-
النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
أغنيات
قصص قصيرة
(الطبعة الأولى)
2007م
محمد جبريل
***
الإهداء
إلى محمد زكريا عنانى
***
" ليست الموسيقا ـ فى الواقع ـ إلاّ منصة وثب نطلق من عليها العنان لأهوائنا العاطفية الخاصة ، لتحريك ذكرياتنا العاطفية ، أو سلسلة من التداعيات ، تعمل الموسيقا باعتبارها مجرد خلفية ، وليس باعتبارها شيئاً نصغي إليه " .
جون هوسبرز
***
* أغنية للمهد *
.....................
كان جدى يروى لنا الحواديت . لا أذكر أن أبى روى لنا حدوتة ، أو حكاية . إنما هى ملاحظات سريعة عن مشاهداته فى العمل ، أو فى الطريق . ننصت إليه ونحن جلوس حول مائدة الطعام . لم تكن أمى تتحدث إلينا بغير الشخط والنطر ، فلا حكايات ، ولا حواديت ، ولا ترنم بأغنيات . الزاد الذى كنا نلجأ إليه ـ فضلاً عن حواديت جدى ـ هو حكايات بابا صادق ، ثم بابا شارو ، فى برامج الأطفال بالإذاعة ..
المرة الوحيدة التى غنت فيها أمى لنا أذكرها جيداً . لامست الإسكندرية تأثيرات الحرب العالمية الثانية . وكنا نعانى الخوف من أصوات المدافع المضادة للطائرات . استعدت أمى وأختى للهبوط ـ ذات ليلة ـ إلى المخبأ القريب . أصر أبى ـ كالعادة ـ على أن نظل ـ أخى وأنا ـ فى الشقة ، فالرجال لا يلجأون إلى المخبأ . علا صوت المدافع ، فأجهشنا بالبكاء . تراجعت أمى عن النزول ، واندست فى الفراش بيننا . همس صوتها ، ثم علا ، بالأغنية :
خد البزة واسكت .:. خد البزة ونام
أمــك السيـدة .:. وأبوك الإمام
وأبوك سعد باشا .:. طالع للأمام
ونمنا .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الثأر *
........
حى بحرى هو هذه المنطقة التى تمثل شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . لا يزيد ـ طولاً أو عرضاً ـ عن كيلو متر واحد . مظهره الأهم غلبة الروحانية . ثمة الجوامع والمساجد والزوايا والصوفية وحلقات الذكر والموالد وغيرها مما يسم الحياة فى بحرى باختلاف مؤكد ، ليس عن بقية أحياء الإسكندرية فحسب ، وإنما عن بقية المناطق المصرية جميعاً . شهر رمضان ـ بالطبع ـ جزء من تلك الروحانية التى تدين لها طفولتى ـ ومحاولاتى الإبداعية فيما بعد ـ بالكثير . الصيام ، صلاة التراويح ، تلاوة القرآن ، المسحراتى ، الكنافة ، القطايف ، حالو ياحالو ، الياميش ، الأضواء ، الفوانيس ، الليل الصاحى ، النهار المتثائب ، السبح ، الأعصاب المنفلتة ، واللهم إنى صايم ، الطرشى ، الفول المدمس ، اللب ، الفول السودانى ، التسالى ، الإذن للأطفال بالسهر مدى شهر كامل ، تقييد الشياطين والجان ، اختفاء العفاريت ..
كنا نسهر إلى موعد السحور . نحمل فى أيدينا ـ عقب الإفطار ـ فوانيس زجاجها ملون ، مصنوعة من الصفيح ، وتضئ بالشمع . أفضل من فوانيس هذه الأيام التى تضئ بالبطارية ! . دعك من وفرة الأمان فى الفوانيس الحالية . ارتعاشة الشمعة قد تحمل الخطر ، لكنها تحمل الحميمية فى الوقت نفسه . نقف أمام دكاكين الحى ، نلوح بالفوانيس ونغنى :
الدكان ده كله عمار وصاحبه ربنا يغنيه
يهبنا صاحب الدكان من الملاليم ما يدخل السعادة إلى نفوسنا ، ربما أضعاف ما نشعر به ونحن نأخذ هبات فى المناسبة نفسها ..
قد يرفض صاحب الدكان ، ويطردنا ، فتعلو أصواتنا :
الدكان ده كله خراب وصاحبه ربنا يعميه
ونجرى ..
وكنا نسلى أنفسنا بما نسميه " شكل للبيع " . ألجأ إلى رشاقة جسدى ـ باعتبار ما كان ـ فأقفز على عنق أحد المارة ممن نتوسم فى ملامحه طيبة . يسقط الرجل ـ بتأثير المفاجأة ـ من طوله ، ويخرج الأولاد من مكامنهم ، وفى أيديهم العصى ، ينهالون عليه بضربات سريعة ، مؤلمة ، ويختفون قبل أن يفيق الرجل من الصدمة ..
تكررت اللعبة ، وطالت عصينا أجساد الكثيرين . مجرد شقاوة عيال يشغلها التسلية وغير المألوف ، وليس إحداث الأذى ..
ثم جاء اليوم الذى كان ينبغى فيه أن ندفع الثمن : قفزت على عنق شاب صعيدى ، ولحقته عصى الأولاد فى سقوطه على الأرض ، واختفينا ـ كالعادة ـ قبل أن يحاول رد ضرباتنا ..
نفض الشاب ثيابه ، ومضى .. وعدنا إلى شكل للبيع وغيرها من الألعاب : الاستغماية ، عنكب يا عنكب ، نطة الإنجليز ، أولها اسكندرانى إلخ ..
قبل السحور ، كان التعب قد هدّنا . جلسنا متجاورين على رصيف الشارع الخلفى لجامع سيدى على تمراز . يغنى أحدنا ، ونردد وراءه ونحن نهز الرءوس :
وحوى يا وحوى .. إيوحه .. وكمان وحوى .. إيوحه ..
فاجأت أولنا ركلة قدم قاسية طوحت به فى قلب الشارع . تزامنت صرخة الولد مع صرخاتنا ، ونحن نتلقى الركلات السريعة المفاجئة من قدم الشاب الصعيدى . أوهمنا أنه مضى بعيداً ، لكنه ظل ـ فى صبر ـ حتى جاءت اللحظة التى اختارها ، فثأر لنفسه !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* طقس *
..........
ليلة العيد ..
تصنعها الأضواء على مئذنة سيدى على تمراز ، وعلى واجهات الدكاكين ، والأبواب المفتوحة ، والصيحات ، والنداءات ، والزحام ، وغياب شخطة أمى : يا مقصوف الرقبة ، وسهر الأولاد إلى موعد الصلاة ، وترديدهم للأغنية التى تسبق عيد الفطر :
يا برتقال احمر وجديد .. بكرة الوقفه وبعده العيد
أو الأغنية التى تسبق عيد الأضحى :
بكره العيد ونعيد .. وندبحك يا شيخ سيد
والشيخ سيد ـ كما تعلم ، أو لا تعلم ـ كناية عن خروف العيد ..
أميز ما فى الليلة كلها أغنية أم كلثوم التى تدعو بطول العمر للملك فاروق . فلما قامت الثورة استبدل باسمه اسم محمد نجيب . فلما مضى نجيب آثرت الدعاء للنيل ..
نعد أنفسنا للذهاب إلى تياترو أحمد المسيرى . يقام فى أرض خلاء بشارع التتويج ، لا أذكر موقعها الآن ، وإن أذكر السرادق الضخم ، يقف على مسرحه الخشبى ـ فى بداية العرض ـ مجموعة المغنين ، يرددون فى صوت واحد :
يا للى زرعتوا البرتقان .. ياللا اجمعوه .. آن الأوان .. ياللا .. ياللا ..
تعيد المجموعة أداء الكلمات نفسها فى نهاية العرض ، بعد فقرات من الغناء والرقص وأفعال السحر والديالوجات القصيرة والتهريج ..
يخلو ـ عقب صلاة العيد ـ ميدان الخمس فوانيس المواجه للجامع من المصلين والحصر . يتسع سوق العيد فيملأ الساحة والميدان والشوارع والحوارى المتفرعة ..
نسلم أنفسنا إلى يدى أمى ، تلبسنا زى العيد . ثم ننزل ـ أخى وأنا ـ إلى سوق العيد ..
ألمح سيارة التاكسى على تقاطع إسماعيل صبرى ورأس التين . استحث أخى لركوبها . وسيلة فسحة من العيد للعيد . تفتح أبوابها حتى تمتلئ تماماً . ينحشر فيها الأولاد . تتداخل الرءوس والأجساد والأيدى والأقدام . يجد السائق صعوبة فى إغلاق الأبواب ، ويهمل صراخ الأولاد من الزحمة الخانقة . يحاول أن يجد لنفسه موضعاً أمام عجلة القيادة . يمضى من رأس التين إلى سراى الملك ، ومنها إلى طريق الكورنيش بمحاذاة شاطئ الأنفوشى ، فالميناء الشرقية . يميل من شارع إسماعيل صبرى ، حتى الناصية التى بدأ منها . مجرد ومضات وملامح سريعة ، يتاح لى أن ألتقطها . وربما لا يتاح لى رؤية أى شئ . إنما هو ما ينتزع قوله الأولاد الذين يطلون ـ بالضرورة ـ من النوافذ ..
يفتح السائق الأبواب . يتفكك الأولاد الذين تحولوا إلى كتلة بشرية واحدة . يركب ـ بدلاً منهم ـ أولاد آخرون ، وهكذا ، إلى ما بعد منتصف الليل ..
فى اليوم التالى ، أنسى الزحمة ، وكتمة النفس ، وأسابق أخى والأولاد إلى السيارة الواقفة ..
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* لك حبى *
................
أقف بين أبى وأخى فى الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى . وقفت أمى وأختى للفرجة فى نافذة غرفة النوم المجاورة . الشاحنات الإنجليزية القادمة من رأس التين ، أو من داخل الدائرة الجمركية ، فى طريقها إلى خارج الإسكندرية . الناس وقوف على الأرصفة وأبواب الدكاكين والمقاهى ، ويطلون من الشرفات والنوافذ والأسطح ..
قال أبى :
ـ ليست نتائج معاهدة 1936 سيئة كلها ، فهاهم الإنجليز يخرجون ..
الأيدى مدلاة على الجانبين ، والأفواه صامتة ، فلا تعبير عن الوداع ، أو حتى إبداء الفرحة ، بخروج قوات الاحتلال . الصمت السادر ينعكس فى الملامح حيادية متوترة ، فيما عدا تعليقات أو شتائم هامسة ، ربما خوفاً من أن يبوظ الفرح ، مع أن عساكر الإنجليز لا يعرفون العربية ..
يعلو صوت من داخل دكان الرويعى الترزى :
بلادى بلادى بلادى .. لك حبى وفؤادى
يكرر الصوت الكلمات بمفرده . يرددها الواقفون من حوله . يمتد انفراج الشفاه بالكلمات ، ويتسع . تتحرك الأيدى تعبيراً عن المعنى . يغيب الفهم عن الجنود ، وإن انعكس التحول فى ارتباكهم . يتبادلون النظرات المتسائلة ، القلقة . وتتقلص أيديهم على البنادق فى توقع لا يدركون بواعثه ..
لم يحدث التصرف رد فعل بين الآلاف على الجانبين . ظلوا حيث هم فى النوافذ والشرفات والأسطح ، وفى الطريق ، وإن لم تخفت أصواتهم بالنشيد !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* بيع وشراء *
..................
لا أذكر كيف ، ولا لماذا ، أحببت عملية البيع والشراء . ربما لأنى كنت أتابع عم عبده فى دكانه الصغير ـ قبالة البيت ـ وهو يبيع الحلوى والسجاير . أحببت الفصال ، والأخذ ، والرد ، وصل على النبى ، وزيد النبى صلا ، وبين البايع والشارى يفتح الله ، واتوصى شوية ، والله يبارك . طقوس تبدأ ، ولا تنتهى . تشكل دنيا البيع والشراء التى أتابعها من موضعى خلف النافذة المطلة على دكان عم عبده ..
