رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 12 ـ
أذهلنى التماع عينيها بالمفاجأة . أدركت أنها لم تكن تنتظر هذا العرض ، وأن العلاقة بينى وبينها ترفض الارتباط الأبدى ..
رشقت فى عينى نظرة زاجرة :
ـ أنا لا أصلح لك ..
ـ هذا ما أقرره أنا . المهم هو : هل أصلح أنا لك ؟
لم أتوقع ردها . لم أتوقع أنها سترفض . غابت الأحاديث عن المستقبل ، لكنه بدا لى فى الأفق القريب . يضمنا معاً ، لا تهمله ، ولا أتخلى عنه ..
كنت قد صحبتها إلى حديقة الحيوان ، تمشينا فى حديقة أنطونيادس ، انشغلت بقراءة الدوريات فى مكتبة البلدية أثناء نقلها ملاحظات من المراجع ، خلعت حذاءها وتقافزت على رمال ستانلى ، أرهفنا السمع لصوت ارتطام الأمواج بجدران قلعة قايتباى . تأملنا الصيادين يضعون الحبال الطويلة على أكتافهم ، يجرّون ـ فى سيرهم المتباطئ على الكورنيش الحجرى والرصيف ـ شبك الجرافة إلى موضع إفراغه من الأسماك . زرنا المتحف اليونانى والرومانى ، ومقبرة اللاتين . أطلنا متابعة مواكب الزفاف فى ميدان المساجد . تمشينا فى المسافة بين تمثال الخديو إسماعيل والسلسلة . استعدنا وقفة نابليون فى هضبة عامود السوارى . ألحظ ما لم أتصوره فى بداية تعرفى إليها . طالعتنى بإلمام واسع فى السياسة والتاريخ والاقتصاد . حتى القصص والروايات كانت تستشهد بأحداثها . ربما استعادت أبياتاً من الشعر للتدليل على رأيها . لم تكن معلوماتها تقتصر على الحياة فى أرمينية ، التاريخ والبشر والمعتقدات والعادات والتقاليد . تتكلم فى كل ما تستدعيه المناقشات . تتسع رواياتها عن الحكايات والوقائع التاريخية والأماكن والأرقام والأحداث .
التقينا فى ميدان محطة الرمل بشقيقها يعقوب . تبادلت نورا معه كلمات سريعة ، وأومأ لى بالتحية ، ومضى . اعتذرت عن عدم تلبية دعوتى بمشاهدة فيلم فى سينما أمير ، بطلاه دوريس داى وروك هدسون ..
لاحظت أنها كانت تستعيد ما يرويه الدكتور جارو من صور . تتخيلها بالعبارات التى يتحدث بها : الطقس والجبال والسهول والوديان والميادين والشوارع والمتنزهات وسلوكيات الحياة . أعرف أنها ولدت فى الإسكندرية . لم تغادرها إلى خارج مصر . مساحة الإسكندرية ، ما يسهل أن تتحدث عنه ستة وعشرين كيلو متراً ، المسافة بين قصر رأس التين وقصر المنتزة . ربما جاوزت المسافة إلى أبو قير ، أو إلى ناحية الغرب فى المكس . لكن أحاديثها تقتصر على المساحة التى تشكل مدينة الإسكندرية ، المدينة التى يغمض أهلها أعينهم على قسماتها ، يتحركون فى الشوارع والميادين ، ويتجولون بين الأسواق والبنايات .
قلت :
ـ قد لا تصدقين .. لكننى كنت على ثقة أننا سنلتقى ذات يوم .
ـ أذكر أن لقاءنا الأول كان فى عيادة الدكتور جارو ..
ـ التقيت بك فى خيالى عشرات المرات ، وتوقعت أن يحدث اللقاء فى الواقع ..
ـ مجاملة لا بأس بها ، لكننى لا أحب المبالغات الرومانسية .
وواجهتنى بنظرة متسائلة :
ـ لماذا أنا ؟
وأدارت خصلة الشعر بإصبعها :
ـ نحن نختلف حتى فى الديانة ..
ـ لكننا نتفق فى ميل أحدنا إلى الآخر ..
أردفت فى تحمس :
ـ طبيعة الحب أنه لا يعترف بالعقبات ..
ـ الحب ليس كل شئ فى حياتنا . هناك أشياء أهم !
ـ حتى الأشياء الأخرى ، إما أن نحبها أو نكرهها ..
استطردت فى ثقة مفتعلة :
ـ الحب أو الكره .. أليس كذلك ؟
قالت :
ـ لو أنى أحيا فى أرمينية ، قد تبهرنى شخصية الرجل الشرقى ، ما يغلف حياته من الغموض والسحر ، لكننى أحيا فى مصر .. أنا مواطنة مصرية ..
قبضت على حقيبتها ، ونهضت واقفة .
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 13 ـ
مذبحة دير ياسين ..
بدت شاغلاً للناس فى كل مكان : 250 عاملاًُ فلسطينياً كانوا عائدين وقت الغروب من عملهم . تربص لهم أعضاء الأرجون وحصدوهم بالرصاص .
حضرت مؤتمراً ، مزق فيه الطلبة صور الملك فاروق ، وأشعلوا فيها النيران . أول هجوم سافر ضد الملكية . لحقتهم فى مظاهرة تهتف : لا ملك إلا الله .
قال الدكتور جارو :
ـ ما يحدث فى فلسطين ليس أول إبادة يشهدها هذا القرن . لا تنس الإبادة العرقية التى قام بها الأتراك ضد الأرمن .
ونطق الأسى فى صوته :
ـ اللجوء إلى الإبادة يأتى عند الشعور بخطر السكان الأصليين . هذا ما حدث فى أمريكا ، وفى أرمينية ، وهو ما يحدث فى فلسطين ..
وطرقع بأصابعه :
ـ هدف مذبحة دير ياسين ـ كما أرى ـ دفع الفلسطينيين إلى الفرار بحياتهم خارج بلادهم ..
وأسلم نفسه إلى شرود :
ـ هذا هو ما أراده الأتراك بمذابحهم ضد الأرمن ..
واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة :
ـ هل تذكر ما رويته ؟
أمنية يستعيدها ، يكررها : أن يزاح الغموض عن حقيقة الإبادة العرقية للأرمن ، الموت جوعاً ، والضرب المفضى للموت ، وعمليات الاغتصاب ، والتشوه الجنسى . ومضت إمكانيات ، ثم اختفت . بدت المسافة متسعة فيصعب تقريبها ..
قال :
ـ لليهود دور سلبى فى أوقات المذابح العثمانية للأرمن . أوكلوا إلى أنفسهم دور المرشدين عن الفارين من الإبادة ..
