ألحان علي
كانت رأسي تؤلمني أشد الألم ، وأنا أتهيأ لمغادرة المبنى الفخم المهيب ، فقد صدعت رأسي خطب مفوهة كثيرة ، وبان الإجهاد على قسمات وجهي حتى أن صديقا قديما تقدم مني وأنا أنسحب بهدوء من القاعة العلوية حيث كنا نطل على المشهد. قدم لي منديلا ورقيا معطرا ، وأخذ بيدي : تعال تحت في الهواء الطلق . أنت متعب والاصفرار بادٍ على وجهك.
هبطت السلالم الرخامية وفي يدي رصات الكتب والنشرات والمجلات التي كانت تخرفش فيها أفكار من كل شكل ولون : سوداوية ، وفوضوية ، وأخرى مشرقة . لاحظت ذلك حين صرت في الحديقة التي نزلت إليها فوجدت آخرين قد سبقوني إليها ، وكل منهم ممسك برأسه أو ببطنه أو بذراعيه. مجموعة من المرضى والمجانين والشهداء الذين لم ترفع جثثهم بعد للسماء .
كان الرجل العقلة قد صدع رؤوسنا بخطبة عنترية ، وتحدث الرجل الأصلع بعقل وبان الكلام مرتبا ، وتلاهما الرجل الطويل الذي بدا كأن الحكومة قد خاطت له قدمين طويلتين ليتخطى بهما المهام الصعبة ، ويوفر الكادر الخاص للمدرسين بدلا من صعود سلالم الدروس الخاصة . لم استرح للجمل ولا للعبارات ولا للتصريحات فقلت لنفسي : إنزل ، وانجُ بنفسك من القهر القسري فرمقني النسر المهيب الذي بان على خوذات رجال الأمن المركزي بعداء مميت، وهم يتأملون الصاعدين للمكلمة المرعبة قبل أن يندس المصورون ورجال "الفازلين " في كامل ثيابهم ولياقتهم ولمعانهم المبهم الغريب ، حيث سمعت مذيعة تلعب بالعين والحاجب تقول بنبرة ناعمة وضحكة ملعلعة بلا سبب " هنا القاهرة " . فتأكدت أنني في ميدان التحرير ، بعد أن رفعوا القاعدة الصخرية التي تظاهر فوقها آلاف الطلبة من أجل بنادق يحاربون بها العدو الصهيوني ـ زمان ـ والشريك الاستراتيجي ـ حاليا ـ وأن هذا هو مبنى جامعة الدول العربية ، حيث يرفرف العلم الأخضر على صارية عالية . خفت أن أكون قد أخطأت فقد لا يكون من اللياقة أن أخرج عن الإجماع ، وإلا كنت قد خرقت وحدة الصف ، وأنا منذ زمن طويل لا قبل لي باختراق أي شيء في الكون. لازمت انكساري ،وانسحبت إلى حيث موقف عربات " الميكروباس " حيث سأذهب من التحرير إلى محطة رمسيس ومنها لموقف سيارات الأقاليم حيث الحكومة هناك تغمض عينيها عن كل مظهر من مظاهر التسيب والإهمال ، وعلى هذا الرصيف بالذات هناك كل شيء يباع : الحافظات الجلدية ، والجوارب الحريرية ، والمفكات الحديدية ، ومجلات الفتاة التي تزوجت الجن وأنجبت منه سفاحا ، وكتب الأدعية ، وقوارير العطور المقلدة المغشوشة ، وجرائد الصباح التي تباع في الدلجة حيث الليل أسود وغطيس .
توقفت عربة فصعدت سلمتين معدنيتين ، وفوجئت بالزحام فوضعت مابيدي من كتب في ركن وراء عمود عرضي كان يفصلني عن لوح الزجاج . كنت قد تحررت من بعض أحزاني ، وتنفست براحة ، والعربة تتحرك ببطء ، وحتى لا تطيح بي وقفة مفاجئة لمكابح تلك العربة قبضت بيدي اليسرى على العمود ، وأغمضت عيني ربما لأنفض عن ذهني ضجيج الليلة وصخبها اللعين ، ولاحظت أن " الدبوس " مازال في مكانه من عروة السترة حيث كانت الريشة مازالت في المحبرة والخيوط الذهبية تزهزه في أعين كل من يتأمل المنظر ، والعبارة بالخط الكوفي تحدد هويتي وتنصرني شخصيا على رعاع الناس الذين يصفون كل من كتب أو يكتب بالجنون أو ذهاب العقل أو ضياع المال والاتزان .
