"رحلة جاوا الجميلة"
الدكتور
مسعود عمشوش
كانت حضرموت واليمن بشكل عام، وعلى مر العصور، محط أنظار "الآخر" الأجنبي، سواء كان مستعمرًا غازيًا، أو مستكشفًا باحثًا، أو تاجرًا أو سائحًا، وكما هو معلوم كثيرةٌ هي تلك الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة الأجانب عن اليمن.
وبالمقابل، كان اليمنيون أنفسهم، لاسيما أبناء حضرموت، يميلون إلى حياة الترحال والاتصال بالآخر، والتثاقف معه، وربما الانصهار في بوتقته، كما حدث في إندونيسيا وشرق آسيا وجزر القمر وسواحل شرق أفريقيا.
وإذا كان معظم الحضارم يترك وطنه في الغالب للبحث عن لقمة العيش، فقد حمل عدد منهم عصا الترحال بهدف زيارة بعض المناطق التاريخية أو المقدّسة كمصرَ والعراق وفلسطين وتركيا، وأحيانًا لمجرد التعرف على بلاد "الآخر"، لاسيما إذا كانت مشهورة بطبيعتها الجميلة.
وقام عددٌ من هؤلاء الحضارم بتدوين رحلاتهم، وتجدر الإشارة إلى أن الباحث عبد الله الحبشي قد كرّس الجزء الأكبر من كتابه (الرحالة اليمنيون: رحلاتهم شرقًا وغربًا) للرحالة الحضارم.
ولا ريب أنّ الأديب والمؤرخ صالح بن علي الحامد، الذي نحتفل هذا العام بالذكرى المئوية لميلاده، من أبرز هؤلاء الرحالة، فمن المعروف أنّ مؤلف دواوين (نسمات الربيع، وليالي المصيف وعلى شاطئ الحياة)، ومؤلف كتاب (تاريخ حضرموت) قد قضى بضع سنوات من عمره في جزيرة سنغافورة، ومنها قام بثلاث زيارات قصيرة إلى جزيرة جاوا، وقد أراد الأديب الحامد أن يعطي لرحلته الثالثة - التي بدأها في أكتوبر 1935م – بُعدًا علميًا استكشافيًا وبُعدًا أدبيًا حيث قام بتدوينها.
وفي نهاية العام الماضي قام مركز تريم للدراسات والنشر بإصدار رحلة صالح بن علي الحامد إلى جاوا، وكان اتحاد الفنانين اليمنيين – فرع سيئون قد نشر (رحلة جاوا الجميلة) بالاستنسل سنة 1995م، كما قام الباحث عبد الله الحبشي بنشر 20 صفحة منها في كتابه (الرحالة اليمنيون) سنة 1989م.
في بداية النص يبرّر المؤلف إقدامه على تدوين رحلته بأهمية جاوا وشهرتها وجمال طبيعتها، فهو يؤكد على "شأن جزر الهند الشرقية الهولندية، ومكانتها في العالم، وما أتاها الله من حُسن الموقع وخصوبة التربة وجمال المنظر، حتى أصبحت من أهم بقاع الدنيا وأشهرها".
ويذكّر أيضًا بمكانة جاوا "السامية جدًا" في نظر الحضارم لكونها أصبحت وطنًا ثانيًا لهم يحتوي على عشرات الألوف من الناطقين بالضاد، وممن كانوا هم وآباؤهم من قاطني حضرموت، هذا عدا كونها أصبحت منبع ثروة الحضرمي ومصدر موارده، بحيث غدا مركز حضرموت المالي متعلقًا تعلقًا تامًا بجاوا، ويتأثر به قوة وضعفًا ورقيًا وانحطاطًا".
ويتكوّن متن (رحلة جاوا الجميلة) من أربعة عناصر متداخلة: يتضمن الأول منها تقديماً بحثياً علمياً للجزيرة، ويتكوّن العنصر الثاني من الرصد الزماني والمكاني للرحلة، بينما يحتوي العنصر الثالث على وصف المشاهد الطبيعية، أما الجزء الرابع والأوسع فهو عبارة عن تقديم لعددٍ كبيرٍ من "الشخصيات البارزة" التي التقى بها المؤلف في أثناء رحلته.
يقع الجانب العلمي من الرحلة في ثلاثين صفحة (من مجموع 225 صفحة) يتحدث المؤلف فيها عن اسم جاوا في الماضي والحاضر، وعن موقعها ومناخها وتاريخها، وسكانها وطباعهم ولغاتهم، وعن الحكومة ونظام التعليم والزراعة والمواصلات.
في هذا الجزء يتناول المؤلف كذلك هجرة الحضارم إلى جاوا ودخول الأوروبيين إليها، ونعتقد أنّ الصفحات الثمان المكرّسة لدخول الإسلام إلى جاوا – التي تحتوي أساسًا على ملاحظات حول ما كتبه شكيب أرسلان عن كتاب فان دن بيرخ (حضرموت والمستوطنات العربية الأرخبيل الهندي)، وكتاب بيار غوناند (الاستعمار الهولندي لجاوا)، لا تكفي لتبرير تطويل عنوان الرحلة وجعله: (رحلة جاوا الجميلة وقصة دخول الإسلام إلى شرق آسيا، كما ورد في طبعة مركز تريم للدراسات والنشر.