وبدا أنه يجاهد ليبدو صوته هادئاً :
ـ عُرف ـ فيما بعد ـ أنهم عرضوا على العثمانيين أثناء المذابح موافقة السلطان عبد الحميد على استيطان اليهود فلسطين مقابل التأثير على الإعلام الأوروبى والأمريكى ..
أتبين ـ فى رنة صوته ـ ما يعانيه . حتى لو كسا الهدوء وجهه . حتى الابتسامة الخافتة ، المتكلفة ، على شفتيه ، أحدس ما بذله من جهد فى رسمها ..
***
جاءنى صوت نورا فى التليفون حزيناً ، مرتبكاً :
ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو ..
أغلقت السماعة دون أن أعرف من هم ، ولا لماذا ألقوا القبض عليه ؟
كان إعلان قيام دولة إسرائيل ، وتحرك القوات العربية إلى فلسطين ، محور أخبار الإذاعات والصحف ومناقشات المكاتب والمقاهى والأسواق . كان يتأمل ارتباكى من أخبار الاعتقالات التى امتدت إلى كل أحياء الإسكندرية . استقبل معتقل أبو قير المئات من المصريين واليونانيين والأرمن واليهود . أعانى الانتظار أن يطالعنى ـ فى لحظة لا أتوقعها ـ من يحيط بساعدى وهو يقول : تفضل معى !
أطلت الوقوف أمام باب الشقة . لاحظت أمى أنى أكتم ما يشغلها أن أبوح به . كنت أعانى ترقب المجهول . الخطر الذى لا أدرى بواعثه ولا ملامحه . أبتعد عن أمى ، وعن نورا ، وعن الحياة التى ألفتها . أدخل نفقاً تطمس الظلمة مرئياته ..
قلت :
ـ إذا تأخرت عن البيت لا تقلقى ..
واتجهت للتساؤل فى عينيها :
ـ ربما أسافر خارج الإسكندرية ..
وهى تدير خصلة الشعر :
ـ هل تخفى شيئاً ؟
ـ أبداً .. لكن إذا تأخرت سأترك خبراً عند فيصل مصيلحى فى المكتب ..
أغلقت الباب خلفى ، حتى لا تربكنى بالمزيد من الأسئلة ..
فاجأنى فيصل مصيلحى بتخوفه من دخول القوات العربية النظامية ، بدلاً من قوات الفدائيين . الجيوش تعبير عن أنظمة فاسدة . أما الفدائيون ، فهم يدافعون ـ بيقين دينى ـ عن بلاد الأقصى . استعاد قول الشيخ البنا للنقراشى : فلسطين فيها عصابات صهيونية ، ونحن عصابات إسلامية ، والعصابات يضرب بعضها بعضاً . إن انتصرنا فلمصر ، وإن متنا دخلنا الجنة ..
قال :
ـ للإخوان ست كتائب قبل إعلان الهدنة الأولى .. لماذا يجبرهم على قبول ما اضطر لقبوله ؟
قال لى العجوز دون مناسبة :
ـ لا شأن للحكومة بأصحاب الرأى .. لكنها تعتقل من ينضمون إلى تنظيمات معادية لها ..
قلت فى دهشة :
ـ لماذا تخبرنى بهذا ؟
بدا أن الرجل واصل شروده ، فلم يسمعنى . كانت عيناه ـ فى الأيام الأخيرة ـ دائمتى الشرود . كأنه ينفصل عما حوله ، وأنه لا يرانى فى جلستى أمامه ..
أعدت السؤال ..
قال :
ـ إذا نقل أحدهم آراءك فلا خوف . المهم أن تظل فى حدود إبداء الرأى ..
لم أعد أتردد على العيادة . لم أعد أسير فى اتجاه شارع إسماعيل صبرى ، ولا الشوارع المتصلة به . توقعت أنهم دخلوا العيادة لاعتقالى . إن لم يفطنوا إلى المنشورات ، فلابد أن تثيرهم مقالات الصحف .
سابع يوم، وربما ثامن يوم، كانت نورا تنتظرنى أمام المكتب:
ـ لم يكونوا يقصدونك كما تصورنا ..
وافتر فمها عن ابتسامة باهتة :
ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو .. ثم أفرجوا عنه ..
لم أخف دهشتى :
ـ لا صلة للرجل بالسياسة ..
ـ لعلها وشاية أو بلاغ كاذب ..
هزت رأسها مؤمّنة :
ـ حققوا معه ، ثم أفرجوا عنه ..
أذهلنى هدوؤه كأنه لم يعتقل ، ولا تعرض للتحقيق ، بكل ما ينطوى عليه من ملابسات . ظلت الابتسامة الهادئة على شفتيه ، وإن تكثفت ـ فى وجهه ـ خيوط توتر صامت ..
قال :
ـ البلد فى حالة حرب ، وأنا أجنبى ..
هتفت بانفعال :
ـ أنت أكثر مصرية من بعض المصريين ..
ـ رأى أعتز به .. لكن الأمن لا يعرف التعبيرات الطيبة ..
أردف فى لهجة محايدة :
ـ هذا ليس وطنى ..
وتلفت حوله كالمتحير :
ـ لم يعد يغضبنى فقد أى شئ منذ فقدت أرمينية ..
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 14 ـ
ألقت نورا بكل ذاتها فى انشغالها بما يجرى . تسأل ، وتناقش ، وتوافق ، وتعترض ، وتلصق الشعارات ، وتردد الهتافات ، وتوزع المنشورات ، وتذوب وسط الجموع المتلاصقة ، الهاتفة . لم تفاجئنى تصرفاتها . أرمينية هى القضية التى اختارتها لرسالة الماجستير ، الاحتلال والتهجير والقتل والتدمير .
يقتحمنى الخوف من أن تجرفها أمواج المتظاهرين . تقع تحت الأقدام فلا تملك الوقوف . تتقلص يدى على موفقها ، وأجتذبها ناحيتى .
