست أنه يهون عليك ، ويعتذر عما فعل . قال ما استدعيت له ابتسامة ، أدركت أنها لإنهاء الموقف ، أو للمجاملة . عرفت أنه لم تعد بينكما مساحة ود . تداخلت فى نفسى مشاعر غامضة ، لم أدر إن حزنت أم سررت لها ..
أزمعت أن أفعل شيئاً ، وإن لم أدرك ـ على وجه التحديد ـ ما يمكن أن أفعله . أقاوم التردد ، وأطرده . أعبر المسافة بين البيت والدكان . أواجهه بما أكتمه فى نفسى ، وأتقبل النتائج . لكننى أعانى فقدان الرغبة فى مواجهته ، أو أنى كنت أخشى المواجهة . ما أراه من تصرفاته ، يتسلل إلى داخلى بأسئلة قاسية ، ولعله الخوف ..
كنت دائم التخيل لمواجهتى له . أحاصره فى زاوية الدكان . أحذّره من تصرفاته القاسية مع أميرتى الجميلة . أصوب إليه من اللكمات ما يجبره على التدخل ..
ناقشت الأمر بينى وبين نفسى : ماذا لو أنى وقفت أمامك ، وهمست شفتاى بالتحذير ، فواجهت الصدود ؟ هل أظل فى وقفتى ، أو أتمنى الموت
هل فطنت إلى ارتباكى وأنت تطالعيننى بملامح الأميرة فى وقفتك أمام باب الشقة . تداخلت فى نفسى مشاعر كثيرة ، غامضة . ما أذكره أنى أخفقت فى استدعاء الكلمات التى أرد بها على قولك الهامس :
ـ أستأذنك فى التليفون .
اتسم رد الفعل فى تصرفى لعفوية لم أتدبرها . غمغمت بعبارة ترحيب لا أذكرها . أفسحت لك الطريق . تأملت الشقة بتوقع نظراتك لها . الصالة الواسعة ، تتوسطها طاولة خشبية الصغيرة مغطاة بمفرش من القطيفة الحمراء ، حولها أربعة كراسى . تحتها فروة خروف ، فرشت كسجادة . اللوحات على الجدران للكعبة وصور فوتوغرافية ، ولوحات تآكلت حوافها ، أو شحبت ألوانها بمرور الوقت . الأبليكان المتقابلان على الحائط . المكتب الخشبى الصغير ، فوقه أوراق تصدير واستيراد وكتب فى المعاملات التجارية ، النجفة الخالية إلا من لمبة واحدة ، الكنبة الاستانبولى ، المروحة المتدلية من السقف تصدر طنيناً خافتاً ..
غالبت التردد لكى أنبهك إلى خطورة ما يفعله مدحت شاهين .
ـ مدحت شاهين .. قريبك ؟
التمعت عيناك البنيتان بتساؤل :
ـ لا . هو المسئول عن دكان الصيد ..
ثم فى نبرة التساؤل :
ـ لماذا ؟
ـ لا أرتاح له .
وأنت تربتين صدرك :
ـ أراه إنساناً لطيفاً ..
ـ هذا رأيك .. لى رأى آخر .
واتجهت بنظرى إلى الناحية المقابلة .
أدركت أنك تهملين تصرفاته القاسية لأنك تخشين غيابه ، فقده . لا يشغلك سوى أن يظل فى حياتك . يأتى إلى دكانه كل صباح . يقضى فيه النهار . يحدثك ـ فى وقفته على الحد الفاصل ، أو أمام دكان الحلوى ـ وإن وجدت فى انعكاسات كلماته على ملامحك ما يسهل فهمه .
ألزمت نفسى أن أظل هادئاً ، وأترك الأحداث تمضى كما هى ، هذه إرادتك . لا أتدخل على أى نحو .