طلبت من أمى أن تثبت مؤشر الراديو على الأغنيات ، سواء ما تقدمه إذاعة القاهرة ، أو إذاعة الشرق الأدنى ، خلفية لنشاطى التجارى الذى شغل أسفل السرير النحاسى الكبير فى حجرة أبوى . مجلدات من مكتبة أبى ، وعلب أحذية فارغة من الورق المقوى ، أصفها فى هيئة طاولة الدكان . أضع فوقها البسكويت والبونبونى . أدخر ثمنها من مصروفى . حتى الإفطار ، أعتذر عن عدم تناوله فى البيت . تعطينى أمى المقابل قرشين أو ثلاثة ..
أثابر فى جلستى المنحنية . زبائنى هم خالتى وأخواى . يشترون بالأجل حتى يخلو الدكان تماماً . أريح علب الأحذية ، وأفرد جسدى الذى طال تقوسه . أرد على السؤال بموعد البيع ثانية :
ـ ربما غداً بعد أن آخذ مصروفى ..
أحببت البيع والشراء ، فنسيت ـ أو تناسيت ـ ما كنت أدينهم به من قيمة البضاعة القديمة !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* يا حلو يا اسمر *
........................
استمعت إلى الأغنية مرة وحيدة أمام الطاولة الرخامية ، تعلوها قدرة الفول ومقلاة الفلافل . وثمة مائدتان صغيرتان لصق الجدار المواجه ، يحيط بهما ثمانية مقاعد ، وفوق الرف المثبت فى نهاية المكان جهاز راديو ، تتناهى منه أغنية عبد الحليم حافظ :
يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أستمع فيها إلى أغنية عبد الحليم . ولم تكن ـ بالطبع ـ هى المرة الأخيرة . ربما يذكرنى باللحظة تنبهى إلى كلمات الأغنية . بدت سخيفة وبلا معنى . مجرد كلمات مرصوصة تخفّت فى لحن جميل وصوت عذب ..
أدركت المأزق الذى نحياه فى قول عم ربيع البائع وهو يعدنى بنتيجة حائط للعام الجديد :
ـ علشان الزباين اللى بيشتروا مننا دايماً !
كانت أسرتى ـ لظروف مفاجئة ، وقاسية ـ قد أصبحت بعض هؤلاء الزبائن الدائمين . ألفنا المكرونة ، والأرز ، وتقطيع البطاطس إلى شرائح فى صلصة الطماطم ، وقلى الباذنجان . أصبح الفول طبقاً رئيساً . ربما نزلت بالكسرولة الفارغة إلى دكان عم ربيع أكثر من مرة فى اليوم الواحد ..
غلبنى الحرج . أزمعت أن أقصد ـ فى المرات التالية ـ دكاناً آخر فى الشوارع القريبة . الصداقة بينى وبين عم ربيع ، أو الكسل ، أو اعتبارات لا أذكرها ، أو لا أفهمها ، عادت بى إلى الدكان . تكرر حملى لكسرولة الفول ، وعودتى بها . أسلم نفسى لشرود . لا آخذ من عم ربيع ـ كما ألفت ـ وأعطى . أغتصب الإجابة إن ألح بالأسئلة .. لكننى ـ فى لحظة لا أذكرها ـ أعطيت انتباهى للأغنية التى كنت أحفظ كلماتها دون أن يشغلنى معناها ، وصلت الأحرف بالكلمات بالسطر الشعرى . غاظنى الثوب الفضفاض على جسد يعانى الهزال ..
أستمع إلى أغنية النيل فى أى مكان ، فأنتقل إلى دكان عم ربيع بائع الفول . تلك هى اللحظة الوحيدة التى تذكرنى بها الأغنية .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* مدرسة للغناء *
.........................
كتبت ـ مرات كثيرة ـ عن قهوة فاروق . تأثيرها المهم على الحياة السكندرية ، وعلى نظرتى ـ شخصياً ـ إلى الكثير من الأمور . ذلك ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى رباعية بحرى وقاضى البهار ينزل البحر وزمان الوصل وموسوعة بحرى وغيرها . قهوة فاروق ملمح أهم فى سيرتى الذاتية " حكايات عن جزيرة فاروس " . تعلمت من أغنيات الفونوغراف التى كانت تنبعث منها ـ فى أوقات الليل ـ ما أضاف إلى وجدانى . استمعت إلى أغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم والأطرش وعبد الحى وليلى مراد وغيرهم من نجوم الغناء آنذاك . كانت أصواتهم أشبه بالمدرسة التى تعلمت فيها الغناء ، وأحببته ..
عم أحمد الفكهانى ، مدرسة أخرى أضافت إلى وجدانى ..
أحببت الغناء فى صوته . الكلمات نفسها ، أو ما يشبهها ، ذكرتها فى " حكايات عن جزيرة فاروس " . عربته المحملة بأقفاص الفاكهة ، فى ناصية الشارع الخلفى الفاصل بين بيتنا وجامع سيدى على تمراز . يبدأ البيع ، والغناء ، فى الصباح . لا أعرف الموعد تماماً لأنى وقتها أكون فى المدرسة . ربما ناوشتنى أغنياته وأنا ألعب فى حوش المدرسة ، فأرددها بينى وبين نفسى . أعود بعد صلاة الظهر . يتناهى غناؤه وأنا أقترب من الباب الرئيس للجامع : زغلول يا بلح .. لا تين ولا عنب زيك .. فيومى يا عنب .. خد الجميل يا قصب .. ياللى الهوا هزك يا مشمش ..
أتأمل معنى الكلمات ، وطريقة الغناء ، وتلون نبرات الصوت . رغم التباين مع الأغنيات التى أستمع إليها فى البرنامج الإذاعى بابا شارو ، فإن الإحساس بالنشوة نفسه يتملكنى ..
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* كوارع *
..............
صحبنى أبى إلى شارع الميدان . اخترقنا الزحام وروائح السمك والشواء والقلى والفلفل الأسود والشطة والبخور ..
تأمل أبى ، وقلّب ، وفاصل . حملت ما اشتراه : سجق اسكندرانى ، وجبنة بيضاء ، وزيتون ، وموز ، وبرتقال ، ومخللات ..
بدا دكان الكوارع خالياً إلا من حامل خشبى ، تترامى منه أغنية كارم محمود : يا حلو ناديلى .. وشوف مناديلى ..
تكومت الكوارع على عربة يد أمام الدكان ، وانشغل البائعان المتقابلان فى وقفتهما برش الماء على الكوارع ليضفيا عليها طزاجة تسر الناظرين ..
سأل أبى عن ثمن زوج الكوارع ..
اتجه أحد الرجلين إلى الآخر بنبرة متسائلة :
ـ إيه تمن الجوز ؟
قال البائع الثانى :
ـ 18 صاغ ..
وهو يومئ برأسه ناحية أبى :
ـ وعشان الرجل الطيب ..
ـ 16 صاغ ..
ـ وعشانه كمان ..
ـ 14 صاغ ..
ـ وعشان ..
قاطعه :
ـ يبقى بخسارة ..
عدنا بالكوارع إلى البيت . اقترح أبى أن نؤجل الغداء لتكون الكوارع هى طبق اليوم ..
بعد ثلاث ساعات أو أربع ، بدأ تسللنا إلى المطبخ ، نتناول ـ من النملية ـ حبات زيتون أو قطعة جبن ، أو ثمرة فاكهة ..
ظلت الكوارع ترفض النضج على نار وابور البريموس ، حتى علت أشعة الشمس ـ فى غروبها ـ أسطح البيوت المقابلة ..
أطفأت أمى البريموس ، ودعتنا إلى استكمال ما كنا بدأنا فى تناوله من طعام النملية ..
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* خد بوسة *
............
حموده موده خليك تقيل .. خد بوسه وانزل تبقاش سقيل ..
ظللت أردد كلمات الأغنية . أرتفع بالقرار ، وأهبط به . ألون فى المفردات ، والحروف ، وأمطها ..
تنبه أبى فى مجلسه فى الحجرة المطلة على الميناء الشرقية ، إلى الكلمات التى كنت أدندن بها . تبين معنى مفرداتها ..
ـ أين استمعت إلى هذه الأغنية ؟
ـ فى السينما ..
كنت قد صحبت عم إبراهيم زوج خادمتنا دهب إلى فيلم " صاحب بالين " بسينما استراند . لم أعد أفلت فرصة مصاحبته إلى السينما ، منذ شاهدت معه أول فيلم سينمائى " ليلى بنت الفقراء " بطولة ليلى مراد وأنور وجدى ..
ما بقى فى ذاكرتى مشهد شكوكو وهو يصعد على سلم خشبى إلى شرفة تقف فيها سعاد مكاوى .. قال لها : حمودة فايت يا بنت الجيران .. ياوردة بيضا فى حزمة ريحان [ أتذكر الأغنية رغم مضى عشرات الأعوام على سماعى لها ] وغنى شكوكو : إدينى بوسة .. أنا زى اخوكى .. ناولينى ناولى .. يا بنت الجيران ..
ردت عليه سعاد مكاوى بالكلمات التى خلوت إلى ألعابى وأنا أرددها ..
رمق أبى عم إبراهيم ، اللائذ بالصمت والتأدب ، بنظرة متأملة :
ـ الولد صغير على مثل هذه الأفلام ..
قال عم إبراهيم فى لهجة معتذرة :
ـ إنها مجرد أغنية .. ومحمد صغير كما قلتم ..
علا صوت أبى بالغضب :
ـ لا تعد إلى هذا ثانية !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* كوسـة *
................
طلبت أمى أن أشترى لها أقتين كوسة . لم أكن أعرف الفرق بين أنواع الخضر . صحبت صديقى عادل الصبروتى إلى شارع الميدان ..
كان الوقت ظهراً ، وثمة ـ أمام الدكان أول شارع وكالة الليمون ـ زحام ونداءات وصيحات وروائح متداخلة ، ويترامى من راديو المقهى المجاور صوت محمد عبد الوهاب :
مين عذبك بتخلصه منى ..
تناول عادل " بقوطى " وبدأ فى اختيار ثمار الكوسة .
همس فى أذنى :
ـ ساعدنى فى قطع رءوس الكوسة ليخف وزنها ..
فاجأ البائع انشغالنا بما نفعل . أمسك بثمرة يتساقط منها ما يشبه الصمغ . وقال فى لهجة يشوبها الإشفاق على طفولتنا :
ـ انظروا كيف تبكى من أذيتكم لها ..
وأعاد الثمرة إلى موضعها :
ـ حتى الأغنية تعيب فعلتكم !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الساعة ذات البندول *
................................
أمى تصغر أبى بسنوات عديدة . ألتقط من ذكرياتهما أنها كانت ـ لصغر سنها ، قبل أن يأتى الأبناء ـ تخاف الليل ، فهى تنتظره فى الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى . فإذا غلبها الخوف ، نزلت تنتظر مجيئه على كرسى البواب ..
لم يكن أبى يدخل مع أمى فى مشادة ما ، ولا يحاول توبيخها ، أو تشديد ملاحظاته عليها . حتى قسوتها الدائمة علينا ـ فرط حنان ، كما تفعل القطة حين تأكل صغارها ـ لم يكن يقابلها بغضب ولا ثورة . إنما هى ملاحظات مداعبة ، تخاطب الطفلة بأكثر مما تتجه إلى الزوجة ..
يرفض أبى ـ فى الأوقات التى تظهر فيها أمى اختلافها معه ـ أن يعطيها ما يعيدها إلى أهلها فى دمنهور :
ـ اعقلى .. وخليكى مع أولادك !
تصر ـ أحياناً ـ على أنها أخذت على خاطرها ، فهى لابد أن تعود إلى بيت أبيها . تتطلع إلى الساعة ذات البندول التى تتصدر جدار الصالة ـ تكرر المشهد ! ـ وتسأل :
ـ أليست هذه ساعة أبى .. اعطنى إذن ثمنها ..
يقول أبى فى ابتسامة مشفقة :
ـ أعطيت أباك ، وأعطيتك ، ثمنها مرات كثيرة من قبل ..
تهز كتفيها :
ـ لا شأن لى .. أريد ثمن الساعة ..
ـ لمحمد فوزى أغنية تقول : الساعة واقفة .. والا بتمشى .. سمعتك تدندنين بها .. غنها لى أصحبك بنفسى إلى دمنهور ..