بدت كأنها تخوض معركتها الشخصية ، لا تشغلها النتائج ، ولا تتطلع لأفق الخطر . حتى المصادمات بين العساكر والمتظاهرين ، كانت تجتذبها ، تثيرها ، وتتابعها . تدخل معى فى مناقشات ، تبدأ ولا تنتهى . أستعيد أسئلتها وآراءها فيما لم أتصور أنها تحدثت فيه . تدرك ـ لابد ـ أن الدكتور جارو والخواجة أندريا يرفضان اقترابها من العمل السياسى . تتلفت ـ بعفوية ـ كمن تتأكد أنه ليس بيننا ثالث . تسأل ، أو تبدى الملاحظة . تتشابك الخيوط ، وتختلط ، وإن لم تجاوز مساحة الأحداث التى نعيشها . تفاجئنى بالمعلومة أو الفكرة التى ربما لم أفطن إليها . أحداث من المشهد الثقافى والسياسى . أمر الملك بدخول الحرب بحثاً عن الشعبية ، لم يخطر فى باله أنه سيخسر الحرب والشعبية . متطوعون من أوروبا الشرقية يصلون بطائراتهم للقتال إلى جانب اليهود . كان يجب على الدول العربية أن تساعد الفلسطينيين على خوض معركتهم ، ولا تحارب بالنيابة عنهم . تقتصر مشاركتها على المتطوعين . تظل الحرب فلسطينية يهودية ، وليست عربية يهودية ، فلا يكسب اليهود عطفاً لا يستحقونه . إذا لم تكن تعرف ، فإن العالم كله مع دولة اليهود فى فلسطين ، من أقنعته السياسة ومن أقنعته الرشوة . أنت تكتفى بقراءة الصحيفة العربية ، وأنا أقرأ الصحف الأجنبية أيضاً ..
فاجأتنى بالقول :
ـ مشكلة العرب أنهم يتعاملون مع اليهود باعتبارهم عصابات !
ـ هم كذلك بالفعل !
ـ لماذا إذن قبلوا الهدنة ؟
ـ الأمم المتحدة هى التى قررت الهدنة .
قاطعتنى :
ـ وهى التى أعلنت التقسيم ، وهى التى احتشدت فيها كل الدول الكبرى لإعطاء فلسطين لليهود
ـ إرادة المجتمع الدولى يجب أن تحترم !
ـ وخرق اليهود للهدنة .. ما معناه ؟!
حدجتنى بنظرة تتأمل الريبة التى لابد أنها نطقت فى وجهى :
ـ أذكرك بأن العرب ضيعوا الأندلس بإهمالهم آخر قلاع الجنوب الأسبانى ..
خلت حياتنا إلا من مفردات المظاهرة ، والإضراب ، والاعتصام ، وتوقف المواصلات ، والمنشورات ، والعمال ، والطلبة ، والصهيونية ، وفلسطين ، وإيقاف الدراسة . إذا كانت الحكومات المصرية قد أخفقت فى حل قضية مصر أمام مجلس الأمن ، فكيف نتوقع أن تحل قضية فلسطين ؟ . ما حدث فى دير ياسين يدل على أن اليهود يريدون طرد العرب من فلسطين ، وليس مشاركتهم الحياة فيها . انشغل ملوك العرب بالحصول على قطع من تورتة فلسطين ، بينما حصل اليهود على تأييد الشرق والغرب . هل هى أسلحة فاسدة ، أم قيادات فاسدة ؟ من يدفع ثمن الخيانة ؟
ألفنا المظاهرات ، وهجمات عساكر البوليس ، وضربات الهراوات ، ودبشكات البنادق ، وخراطيم المياه ، والقنابل المسيلة للدموع ، وإطلاق الرصاص فى الهواء . شاركنا المتظاهرين فى التقاط قطع الحجارة من الخرابات والبيوت المتهدمة والساحات ، وفى قطع الأشجار ، وانتزاع أعمدة النور ، وإقامة المتاريس وسط الشوارع ، وفى تقاطعاتها .
استقرت فى داخلى أشواق إلى أجوبة عن أسئلة ، تشغلنى دون أن تكتمل مفرداتها ..
***
فاجأنى ، أذهلنى ، ما فعلته نورا ..
قفزت إلى مقدمة سيارة واقفة إلى جانب الطريق . بدت بالتايير الكحلى المنسدل إلى ما فوق قدميها ، أعلى من كل الرءوس المتلاصقة . هزت قبضتها ، وهتفت بآخر صوتها : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..
كأنه مجموعة أصوات ، تختلف عما اعتدته فى صوتها ، وإن تآلفت الأصوات فى هارمونية اجتذبت صمت المتظاهرين . أعادت رفع قبضتها ، وخفضها . هزتها فى الهواء ..
ردد المتظاهرون الهتاف : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..
أخذ الهتاف شكل الإيقاع المنتظم . تسارع . رددت البنايات المحيطة بالميدان أصداء الهتاف ..
أبطأت الخطوات ، توقفت تماماً ، لما ظهر عساكر البوليس يسدون الشوارع الرئيسية المتفرعة من ميدان محمد على وميدان المنشية . ثلاثة صفوف متراصة ، يحملون العصى والمصدات الزجاجية . حول طريق السيارات إلى الكورنيش والشوارع المتفرعة منه . سدت كل المنافذ . بدت العودة إلى بحرى مستحيلة ..
اختلطت قطع الحجارة والهتافات ، والعصى والهراوات وكعوب البنادق والدروع والخوذات ودخان القنابل المسيلة للدموع ..
تفرقت المظاهرة إلى مظاهرات صغيرة . لاذت بالشوارع الصغيرة ، الجانبية . تبادلنا نظرات الحيرة . مددت يدى ـ بتلقائية ـ فأمسكت بذراعها , وسبقتها إلى شارع جانبى ..
سرنا صامتين ..
ملنا إلى انحناءات الشوارع الجانبية ، لا نقصد شارعاً ، ولا نتوقف لتبين ما إذا كنا نعرف اتجاهنا . تصخب فى داخلى ـ حدست أن هذا هو ما كانت تعانيه ـ ومضات المظاهرة وهتاف نورا وضربات العساكر والدماء والصراخ . هدأت خطواتنا ـ بالطمأنينة ـ والكورنيش يطالعنا أمام قهوة المطرى ..
دخل ـ دون تعمد ـ عالمى الذى اقتصر ـ منذ تركت عيسى أبو الغيط ـ على دراسات القضية المصرية ، وقضايا وادى النيل ، والقضية الفلسطينية . ثم الخروج فى مظاهرات ، وعقد المؤتمرات ، وحبى لنورا الذى يشبه سمكة يرفض الصياد جذبها !
ارتبكت للخاطر الذى راودنى بأن أضمها إلى صدرى . أقبل شعرها وجبينها وخديها وشفتيها . زاد فى ارتباكى مشيتها الصامتة ، ونظرة ـ غير متأملة ـ تتجه بها إلى الأفق . وكان قوس قزح يتوسط الميناء الشرقية .
قالت :
ـ لم أتصور أنى سأواجه هذا الموقف ..
وأنا أحدق فى وجهها الشاحب :
ـ هل أصبت ؟
يبدو أن العسكرى أشفق علىّ ، فوجه ضربته إلى الشاب بجانبى ..
ـ من ؟
ـ لا أعرفه .. شاب من المتظاهرين !