لم أعد أتردد على الدائرة الجمركية إلا لأوقّع فى الساعة . هأنذا أحرص على المجىء إلى عملى ، ثم أعود . ألزم موضعى وراء النافذة ، أرقب ما يحدث فى الدكانين المتلاصقين . يبدأ يومى عندما تقبلين من ناحية الموازينى أو رأس التين . تضعين المفتاح فى الباب الزجاجى . تتأكدين من ترتيب الحلوى ، أو تعيدين ترتيبها . أهملت ملابسى والقراءة ومشاهدة التليفزيون ونوم القيلولة . حتى الطعام أتناوله فى وقفتى وراء النافذة ، لا تتحول عيناى عن الموضع الذى اجتذب اهتمامى . إذا أغلقتما الدكانين ، أنسحب إلى الداخل . أرتمى ـ بالتعب ـ على السرير . أغيب فى النوم . أصحو على رنين جرس الباب . أضع الجريدة على الطاولة الصغيرة ، لا أحاول حتى مطالعة عناوينها . أمضى إلى الدائرة الجمركية ، وأعود . ألزم وقفتى وراء النافذة .
أثارت الحقيبة الجلدية فى يدك دهشتى . أشرت إليه وأنت تتكلمين ، خمنت أن ما بالحقيبة يخصكما . لم تحاولى فتحها ، فأحاول تبين ما بها . حين أغلقتما الدكانين ، ورفع الحقيبة على كتفه ، وسرتما معاً ، انداحت فى داخلى مشاعر الضيق ـ أظن أنه لم يكن مجرد ضيق ـ حدست أنه يرافقك إلى مكان لا أعرفه ، وإن كنت لا أحب أن تذهبى إليه . تابعتكما ـ فى رمادية الغروب ـ تمضيان إلى نهاية الحجارى ..
كانت الظلال قد تقلصت ، وانسحبت بقايا الشمس خلف البيوت وأعلى الجدران . لم تعد إلا ذؤابات أميل إلى الحمرة .
تكرر ما حدث فى الأيام التالية . يدفعنى التوتر إلى خارج البيت . تتابعكما عيناى حتى تغيبان فى انحناءة الطريق إلى شارع رأس التين . أترك النافذة مفتوحة . أهبط درجات السلم . أتجه ناحية البحر ، تلازمنى أفكار مختلطة ، ومتشابكة ، لا حصر لها . تتأمل نظراتى ما لا أراه ، أو أتبينه ، التفصيلات الصغيرة تلح فى ذاكرتى : الكلمات الهامسة والزاعقة ، تكور قبضة اليد ، توبيخه المتكرر لك ، دون مقدمات ، وبلا سبب ..
أدركت أن مراقبة ما يجرى من وراء النافذة ، خطأ ينبغى التنبه إليه . أزمعت أن أبادره بتصرفات العداء ، وأدفعه إلى ترك دكان الصيد ، والحى كله . تحاصره المضايقات ، فيذهب بلا عودة . هو غريب عن بحرى ، وإن لم أعرف إن كان من الإسكندرية أم من خارجها . لا أذكر أنى التقيت به فى جامع ولا شارع ولا مقهى . بدت سحنته غريبة حين رأيته ـ أمام الدكان ـ للمرة الأولى ..
فى غبشة الصباح الباكر ، عبرت مسافة الطريق بين البيت ودكان الصيد . دلقت الماء الوسخ على بلاط الرصيف ، أمام الدكان . صبغت بابه بالشحم وبوية الزيت وما شوهه . كتبت على الجدار عبارات التهديد والشتم . دسست فى أسفل زيق الباب عملاً يذهل الشاب عن نفسه . تغيبين عن عينيه وذاكرته ، وعن حياته .
ظلت علاقتكما ـ فى الأيام التالية ـ على حالها . لم تتأثر بما صنعته . قاومت الاستياء حين رأيته يكتفى بتأملك ، وأنت تكنسين الماء الوسخ ، وتزيلين الصبغة من الباب ، وتقذفين العمل فى فتحة البالوعة لصق الرصيف .
كان الشارع ـ وقت الظهر ـ خالياً ، ودكان الحلوى بلا زبائن ، ودكان الصيد مغلقاً بلا سبب أعرفه .