ترافق ابتسامة نبرته المحرضة :
ـ غن لى .. غن لى ..
تزم أمى شفتيها ، كى لا تفلت منها ضحكة ، ثم تخلى للضحكة سبيلها ..
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* أنّـــا *
..........
تبدو فى ذاكرتى كطيف جميل . وأذكر أن أمى وجارات البيت كن يمتدحن محاسنها ، فلابد أنها كانت كذلك بالفعل . لا أدرى ـ حتى الآن ـ معنى الاسم ، وهل هو تعبير عن أصول غير مصرية ، أو أنه كناية التدليل لاسمها الحقيقى . ما أعرفه جيداً أن أنّا ، أو أبلة أنّا ـ كما كنا نسميها وندعوها ـ لم تكن مجرد جارة لنا ، ولا هى فقط صديقة لأمى ، لكنها كانت تقضى مع أمى معظم وقت غياب زوجها ـ الذى يعمل مهندساً فى كفر الدوار ـ عن البيت ..
كانت تهبط من شقتها فى الطابق السادس إلى شقتنا فى الطابق الثالث . تجالس أمى فى الحجرة المطلة على جامع سيدى على تمراز ، ويخوضان فى أحاديث تبدأ ولا تنتهى ..
ذات عصر ، اجتذبتنى فى حديثهما كلمات متناثرة عن الأرواح والجان والشياطين والعفاريت . عالم يلتف بضبابية المجهول والإثارة والخوف ..
تنبهت على صوت أمى :
ـ روح العب بعيد ..
لم تنجب . حدست أن هذا هو الباعث لأحاديث أنّا الهامسة مع أمى ، وتلبية عم أحمد البواب المتكررة لطلباتها بشراء ما تحتاجه من العطار ، أول شارع الميدان . والتقطت قول أمى لها : ربنا يطعمك ، فأنا أثق ـ الآن ـ أن أنّا كانت تعانى مشكلة عدم الإنجاب ..
ظلت الكلمات تناوشنى ، حتى وصلتها بكلمة " زار " التى تخللت أحاديث أمى وجارتها فى الأيام التالية ..
سرت حياة غير عادية بين شقق البيت . تعالت النداءات والصيحات والملاحظات والأسئلة . وهمست أمى ، تستأذن أبى ـ وهو يعد نفسه للخروج فترة العمل المسائية ـ كى تصعد إلى شقة أنّا .
ـ خير ؟
ـ أبداً .. حاجاملها فى قعدة زار ..
ـ زار ؟.. من إمتى بتحضرى الحاجات دى ؟
ـ أهى مجاملة .. قالوا لها لابسها جان ..
وربتت كتفه وهى تودعه :
ـ قالوا لها كده ..
اندسست ـ فى المساء ـ وسط لمة النساء والأطفال والشموع وأريج البخور والدم المسفوك . ارتفع إيقاع الدفوف والطبول ، واهتزت الأرض والجدران بدبيب الأقدام والرقصات المحمومة ، وتعالى صوت الكودية :
قادوا الشموع لماما . الشمع بات سهـران
وندهت السيـدة زينب .. رئيسة الديـوان
يا شيال الحمول يا متولى شيل حمّة العيان
يا شيخ العرب يا سيـد يا ندهة المنضـام
فرشوا الأرض لماما بالفــل والريحـان
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* 11 فبراير *
.................
اعتدت ـ فى تلك الأيام من كل سنة ـ رفع الأعلام والزينات والأضواء على واجهات البيوت ، وفى شوارع الإسكندرية وميادينها ، وحول البلانسات والفلايك فى المينا الشرقية ، وانطلاق الصواريخ الملونة فى منطقة السلسلة ، وتعالى صفافير البواخر فى المينا الغربية ..
قال لى أبى إن ما يحدث هو احتفال بميلاد كل مواليد فبراير .. وأنا واحد منهم !
صدقت ما قاله أبى . ووجدت فى الاحتفال بعيد ميلادى ـ ولو مع مواليد الشهر نفسه ! ـ دافعاً للتباهى بين زملائى فى مدرسة البوصيرى الأولية ..
تأملت أغنية يقول مطلعها : أهو جانا حداشر فبراير . سألت أبى عن التاريخ .. لماذا حدد فى يوم بالذات دون بقية أيام الشهر ؟
لم يجب أبى . اكتفى بابتسامة صامتة ..
أعدت السؤال على جميل أفندى مدرس اللغة العربية . قال :
ـ 11 فبراير هو عيد ميلاد الملك .. والأغنية والاحتفالات من أجله !
كتمت فى داخلى إحساساً بالخذلان ، وأزمعت ألا أصدق أبى فى كل ما يقوله لى !
(يتبع)
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* أغنيات الفطرة *
.......................
كنا نصحب أبى ـ بعد ظهر كل خميس ـ إلى دمنهور . نستقل الأوتوبيس من ميدان المنشية ، أو القطار ، من ميدان المحطة إلى شارع الصاغة ، ومنه إلى أبو الريش . نقضى الليلة فى بيت جدى . الباب الخشبى ذو الضلفتين ، يفضى إلى طرقة مبلطة ، وعلى اليمين حجرة تطل نافذتها الحديدية على الطريق . يصعد السلم الحجرى إلى طابقين . يضمان أخوالى وأبناءهم . تخلى لنا جدتى شقة الطابق الثانى ، فوقها السطح . الفرن وعشش الطيور . ننط الحبل ، أو نلعب السيجة ، فى مساحة الأرض المبلطة المتبقية ..
نسأل عن اللبن ، تبعث به إلينا خالتى نبوية ـ أخت جدتى ! ـ من بيتها فى الشارع الخلفى . بيت ريفى ، طابقه الأسفل للماشية ، والعلوى للبشر . يطالعك ـ بمجرد دخوله ـ امتزاج روائح أنفاس البشر والحيوان وروث البهائم والحطب ..
نترقب خيرى ، ابن خالتى نبوية ـ ابن خالة أمى ـ يسبقنا إلى الغيطان ، خلف وابور النور . نتمشى فى ضوء القمر ، أو يأخذنا إلى أحد الأفراح التى كانت تقام ـ فى العادة ـ ليلة الخميس . نشاهد رقصات الغوازى ، نستمع إلى أغنيات الفطرة ، أى تلك التى ألّف كلماتها ، ولحنها ، مجهول ، فهى تنتسب إلى الفن الشعبى . أذكر ـ مازلت ـ أغنيات : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. و : ادلع يا رشيدى على وش الميه .. أو : رمان التوب يا ليلى .. وغيرها ..
كان اهتزاز القطار أو الأوتوبيس يدفع بالقىء إلى معدتى الحساسة . لكننى كنت أترقب الرحلة إلى الحياة المغايرة ، وأعانى حزناً معلناً حين يقرر أبى ـ لظرف ما ـ إرجاء السفر إلى الأسبوع التالى ..
صحوت ـ ذات ليلة ـ على وقع أقدام ، ونداءات ، وعبارات محذرة ومشفقة ..
كانت أمى تميل على طست أوسط الحجرة ، تفرغ ما فى جوفها ..
ظللت مستيقظاً حتى بعد أن صعدت أمى على السرير المقابل ، وجرعت ما وضعه أبى فى يدها من أقراص أدوية ..
تناهى صوت أبى بالقلق وهو يقول فى تأثر :
ـ لم يكن من المفروض أن تتناول عشاء دسماً ..
أضاف فى قلقه :
ـ مرض القلب يتطلب عشاء خفيفاً ..
عدنا إلى الإسكندرية قبل ظهر اليوم التالى . اشتد المرض على أمى ، فلم تعد تتحرك من سريرها ..
توالت الأشهر دون أن نسافر إلى دمنهور . ومضت ـ بعد رحيل أمى ـ أعوام كثيرة . لكن تظل فى ذاكرتى تلك الأيام البعيدة : شرب الحليب ، المشى فى الغيطان ، سماع أغنيات الأفراح . أستعيدها ، وأتمنى أن أعيشها ثانية ..
تملكتنى نشوة وأنا أضمن روايتى " ياقوت العرش " ـ الجزء الثانى من " رباعية بحرى " ـ أغنية : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. قلبى مستنى من ليلة امبارح .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* تعديـدة *
................
خديجة توفيت ..
كتب أبى البرقية ذات الكلمتين . بعثت بها من مكتب التليفونات بشارع فرنسا ، إلى جدتى وأخوالى فى دمنهور ..
سبق صوات جدتى صعودها ـ فى مساء اليوم نفسه ـ على سلم البيت . وصل أخوالى فى اليوم التالى . أصر أبى أن نذهب إلى مدارسنا ، فلا نقعد فى البيت . لم تكن الجنازة ـ بعد عودتنا من المدارس ـ قد شيعت بعد . استضافنا عم عبد السلام الحلاق ، فى دكانه أسفل بيتنا ، حتى مضت الجنازة إلى مقابر العامود ..
العادة أن يقتصر العزاء على ثلاثة أيام ، ثم تذهب الأسرة ـ فى الخميس الأول ، وفى أيام الخميس التالية ـ إلى العامود لزيارة الميت . حتى ذكرى الأربعين ، ثم الذكرى السنوية . ذلك هو الطقس الذى تحياه الأسر المصرية فى أعقاب وفاة أحبائها ..
حين عرضت جدتى أن تودع المعددات أمى بكلماتهن الباكية ، امتزجت ـ على وجه أبى ـ مشاعر الضيق والرفض والغضب . كيف يقبل إنسان مثقف ذلك التصرف السخيف ؟
طال اللجاج ، والأخذ والرد .. لكن رأى السيدة الريفية انتصر لتقاليدها ..
افترشت المعددات ـ لا أدرى من أحضرهن ! ـ غرفة القعاد المطلة على المينا الشرقية ، والتصقت أردية السواد بالجدران ، وبين الأثاث . اختلط النحيب والصوات ودقات الدفوف . لا أتابع الكلمات ، ولا أعى معانيها ، لكنها تفرض فكرة الموت ـ فى داخلى ـ بتصورات قاسية .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* هات القزازة *
................
لم يكن مضى سوى دقائق على تلاقى أذان الفجر فى أبو العباس والبوصيرى وعلى تمراز . حذرنا أبى من فتح الباب . ظللنا فى حجرتنا نغالب النوم والمفاجأة . تبينت صوت شوقى عويس . توقعت نفحة مادية : عشرة قروش ، أو خمسة وعشرين قرشاً ، يقدمها لنا ـ من وراء أبى ـ فى زياراته المتباعدة ..
بدت العصبية فى صوت أبى :
ـ أى خدمة يا شوقى أفندى ؟!
سبقنا أخى فى النزول من السرير . فتحنا باب الحجرة الموارب . كان شوقى عويس يقف بقامته الطويلة ، الممتلئة ، على باب الشقة ، وأبى فى منتصف الصالة . وثمة ضوء شحيح من اللمبة السهارى فى مدخل الطرقة إلى الحمام ، احتوى الرجلين والكتب والأوراق التى ينشغل بها أبى حتى مطلع الفجر ..
كان أبى يحرص على القميص والبنطلون إلى انتهائه من الترجمة . ثم يستبدل بها البيجامة ، ويتهيأ للنوم ..
لم يكن شوقى عويس فى الهيئة التى اعتدت رؤيته فيها . نزع الجاكت وألقى به على كتفه ، وفك رباط العنق ، واتسخت ياقة القميص المفتوحة بلون كالدم ، بينما أطل الزر من مقدمة الطربوش ، وما يشبه القىء على بوز الحذاء . وكان يضع على صدره أكياساً مغلقة ..
تقدم ناحية الترابيزة ، ووضع الأكياس المغلقة ـ أصلح بيئياً من بلاستيكات هذه الأيام ـ وقال فى صوت مترنح :
ـ صحى العيال علشان نعمل زمبليطة !..
سحب كرسياً وجلس . وجلس أبى فى الناحية المقابلة . تكلما عن دمنهور وأسعار القطن وأحوال الزراعة وأخبار أهل أمى فى أبو الريش وزيارات الرجل المتكررة إلى الإسكندرية . كان شوقى عويس يطلق ضحكات متقطعة ، ويتجشأ . وكان الاستياء ، وربما الغضب ، واضحاً على ملامح أبى ، فهو يعانى فى مجرد الرد على أسئلة الرجل ، مجرد الدردشة الكلامية ..