ـ مشاركة البنات فى المظاهرات قليلة .. لكنك الأولى فى قيادة المتظاهرين ..
وهى تستعيد ابتسامتها :
ـ لا أدرى كيف جرى ما حدث .. الانفعال وحده دفعنى إلى ما فعلت !
أردفت فى عفوية :
ـ الانتماء جميل !
***
قال لى فيصل مصيلحى :
ـ أنت تسير فى زقاق مسدود ..
ـ لماذا ؟
ـ علاقتك بهذه الفتاة لها نهاية واحدة ، هى الفراق ..
رفع كتفيه فى نفاد صبر :
ـ ما معنى أن تحب فتاة لا أمل لك فى الزواج منها ؟
ـ ليس عند أى منا موانع طبية . يمكن أن نتزوج ..
ـ توجد موانع شرعية . إنها من ديانة مختلفة ..
ـ ديننا لا يمنع الزواج من الكتابية ..
ـ وأهلها .. هل يوافقون ؟
ـ ترحيبهم بعلاقتنا يؤكد موافقتهم ..
ـ رحبوا بالصداقة لا بالزواج ..
ـ الخواجة أندريا متعصب للأرمن ، لكنه متسامح فى الدين ..
قال فى نبرة حاسمة :
ـ قراءة قصص الحب فى الروايات شىء ، ومحاولة تقمص شخصيات تلك القصص شىء آخر
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 15 ـ
قال العجوز :
ـ لا تخرجى من بيتك هذه الأيام ..
ـ لماذا ؟
ـ المظاهرات ..
وهز إصبعه :
ـ لا تخرجى .. ولا تأتى إلى العيادة ..
حذرها من أوامر الضرب فى المليان . المليان هو أجساد المتظاهرين . طلقات الرصاص تندفع من كل مكان ، تتجه إلى غير مكان . حتى الفرار يبدو مستحيلاً . إن لم تخافى على نفسك ، فاشفقى على أبويك .
قالت فى لهجة مهونة :
ـ الأمر ليس بهذه الخطورة ..
ـ قد يتفجر الوضع بأشد مما نتصوره ..
وفاجأنى بالقول :
ـ اصحبها إلى محطة الترام ..
ملنا ناحية البحر ..
آثار تحطيم وتكسير متناثرة فى شارع إسماعيل صبرى . قهوة فاروق خالية من الرواد ، ومعظم الأبواب مغلقة ، والكراسى تكومت فوق الطاولات . سحب بيضاء ، صغيرة ، تتناثر فى السماء ، ومن وراء الكورنيش الحجرى تترامى أصوات التكسرات المستمرة لمد الموج على المصدات الأسمنتية .
قالت نورا :
ـ حتى أبى طلب أن أظل فى البيت ، ولا أذهب إلى الكلية .
ولوت شفتها السفلى :
ـ ولا حتى إلى مكتب أبى ..
استطردت لنظرتى المتسائلة :
ـ أتردد عليه ساعتين كل صباح لمساعدته فى إنجاز الأوراق المهمة .
قلت :
ـ ما شأن ذلك بما يحدث ؟
ـ امتدت المظاهرات إلى كل مكان ..
ـ أتصور أنه ليس ملحاً ذهابك إلى الكلية أو المكتب ..
ـ صحيح .. لكن أوامر المنع تثيرنى !
[align=center](يتبع)[/align]
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 16 ـ
استعدت العبارة :
ـ مات النقراشى ؟
جاء صوت فيصل مصيلحى على التليفون محملاً بالتوتر :
ـ قتله عضو فى الإخوان المسلمين .
ظل متكتماً صلته بجماعة الإخوان المسلمين ، لكننى كنت أدرك ـ من كلماته وتصرفاته ـ ارتباطه بالجماعة على نحو ما . أطالع الصحف . أكتفى بنظرة تساؤل صامتة إلى عينيه . تومضان بما أحدس أنه يخفيه : قتل القاضى أحمد الخازندار . إلقاء القنابل والمتفجرات على أقسام البوليس فى الخليفة والموسكى وباب الشعرية والجمالية ومصر القديمة والأزبكية والسيدة زينب . إلقاء القنابل ـ فى ليلة عيد الميلاد ـ على محال يرتادها جنود الجيش البريطانى . توالى الانفجارات فى ممتلكات اليهود : بنزايون ، جاتينيو ، شركة الدلتا التجارية ، ماركونى ، شيكوريل ، شركة الإعلانات المصرية ، تدمير بيوت فى حارة اليهود ، قتل حكمدار القاهرة سليم زكى ، إلقاء قنبلة على رجال الأمن بالمدرسة الخديوية ..
فضل فيصل أن نلتقى فى قهوة فاروق . مشكلات صغيرة ، علينا إنهاؤها قبل أن نلتقى فى العلن . روى ـ بكلمات سريعة ـ ظروف قتل النقراشى . أطلق عليه طالب البيطرى عبد المجيد أحمد حسن ثلاث رصاصات ، وهو يتهيأ للصعود إلى مكتبه بوزارة الداخلية .
بدا فيصل ميتاً من الخوف وهو يهمس بقرار حل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها ، إغلاق الأمكنة المخصصة لنشاطها : المصانع والشركات والمعاهد والمستشفيات ، ضبط أوراقها ، وثائقها ، سجلاتها ، مطبوعاتها ، أموالها ، كل الأشياء المملوكة لها . حتى شعبة الإخوان فى البناية المطلة على ميدان أبو العباس ، رآه مغلقاً ـ فى وقفته أعلى الدحديرة الخلفية للجامع ـ وأمامه عساكر ..
قلت :
ـ هل ينطبق القرار على الشركة ؟
ـ أى شركة ؟
ـ شركتنا .. شركتك ..
ـ لا شأن لهم بها . ورثتها عن أبى ..
ونقر جبهته بإصبعه :
ـ فى دولاب حجرة هناء زكريا آلة طباعة بالبالوظة . لابد من وسيلة لإخفائها ..
هل كان يمارس فى الشركة نشاطاً سياسياً ؟
اعتدت ـ فى عودتى إلى البيت على الكورنيش ـ رؤية الضوء المنبعث من خصاص النافذة المغلقة . أحدس بقاءه فى الشركة لإنجاز ما يتطلب السهر . ربما كان يلتقى بمن لا أعرفهم ـ هل هم أعضاء فى الجماعة ؟ ـ أو يدير آلة الطباعة فى منشورات يخفيها ؟
أدركت أنه تخلى عما ألفته منه : إذا استعصت عليه مشكلة ، أو بدت نذرها ، لجأ إلى جزيرته الخاصة ، يحيطها بأسوار عالية ، لا تأذن لأحد برؤية ما بداخلها ..