وإذا كان العنصر السردي الزماني في رحلة الحامد ليس مهمًا، فالعنصر المكاني يكتسب – بالمقابل – أهمية كبيرة: فالمؤلف عادةً ما يبدأ بتقديم وافٍ ومتعدد الجوانب – جغرافي، تاريخي، سياسي، اجتماعي – للمدينة أو القرية التي يصلها وذلك بأسلوب علمي رصين لا يعوزه الجمال.
فعندما يصل الحامد إلى باتافيا مثلاً، يكتب: "وباتافيا عاصمة جاوا بل وسائر جزائر الهند الشرقية الهولندية، وتقع على نهر سيليوغ، وهي عبارة عن مجموعة من القرى متجمعة، وتخطيطها وهندسة أبنيتها في الغالب على النمط الهولندي، وتحتوي على مبانٍ في غاية الفخامة... وباتافيا مركز مهم لتصدير المطاط والشاي والعقاقير الطبية، وبها مكاتب وإدارات للشركات المختلفة، والبيوت المالية، وكان موضعها في العهد البوذي يسمى (سنوا كلافا).. ثمّ بعد إسلام سلطنة بانتام سماها مولا هداية الله (جاكرتا)"
كما أنّ ذلك العنصر المكاني عادة ما يكون فرصة يستخدمها المؤلف لتقديم واحدة أو أكثر من (الشخصيات البارزة)، التي يقابلها في إحدى المدن أو القرى، ومن الملاحظ أن معظم تلك الشخصيات من وجهاء الحضارم في الأرخبيل الهندي وحضرموت، وجلهم من بين مضيفيه العلويين.
ومع ذلك فهو ينتهز مناسبة حلول آخر أيام عام 1935م، ليقدّم لنا في خمس صفحات الأستاذ رشيد رضا صاحب مجلة (المنار)، والشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي، لا لشيءٍ إلا لأنّهما توفيا في ذلك العام.
ولرصد جمال المشاهد الطبيعية والإنسانية لا يكتفي الشاعر صالح بن علي الحامد بقلمه فقط، بل يستخدم كذلك آلة التصوير التي لم تفارقه طوال الرحلة.
ومن اللافت أنّ الشاعر الذي كثيرًا ما عبّر عن غرامه بسحر الطبيعة الجاوية في قصائده، لم يتردد أيضًا في البحث عن الجمال في المتاحف والمعابد التي زارها وأعجب بها ووصف ما تحتويه من تماثيل وراهبات بعيدًا عن أي تعصب، وقد ضمّن الناشر الكتاب عددًا من الصور التي ألتقطها الحامد في أثناء رحلته، ومن بينها صورة لأحد المعابد البوذية.
بالإضافة إلى ذلك، تتضمّن (رحلة جاوا الجميلة) عددًا من المعلومات السوسيولجية حول طباع العرب الحضارم والسكان المحليين وعاداتهم، فالنسبة للحضارم، يصوّر المؤلف بشكل دقيق احتفالاتهم، ومراسيم الزواج الخاصة بهم، ولا يخفي استيائه من عدم إحضارهم لزوجاتهم من حضرموت، ومن إقدامهم على إبعاد أبنائهم وبناتهم من أمهاتهم المحليات.
وفي ما يتعلّق بالسكان المحليين تأخذ تلك المعلومات طابعًا أنتروبولوجيًا يمكن أنْ نلمسه مثلاً من خلال وصف المؤلف لسكان جزيرة بالي المحاذية لجاوا، فهو يقدّمهم قائلاً: "والباليون عُراة الظهور والصدور، لا يلبسون غير الأزر لا سيما النساء؛ فهنّ يأنفن من ستر أجسامهن حرصًا على التقاليد التي يبالغون في التعصب على إتباعها على الرغم من قربهم من جاوا، فهم ما زالوا على حالة القرون الوسطى، إذ لم تؤثر عليهم المدنية بشيء.
... وفي نهاية هذا التقديم نؤكد أنّ الشاعر الرحالة صالح بن علي الحامد قد استخدم في تحرير رحلته أسلوبًا أدبيًا حديثًا يندر أن نجده في النصوص النثرية اليمنية الأخرى التي كتبت حينذاك أي في الثلاثينات من القرن الماضي.
ولاشك أنّ الباحث عبد الله الحبشي محقٌ عندما كتب أنّ "رحلة الأديب اليمني الكبير صالح بن علي الحامد من الرحلات الأدبية القيمة، وهي تتميز بالجمع بين الأسلوب الوصفي الحديث وبين جمال التعبير، وإشراق البيان، ولا غرابة في ذلك فكاتبها أحد الأدباء والكبار، الذين قالوا الشعر الحديث، وجاروا فيه أصحاب المدرسة الحديثة في مصرَ والشام، ورحالتنا هو الرائد لهذا النوع من الأدب في اليمن، وتكاد رحلته إلى جاوا تكون الرحلة الوحيدة التي خطها يراع أديب يمني متمرس بفن الكتابة، ولذا فهي تنفرد عن زميلاتها بميزات لا نجدها في غيرها".
د. أبو شامة المغربي