لم أطل مناقشة ما اعتزمت . اندفعت إلى الناحية المقابلة ..
ـ هل استغنى صاحب الدكان عن مدحت شاهين ؟
علا حاجباك بالدهشة وأنت تنفضين يديك من بقايا الفانيليا :
ـ ما شأنك ؟
ـ الدكان لم يغلق منذ فترة طويلة ..
أشرت إلى صدرك بأصابع مضمومة :
ـ لا شأن لى ..
ورمقتنى بنظرة غاضبة :
ـ ولا شأن لك .
حاولت أن أتكلم ، لكن نظرتك الزاجرة ، أعادتنى إلى حيث كنت .
***
أذهلنى ما رأيت .
كان يدفعك بقبضته فى كتفك ، وهو يتكلم ، وأنت تتراجعين إلى الوراء ، وتتألمين . أومأت بعينك إلى الطريق ، تنبهينه إلى الأعين التى ربما تلحظ ما يفعل . رفعت يديك تحمين وجهك من ضربته المتوقعة . قاومته . حاولت أن تتملصى من يديه ، تفلتى بجسدك ، لكنه جذب شعرك ، لفه حول يده ، خبط رأسك فى الحائط . خلت ملامحه من التوقع ما إذا كانت الضربات ستجرحك ، أو ـ ربما ـ تقتلك . ألقى بك على الأرض ، لا يأبه بصراخك ، ولا انحسار الفستان عن ساقيك إلى أعلى الفخذين . توقعت ، تمنيت ، أن تردى ضرباته . لا تهملين جسدك بين يديه ، يضربه بآخر قوته ، دون أن يعبأ بتألمك وصراخك ..
انبثقت من كتفيه أذرع كثيرة ، امتدت الأصابع الخمسة فى كل يد . أحاطت بكل جسدك ، لم تترك جزءاً دون أن تصل إليه الضربات . تحولت إلى دمية يمارس فيها العنف .
تبدلت المرئيات . تحولت إلى أشكال لم أفهمها ، وفقدت الملامح معانيها .
لم يكن أمامى وقت حتى لمجرد التفكير فيما يحدث . تصاعد من أعماقى ما غطى حتى على قدرتى فى التفكير . علا فى صدرى ما يشبه قرع الطبول ..
ينبغى على المرء ـ فى لحظة ما ـ أن يتخذ قراراً يتصل بحياته ، وحياة من يهمونه . زايلتنى القدرة على الوقوف فى موضعى وراء النافذة ، والاكتفاء بالمتابعة . أزمعت أن أتصرف بحيث يعرف مدحت شاهين أن لك أصدقاء يقفون إلى جانبك ، ويدافعون عنك .
هبطت الدرجات القليلة المفضية إلى الطريق . عبرت الزحام والسيارات والنداءات والصيحات والعبارات المتسائلة .
واجهته بملامح غاضبة ..
لم يشغلنى رد الفعل ، ولا ما إذا كان يستطيع رد ضرباتى . لكننى ضربته بكل الترقب والمعاناة والغل والغضب والتحدى . لم أتدبر أين اتجهت ضرباتى ، أضرب ، وأضرب ، وأضرب ، ضربته بآخر قوتى .
حين تنبه إلى ما فعلت ، انتفض كعملاق ، وواجه ضرباتى بما لم أتوقعه ، ولا قدرة لى على مغالبته .
أهملت التخاذل والتهاوى . لم يشغلنى حتى الدم الذى انبثق من جبهتى ، ولا الآلام التى صرخت فى كل جسدى . دفس ركبتيه فى صدرى . توالت صفعاته وركلاته ، دون أن أقوى على مجرد الرد .
تماوجت ملامحه ، واهتز الواقفون والمارة والجدران وأسفلت الطريق والسيارات والنوافذ والشرفات وأعمدة النور . شعرت بما يشبه الدوار ، والميل إلى الإغماء ، وأن روحى آخذة فى التلاشى ، لكننى تماسكت فى وقفتى ، وتساندت على إفريز الجدار . حاولت أن أستجمع قوتى . أرد على ضرباته الموجعة بما وسعنى . مجرد أن ألامس رأسه أو وجهه أو ساقيه .