همست بما يقلقه للدكتور جارو ..
قال :
ـ ما أعرفه أن الاعتقالات شملت الشيوعيين أيضاً ..
وتنحنح ليزيل احتباس صوته :
ـ كل من اختلف مع السعديين أودع المعتقلات !
ورنا ناحيتى بنظرة جانبية :
ـ خذ من صديقك آلة الطباعة التى يخشى ضبطها ..
وأردف فى لهجة مشاركة :
ـ وجودها فى العيادة لن يثير الشكوك ..
قلت فى ذهول :
ـ هل تحتفظ بها هنا ؟
ـ قلت إنه صديقك ..
ـ أخشى أن أعرضك لمتاعب ..
ـ عين البوليس لن تفطن إلى عيادة طبيب أرمنى عجوز ..
ورفع عيناً متسائلة :
ـ لماذا قتلوا النقراشى ؟
قلت :
ـ اتهمه الأخوان بخيانة قضية فلسطين ..
قال فى نبرته الهادئة :
ـ قرار الحل منطقى فى ظل تحول الإخوان إلى جماعة عسكرية ..
اعتدل فى جلسته بحيث واجهنى . قال لنظرتى المستغربة :
ـ ما فعلته لأن صديقك تهدد فى حريته . أرفض ـ لأسباب تعرفها ـ نفى أى إنسان ومصادرة رأيه وإلغاء حريته .
توقع أن يرد الإخوان المسلمون على قرار الحل : الضربة مؤلمة ، لكنها ليست قاتلة . المئات ـ مثل صديقك ـ خارج المعتقلات . هؤلاء لن يسكتوا . لابد أن يردوا . عرف الإخوان التشكيلات المسلحة والعمل السرى واستخدام المتفجرات . لم تعد الكلمات وحدها وسيلتهم إلى التعبير . علينا أن ننتظر مفاجآت ..
عاب على الإخوان المسلمين أنهم أنفقوا الأموال فى شراء السلاح ، والتدرب على استخدامه . لكن السلاح ظل فى المخازن ، حتى بدأ استخدامه فى عمليات الاغتيال والتفجير . أتشكك فى الدعاوى الدينية منذ استغلت حكومة الأتراك جهل مواطنيها المسلمين بحقيقة دينهم. حرضتهم على قتلنا باعتبارنا كفاراً !
استعدت لقاءاتنا . لم يكن يشير إلى الدين على أى نحو . وحين أتمتم " الله أعظم " بتعالى صوت مؤذن جامع سيدى على تمراز بالأذان " الله أكبر " لم يكن يبدى ملاحظة ما ..
قال :
ـ موقفى ، رأيى ، ضد الإخوان المسلمين . لا شأن لذلك باختلاف الديانة . ورثت عقيدتى ، ولا شأن لى بها . إجازتى الأسبوعية أقضيها فى البيت ، لا أتردد على الكنيسة . أعامل البشر باعتبارهم كذلك . ما فعله الأخوان المسلمون فى عهد صدقى أثارنى . مهادنة صدقى جريمة ارتكبها من ادعوا انتماءهم إلى دين متطور . أثق أن الإسلام دين متطور . إذا كان النقراشى قد أخطأ فى حل الإخوان المسلمين ، فإنهم قد أخطأوا بعمليات الاغتيال والتفجير ..
وعلا صوته :
ـ من يضع يده فى يد الديكتاتور فهو يوافق على أفكاره وتصرفاته !
ثم غير صوته :
ـ كان فى بالى أنى غريب عن هذه المدينة ، غريب عن مصر كلها . لا شأن لى بما أراه أو أسمعه . ثم جرنى التعاطف مع الفلسطينيين إلى الاهتمام بما يعانونه ، ثم اجتذبتنى الأحداث فأنا ـ كما ترى ـ أنشغل بها ..
استطرد فى ابتسامة متكلفة :
ـ التقاط طرف الخيط جر البكرة كلها ..
***
كانت مفاتيح الشركة معى . أذهب إلى الشركة فى كل صباح . أتوقع ضباط المباحث ـ أمام الباب ، أو فى الداخل ـ والإغلاق ، والشمع الأحمر ، والحراسة ، وبطاقتك الشخصية ، والسؤال : من تريد ؟
ألغت الحكومة قرار حل جماعة الإخوان المسلمين . تشجع فيصل ـ بغياب ما يقلق ـ فعاد إلى الشركة ..
ـ الحمد لله أنى لست واحداً من الآلاف الذين أودعوا المعتقلات .
قلت فى نبرة لوم :
ـ لم تبلغنى بعضويتك فيها ..
تردد فى الإجابة ، ثم قال :
ـ ربما لأن الموضوع شخصى .
لم أتحدث عن الموضوعات الشخصية التى يقاسمنى فيها الرأى : تحقيقات عيسوى أبو الغيط ، عيادة الدكتور جارو ، علاقتى بنورا ..
اكتفيت بالقول :
ـ الحمد لله !
أطرق إلى الأرض ، ثم رفع عينين منداتين :
ـ أسخف الأمور أن تحتفظ فى داخلك بخوف لا تصارح به أحداً !
أردف فى كلمات متباطئة :
ـ الجهاد يتطلب شجاعة .. لا أمتلكها !
ـ حاولت أن ألتقى بك فى صلاة الجمعة بعلى تمراز ..
ـ اكتفيت بالصلاة فى البيت ..
ثم وهو يتشاغل بتقليب أوراق فى يديه :
ـ همنى أن أبتعد عن الجوامع ..
تكلم عن الحزن الذى تملك مشاعره ، وهو يحرق ـ فى دورة المياه ـ كل ما له صلة بالجماعة . أوراق ومطبوعات ـ يرى أنها مهمة ـ ائتمنته الجماعة عليها . حتى خطب الإمام وكتب قيادات الجماعة . حتى الصورة الوحيدة وهو يتابع درساً للإمام البنا . أحزنه مجرد التفكير فى رد السؤال ، بعد أن تزول المحنة : أين الأوراق التى لديك ؟
لم تمتد إلى المكتب يد التفتيش ، ولا الإغلاق . شاب شعورى بالراحة إدراك أن فيصل مصيلحى كان أداة هامشية فى نشاط الجماعة . لم تلحظها عين الدولة ، فأهملتها .
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 17 ـ
واصل تقليب جواز السفر ، كأنه يتأكد من أنه حصل عليه . غمغم بكلمات غير واضحة ولا مترابطة ، وإن عكست الفرحة فى داخله ..
قلت :
ـ هل هذه هى المرة الأولى التى تحصل فيها على وثيقة سفر؟
ـ عندما قدمت إلى مصر اكتفيت بتجديد الإقامة ..
