تطالعنا ملحمة جلجامش على وحش بشري يدعى إنكيدو هذا البطل كان وحشياً وذلك لأنه يعيش مع عالم الحيوان , ويأكل معهم ولذا كانت سمات القوة والبطش سماته, لكن حين أرسل له جلجامش امرأة من المعبد هدأته , وأطعمته الخبز والشراب , وهذا الترتيب انتقل من طريقة تعامله مع المرأة , ومن أكله لروحه وحين عاد للغابة هربت منه الوحوش ولم تعد تآلفه , وللنظر كلام فتاة الحان لجلجامش حين عاد من لقاء أوتنابشتيم خالي الوفاض ولم ينل الخلود:
تقول فتاة الحان لجلجامش:
" إلى أين تمضي يا جلجامش ؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها
فالآلهة لما خلقت البشر,
وحبست بين أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش , فأملأ بطنك.
افرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداً.
ارقص لاهياً في الليل والنهار.
أخطر بثياب نظيفة زاهية؟
اغسل رأسك و تحمم بالمياه.
دلل صغيرك الذي يمسك يدك,
واسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر في هذه الحياة." ص 295 – فراس السواح – مدخل إلى نصوص الشرق القديم- دار علاء الدين 2006
لو تأملنا هذا الحوار والذي يعود عمره لخمسة آلاف سنة
لرأينا هذه الأسس الجمالية التي جبلت عليها المرأة , فنصائح فتاة الحان تختص بالتفاصيل والشكل , بعيداً عن الهدف والنفعية سمة تفكير الرجل , اخطر يا جلجامش بثياب نظيفة زاهية , اغسل رأسك و تحمم بالمياه. واهتم بالتفاصيل الصغيرة من حولك وعش حياتك, طبعا ذلك لا يعني تناقضاً مع الوصول للهدف , لكن هذه السمات الأنثوية صفات المرأة وهي ذي وظيفتها التي تتقن وتجيد, وتعلمها للرجل فيرتاح ويستعيد طاقته المهدورة في الوصول للهدف.
وللنظر كذلك لهذا الحوار بين جلجامش و عشتار , ولنتأمل الخلاف في طريقة الوصف فعشتار تقدم لجلجامش أجمل الصور المغرية, وتنسج تفاصيل شهية, و جلجامش يرد عليها بالنتائج :
" فرأته عشتار وقد جللته هيبة النصر, فتاقت إلى وصاله وعرضت عليه الزواج منها:
تعال يا جلجامش وكن عريسي.
سآمر لك بعربة من لازورد وذهب,
و محوطاً بشذى الأرز تدخل بيتنا.
ستقبّل المنصة قدميك والعتبة,
وينحني لك الملوك والحكام والأمراء,
يضعون غلة السهل والجبل أمامك,
..
.. يجيبها جلجامش:
ما هو نصيبي منك إذا تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تخمد ناره عند البرد.
باب متصدع لا يحمي من ريح أو عاصفة.
حفرة يخفي غطاؤها كل غدر.
قار يلوث ناقله.
قربة تبلل حاملها.
صندل يزل به منتعله.
أي حبيب أخلصت له إلى الأبد؟
ص290 نفس المصدر
ولعل هذه الصفات التي نعت بها جلجامش عشتار, كانت من خلال إحساسه السامي , فهي التي غدرت بكل عشاقها , هذا الحس السامي سمة من سمات الجلال التي اتصف بها جلجامش, و ما هو إلا حس إنساني عميق ينبع من وراء الأفكار الإنسانية السامية, وهو صانع المواقف البطولية والنبيلة
ولعل هذه السمات في كلا الطرفين تحيلنا لصفات الأنوثة البكر والرجولة البكر وهذه هي علاقة الجميل بالجليل يقول ديورانت عن هذه العلاقة:" يتصل الجلال بالجمال صلة الذكر بالأنثى. فاللذة التي نشعر بها من الشيء الجليل لا تنشأ من الملاحة المطلوبة في المرأة, بل من القوة التي نعجب بها في الرجل. وأكبر الظن أن المرأة أشد انفعالاً بالجليل من الرجل , وأن الرجل أعظم تأثراً بالجمال" ص 70 د احمد محمود خليل – في النقد الجمالي – دار الفكر
" ويذهب جان ماري جويو إلى أن القوة تمثل في التعبير عن الحياة ناحية الرجولة, وأن الرشاقة تمثل ناحية الأنوثة, ويرى ول ديورانت أن اللذة التي نشعر بها من الشيء الجليل لا تنشأ من الملاحة المطلوبة في المرأة . بل من القوة التي نعجب بها في الرجل " ص 84 نفس المصدر
وهذه النظرة ظهرت لدى الإغريق القدماء أيضاً , وها هي ذي فينوس إلهة الجمال تخاطب باريس بن بريام , قائلة " أترى إلى جمالك البارع وجسمك الممشوق السمهري ؟! أيكون هذا الخلق من نسل الرعاة الأجلاف ؟!" ص 85 نفس المصدر
وهذه بعض الإشارات السريعة والتي تستحق كل تفصيلة الوقوف عندها مطولاً.