كنت أدافع عنك . كنت أدافع عن نفسى .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
*الحَرّاتـــــــون*
........................
أدركت أن هناك من سبقنى إلى دخول الحجرة ..
لم أكن جاوزت الباب عندما بدا الأثاث القليل فى غير المواضع التى تركته عليها : السرير المعدنى الصغير لصق الجدار ، نزعت الملاءة عن المرتبة الإسفنجية ، وما كان على المكتب ـ فى الناحية المقابلة ـ من كتب وأوراق وملفات ، تناثر على الأرض . حتى لوحة المنظر الطبيعى المعلقة على الجدار ، انتزعت من مكانها ، واختلطت بالأوراق المتناثرة على الأرض ، وطوح بالكرسى ناحية الباب ..
بدا ما حدث رسالة تؤكد أن من سبقنى لدخول الحجرة ، أراد إبلاغى رسالة بقدومه ، وأنه قدم لمهمة لم أعرف إن كانت قد تحققت ..
تسلمت مفتاح الحجرة فى اليوم الأول لنزولى الفندق ، لكننى كنت أتركها مفتوحة . ينفض عبد الرحمن ما يهب عليها من الأتربة ورمال الصحراء ـ فى تلك الأيام من يونيو 1975 ، الشديدة السخونة ـ يعيد تسوية الفراش ، ربما استبدل الملاءة وأغطية الوسائد إن تبين فيها رائحة العرق ..
تخلى عبد الرحمن عن نظراته الصامتة وتجهمه :
ـ جاءوا فى الصباح ..
لم أكن أقوى على مواجهة نظراته . شىء ما لم أتمكن من تحديده ، يثيرنى فى صمته ونظراته الساكنة ، هى نظرات تجمع بين الغضب والرفض والكراهية . أتعمد ، فلا أنظر إليه مباشرة ، حتى لا يفطن إلى ارتباكى . لا أكرهه ، ولا أتعالى عليه ، وإن حرص على أن يقيم ـ بتصرفاته الصامتة ـ جداراً بينى وبينه . ينصت ، ويجيب عن الأسئلة ، وينفذ الأوامر ، دون أن يغادر الجمود ملامحه ..
قلت :
ـ أنت تثيرنى بتصرفاتك ..
قال :
ـ لا أتأخر عن مطالبك ..
ـ ليس هذا ما أعنيه . أنت تقيم جداراً بينك وبينى ..
ـ أنا خادم .. أنت السيد الذى يأمر ..
ـ أنا ضيف ، لا شأن لى إن كنت خادماً أم سيداً ..
ـ عملى أن أظل فى خدمتك ..
أطلقت أف مستاءة :
ـ تصر على مضايقتى .
بدا لى أن العداء هو ما يربطه بى . لا تشغله محاولاتى لاجتذاب صداقته . يتحصن بالصمت حتى وهو ينظف القاعة والحجرات ، ويرتب الأثاث ، ويعد القهوة أو الشاى . ألتقى بأعضاء من مجلس النواب . أسألهم ، وأسجل أجوبتهم فى أوراقى . ربما تواعدت معهم على لقاءات خارج الفندق . أعرف أنه وضع لى صورة لا تختلف عن صور النواب الذين يترددون على الفندق . هم السادة ، وهو الحرتانى .
كنت أشعر نحوه بمودة ، لم أحاول تفسيرها . شغلنى إبداء تعاطفى ناحيته . تمنيت أن يقابل مشاعرى نحوه بما يساويها ، بمشاعر مماثلة . ضايقنى أنى لم أفلح فى الاقتراب منه ، أو تحريضه على الاقتراب منى . تصورت أن النظرة إليه هى التى تملى عليه تصرفاته . لم يكن يتحدث عن شىء يضايقه ، وإن اكتفى بالملامح الساكنة والنظرة المتجهمة . تبينت ـ بجولاتى ولقاءاتى ـ أن الفروق الاجتماعية لا تشكل ظاهرة ، ولا هى لافتة للنظر . يحيونها باعتبارها وسيلة الحياة ، السادة والحراتين . لا ينطقون الكلمتين ، وإن مارسوا الفعل . السيادة على ما يملكون من عبيد ، حراتين ..