كان أبى يحدثنا ـ عقب كل زيارة للرجل ـ عن قرابته لأهل أمى ، وأنه يحيا على ميراث من الأموال والعقارات والأرض الزراعية ، ينفقه على إقامته وسهراته فى الإسكندرية ، فلا يتردد على مدينته دمنهور إلا ليحاسب مستأجرى الأرض الزراعية والعقارات وأثمان بيع المحاصيل .. وكان أبى يشدد علينا ، فلا نأخذ منه أو نعطى ، ولا نقبل منحه المادية ..
وعلا صوت شوقى عويس مدندناً :
هات القزازة واقعد لاعبنى ..
وأعاد الدندنة وهو يلون صوته ..
طلب أبى من أختى أن تعد حجرة الضيوف ، وأمرنا ـ بنظرة من عينيه ـ أن ندخل حجرتنا ..
صحوت على صوت اصطفاق الباب . حدست لرؤية حجرة الضيوف المفتوحة ، وانهماك أبى فى كتابة كلمات على ورقة كراسة ، أن الرجل ترك البيت ..
همس أبى :
ـ انت صحيت ؟
ونزع الورقة من الكراسة :
ـ ابعت التلغراف ده قبل ما تروح المدرسة ..
أعاد لى موظف التلغراف ورقة الكراسة :
ـ قول لابوك عم سليمان ما يقدرش يبعت تلغراف زى ده .. أبوك بيقول لواحد ماتزرناش وانت سكران ..
وعلا صوت عم سليمان محذراً :
ـ لما اشوف أبوك حاطلب منه يقول للراجل الكلام ده بينه وبينه !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* عروسة وعريس *
.....................
العريس كانت هى تسمية جار الطابق الثانى فى البيت المقابل ، والعروسة كانت هى تسمية زوجته .
سهرنا إلى قرب الصباح نطل على الأضواء والزينات والأغنيات والزفة السكندرية الشهيرة : صلاة النبى .. صلاة النبى .. مالحة فى عين اللى ما يصلى على النبى ..
لم تتبدل تسمية العروسة والعريس منذ صبحية الزفاف ، حتى أنجبا البنين والبنات . لم نكن نعرف اسمها أو اسمه . عرف التقاليد بأن ينتسب الأب إلى أكبر أبنائه فيسمى " أبو فلان " ، وتنتسب الأم إلى أكبر الأبناء فتسمى " أم فلان " ، حتى ذلك العرف نسيناه .
ظلت تسمية العريس والعروسة ـ رغم تقضى الأعوام ـ هى التى ترددها أفواهنا !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الحياة *
.............
أول أيام العيد ..
أشعة الشمس تغيب ـ فى ذلك الصباح الباكر ـ وراء البنايات المحيطة بالمكان ، وتغيب الملامح الحقيقية . فى مواجهة محطة الترام مستشفى دار إسماعيل للولادة ، تلاصقها مقابر العامود . الحياة تجاور الموت . جهاز الراديو فى دكان بائع العصير ، على ناصية الميدان ، يضعنا ـ بالأغنيات التى يعلو بها ـ فى قلب المناسبة . ليست أغنيات بذاتها ، لكنها عن العيد ، وللعيد : القرنفل لعبد الحليم حافظ وفاطمة على .. الحلوة دى قامت تعجن م البدرية لشافية أحمد .. الورد جميل لأم كلثوم .. يا صباح الخير ياللى معانا لأم كلثوم أيضاً .. أغنيات اعتادت الإذاعة تقديمها فى صباح ذلك اليوم ، وألفتها ـ فى ترددى على مقابر العامود ـ على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة ..
يمسك أبى برسغينا ـ أخى وأنا ـ ويمضى إلى داخل المقابر . رائحة التراب تتصاعد بحركة أقدامنا ، وعلى الجانبين أحواش مفتوحة ومغلقة ، وشواهد رخامية ، ونبات صبار ، ومتسولون ..
يقف أبى أمام باب منزوع المصراعين ، عليه لافتة : مدفن حسن جبريل . يلقى أبى السلام على الصمت ، ويدخل . الفناء الصغير أشبه بصالة مكشوفة ، والجدران تساقط طلاؤها ، وتآكلت بتأثير ملوحة البحر القريب ، وموضع النافذة خلا إلا من الحلق الخشبى . المستطيل الحجرى ـ أعرف أن أمى ترقد تحته ـ يتوسط الفناء . يدور أبى من حوله وهو يردد الفاتحة وقصار السور ، ونحن نكتفى بالتطلع الساكن ..
يتجه أبى ناحية الباب . يطيل الوقوف فى المساحة الصغيرة على يمين المدخل . يعيد ترتيب قطع الحجارة التى سجى جثمان أخى الأصغر تحتها . ثم يقرأ الفاتحة وقصار السور ..
تبحث يدا أبى عن رسغينا ، ويمضى نحو الباب الخارجى ..
يطالعنا الميدان بزحامه ، وصخبه ، والأغنيات التى يذيعها الراديو ، تنقلنا إلى فرحة العيد .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* سباق القوارب *
.......................
أشار أبى إلى الطاولة التى كان يجلس إليها عم حسونة غباشى ، وقال :
ـ أين الرجل ؟
قال الجرسون عطية :
ـ هزيمة قوارب السيالة أمام قوارب رأس التين ألزمته البقاء فى القزق ( ورش المراكب ) ليصنع قارباً يصعب تجاوزه !
نشأت الصداقة بين أبى وعم حسونة فى توالى اللقاءات ـ صباح كل جمعة ـ أمام مقهى المهدى ، أسفل بيتنا . ينتظران خطبة الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدى على تمراز ، تجتذبهما كلمات الرجل ضد الإنجليز والسراى وأحزاب الأقلية . لا تشغله تحذيرات وزارة الأوقاف ، ولا تهديدات السلطة القائمة . آلاف المصلين يملأون صحن الجامع وخارجه . جموع من البشر يفترشون ميدان " الخمس فوانيس " وأجزاء من شوارع رأس التين وسراى محسن باشا وإسماعيل صبرى وفرنسا .
من يضمن رد الفعل لو أن الأوامر صدرت بنقله أو إسكاته ؟
كان عم حسونة غباشى فى حوالى الخامسة والأربعين . أميل إلى البدانة . فى وجهه استدارة تهبه طفولة واضحة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته . تدلى طارفا شاربه على جانبى فمه . له طريقة مميزة فى نطق الكلمات . يغلب التلعثم على نطقه ، فيصعب عليه التعبير عن نفسه . تتداخل الكلمات فى غمغمات غير مترابطة ..
كان معظم حديث عم حسونة عن سباق القوارب . يجيد الانتقال من أحاديث خطب الشيخ عبد الحفيظ والسياسة والانتخابات والحرب الكورية إلى سباق القوارب . يعد له أبناء رأس التين والسيالة فى امتداد العام ، يبذلون كل قدراتهم لصنع قوارب تخوض السباق فى أول أيام عيد الفطر . يفوز أحدها بالمركز الأول ، فيحمله الرجال على رءوسهم ، وتعلو أصواتهم بالغناء . إذا كان القارب للسيالة ، ردد الرجال :
قفة ملح وقفة طين على دماغ راس التين
وإذا كان القارب لرأس التين ، ردد الرجال :
سيالة يا سيالة ياللى ما فيكى رجاله
صحبنى أبى ـ ذات عصر ـ إلى ورش القزق ، ما بين سينما السواحل وقبالة شارع الحجارى . بلانسات ولوتسات ولانشات وقوارب وفلايك . جديدة ، وقديمة يجرى إصلاحها ، وهياكل خشبية ، وروافع ، ومناشير هائلة ، وأدوات نجارة ..
لم يخف عم حسونة ـ فى ترحيبه بأبى ـ تأثير المفاجأة ..
رنا أبى إليه بنظرة مودة :
ـ هل خاصمتنا ؟
ـ أنت أعز الأصدقاء ..
ـ إذن خاصمت الشيخ عبد الحفيظ ؟
ـ لو كنت صوفياً لاعتبرته قطبى ..
ـ فلماذا انقطعت عن صلاة الجمعة فى على تمراز ؟
ـ أصلّى فى جامع طاهر بك بالحجارى . قريب من القزق ..
ثم بلهجة أسيفة:
ـ لابد أنك عرفت ما حدث . لن أضيع دقيقة حتى أصنع القارب الذى تعجز عن ملاحقته كل قوارب رأس التين !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الفتـوات *
...............
عرفت ـ من أحاديث أبى ـ أسماء فتوات الإسكندرية : حميدو الفارس وأبو خطوة والسكران والنجرو وغيرهم ..
أفدت ـ فى روايتى " الأسوار " ـ من حكاية أبى عن حميدو الفارس لما كبس طربوش محافظ المدينة على رأسه ، وأفدت ـ فى " رباعية بحرى " ـ من حكايات الفتوات : الإتاوات ، قيادة مواكب الزفاف ، المعارك الدامية ..
فى ذاكرتى أصداء من بقايا عصر الفتوات ، فى الموالد ، وسباق البنز ، وسباق القوارب ، ورقصة النقرزان ، ورقصة سيد حلال عليه ـ هذا هو اسمه ـ التى يتلاعب فيها بالعصا ..
فى ذاكرتى مواكب الزفاف : يتقدم الفتوة زفة العريس . يهتف : يا ما انت صغيّر ..
يستطرد الرجال الملتفون حول العريس : حلو يا عريس ..
وتتعالى الأصوات منغّمة : الحارس الله والصلاة على النبى .. العروسة بنت حارتنا وعريسها فنجرى ..
شاهدت ـ من شرفة بيتنا المطلة على ميدان الخمس فوانيس ـ آخر معارك الفتوات . حل الصمت إلا من تناثر الدماء ، وأصوات ارتطام الشوم بالرءوس والأجساد ، والصرخات ، والنشيج ، والأنات المكتومة ..
أسفرت المعركة عن قتلى وجرحى ، حملتهم سيارات الإسعاف إلى المشرحة ، أو إلى المستشفى ، ونقلت سيارات البوليس من تصادف وجوده بالقرب من المكان إلى قسم الجمرك ..
وانتهى عصر الفتوات .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* عفريت الليل *
.......................
كنا ـ بمجرد ظهور الرجل فى أول الشارع ـ نترك ما بأيدينا من لعب ـ كرة شراب ، بلى ، استغماية ، طائرات ورقية ـ ونتجه ناحيته ..
تعلو أصواتنا : عفريت الليل بسبع رجلين ..
نكرر الكلمات منغمة ، والرجل ذو الأفرول المتسخ يرمقنا بنظرة صامتة ، لا تشى بتعبير محدد . يحمل العصا الطويلة ، الرفيعة ، فى نهايتها ما يشبه السلك النحاسى ، يصله بالمصباح المطفأ من خلال فتحة الحاجز الزجاجى ، فيضاء . تأخذ العملية ثوان قليلة ، ثم يواصل الرجل سيره فى خطوات مهرولة نحو عمود إنارة آخر ، وهكذا ..
كانت تسمية العفريت ظالمة ، فالرجل ضامر الجسد ، أسمر البشرة ، له عينان تداخلت فيهما الصفرة بالبياض ، وفم مفتوح تساقط معظم أسنانه . ولعل اتساخ أفروله ، أو لأننا لم نكن نراه إلا ليلاً ـ كان هو مبعث التسمية التى نضمنها كلماتنا المتعبة ..
استطالت ظلال الغروب ـ ذات يوم ـ ثم حلت العتمة . تنبهنا إلى عدم قدوم الرجل فى موعده
فى اليوم التالى ، ظلت المصابيح مطفأة . ثم طالعنا ـ فى اليوم الثالث ـ بشاب يمسك العصا الرفيعة ، ذات النهاية السلكية ..
تجرأت فسألته :
ـ أين ذهب الرجل ؟
ـ ربنا افتكره ..
وجرى فى اتجاه بقية المصابيح ..
كتمنا الكلمات التى اعتدنا غناءها . ربما لمفاجأة وفاة الرجل ، وربما لأننا خشينا رد الفعل فى ملامح الشاب الجامدة !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الربيع *
.............