لاحظ دهشتى من أنه استخرج الجواز للمرة الأولى . ألم يغادر مصر طيلة تلك السنوات ؟
حدثنى عن رحلته الوحيدة خارج مصر ، بعد ثلاثة أعوام من استقراره بالإسكندرية . سافر إلى الشام ليلتقى بأفراد من رحلة النفى . أعياه النبش بأصابعه فى كومة القش . تحدد الموطن فى الإسكندرية ، لا يغادرها .
شرد بنظره إلى نقطة غير مرئية :
ـ لم أفكر فى أنى قد أعود إلى أرمينية ..
ثم وهو يدنى فنجان القهوة من فمه :
ـ أريد أن أحتسى هذا الفنجان هناك ..
قلت :
ـ هل نسيت المذابح ؟
ـ إذا استعدت الماضي فأنا أخلصه من كل الذكريات السيئة!
حدثنى عن رسالة من أرمينية . جميل أن أجد ـ بعد هذا العمر ـ من يراسلنى . عد إلى الوطن لتقضى فيه ما بقى من حياة ..
يسلمه الشرود إلى الحياة فى أرمينية ، إلى البنايات والشوارع الضيقة المغطاة بالأسقف والكاتدرائيات والكنائس وجبال القوقاز ، والبحر الأسود وبحر قزوين ونهر أراكس وبحيرة سيفان وجبل أرارات ، سقف العالم ..
ـ هو إذن يعرف أنى فى لحظات النهاية ..
ـ لك طول العمر . أثق أنهم يحنّون إليك مثلما تحنّ إليهم ..
قال :
ـ أفكر فى العودة إلى أرمينية ..
ـ لماذا ؟
ـ هذا أفضل ..
ـ كنت ترفض العودة إلى الحكم الشيوعى بعد انضمام أرمينية إلى الاتحاد السوفييتى فى 1922
ورمقته بنظرة مستفهمة :
ـ ما أعرفه أن الأمور لم تتغير ..
ـ ليس صحيحاً . آلاف من المهاجرين عادوا إلى أرمينية فى السنوات الأخيرة ..
ـ لماذا ؟
وهو يشيح بيده :
ـ لماذا .. لماذا .. ربما لأن الأوضاع تغيرت ..
ثم فيما يشبه الضيق :
ـ أنا أرمنى ، ولست سوفييتياً !
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 18 ـ
كنا نطل ـ من وقفتنا داخل الحجرة ـ على صدام المتظاهرين والجنود . اصطف العساكر على مفارق الطرق . حاصروا المظاهرة ، وتقدموا فى اتجاهها . انقضوا بالعصى والسيور الجلدية . اختلطت الهتافات والضربات والبروق والصواعق والبراكين والصرخات الوحشية ..
صرخت نورا بما أخافنى . كأنها تواجه الموت ..
لم ألحظ كيف سقط الشاب ، لكن العسكرى أهمل الأنين والحركات المتشنجة . واصل الضرب بدبشك البندقية حتى هدأت حركة الشاب تماماً ، كأنه مات . أدارت نحوى ملامح مستغيثة .. قهرها الخوف ، تصورت موت الشاب قد انتقل إليها . احتضنتنى . دست رأسها فى صدرى ، كأنها تريد أن تدخل جسمى . أحسست صدرها وهو يتنفس فى صدرى . مسدت أصابعى شعرها وعنقها وكتفيها وذراعيها . اقتربت شفتاى من شفتيها . تظاهرت بالرفض ، وإن بدا القبول فى إغماض عينيها ..
قالت ـ فى صوت مرتعش ـ إنها أحست بتكسر عظامها ، والعسكرى ينهال على الشاب بدبشك البندقية ..
تخليت عن قرارى فى أن أرجئ مصارحتى بمشاعرى قبل أن أتأكد من أنها تبادلنى المشاعر نفسها . حلقنا فى أفق المينا الشرقية . شيدنا القصور على السحب . سرنا فوق الماء كما المتصوفة . راقصنا عرائس البحر فى الأعماق البعيدة . انتشينا بالسحر والأسطورة . بدت الجنة متاحة فى الدنيا .
سرقتنا اللحظة . لم ألحظ متى تراخت ذراعاها ، ولا كيف تغيرت ملامحها ، وغلب الشرود على نظرتها ، كأنها لا ترى ما تتجه إليه عيناها ..
غلبنى شعور بالارتباك :
ـ كنت أظن أنك لا تعنين بفكرة الخطيئة ؟
أدركت سخف ما قلت ، فتمنيت أن أعتذر ..
أحيا معها بمشاعر موزعة بين العاطفة والرغبة . لا أدرى متى ، ولا كيف تحل اللحظة التى تجتذبنى . أحلق معها فى سماوات لانهائية الآفاق ، تتناغم فيها أصوات الشفافية والسحر . أشعر ـ فى لحظات تفاجئنى ـ أن ما أطلبه هو جسدها ، لا شأن لى بآرائها ، ولا رسالتها الجامعية ، ولا حتى بالدكتور جارو والخواجة أندريا . الجسد هو المطلب الذى أتوق لملامسته وعناقه . أركز فى الجسد الذى تخفيه ثيابها . أتصور علاقة تبرق فيها الرعود ، وتشتعل النيران ..
مشطت شعرها بأصابعها ، وعدلت الجونلة ، وواجهتنى بنظرة متسائلة :
ـ هل تظننى مومساً ؟
ـ بل أثق أنك محبة ..
ـ لا أحب أن تنظر لى نظرة الذكر إلى الأنثى ..
ـ لكننا كذلك بالفعل ..
مدت يدها تدير خصلة الشعر :
ـ نحن أصدقاء . هذا يكفى !
أخذت حقيبتها القماشية من على الكرسى . طوحت بها فى الهواء . نقلتها من يد إلى الأخرى . ألقت بها على كتفها . همست بالسلام ، واتجهت ناحية الباب ..
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 19 ـ
أسرعت فى خطواتى . قفزت درجات السلم ، لأبلغ فيصل مصيلحى بالنبأ الذى نشرته الصحف : حسن البنا قتل فى أثناء خروجه من مبنى جمعية الشبان المسلمين .
اكتفى بالقول وهو يتطلع من الشرفة المطلة على شارع التتويج :
ـ أعرف ..
هل كان يتوقع ما حدث ؟
قال :
ـ ما يحيرنى أن الأستاذ البنا أصدر بياناً هاجم فيه قاتل النقراشى ..
حدجنى بنظرة جانبية :
ـ لماذا دفعوه إذن إلى إصدار البيان ماداموا قرروا قتله ..