واجهته بنظرة متسائلة :
ـ من ؟
قال :
ـ لا أعرف . إنهم يأتون دائماً للبحث عن أوراق ..
أردف :
ـ هذا ما يفعلونه دائماً فى كل حجرات الفندق !
ـ حتى حجرات النواب ؟
هز رأسه دلالة التأكيد ..
حين أوفدتنى منظمة اليونسيف إلى نواكشوط لدراسة مشكلة الحراتين ، قصرت تحركى بين فندق البرلمان ـ حيث أقيم ـ وخيام الحراتين ، فى الطريق إلى أكجوجيت .
رائحة النوم تسود الفندق ذى الطابق الواحد ، والصالة الواسعة ، والحجرات على الجانبين ، اسودت أجزاء الجدران السفلية بتوالى التبول عليها . يتناثر فى الأركان براز يشى سواده بمدته الطويلة ، ومياه راكدة ، وعطن .
حدست أنه من الصعب أن يقيم فى الفندق من يترددون عليه . هو مكان فلإقامة الطارئة ، لأيام تطول أو تقصر ، من الصعب أن تمتد لفترة طويلة .
البناية متسقة مع البنايات المطلة على الشارع المتقاطع مع الشارع الرئيسى المفضى إلى القصر الجمهورى . حتى مكاتب شركات الطيران والمؤسسات الحكومية فى امتداد الشارع ، لم تكن تعلو عن طابقين ..
أقف فى الشرفة المطلة على الطريق المفضى إلى المحيط . يترامى ـ عبر الظلمة الحالكة ـ هدير الأمواج . أخترق الصحراء ـ بمفردى ـ فى سيارة لاندروفر ، يقودها سائق سنغالى ، ينطق العربية بلكنة متعثرة . وضعتها حكومة موريتانيا تحت تصرفى . الصحراء الواقعة بين المحيط الأطلسى والنيجر والسنغال ، لم تعد كما كانت . هى جزيرة صحراوية ، تتناثر فيها المدن والقرى والخيام والزراعات والمراعى والجدب .
تنقلت بين المدن والقرى والمعسكرات ، حتى روسو على ضفة نهر السنغال . ربما سافرت إلى مدن : قاعدى ، نواذيبو ، كيفه ، زويرات ، أكجوجيت . التقيت بأفراد وجماعات من قبائل الفولانى والتكرور وساراكوللى وولوف . نزلت ضيفاً على قبائل أولياء الله الصالحين ، والقبائل المحاربة ، وقبائل الموالين ..
البيوت ذات الطابقين مغلقة . إلى جوارها خيام ، ربما بالمساحة نفسها . حركة الناس فى داخلها وأمامها ، تشى بأنها هى مكان الإقامة ..
لماذا البيوت مغلقة ؟ ولماذا يسكن الناس فى الخيام ؟
رفض أفراد طائفة التنوروبى ، طائفة النبلاء الأشراف ، استقبالى ، أو حتى الرد على أسئلتى المكتوبة .
قال الشيخ الممتلئ الجسد ، المربد السحنة :
ـ هذه فرية لا أنصحك بتصديقها ..
قلت :
ـ لا أصدق ولا أكذب .. أنا أبحث عن الحقيقة ..
ـ الحقيقة هى ما تراه ..
ثم وهو يشيح بيده :
ـ الحراتين جزء من الماضى .
***
كيف عرف الرجل ما جرى بينى وبين شيخ طائفة التنوروبى؟
لم أكن قد التقيت به من قبل . ولد البشير ، قدم نفسه مسئولاً بوزارة الخارجية ..
ـ أنتم الذين نشرتم الفوضى فى الحجرة ..