قال لى صديقى ممدوح الطوبجى :
ـ هل استمعت إلى أغنية فريد الأطرش الجديدة ؟
هززت رأسى بالنفى ..
قال :
ـ احرص على سماعها .. أغنية جميلة عن الربيع ..
ممدوح الطوبجى زميلى فى المدرسة الفرنسية الابتدائية بمحرم بك . والدته المطربة نجاة على ووالده ضابط كبير بالقوات المسلحة . كانت زمالتنا فى مستوى الصداقة . وكنت ألجأ إليه فى قراءة الإصدارات الجديدة . أعارنى عودة الروح للحكيم ، وعمرون شاه لفريد أبو حديد ، ومن النافذة للمازنى ، وقصائد صلاح جاهين الأولى ، وأعمالاً أخرى كثيرة . نتناقش فى الكتب التى أستعيرها . نتفق ونختلف . تبدأ مناقشاتنا فلا تنتهى ..
الكرة التى صوبها ولد اصطدمت بأنفى كقذيفة ، فى وقفتنا ـ الطوبجى وأنا ـ تحت شجرة فى فناء المدرسة . أظهرت الغضب ، وحاولت أن أحتفظ بالكرة . أومأ الطوبجى برأسه كى أعيد الكرة فأتقى شر الولد ..
قال الولد وهو يأخذ الكرة :
ـ هات كده وانت وشك زى الديب !
صدمتنى العبارة بأشد مما صدمتنى الكرة . تسللت إلى دورة المياه . أطلت تأمل ملامحى فى المرآة : هل أشبه الذئب ؟
تركت مقعدى فى الترام ـ وأنا أعود إلى بحرى ـ للسيدة ذات الملاءة اللف . جلست وهى تمتدحنى :
ـ يا حبيبى .. ابن ناس بصحيح !
اتجهت إلى الناحية المقابلة ، كى لا ترى ملامح الذئب فى وجهى !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* هذا ما حدث *
....................
قال عم جعفرى :
ـ عند عودتك إلى المدرسة صباح السبت ، سأكون قد قرأت المجلة ، فأعيدها لك ..
كان عم جعفرى هو حارس مدرستى الفرنسية الابتدائية الأميرية . فى شارع جانبى قبل نهاية شارع المأمون . تختلف عن بنايات المدارس الابتدائية ـ ربما لأنها أولى المدارس الابتدائية التى جعلت من الفرنسية لغة أولى ـ بطابع القصر ، وبالفناء الواسع ، والفيلات الملاصقة ، والهدوء الذى يحيط بها ، ووجبة الغداء الساخنة ، نهبط إليها فى مطعم البدروم ..
كان عم جعفرى فى حوالى الخمسين . تشى لهجته بأصله الجنوبى . كنا نخطب وده بمناقشته فى الغناء الذى يحبه ، والأغنيات التى يستمع إليها فى الراديو الخشبى الصغير ، داخل غرفته المطلة على فناء المدرسة ..
لمح فى مجلة " المصور " ـ وأنا أتصفحها وقت الفسحة ـ إشارة إلى حفل فريد الأطرش ، فى تلك الليلة ..
قال :
ـ اعطنى هذه المجلة ..
اعتذرت بأنى اشتريت " المصور " لأبى ، وأنى ربما لا أجدها فى طريق العودة إلى بحرى ..
ارتسمت فى ملامح الرجل خيبة أمل واضحة . حدثنى عن الحفل الذى ينتظره ، والأغنية التى أعلنت الإذاعة أن الأطرش سيقدمها فى الحفل ..
لاحظ الرجل ترددى ، فقال :
ـ مجرد أن أقرأ استعدادات الحفل ونص الأغنية ..
قبل أن يسألنى أبى عن المجلة ، ادعيت أنى نسيتها فى المدرسة ..
قال أبى :
ـ المهم ألا تضيع !
طالعتنى ـ صباح السبت ـ حركة لم أعتدها فى المدرسة ، وزحام أمام غرفة عم جعفرى ..
فاجأنى الولد مرعى عبد المجيد بالقول :
ـ عم جعفرى مات ..
أضاف للذهول فى ملامحى :
ـ أغلق على نفسه من البرد . خنقه فحم المدفأة وهو يقرأ ويستمع إلى الراديو !
حين عدت إلى البيت ، سألنى أبى :
ـ هل أحضرت المجلة ؟
أدركت أن كرة الكذب الثلجية ستواصل التدحرج . قلت وأنا أتهيأ للبكاء :
ـ عم جعفرى مات ..
امتزج فى نظرة أبى عدم الفهم ، والإشفاق على ما بدا أنى أعانيه .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* زمـان *
........
لما أصر جيران الطابق العلوى على أن تغنى شقيقتى الكبرى فى السرادق المقام فوق السطح ، ووافق أبى ، أدركت أن هذه هى الفرصة التى طال ترقب شقيقتى لها . كانت تحب الغناء . تكتفى بالدندنة الهامسة . إن علا صوتها بالانسجام ، نهرها أبى : بس يا بنت !. بعد رحيل أمنا ، وجدت نفسها مسئولة عن البيت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة . تنازلت عن الكثير من طموحاتها ، ومنها أن تمضى فى خطا ليلى مراد ، فتصبح مطربة مشهورة ..
كان أبى مثقفاً ليس بمجرد الحصيلة المعرفية ، وإنما باستنارة آرائه ، وإلحاحه الدائب على المثل الأعلى ، والأكثر جدوى لجماعة الناس . ولم يكن يخفى إشفاقه من المسئولية التى بدلت حياة شقيقتى فى سن باكرة .. لكن السير فى حقل الألغام المسمى " الفن " ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ كان يزعجه . ألمح الإعجاب فى تعبيرات وجهه بدندناتها الآتية من المطبخ . فإذا تحولت الدندنة إلى غناء حقيقى ، أسكتها ـ من موضعه ـ بنبرة حاسمة ..
فاجأت أختى ـ وفاجأتنى ـ موافقة أبى على أن تغنى فى حفل الجيران . تصورت الحفل مناسبة لتقديم الصوت الجميل . ينصت إليه من يعجب به ، فيقتنع أبى بأن تسير فى الطريق إلى نهايتها ، وتصبح ـ كما كنت أتمنى ـ فى مكانة مطربتنا المفضلة ليلى مراد ..
وقفت فى آخر السرادق ، أنصت إلى غناء أختى : اتمخطرى واتمايلى يا خيل . أعتبر استعادة الحضور اعترافاً بجمال صوتها ، وإن لم يجاوز ما حدث حفلاً حضره بضع عشرات ، غالبيتهم من ربات البيوت والأطفال ..
تزوجت شقيقتى ، وأنجبت ، وعملت مدرسة فى ليبيا مع زوجها مهندس البترول . تزور الإسكندرية فى إجازة الصيف . نتذكر ما كان .
أقول لها مداعباً :
ـ لا أستغرب أن تكون ليلى مراد تآمرت عليك ، حتى لا تأخذى مكانتها !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* ليه يا بنفسج *
.............
كان أبى يحب الغناء القديم ، ويحب الأصوات التى تحرص على التطريب : أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وهدى سلطان وشهرزاد وعباس البليدى ومحمد فوزى وغيرهم ..
كانت أحب الأغنيات إلى نفسه أغنية صالح عبد الحى : " ليه يا بنفسج بتبهج .. وانت زهر حزين " . يحدثنا عن دلالة الكلمات ، وجمال اللحن ، وعذوبة الأداء ، والتطريب . التطريب ـ فى رأيه ـ هو ما يميز الأغنية العربية ..
ظل أبى ينام على كرسى أعواماً طويلة . يجلس عليه ، ويسند ذراعيه على كرسى آخر . المرة الوحيدة التى تصور فيها أنه يمكن أن ينام على السرير لحقته أزمة الربو ، وأيقنت أمى أنه مات .
مثلما كانت طريقة نوم أبى غير عادية ، فقد كان نومه كذلك غير عادى . لحظات إغفاء متقطعة ، يصحو منها على ألم فى الكوعين ، أو الساعدين . يحركهما فى الهواء ، ويضع فنجان القهوة على السبرتاية وهو يدندن بأغنيات يحبها ، أذكر منها أغنية صالح عبد الحى ..
كان النوم يفاجئ أبى وهو فى طريقه إلى المطبخ ، أو إلى دورة المياه . يسقط من طوله . نصحو على صوت ارتطام جسده بالأرض . نفزّ من أسرّتنا ، ونجرى ناحية الطرقة . يلوح بيده وهو فى موضعه بما يعنى طمأنتنا . تمتد أيدينا ، تعينه على القيام . تكرر الأمر كالنسخ الكربونية . نصحو على صوت الارتطام . نجرى ـ يسبقنا التوقع ـ ناحية الطرقة ..
صرنا نفزّ من أسرّتنا لأقل صوت . نحدس أن النوم فاجأ أبى فى سيره . تعذّر ـ لظروفنا المادية السيئة ـ تنفيذ ما اقترحته أختى بأن نفرش أكلمة أسيوطى فى المسافة ما بين حجرة أبى والمطبخ ، آخر الطرقة ..
عرضت أختى أن تنام فى حجرة أبى . نومها خفيف ، فهى تصحو على حركة أبى بين حجرته والطرقة المفضية إلى المطبخ ودورة المياه ..
صحونا ـ ليلة ـ على ترنم أختى بأغنية صالح عبد الحى ، وصوت أبى يعلو بالثناء :
ـ لو مش عيب .. كنتى بقيتى مطربة قد الدنيا !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* فلسطين *
..........
مع أنى لم أكن جاوزت العاشرة ، فقد أصخت السمع لتقديم المذيع ، وحديث الشاعر على محمود طه عن أغنيته الجديدة لفلسطين . كان المساء قد حل . هدأ صخب الطريق ، فيما عدا أصوات صفارات بواخر تترامى من الميناء الغربى ..
تحول إنصاتى لأحاديث أبى مع أصدقائه ، ومانشيتات الصحف ، ونشرات الأخبار .. تحول ذلك كله إلى متابعة شخصية ، هم شخصى . ربما توقفت أمام دكان بقالة أو علافة فى شارع الميدان ، لأن صاحبه يتبادل حواراً فى القضية التى شغلت الجميع . لم تكن الأسماء ولا الأحداث واضحة فى ذهنى تماماً ، لكن توالى الأحداث والأخبار والمناقشات جعل الصورة فى متناول العين : ثمة حرب قاسية يخوضها أبناء فلسطين ضد اليهود الذين تركوا بلادهم للإقامة فى القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن التى كان أبى يذكرها فى أحاديثه ، ويروى ذكرياته عن زياراته المتعددة لها . وأشار أبى إلى الأسرة اليهودية التى غادرت الطابق الثانى فى بيتنا إلى جهة غير معلومة ، وإن أعلن ثقته أن تلك الجهة هى فلسطين . وغلب على أحاديثه الاستياء والحيرة والألم لما سماه بيع فلسطين بلا ثمن . وألفت أسماء ومسميات الانتداب وترومان والدول الكبرى والحاج أمين الحسينى وشتيرن والهاجاناه وبن جوريون وحكومة عموم فلسطين وعبد القادر الحسينى شهيد معركة القسطل ..
قدم المذيع مؤلف القصيدة باسمه الشخصى ، وليس بصفة الملاح التائه التى كان قد عرف بها ، ربما لأن المناسبة تفرض الجدية . تحدث الشاعر ـ بصوت أتذكر إلى الآن نبرته ـ عن ظروف كتابة القصيدة ، واعتزازه باختيار عبد الوهاب لها . أما عبد الوهاب ، فقد اكتفى ـ فيما يبدو ـ بتلحين القصيدة وغنائها ..
أعطيت انتباهى لصوت محمد عبد الوهاب . من فصيلة مميزة ، امتدادها الأجمل عبد الحليم حافظ . فضلاً عن مراتب أقل ممثلة فى سعد عبد الوهاب وعادل مأمون وهانى شاكر , وغيرهم ، فلست أقصد الحصر ..
اجتذبنى اللحن . راقص بما يتيح له مرافقة أداء حفل رقص جماعى ..