قلت :
ـ قتله الإخوان عندما وضعوا حقيبة المتفجرات فى مبنى محكمة الاستئناف ..
وهو يهز رأسه :
ـ أضعف إبراهيم عبد الهادى الإخوان المسلمين لصالح الوفد .
قلت :
ـ الحمد لله أنك أفلت من الاعتقال
ـ أنا واحد من نصف مليون عضو فى الإخوان ..
وعلا حاجباه فى تساؤل مستغرب :
ـ من الصعب أن يقتلوا كل هذا العدد !
ثم بصوت خفيض :
ـ لا تنس أنى استقلت من الإخوان منذ مقتل النقراشى !
أذهلتنى البساطة التى تحدث بها عن استقالته ، كأنه لم يكن ذلك العضو الذى يطبع المنشورات ، ويحتفظ بها ، ويخفى ما يفعل .
كان يتابع حملات الاعتقال ، والمصادرات . تتبدل ملامحه بتوالى متابعتنا للأخبار . يحاول كتم ما يعانيه من خوف . يجرى بلسانه على شفتيه ـ بعفوية ـ كمن يتذوق العطش . يعلو صوته ليقضى ـ هذا ما أتصوره ـ على القلق فى داخله ..
رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر
ـ 20 ـ
هل اعتبرت اعتزام جارو السفر نهاية لعلاقتنا ؟
ترددت على الأماكن التى اعتدنا اللقاء فيها . مكتبة البلدية ، مكتبة الجامعة ، ميدان محطة الرمل ، شاطئ ستانلى ، المسافة من الكورنيش بين تمثال الخديو إسماعيل ولسان السلسلة ، قلعة قايتباى ، ميدان أبو العباس . حتى بائع الصحف على ناصية أجزخانة جاليتى ، سألته عنها ..
قال فى ابتسامة تذكر :
ـ نعم .. البنت الخوجاية ..
وقلب شفته السفلى :
ـ لم أرها إلا معك ..
رنا فيصل مصيلحى ناحيتى بنظرة مشفقة :
ـ يبدو أن علينا تبادل النصائح ..
ثم هز سبابته فى وجهى :
ـ لا تكثر من الحركة هذه الأيام ..
ـ ماذا تقصد ؟
ـ المظاهرات والمؤتمرات الشعبية . نحن فى حرب ، وعين البوليس صاحية ، ويده لا ترحم !
***
كان الوقت عصراً ..
لمحت ضلفتى الشرفة المطلة على المينا الشرقية مفتوحتين . مضيت نحو البيت بعفوية . ضغطت على الجرس .
ـ نورا ..
كانت تعانى ارتباكاً ، والترحيب يغيب عن نظراتها ..
ـ ماذا حدث ؟
أدارت وجهها تتفادى نظرتى المتسائلة :
ـ لا شئ ..
سبقتنى إلى مقعد الدكتور جارو . أكرهت نفسى على الابتسام ، حتى لا تفطن إلى ما أعانيه ..
ـ تبدين متغيرة ..
وهى تهز الهواء براحتها :
ـ لعله الحر !
تظل ساكتة ، ثم تقول :
ـ قد يتأخر الدكتور عن العيادة ..
ـ هذه فرصة لنتبادل الحديث ..
واستطردت :
ـ لم أرك منذ أيام ..
بدا أنها تريد تفويت الملاحظة :
ـ أظن أن جارو لن يأتى اليوم ..
لاحظت نطقها اسمه دون لقب . أردفت :
ـ طلب منى أن أتحدث إليك ..
ـ ماذا تخفين ؟ ماذا تخفيان ؟
ـ تزوجت الدكتور ليلة أمس ..
ت .. ز .. و .. جـ .. ت ..
متى ، وكيف ، نشأت العلاقة ؟
كنت على ثقة أن نورا والعجوز من عالمين متباعدين ، يجهل أحدهما أفكار الآخر ومشاعره . لم ألحظ عاطفة ما بينها وبين العجوز : عبارة ، ضحكة ، تبدل نبرة الصوت ، لمسة الأصابع على ظهر اليد ، همسة فى الأذن ، إيماءة ، ابتسامة ذات مغزى . صمت مفاجئ مرتبك . أى تصرف يشى بعاطفة معلنة ، أو مستترة . حتى حواراتهما بالأرمنية غاب عنها انفعال العاطفة .
قلت وأنا أحاول السيطرة على مشاعرى من تأثير المفاجأة :
ـ لماذا لم يحدثنى الدكتور جارو بنفسه ؟ لماذا لم يبلغنى باعتزامه الرحيل ؟
قالت :
ـ هو يحبك كما تعلم !
الحب دعوى كاذبة . يختفى المجرم بعد ارتكاب جريمته . أدرك العجوز ما فعل ، فلجأ إلى الاختفاء . إن لم يكن هذا هو العداء ، فماذا يكون ؟
داخلنى إحساس أن كل شىء زائف ، وغير حقيقى . التفت البنايات بعاصفة من الغبار المصفر ، وحلقت الطيور السوداء فى أفق المينا الشرقية ، وتساقطت حجارة الكورنيش فى قلب البحر ، وواصل عفريت الليل سيره دون أن يضىء بعصاه فوانيس الطريق ، وتداخلت حلقة الذكر المترامية من على تمراز بما اختلطت كلماته ومعانيه ، وعانت صفارات البواخر فى الميناء الغربية حشرجة مقبضة ، وتحول ميدان الخمس فوانيس إلى سرادق للعزاء ، وهتفت المظاهرات للظلم ، وللشيطان ، وتمنيت لو أن الأتراك أفنوا الأرمن عن آخرهم ..
ـ أنت ؟!
وفى دهشة :
ـ لكنك ..
ـ أعترف أنى أحبك ..
عصتنى الكلمات ، تتشكل فى فمى ، لكننى أعجز عن نطقها :
ـ وأنت برهنت لى على حبك ..
شعرت أن العبارة أفلتت منى دون أن أتدبر المعنى . استطردت :
ـ ووافقت على زواجنا ..
ـ أن أحبك ، لا يعنى أن أتزوجك ..
وسرت ارتعاشة فى صوتها :
ـ الحب شئ والزواج شئ آخر ..
شردت فى معنى الكلمات ، ثم غمغمت كأنى أخاطب نفسى :
ـ أنا لا أفهمك ..
ـ الزواج استقرار . أريد أن أستقر فى أرمينية ..
استطردت فى ابتسامة متكلفة :
ـ تزوجته ليصحبنى إلى أرمينية ..
ـ لا أفهم .. هل زواجك منه شرط للسفر ؟
ـ جنسيتى مصرية ..
ثم وهى تضغط على الكلمات :
ـ هذه فرصتى الوحيدة لأرى أرمينية ..