مطرقة الرأس وجدتها وراء العمود ، ترتدي ثوبا بني اللون وتحمل على ذراعها طفلا تجاوز السنتين. طلب المحصل جنيها وربع الجنيه فمدت يدها بجنيه واحد وبحثت عن " فكة " فلم تجد . كانت معي قطع برونزية تشخشخ في جيبي . قدمت لها واحدة فهزت رأسها امتنانا . سمرت نظري في الطرقة المحشورة بأقدام نسائية ورجالية كثيرة ،وجاءتني وخزة من الجنب الأيمن لعسكري يصعد ببزته السوداء دفعتني بوصتين فالتصقت بالعمود . فجأة وجدتني وجها لوجه أمام السيدة ، وشعرت شعورا خفيا أن في العينين حزنا جارفا ، ومع الاهتزازة التالية للعربة وجدت الطفل يقبض بيده الرقيقة على أصابع يدي فتركته يفعل ، بل رحت أداعبه دون أن افطن لحقيقة أن البرد والزحام كانا غير مناسبين البتة لممارسة مشاعر أبوة عابرة غير أن ما صدمني كانت نظرته التي لا تتحرك ، بؤبؤ العين مصوب باتجاه واحد ، وكان يطلق حروفا متكسرة. اكتشفت أنه معوق أو خيل إلىّ ذلك.
قبل أن استوعب الموقف خلا مقعد أمامي مباشرة فحجزته بجذعي وسرعان ما جلست ، لكنني فطنت أن الأم المرهقة أحق بأن تجلس .
أشرت لها أن تأتي فوجدتها تتعثر في حقائبها القليلة ، وكانت تشف عن أرغفة شامية ، وبعض الملابس القطنية ، وعبوة لبن أطفال ، وبعض الأدوية. جلست في المقعد الذي أخليته لها وشدت طفلها الآخر الأكبر سنا ، وكان يعرج عرجا خفيفا. فسرت الأمر أنه ربما كان نتيجة مشوار مؤلم. سألتني وأنا أمد يدي لأخلص الولد من تشابكات الطرقة التي تتوسط العربة: حضرتك من القاهرة ؟
ـ أبدا. كنت في زيارة لها.
ـ الولد فرح أنك أمسكت يده.
ـ غالبا ما أحب أن أداعب الأطفال.
ـ هل أنت طبيب؟
ـ لا. مدرس.
ـ في الجامعة ؟
ـ أبدا . مدرس ابتدائي.
توقفت العربة ، وكانت إشارة مرور ضوئية دفعت بركاب جدد سدوا الباب تماما ، وصارت وقفتي أصعب . بهدوء ودون أن تتكلم تناولت الحقيبة السوداء المعلقة فوق كتفي ووضعتها على ركبتيها . لم أرغب في شكرها ، لكنني ولسبب لا أدركه كنت مشدودا لوجه الطفل الأسمر ، ولعينين مذعورتين كانتا تحفران داخلي سردابا موصلا للألم .
سألتها : هل وُلد هكذا ؟
ـ لا . أصيب في حادث يا أستاذ .
ـ أوضحي لي الموضوع. لهجتك غير قاهرية.
ـ أنا من العراق . من البصرة تحديدا.
ـ واسم حضرتك؟
ـ الحان .
ـ اسم غريب وجديد . ما بقية الاسم؟
ـ ألحان علي.
ـ قلت أنه حادث . كيف؟
ـ كنت في البيت ، والليل يغطينا ، وكان الولد ينام على السرير مع أخيه وفجأة أمطروا المدينة بالصواريخ.
ـ من بالضبط ؟
ـ الإنجليز والأمريكان .
ـ وماذا أصابه؟
ـ الصدمة العصبية جعلته يصاب بهذه الحالة . لا يشعر بما حوله إلا بصعوبة بالغة . لا تتحرك عيناه. لا يتكلم .