أبديت ملاحظتى لأبى :
أخى أيها العربى الأبى أرى اليوم موعدنا لا الغدا
قال أبى :
ـ هذا هو عبد الوهاب .. لا تهمه الكلمات ولا المعنى بقدر ما يهمه اللحن ..
وابتدرنى بالسؤال :
ـ أغنية مين زيك عندى يا خضرة .. من خضرة هذه ؟
قلت بعفوية :
ـ بنت يعرفها ..
ـ أبداً .. إنها الراية المصرية الخضراء ، يخاطبها جندى فى طريقه إلى الميدان ..
وعلا صوت أبى فى تأكيد :
ـ هذا هو عبد الوهاب .. صوت ولحن .. أما المعنى فيلغيه غناؤه لخضرة .. ولفلسطين !
(ينبع)
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* هناك *
............
الشجرة الهائلة ـ لا أعرف اسمها ـ تعلو تشابكات أغصانها إلى مستوى النافذة فى بيت عمتى بالمنيرة . يترامى ـ من موضع لا أتبينه ـ صوت تواشيح دينية وابتهالات ..
ـ هل يوجد مسجد قريب ؟
قالت عمتى :
ـ لا .. هذا مسجل فى بيت الشيخ محمد رفعت ..
ـ هل هو جاركم ؟
ـ مسكين .. يعانى مرض " الزغطة " ، ويسلى وقته بسماع القرآن والتواشيح والابتهالات ..
كانت أول مرة أسافر فيها إلى القاهرة بمفردى . لزمت موضعى فى المقعد الخشبى بقطار الدرجة الثالثة ، أعانى الهواء المحمل بالسخونة من النوافذ المكسورة ، والأقدام المدلاة من الأرفف ، واختلاط النداءات والصيحات ، وزحام الركاب داخل العربة المزدحمة ، ورائحة العطن ، وأرقب الخضرة المترامية على الجانبين ، والبيوت الصغيرة المتناثرة [ لم يكن المصريون الخليجيون قد بدأوا فى التهام بلادهم بالتبوير والتجريف ! ] وأعمدة التلغراف المتراجعة ..
قالت لى عمتى بلهجة حنون ، وهى تلحظ نظرتى التى تبدو متأملة للشجرة :
ـ واضح أن هذه الغرفة أعجبتك ..
أردفت ، دون أن تنتظر رداً :
ـ خلاص .. هذه هى غرفتك !
أصارحك بأنى لم أكن أتأمل الشجرة ، ولا أخذت بالى من الغرفة ، ولا على ماذا تطل ، ولا ماذا تضم من أثاث . كأنها انبثقت فى حلم ضبابى غابت تفصيلاته ..
كانت مخيلتى هناك ، فى بحرى ، مع أبى وإخوتى . وكان الشعور بالافتقاد يمضنى .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* البكاء *
.........
كانت عمتى تحب البكاء . تحزن فتبكى ، وتفرح فتبكى . وكان زوجها ينصحها بأن تترفق بصحتها فى زياراتها الدائمة للمآتم وأيام العزاء . فهى تبكى أكثر من أهل الميت . ربما تحول البكاء الصامت إلى نشيج . تصارحنا ـ بعد عودتها ـ أنها لم تكن تبكى الراحل الذى حضرت عزاءه ، ولم تكن تبكى راحلاً بالذات ، وإنما هى تبكى كل الراحلين . وأحياناً تبكى المناسبات الجميلة ، الفائتة ..
حين غنى فريد الأطرش ـ للمرة الأولى ـ أغنيته : بتبكى يا عين على الغايبين .. ودمعك ع الخدود سطرين .. بدا كأن عمتى قد وجدت ما يعينها على ممارسة عادتها الأثيرة . تسند رأسها إلى راحة يدها ، وتشرد فيما لا نتبينه ، ويتواصل بكاؤها حتى بعد أن تنتهى الأغنية . تستعيد الكلمات ، وتربط بينها وبين رحيل أعزاء : عمتى تفيدة التى قتلها السرطان فى سن باكرة .. جارة ارتفعت علاقتها بها إلى مستوى الأخوة .. أخوال وأعمام لها مضى على رحيلهم عشرات السنين .. أسماء كانت ترددها فلا أعرف أصحابها ، وإن كنت على ثقة أن عمتى أدرجتهم فى قائمة الأعزاء الذين تحرص فى كل مناسبة ـ وأحياناً بلا مناسبة ـ أن تذرف الدمع على رحيلهم..
ما كان يثير عجبى ، قدرة عمتى المذهلة على التحول من البكاء إلى الضحك . تعجبها النكتة التى تريد انتزاعها من إطار الحزن ، فتضحك . لا تمهيد للتحول من حال إلى حال مغاير . ربما تذكرت هى نفسها ما يدفع بالابتسامة ـ فالضحكة ـ إلى شفتيها . ثم تروى ما تذكرته ، وتوشيه بالألوان والظلال ، فتجتذب اهتمامنا ..
كانت عمتى سيدة مصرية .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الجسد *
...............
عدت إلى بيت عمتى ذات مساء . رويت للجارة أم فاروق [ الاسم مستعار ] عن الفيلم الذى شاهدته فى سينما الأهلى . اسمه " الجسد " . بطولة هند رستم . المشاهد الصريحة والموحية ، والعبارات المكشوفة ، والهمسات ، والغمز بالعين ، والإشارة باليد ، والمعانى التى يصنعها الخيال ..
قالت أم فاروق التى كانت تكبرنى بأكثر من عشرة أعوام :
ـ تلاقى نفسك فى واحدة تمثل معاها فيلم زى اللى شفته ..
أردفت :
ـ عمك فرج ـ زوجها ـ ورديته بالليل ، وباكون متضايقة لوحدى . لو لقيت نفسك صاحى ابقى خبّط عليه ..
عبرت المسافة ـ على أطراف أصابعى ـ بين شقة عمتى والشقة المقابلة . نقرت الباب بطرقات هامسة . طالعتنى أم فاروق . ملامح زنجية ، وشعر أكرت ، منكوش ، وعينان تخالط الحمرة بياضهما ، وترتدى قميص نوم أسود ، مطرز بالدانتيلا ، يصل إلى فوق الركبتين ..
أقعدتنى على الكنبة فى واجهة الصالة ..
مالت على بأعلى صدرها تهم بتقبيلى ..
تراجعت إلى الوراء ، وأنا أضع يدى بين شفتى وشفتيها ..
قالت :
ـ مالك ؟
ـ أبداً .. أنا ماشى ..
كانت صورة الجنس أمامى ضبابية ، وغير واضحة ، ولم أكن أقمت علاقة ـ جاوزت الكلمات الدافئة ـ مع أية فتاة ..
مضيت ناحية الباب ، وصوتها المدندن يلاحقنى بسخرية :
حود من هنـا وتعال عندنا
ياللا انا وانت نحب بعضنا
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* نكتة *
.......
دخل أبى حجرتنا ذات مساء . كان فونوغراف قهوة فاروق ـ على ناصيتى إسماعيل صبرى والتتويج ـ يعيد ـ الرقم كبير لا أذكره ـ أسطوانة عبد الوهاب " كليوباترة " ، تخالطها أصوات الرواد ، ونداءات الجرسون ، وحركة الطريق ..
أسند أبى يده على طرف السرير . بدا أنه يريد التحدث إلينا . توقفنا ـ أخى وأنا ـ عن المذاكرة ، وتطلعنا إليه .
قال :
ـ أظن أنكم فى سن تسمح بأن أروى لكم نكتة للكبار فقط .
روى أبى النكتة . لا أذكرها الآن ، وإن كانت ساذجة للغاية ، وخيبت توقعنا . كنا نستمع فى المدرسة إلى نكت للكبار ، حقيقية ومثيرة !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* السراى *
..............
كنا دائمى التردد على سراى رأس التين . نكتفى بالتطلع ـ من أمام الأبواب التى تفتح وتغلق ـ إلى البنايات والحدائق والجنود ، فى المساحة الممتدة إلى البحر . كانت الحديقة الهائلة المواجهة للسراى هى المكان الذى نقضى فيه أوقاتنا . نذاكر ، ونتبادل الأحاديث ، ونلعب ، ونغنى ..
كانت ليلى مراد مطربتى المفضلة ، وكنت أقلدها ، وبالذات فى أغنيات فيلم " شاطئ الغرام " ..
أعدت النظر إلى ما بدا لى مفاجئاً ، وغريباً ، وقاسياً . كان جنود الحرس الملكى يتدربون على إطلاق النار . مجرد أخذ أوضاع التصويب دون إطلاق الرصاص ..
يبدو أن أحد الجنود تصرف بالطريقة نفسها التى جرّت على إسماعيل يس غضب الشاويش عطية ، فانهال المدرب ـ بكعب حذائه ـ على ظهر الجندى الذى تمدد على الأرض ، واحتضن البندقية . ضربات متوالية ، قاسية ، انتفض لها جسد الجندى دون أن يغادر موضعه ..
رنوت إلى زملائى أتعرف إلى مشاعرهم . انعكست رؤيتهم لما رأيت ، حزناً يقطر من الوجوه الصامتة ..
حاولنا أن نستعيد اللحظة التى كنا فيها . أن نذاكر ، نتكلم ، نلعب ، نغنى . لكن الخرس أسكت أفواهنا ..
لملمنا الكتب والكراريس ، ومضينا ـ صامتين ـ خارج الحديقة ..
(يتبع)
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* دمعة *
............
أتابع أبى وهو يعيد وضع كنكة البن على السبرتاية . لم يعد لتناول القهوة موعد محدد ، إنما هى سلسلة متصلة الحلقات . يعيد كوب القهوة إلى الطاولة بجواره ليبدأ فى إعداد كوب جديد . يطيل وقفته فى الشرفة المطلة على المينا الشرقية . يمضى إلى المطبخ بخطوات متباطئة . يلقى نظرة دون أن يفعل شيئاً ، ويعود . يضيع وقتاً فى إدارة مؤشر الراديو ، ثم يغلقه . يتنقل بيننا حيث نجلس أو ننام ..
أعرف أنه يعانى ما صرنا إليه . كانت شقتنا أشبه بفندق للكثيرين من عائلتى أبى وأمى ، هم دائمو التردد عليها ، وقضاء الأيام الطويلة معنا ، كأن أفراد الأسرة الخمسة قد أصبحوا عشرة أو أكثر . وكانوا يملأون البيت بالونس والحياة ، ويدخلون مع أبى فى مناقشات ، ويظهرون له عظيم الاحترام ..
فقد أبى ـ بتأثير المرض ـ وظائفه فى الشركات الثلاث التى كان يعمل فيها . لم يعد يترك البيت إلا لزيارة الأطباء ، وتقلصت موارده المادية إلى حد الندرة . إنما هى رسائل قليلة يترجمها من لغة إلى أخرى ، أنقلها من الشركات إليه ، ومنه إلى الشركات ، وأعود بقيمة المكافأة فى أظرف مغلقة ..
تبدّل الحال تماماً . مشاركاتنا مع الأقارب فى صنع الحياة داخل الشقة شحبت تماماً ، كأن إيقاع الحياة لا يعلو إلا بوجودهم . انطوى كل منا على نفسه ، يذاكر ، أو يقرأ ، أو يتشاغل بما يجده بين يديه ، وخلا أبى ـ مضطراً ـ إلى نفسه لا يجد ما يفعله . يطالع قواميس اللغة للاستزادة ـ كما كان ينصحنا ـ من المفردات ، ويهب وقتاً أطول فى قراءة الصحيفة الوحيدة التى استبدلها بالصحف الخمس ، ما بين عربية وأجنبية . يعاوده الخوف من تصور الأذى على أيدى من لا نعرفهم ، أو لا نصدق أنهم يفعلون ذلك . يعروه الملل ، فيفعل ما يدفعنا إلى متابعته بقلق . إذا عرضنا عليه مشكلة تتصل بأحدنا ، أو بالبيت ، اكتفى بالقول : اتصرفوا . وكان يظهر التململ ، ويثور بلا مناسبة ، فنتركه فى حاله ـ والتعبير له ـ ونخلو إلى ما ننشغل به . حتى الأغنيات التى كان يتذوقها فى الأيام الخوالى ، كنا نستمع إليه وهو يدندن بها بصوت متعب ..