ـ تتخلين عن كل شىء لرؤيتها ؟
ـ أذهب للإقامة لا للفرجة !
ـ ألن تستكملى إعداد الماجستير ؟
ـ ما أريده الآن أن أسافر إلى أرمينية .
ـ سافرى للسياحة .. للفسحة .. وعودى ..
ـ لا أهل للدكتور هناك ..
أضافت فى نبرة واثقة :
ـ يريدنى أن أكون أهله ..
ـ هذه مشاعر شفقة ..
ـ أطلت التفكير قبل أن أتخذ قرارى ..
ـ الرجل أكبر من أبيك ..
ـ أعرف ..
لم يعد لدىّ ما أقوله ، فسكت . رفضت أن أجتر الكلمات التى لا تعنى شيئاً فى الأغلب ..
حل صمت ، مفعم بالمعانى الحزينة . أحسست أنى وحيد فى صحراء مترامية الأطراف ..
بدا لى العالم مليئاً بالأسئلة القاسية ، وبالألغاز . لماذا لم يحدثنى العجوز عن العلاقة بينه وبينها ؟ لماذا صمت عن تعلقى بها ـ لابد أنه لاحظه ـ وواصل نسج غزله حتى ألقى طراحته فى وقت لا أعرفه ، وفاز بعروس البحر ؟ هل حدثته عن مصارحتى بحبى له ؟ هل كان يعتبرنى غريماً ؟..
شغلنى ، صرف انتباهى ، بمتاعب الشيخوخة ، البناية المهددة بالانهيار ، اختلاف الرأى بتباعد السن . لم يحاول حتى مجرد الإشارة ، فأكف عن إلحاح النظرات ، أو أستكين إلى تلاشى التوقع ..
خمنت من نظرته المتأملة ، الصامتة ، فهمه وموافقته . فارق السن بينه وبينها ، بينه وبينى ، لم يطرح معنى مغايراً . علاقة الأب بابنته هى التى تصورتها ، بين رجل متقدم فى السن وفتاة تصغره بعشرات الأعوام ..
انطلق الخيال . توقعت أن يريحنى العجوز من عناء المصارحة ، ومن العقبات التى ربما تفرضها أسئلة غير متوقعة من أسرة الخواجة أندريا ؟
قلت :
ـ هل يعرف الخواجة أندريا ؟
ـ هذا شأنى ..
فى دهشة :
ـ تتزوجين دون أن تستشيرى أسرتك ؟ دون أن تخبريها ؟
ـ أنا لست فتاة من بحرى ..
ضايقتنى العبارة ، وإن جاوزتها بالقول :
ـ أرجو أن تعيدى مناقشة قرارك ..
ـ ما قررته نفذته بالفعل . تزوجت الدكتور جارو ..
ـ سأتغاضى عن الإهانة لأنى أريد أن نفترق صديقين !
تباعدنا بالصمت ، وبالنظرات المحدقة فى الأرض ..
حاصرتنى الأسئلة : لماذا ؟ وكيف ؟ وهل تسافر مع العجوز بالفعل ، فلا تعود ؟..
بدت كل الكلمات فاقدة المعنى ، وسخيفة ، فلا يمكن النطق بها . أضفت صمتها الواجم إلى الجدار الزجاجى بيننا ..
داخلنى شعور بأنى سأحرم من رؤيتها إلى الأبد . لا أتصور أنى أستطيع فراقها . تصحبنى إلى باب الشقة . تودعنى ، ثم تغلق الباب . أظل فى ذاكرتها ـ ربما ـ لأعوام ، ثم تذوى الملامح ، تشحب ، تختفى . ما كان كأنه لم يكن . لقاءات العيادة ، ذكريات الدكتور جارو ، الجلوس على شاطئ البحر ، رفض فيصل مصيلحى ، ملاحظات الخواجة أندريا ، المناقشات ، المظاهرات ، الأسرار الصغيرة ، التردد على أمكنة المدينة : الشوارع الخالية ، والزحام ، واللافتات ، والأشجار ، والكورنيش ، والحدائق ، ورائحة البحر ، وزرقة السماء ، ورذاذ الأمواج ، وركوب الترام ، وباعة النواصى ، وظلال الشمس على الجدران ، وتلاقى الأذان فى المساجد القريبة .
هل تواتينى الجرأة لزيارة أسرتها ؟..
هبطت السلالم إلى الباب الخارجى ..
طالعنى شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة . الشرفات الحجرية ذات المقرنصات والأشكال تمتد بطول الواجهة ، ضوء العصر يعلو البنايات ، فغطت التندات الشرفات المفتوحة . امتزج نداء الجرسون فى المقهى على ناصية الشارع بأذان العصر من مئذنة جامع على تمراز المجاور ..
عبرت تقاطع الشارع مع شارع فرنسا وشارع رأس التين . على ناصية شارع التتويج عربة حنطور ، راح السائق فى إغفاءة ، فوق كرسيه ، ودس الحصان رأسه فى مخلاة التبن . فى الناحية المقابلة عربة تين شوكى ، ينزع البائع بالسكين أغلفته الشوكية عن الثمار ، وعفريت الليل يضىء لمبات غاز الاستصباح
مضيت فى اتجاه البحر ..
التفت ـ بتلقائية ـ ناحية شرفة الطابق الأول . كانت نورا تغلق ضلفتى الشرفة . تنبهت ـ بسخونة الشمس ـ إلى أنى أطلت الوقفة أمام قهوة فاروق . يتعالى من داخلها نداءات الجرسون ، وأصوات لاعبى الطاولة والكوتشينة ، وطرقعة القشاط على الطاولة ، وصوت عبد الوهاب يغنى للجندول . وثمة ماسح أحذية يرنو ـ بنظرة متوسلة ـ إلى أحذية الجالسين ، وهو يضرب على الصندوق بظهر الفرشاة ، وقط ـ أسفل الرصيف ـ قوّس ظهره فى مواجهة نباح كلب ..
البحر حصيرة . ألق الشمس يضوى على مياهه ، وثلاثة قوارب متناثرة ، ألقى أصحابها طراحاتهم ، وانتظروا الصيد . ثمة فى الرمال ، وبين الأحجار الصغيرة والحصى ، جحور للكابوريا ، وطحالب ، وبقايا أعشاب ، وقناديل ميتة . سحابات من الطيور الداكنة اللون ، تحلق فى السماء . تقترب ، تتباعد ، تعلو فى اتجاه الأفق ، ثم تعود ، ثم تنطلق . تشحب فى انطلاقها ، حتى تغيب تماماً ..
محمد جبريل ـ مصر الجديدة ـ إبريل 1996
(انتهت الرواية)