ـ لاحول ولا قوة إلا بالله. هل كان ذلك أيام الحرب؟
ـ الحرب لم تنته يا أستاذ.
ـ ولماذا أنت في القاهرة؟
ـ حضرت كي أعالجه في مستشفى خاص للطب النفسي.
أطرقت أكثر ، وبدت لي القاهرة شاحبة وطرقاتها حزينة . مد الطفل يده من جديد وأمسك بأصابعي اليمنى. صرخ المحصل فيمن صعد أن يرسلوا الثمن فاحتج من هم معلقون على الباب بأنه من الصعب أن يخرجوا أجر التذكرة وهم في هذا الوضع .
حاولت أن أستجمع نفسي من جديد ، وبحثت عن كلام يمكنه أن يواسي الأم : الحمد لله أن طفلك الآخر سليم.
ـ إنه مصاب .
ـ نعم؟
ـ اخترقت شظية ساقه اليسرى في نفس الغارة.
ـ معقول. الولد لا يظهر عليه أي شيء .
ـ نور الدين مؤدب وذكي ومطيع.
كان الولد أشقر الشعر على عكس شقيقه الأصغر ، وكان يتحاشى الزحام بهدوء وصبر.
قلت وأنا استعيد بعض نفسي المشتتة : والصغير مااسمه؟
ـ مازن .
ثم مالت وقبلته ، أما هوفقد أحس بها فترك أصابعي وخرجت من فمه الدقيق حروف متداخلة . وكان نور الدين يرقب طيلة الوقت الطرق المصبوغة بأضواء مرتابة هي انعكاس ممعن في الرتابة لمصابيح النيون عبر النافذة المفتوحة . رأيتها تخلع من إصبعها خاتما مفضضا من معدن منحوت عليه عبارة قرأتها بصعوبة : الصبر جميل.
لفت الخاتم في منديل ورقي ودسته في حقيبة يدها ، وسألتني بأدب وبنبرة لا مكان فيها للمجاملة : ليتك تزورنا يا أستاذ في البصرة عندما نرجع. يكون مازن شفى ونور الدين قد أكمل علاج ساقه.
قلت لها والإزدحام يخف بعض الشيء : طبعا . يهمني أن أزور بغداد.
ـ قلت لك أننا من البصرة.
ـ بالتأكيد بالقرب من قرية السياب .
ـ أنا رأيت تمثاله. أتعرفه.
ـ قرأت له ، ولم أره.
ـ انا أعرف بيته وهو محاط بالنخيل .
ـ نعم. نخيل أخضر.
ـ نخيلنا صار بلون الدم.
اختلست عبارتها من الحروف الكوفية للخاتم : الصبر جميل .
انتزعت حقائبها ، وكانت العربة قد توقفت قبل رمسيس بمحطة واحدة . مدت يدها ، ناولتني حقيبة كتفي السوداء ، وسمحت لي في عجالتها أن أقبل الصغير مازن ، أما نور الدين الذي لم ينطق حرفا واحدا فقد لوح لي بعد أن هبط الشارع .
نظرتُ من بين الأجساد المتزاحمة ، كانت تحمل طفلها ، ويلحق بها نور الدين في عرج خفيف لا يلحظ ، وكانت نظرة الطفل الأسمر مازالت تخطف قلبي إذ كنت مسكونا بالحزن .
في رمسيس وجدت أن الكتب والمجلات قد تناثرت هنا وهناك وراء العمود البعيد ، وقد داستها الأقدام ،وحولتها لمزق من الأوراق . صممت أن أمضي في طريقي ، وان أترك كل شيء في مكانه. صاح المحصل وهو يسأل ركاب العربة : كتب من هذه؟
لم أنطق بحرف ، وكنت أشعر بيد الولد الصغير تمسك بأصابعي وأنا مملوء بالفجيعة ، وغير قادر على الكلام ، وكان هبوطي في محطة رمسيس تشاغله ارتطامات متوالية لقذائف ثقيلة وقنابل ألف رطل ، ودانات مدوية تحطم كل ما عشت أبنيه أو أرتبه من شعر وسرد وكلام .
القاهرة 9/12/2006