فوت ملاحظتى المتسائلة . افتعل ابتسامة :
ـ نحن نعطيك تقريراً واقعياً ..
شعرت بالارتباك . حاولت أن أثبت نظرى على شىء ما ، أتظاهر بأنى أتأمله ، حتى أعود إلى نفسى ..
ـ لن أذكر فى تقريرى سوى الحقيقة ..
ـ الحقيقة أبلغك بها شيخ التنوروبى ..
واتجه ناحيتى بملامح غاضبة :
ـ حكومتى لن توافق على معنى آخر ..
بدا الموقف أعقد من أن أتخذ فيه قراراً سريعاً . قال الرجل ما قال ومضى . أحسست بالخطر . توقعت ما لا أدركه ، حتى فى الهواء الذى أتنفسه ..
قال عبد الرحمن :
ـ الحراتون حقيقة لن يلغيها كذب الرجل ..
أردف لنظرتى المتسائلة :
ـ أستأذنك فى أن تكون ضيف قبيلتى ..
اجتذبتنى رنة الصدق فى صوته . تأملت بشرته الداكنة السمرة ، وشعره الأجعد ، وعينيه الواسعتين الصريحتين ..
صحبنى إلى خارج نواكشوط ، بالقرب من المحيط . مئات الخيام ، وأكواخ الصفيح ، فوق الأرض الرملية ، سدت أبوابها وثغراتها بالحصير ، والستائر المجدولة من قطع القماش الملون . يتخللها أولاد يلعبون ، وباعة ، وقطط ، وكلاب ، ونفايات ..
قال :
ـ هؤلاء هم الحراتون ..
لم يضف إلى قوله ما يعيننى على الفهم ، وإن بدت الظروف القاسية فى غير حاجة إلى شرح من أى نوع ..
قلت :
ـ لماذا يقبلون ؟
ـ العبودية ملغاة .. لكن الفقر موجود ..
أردف :
ـ يعودون إلى العبودية بإرادتهم !
قبائل الحراتين . يشكلون بالفعل قبائل كبيرة العدد . جلست إلى أعداد من طائفة الماتشوبى . الملامح الزنجية ، الشعر الأكرت ـ التصرفات المتذللة ، الأعمال التى تكاد تقتصر عليهم . عبيد استردوا حريتهم . صاروا خدماً ، وإن حظوا بمجالسة أسيادهم . ذابت الفواصل إلى حد يصعب إزالته ، يعيشون على التقاليد والعادات المستقرة . حتى المال لا قيمة له عندهم ، سيظل الحراتيون كذلك . ليسوا من الماضى . لم يعودوا كذلك .
أحسست فى رفقته بألفة لم أشعر بها من قبل . زال كل ما كان بينى وبينه من حواجز غير مرئية . نشأت بيننا رابطة ، مشاعر صداقة . الملامح المتجهمة أشبه بقشرة تخفى نفساً طيبة . بدا مطمئناً إلى حياته : يعيشها ، فيعبره الناس . لا يهتمون به . لا يعنون بمشاعره ، ولا ماذا يفكر فيه ، أو يفعله . اعتاد العيش فى ظروف قاسية ، فرضت عليه . يكتم الأحاسيس المتنامية فى داخله ، بالتمرد أو الرفض ..
تكلم إلى حد الثرثرة . فندق " مرحبا " فى شارع جمال عبد الناصر يقتصر ـ إلا فى النادر ـ على الفرنسيين والسياح الأجانب . أقصى إمكانية أمن تطلبها حفلات الغناء والرقص ـ تحضرها زوجة رئيس الجمهورية ـ فى ليال متقاربة داخل الفندق .
شكا لى من أن كل ما بفندق البرلمان ، المخصص لنواب المدن البعيدة ، مسئوليته وحده : المسح والكنس وترتيب الأثاث وغسيل الملابس . قد يعد الطعام والشاى والقهوة . النظرات الغاضبة ترفض مجرد إشارته إلى ما يفعله الأطفال . لا يتركون شيئاً فى حاله . ابتلع ما كان قد تهيأ لقوله حين علا صوت الرجل فى غضب :
ـ أنت خادم فى المكان ولست صاحبه ..