مسحت شقيقتى دمعة من عينها وهى تنصت ـ فى إشفاق ـ إلى استعادته أغنية صالح عبد الحى :
ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين
لماذا هذه الأغنية ؟
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* غريب الدار *
..................
كان صوت عبده السروجى يعلو فى جهاز الراديو بالأغنية الجميلة : غريب الدار عليه جار .. جفانى القاسى وهجرنى ..
أعطيتها وجدانى ، بحيث أنى نسيت المشكلة ، المأساة ، التى كنا نعانيها . الإذاعة ـ كما تعلم ـ لا تنسق برامجها وفق أوضاع الناس ، أو ما يعانون من ظروف ، ولا حتى متطلباتهم الملحة . وبالتأكيد فإنه لا يشغل الإذاعة إلا أن تنوّع فى برامجها ، فى امتداد اليوم ، بما يرضى كل الاهتمامات والأذواق ..
كنا نعانى ظروفاً قاسية ، امتدت منذ ما قبل وفاة أبى إلى ما بعد رحيله بعامين . لم نعد نملك مجرد دفع إيجار الشقة . تراكم الإيجار ، فأبلغنا عم أحمد البواب ـ ذات صباح ـ أن الابن الأكبر للطبيب محمود عبد اللطيف موسى ـ مالك البيت ـ سيزورنا لمناقشة ما يمكن فعله ..
أيقظنا صوت الجرس من جمال الأغنية ، ومن أنفسنا ، ومن كل شئ ..
أومأ كل منا إلى الآخر ليفتح الباب . كان أخى على أجرأنا ..
ألقى الرجل تحية هادئة ، ودخل . بدا فى حوالى الأربعين [ عرفت ـ فيما بعد ـ أنه كان قائمقاماً ـ عقيداً يعنى ـ ويعمل مأموراً لمركز كفر الدوار ] يرتدى جاكت كحلى له صفان من الأزرار ، ويبين فى الجيب العلوى منديل أبيض ، ووضع فى إصبعه خاتماً ، وتدلت من ساعده ساعة ذهبية , ويستند إلى عصا أبنوسية ، ربما من قبيل الوجاهة ، أو اصطناع الوقار !
أشار إلى الراديو ، فأغلقناه ..
جلس ، ووقفنا صامتين ..
لمحت فى عينيه ما يشبه الإشفاق أو التعاطف ، وهو ينظر إلى وقفتنا المتناثرة ، الصامتة ، الخائفة ..
ـ ما بتدفعوش الإيجار ليه ؟
قال على :
ـ إن شاء الله الفلوس تيجى قريب ..
وهو ينقل الإشفاق إلى تعبيرات وجهه :
ـ فين يا ابنى .. المسألة طالت ..
وأردف :
ـ المهم .. عندى اقتراح .. ممكن أنقلكم لشقة تانية من غير إيجار ..
صرخت بعفوية :
ـ لا ..
دلق الرجل اقتراحه ببساطة ، دون أن يعى التأثير القاسى الذى سيحدثه فى نفوسنا . الشقة ليست مجرد جدران . إنها البيت ، الموطن . الطفولة ، والنشأة ، وأيام العز ، والمواكب الرسمية من سراى رأس التين وإليها ، وحواديت جدى ، وليالى رمضان ، والعيدين ، ومواكب الجلوة ، والجلوس تحت جهاز الراديو لسماع تلاوة محمد رفعت ـ تأثراً بأبى ـ وأحاديث بابا شارو ، وتمثيليات على بابا وقسم وعوف الأصيل ، والمذاكرة ، ومرض أمى وأبى ، وموتهما , واللعب فى الشارع الخلفى ، ونداءات عم أحمد الفكهانى على بضاعته ، وتناهى الأذان من سيدى على تمراز ، وطرقات مغاورى بائع الخبز ، وتأمل صيد المياس فى المينا الشرقية وقت العصارى ، ولعبة السلم والثعبان مع عادل الصبروتى على بسطة السلم ، وقراءاتى فى مكتبة أبى ، وفى الشقة المقابلة ، وخطب الشيخ عبد الحفيظ فى صلاة الجمعة . أعى كلماتها ، وأتساءل : ألا يخشى الملك والحكومة ؟..
تنقلت نظرة الرجل بين إخوتى . أظن أنه وجد فى الملامح استجابة لصرختى الرافضة . قال وهو يطوح عصاه الأبنوسية :
ـ ربنا يعمل اللى فيه الخير ..
وسكت الرجل ـ فى الأشهر التالية ـ عن المطالبة بالإيجار المتأخر ، المتراكم ، حتى ظهر لأبى نقود ، شغله المرض عن تسلمها من شركة الجراية لتصنيع الورق ..
أتذكر الإيجار ، فيفزعنى الوضع المأساوى الذى كنا نحياه . كانت قيمة الإيجار ـ كل شهر ـ مائتين واثنين وأربعين قرشاً !
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* والله تستاهل *
.....................
المعهد الدينى بالمسافرخانة . الباب الحديدى الضخم ، والردهة الواسعة فى الطابق الأول ، والإضاءة الداخلية التى تغنى عن إغلاق النوافذ فى وجه النهار ، والسلالم المفضية إلى الطوابق العليا ، والطرقة الدائرية الممتدة ، على جانبها الحجرات المغلقة ، والمواربة ، والمفتوحة ، يتناهى من داخلها ـ فى الأغلب ـ صخب متلاغط لا أستطيع تبينه ..
بدأت فى التردد عليه ، بعد أن تعرفت إلى أحد طلبته فى سينما الأنفوشى . انشغلنا عن متابعة الفيلم بمناقشة لا رابط بين مفرداتها . تبين كل منا فى صاحبه أنه يحاول الكتابة الإبداعية ..
زرته فى المعهد ..
تعرفت ـ بواسطته ـ إلى أصدقاء آخرين ، تعددت اهتماماتهم ، لكنهم شكلوا عالماً لم يسبق لى الحياة فى داخله . الجبب ، والقفاطين ، والعمائم ، وقراءة الألفية وكتب الفقه والتراث ، ومناقشة قصائد المتنبى والبحترى وشوقى وحافظ وأحمد محرم ، وكتابات طه حسين والعقاد والزيات ، واختلاف الآراء فى الأحوال السياسية ، ورواية الحكايات ، وارتفاع الضحكات للنكات البذيئة ، وأدوار الشاى ، وأحاديث النميمة ، والنداءات ، والصيحات ، والشتائم ..
مع تقدم الليل أتهيأ للانصراف ، لكن الدعوات الملحة تدفعنى إلى السهرة الترفيهية التى يحرصون عليها . طالب ـ أذكر من اسمه عيد ـ له وجه دهنى ، دائم التفصد بالعرق ، وشفتان غليظتان ، وصوت جميل . لديه قدرة على اكتساب الصداقات . يغيب التكلف عن تصرفاته . يتحدث فى ألفة ، وبوقائع من حياته الشخصية . يكتفى ـ بعد انتهاء الدروس ـ بنزع الكاكولا ، والاقتصار على القفطان .
يدور علينا بنظرة متسائلة :
ـ ماذا تريدون ؟
تتعدد الرغبات . ثمة من يطلب تواشيح دينية ، ومن يستعذب صوت أم كلثوم ، ومن يصر على عبد الوهاب أو السنباطى أو الأطرش ..
يعلو صوت عيد بمقاطع من الأغنيات تلبى ما يريده الجميع . تبدو الألحان ـ فى هدأة الليل ـ كأنها علوية ، أو كأنها السحر ..
تفاوتت أصداء أغنيات عيد فى ذاكرتى بين الوضوح والخفوت . أغنية وحيدة أستعيدها ـ حتى الآن ـ أحياناً ـ وأدندن بها ، ربما لأنى أحببتها ، أو لأن عيد كان يهب أداءها ذوب وجدانه ، أو لأنه كان يحرص على أن تكون ـ دوماً ـ ضمن اختياراته اليومية من الأغنيات ..
كان يسند وجهه إلى راحة يده ، ويغمض عينيه ، ويمد رقبته ، كأنه يتهيأ لأذان ، أو لتلاوة قرآنية ، ثم يعلو صوته بأغنية سيد درويش :
والله تستاهـل يا قلبى .:. ليه تميل ما كنت خالى
انت أسباب كل كربى .:. انت أسباب ما جرى لى
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* عشق البحر *
.................
محمد خاطر السيد ..
أستمع إلى أغنية " على بلد المحبوب " ، فأتذكره ..
كان صديقاً مشتركا لمحمد حافظ رجب ولى . مضت عشرات الأعوام على آخر لقاءاتنا القصيرة ، المتباعدة . يبدو كل شىء مغلفاً برمادية شاحبة : الملامح الظاهرة ، وبداية الصداقة ، وأماكن اللقاءات .
كنت فى حوالى السادسة عشرة . وجدت فيه اكتشافاً جميلاً للمناقشة فيما أقرأه ، ومحاولات الكتابة الأولى ، وفى حكاياته عن الحياة فوق أسطح البواخر ، وداخل المطابخ والغلايات ، والموانى والمدن التى يشاهدها بتمازج الفضول والدهشة . البنايات والشوارع والساحات والعادات والتقاليد والعلاقات العابرة والصفقات الهامسة فى الأركان الملتفة بالشحوب والحوادث الطريفة والمآزق . يستعيد أغنية أم كلثوم : يا مسافر على بحر النيل .. أنا ليه فى مصر خليل ..
يضغط على كلماته :
ـ مع ذلك ، فأنا أعشق البحر بلا حدود .. أعشق رحلاته ، والحياة المتجددة على أمواجه ..
سافر فى إحدى رحلاته . بعث برسالتين أو ثلاث ، تحدث عن المدن التى يتنقل بينها ، فلا يتاح له العودة إلى الإسكندرية . ثم انقطعت رسائله ، ولم نعد نلتقى ..
أستمع إلى أغنية أم كلثوم . أستعيد لقاءاتى بمحمد خاطر السيد : أحاديثه ، وكتاباته ، وعشقه المطلق للبحر ، والسؤال الذى تحركه الصور والرؤى والأخيلة : متى يتاح لى ركوب البحر ؟!
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* الجيران *
.........
بدأ السائق والعتال ـ يساعدهما عم أحمد البواب ـ فى إنزال الأثاث من عربة النقل إلى الرصيف ، أمام البيت . عرفنا أن سكان الطابق الثانى الجدد وصلوا ..
أطلت الوجوه ـ بالفضول ـ من النوافذ والشرفات وأبواب الدكاكين . لم ألحظ ـ فى الأيام الأولى ـ هوية السكان الجدد : هل هى أسرة صغيرة العدد أو كبيرة ؟ وهل لها أولاد فى مثل سنى ، فيتاح لى صداقتهم ، واللعب معهم فى الشارع الخلفى ؟
فى اليوم الرابع ، لمحت من الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى فتاة فى مثل سنى ، فى الرابعة عشرة أو أقل بشهور ، تتابع حركة الطريق بنظرة متأملة .
أهملت النظرات من دكاكين الشارع ، ترصد الإشارات والهمسات بين الشرفات والنوافذ المتقابلة . حدقت النظر . اجتذبنى الشعر المنسدل إلى كتفيها ، والرموش الطويلة تظلل عينين واسعتين ، والأنف الدقيق ، وسمرة الوجه الرائقة .
رأيتها ـ بعد أيام ـ تسبقنى فى النزول إلى الطريق . مضت ناحية شارع فرنسا . أبطأت من خطواتى ، فلا يبدو أنى أحاول ملاحقتها . الشارع نفسه هو طريقى إلى مدرستى فى محرم بك ..
تعددت ـ فيما بعد ـ لقاءاتى الصامتة بها ، على السلم ، أو فى شوارع الحى . ورأيتها فى النوافذ والشرفات التى تطل من البناية المتفردة على أربعة شوارع . شغلنى أمرها بما لم أكن أعرفه من قبل . أحاول ضبط موعد ذهابها إلى المدرسة أو عودتها منها ، وقفتها المتأملة فى النافذة قبل أن تنسحب الشمس من واجهات البيوت ، نزولها إلى شارع الميدان ، تشترى لوازم أسرتها ، فهى أصغر الأخوة لوالدين أدركهما الكبر : رجل فى حوالى الثلاثين عرف طريقه منذ اليوم الأول إلى مقهى المهدى اللبان أسفل البيت ، وصبى وفتاتان فوق رءوس بعض ، حسب التعبير الشعبى ..
كانت مشاوير الولد إلى فرن التمرازية ، والطنطاوى بائع الفول فى شارع التتويج . أما البنت فكانت تشترى الخضر واللحم والبقالة من شارع الميدان ..
مديحة !..
لا أذكر من نطق الاسم أمامى .. لكن مجرد معرفتى الاسم أضاف إلى انشغالى بها ..
ترامى صوت عبد الحليم حافظ بالأغنية من نافذة لم أتبينها فى البناية المقابلة :
يا صحابى ، يا أهلى ، يا جيرانى .. أنا عايز اخدكوا ف أحضانى
تدبرت الكلمات . استوقفنى حضن الجيران الذى تمناه عبد الحليم ، وتمنيته ، وإن لم يداخلنى ـ كم طالت أعوام عذريتى ! ـ أية مشاعر حسية ..
عرفت السهر والمتابعة والشرود والنظر ـ بلا مناسبة ـ إلى شرفات ونوافذ الطابق الثانى ، وملامح البنت فى كتاب المذاكرة ..
أدركت أنى أحب .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* هيلا ليصة *
.......................
أنزل من الأوتوبيس فى محطة ستانى بالورديان . الصباح ضبابى ، خريفى ، ينذر ببرودة ، وأنفاس البحر : رائحة اليود والملح والطحالب والأعشاب ، تترامى من وراء الشون والمخازن . تساقطت أوراق الشجر المصفرة ، الجافة ، على الأرض . وإلى جانب الرصيف حصان مد خطمه فى مخلاة التبن الملقاة أمامه ، تناثرت بقاياها فى دائرة واسعة حولها ..
أميل إلى الشارع المسفلت ، فى نهايته سور حجرى يطل على الميناء ، ويصل بين شون الغلال على جانبى الشارع . العصافير تشكل غيمة صوتية وهى تتسلل ـ لالتقاط القمح ـ من الأسقف المفتوحة ..
تطول وقفتى أمام كشك الشاى المستند على السور الحجرى . تتزايد أعداد العمال فيشكلون ما يشبه نصف الدائرة حول الكشك ، وفى أيديهم أكواب الشاى ..
فى السابعة تماماً ، يبدو خليل أفندى قادماً من أول الشارع . يولج المفتاح فى القفل الضخم ، ويتشارك العمال فى دفع الجرار الحديدى ، ويسبقنا خليل أفندى فى الدخول ..
أدركت منذ أول أيام عملى فى الشونة أن القصد مجاملة ابن عم أبى محمد على جبريل رئيس قلم القضايا فى بنك التسليف . لم أكن أمارس عملاً ما ، ولم تصدر لى توجيهات لأنفذها . طلب خليل أفندى أن أراقب العمال وهم ينقلون أجولة الغلال من السيارات إلى داخل الشونة ، يرصونها فى بلوطات أشبه بالمربعات الهائلة ..
بعد عشرة أيام ، صحبنى خليل أفندى إلى تقاطع ، وقال :
ـ أنت معنا فى إجازة الصيف ..
أومأت برأسى دلالة الموافقة ..
قال :
ـ أخشى أنك لا تراقب العمال كما يجب !
وأنا أغالب الحيرة : كيف أراقبهم ؟
وهو يهز إصبعه :
ـ أبلغنى بكل ما تراه من تقصير ..
عدت إلى وقفتى وسط العمال . أراقب حركتهم بين السيارات والشونة ، وأستمع إلى أغنياتهم التى تبدأ بالهتاف : هيلا ليصة ، ويغيب عنى الكثير من مفرداتها ، وإن اتسمت بأنغام محملة بالحزن والحنين . تجتذبنى اللحظة بكل شجوها . أنسى ملاحظة خليل أفندى ، فلا يشغلنى من يلتمس الراحة داخل أزقة البلوطات المتقاطعة ، أو يفرد طعامه ، أو تتلكأ خطواته ..
شاركت العمال أداء أغنياتهم .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* النيل *
..........
القصيدة مودعة فى ذكريات الصبا الباكر . لا أذكر ـ بالطبع ـ متى استمعت إليها للمرة الأولى ، لكن الذى أذكره جيداً ، أنى كنت أحفظ أبياتها ، حين وجدتها ضمن أبيات القصيدة كاملة فى " المحفوظات " المقررة ضمن مواد المرحلة الثانوية ..
لامست موضعاً رهيفاً داخلى ، فأحببتها . أمرنا المدرس بكتابة موضوع إنشاء نحدد موضوعه بأنفسنا . اخترت ـ بلا تردد ـ قصيدة شوقى . تحدثت عن أم كلثوم ـ لم أكن أعرف معنى الأداء بعد ـ وتحدثت عن اللحن . لولاه ما تغلفت الأغنية بنورانيتها ، وإن كنت تأخرت كثيراً قبل أن أعرف اسم الملحن : رياض السنباطى . تحدثت كذلك عن تأثير الأبيات فى نفسى ، ما وهبته لى من صور هطول الأمطار على رءوس الجبال فى الحبشة ، الفيضان ، احتفالات عروس النيل ، الوادى ، الخضرة . منابع النيل تبعد عن مصر آلاف الكيلو مترات ، لكن النيل ظاهرة مصرية . حتى مقولة هيرودوت " مصر هبة النيل " ـ رغم قسوتها ـ تضغط على هذه الظاهرة ، وتؤكدها . يأتى الحديث سريعاً عن بلاد ومدن وقرى يقطعها النيل فى رحلة المنبع والمصب .. لكن الحديث يتباطأ حين يشرف على المدن المصرية ، بدءاً بالشلالات وانتهاء بعناق البحر المتوسط ..
أعجب المدرس ـ اسمه فيما أذكر الأستاذ عبد العليم ـ بما كتبت ، ومنحنى الدرجة النهائية . أزمعت أن أكتب ـ فى قادم الأيام عن النيل من خلال هذه الأغنية ، شعر شوقى ولحن السنباطى وأداء أم كلثوم . كانت حرفة الأدب تناوشنى ، وإن لم تدركنى تماماً . وكانت تنويعات القراءة تتجاذبنى ، فلم أستقر على اللون الأدبى الذى أخوض مغامرته ..
فى حياتى الكثير من المشروعات المؤجلة .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* على قد الشوق *
......................
حين دخلت سينما الأهلى بالسيدة زينب ، لمشاهدة فيلم " لحن الوفاء " ، كان بينى وبين عبد الحليم حافظ تاريخ مشترك . استمعت إلى اسم عبد الحليم ـ للمرة الأولى ـ فى مسرح الأزاريطة بالإسكندرية . صديق لأبى دعاه إلى حفل من بين فقراته المطرب الجديد عبد الحليم حافظ . كان أبى مشغولاً بقراءاته وترجماته ، فرشحنى بدلاً منه ..
صحبت صديق أبى إلى المسرح . تابعت الفقرات . أذكر منها راقصة اسمها هيرمين ، رافق أداءها صراخ من جمهور الصفوف الأمامية وتأوهات وقذف بالورود وتصرفات أخرى أذهلتنى . عرفت ـ من حوار بين أبى وصديقه ـ أن متعهد الحفلات الحاج صديق ، أعاد عبد الحليم إلى القاهرة ، لأنه ـ على حد تعبيره ـ لا يريد أغنيات من نوع " أيها الراقدون تحت التراب" . يقصد أغنية " ظالم " التى أعتبرها من أجمل أغنيات عبد الحليم . استجاب الرجل لاستياء الجمهور وزياطه ، فمنع عبد الحليم من مواصلة الغناء . غنى ـ بدلاً منه ـ كارم محمود بصوته الحلال ـ الصفة للشيخ زكريا أحمد ـ ورقصت هيرمين على أغنيات : سمرة يا سمرة .. وعينى بترف .. وأمانة عليك يا ليل طوّل .. وغيرها ..
لم يذهب عبد الحليم من بالى . استمعت إلى أغنياته : على قد الشوق ، صافينى مرّة ، بتقولى بكرة ، ظالم ، يا مواعدنى بكرة . اعتبرته مطربى المفضل ، وأثمرت متابعتى لمشواره الحياتى والفنى ، دراسة مطولة نشرتها فى " الخليج " الإماراتية عن شاب مصرى ، شكلت حياته ـ منذ الميلاد إلى الممات ـ مأساة كاملة ..
المهم ، دخلت السينما ، يدفعنى الإعجاب بعبد الحليم حافظ . وجدت فى تصفيق رواد السينما لمقدمة على قد الشوق ، كأنه موجه لى . هذا هو المطرب الذى أشفقت عليه لما طرده متعهد الحفلات من الأزاريطة ، ثم أحببت صوته فى الأغنيات التى أداها من كلمات سمير محبوب وألحان الموجى والطويل ..
ظللت متابعاً لعبد الحليم ، فناً وسيرة حياة . حتى قرأت نبأ وفاته على وكالات الأنباء ..
كنت ـ أيامها ـ أحرر جريدة " الوطن " العمانية . وكانت أغنيات عبد الحليم ممنوعة من الإذاعة والتليفزيون . عرفت أن المسئولين فى السلطنة عرضوا عليه أن يغنى فى عيد ميلاد السلطان ، فاعتذر . عاقبوه بمنع أغنياته !..
اتصلت بمكتب وزير الإعلام . من السخف أن أهمل نبأ وفاة مطرب فى قامة عبد الحليم . تلقيت الموافقة قبل أن أرسل مواد الجريدة إلى المطبعة بدقائق : فلتكن المرة الأولى والأخيرة ..
لكن التحقيق الذى أفردت له الصفحة الأخيرة كان انفراجة الباب . ثم أصبح عبد الحليم حافظ مادة ثابتة فى وسائل الإعلام العمانية .
-
رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل
* النيل نجاشى *
حدثتك عن أغنية " النيل " التى تمنيت ـ فى صباى ـ أن أكتب عنها ، أعبر عن حبى لها على مستوى الكلمات واللحن والأداء . كانت الفكرة تشغلنى ـ أحياناً ـ فتجاوز مجرد نيل شوقى والسنباطى وأم كلثوم ، إلى نيل ثان ، وثالث ، إلى آخر الأغنيات التى تتحدث عن النيل . وكنت أحبها جميعاً . حتى أغنية " يا تبر سايل بين شطين " الساذجة الكلمات ، الجميلة اللحن والأداء ، أحببتها ، وكنت أرددها بينى وبين نفسى ..
الأغنية التى صعب على فهمها ـ لا أتقبل أغنية ما إلا إذا فهمت كلماتها ، وتقبلتها ـ هى أغنية شوقى ، لحن وأداء عبد الوهاب " النيل نجاشى .. حليوة أسمر " . وصلتنى الكلمات بمعنى مغاير . تصورت أنها تتحدث عن الفيضان . النيل ما جاشى .. فهل الإطراء ، وأنه حليوة أسمر ، حتى يأتى بالماء والطمى والحياة للأرض المصرية ؟
لم أفهم المعنى تماماً ، وأهملت الأغنية . لم أقرر حتى إن كانت ستدخل ضمن مشروعى للكتابة عن النيل من خلال أغنية أم كلثوم الشهيرة ، وما يتصل بها من أغنيات تتحدث عن النيل ..
ويوماً ، تحدث أبى عن الحب الذى كان يضمره ـ ويعلنه ـ شوقى لعبد الوهاب ، والذى أملى عليه أن يتخلى عن تخوفه من عامية بيرم التونسى ، فيكتب لعبد الوهاب أغنيات بالعامية ، منها هذه الأغنية التى أسقطتها ..
ماذا ؟..
النيل نجاشى !..
الكلمات إذن عن النجاشى ، الملك ، السلطان .. وليست عن الغائب الذى نسر فى تدليله حتى يعود !
أعدت تأمل الأغنية : الكلمات .. اللحن .. الأداء . بدا لى إهمالها أشبه بحكاية الثعلب الذى تطلع إلى التقاط العنب . فلما أعياه العجز ادعى إنه حصرم ..
أحببت النيل نجاشياً !