بدت عليه الدهشة لسؤالى المفاجئ :
ـ ألا تخشى من أن يرونا معاً ؟
ـ من هم ؟
اكتفيت بالإشارة إلى موضع غير محدد ..
قال :
ـ لأول مرة أشعر بحريتى فى تصرف وأنا أصحبك الآن ..
أردف :
ـ جميل أن تنفذ ما تريده لا ما يملى عليك ..
وأنا أتجه إلى حجرتى مددت يدى لأصافحه . بدا عليه تردد . أدركت أنه لم يتوقع أن ألامسه ..
***
لا أعرف من حصل على التقرير . وضعته داخل الحقيبة . لم أتصور أنه سيختفى ، ولا إن كانت الحكومة يشغلها الاطلاع على التقرير .
حدثنى ولد البشير عن الأماكن التى أزورها . أشار إلى زياراتى لضفة نهر السنغال ، ترددى على الحى الإدارى ، ومبانى الوزارات المتلاصقة ، وعلى دار السينما الوحيدة ، تقدم عروضاً متواصلة بلا رقابة ، شراء احتياجاتى من السوق الشعبى على اليسار ، فى نهاية شارع جمال عبد الناصر ، وقفتى ـ فى الليل ـ على الشاطئ ، أترقب النسائم القادمة من المحيط الأطلسى تلطف سخونة النهار . حتى تأملى لأذان الصلاة فى أى موضع من الطريق . مجرد أن يقف المرء فى مواجهة القبيلة ، ويكبّر ، ويبدأ الصلاة .
أدركت أنه يريد أن يكشف حتى تحركاتى الصغيرة ، وما لم أتصور أنه موضع رقابة ..
قلت :
ـ كتبت فى تقريرى ما رأيته ..
أردفت :
ـ ليس هناك أقسى من أن يكون الإنسان حراتياً ..
ـ الحراتون ينتمون إلى الماضى ..
ـ هل ادعى من قابلتهم بأنهم حراتون ؟
بدا عليه غضب :
ـ نحن لا نوافق على هذا التقرير ..
قلت مدفوعاً بما يشبه التحدى :
ـ وأنا أصر عليه ..
ـ من حق حكومتى أن تعتبرك شخصاً غير مرغوب فيه ..
أهمل نظرتى المندهشة ، ومضى .
اقتحمنى شعور أنى وحيد . أواجه العالم بمفردى .
فاجأنى عبد الرحمن بالقول :
ـ أعرف ما حدث ..
رمقته بنظرة متسائلة ، دون أن أتكلم ..
قال :
ـ جاء السيد ولد البشير إلى الفندق هذا الصباح . أصدر أوامره بأن أعد حقيبتك لترحيلك إلى المطار فى أى وقت ..
ـ هو الذى قال هذا ؟
قاوم الارتباك :
ـ كنت أؤدى عملى . استمعت إليه بالمصادفة ..
ـ وهل أعددت الحقيبة ؟
ـ موجودة فى الحجرة ..
***
فارقنى موظف وزارة الخارجية عند الباب المفتوح . تلاصق فى جانب قاعة المطار " كاونتر " الجوازات ، وثلاثة لشركات الطيران . أعداد القادمين والمسافرين قليلة ، تناثروا فى القاعة المستطيلة ، المزينة بالنقوش والمقرنصات . غطيت أرضيتها بالأسمنت ، وتسربت من ثقوب النوافذ ذات القضبان الحديدية ، تقاطعات ضوء وظل ، فوق الأرض ، وعلى الجدران .
حين هممت بدخول الصالة الداخلية ، لامست يدى جيبى ، أطمئن إلى أوراق قدمها لى عبد الرحمن ، وأنا أتهيأ لترك الفندق ، والبسمة المعتذرة تملأ وجهه :
ـ معلومات ، ربما أضفتها إلى تقريرك .
............................
(انتهت المجموعة)
............................