زارني الأرق مرة أخرى هذه الليلة , فكري مشغول جدا , أفكاري مشتة , حاولت كثيرا أن أنام , لكن لم يكن لي ما أريده , فجأة قمت من سريري وذهبت إلى المطبخ وحضرت عصير ليمون قلت في نفسي عساه يهدأ أعصابي , وبعدها أنام , الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل, دخلت غرفتي , وأطلقت موسيقى هادئة , وجلست على كرسي مكتبي , وبدون أن أشعر أخذت قلمي الحبر الأسود , وبدأت أكتب : مرحبا و أدعوكم لحضور جلسة ادبية , فلسفية , شاعرية و فنية , تكونوا أنتم ضيوف شرفها ومؤ طريها ومقدميها , وحضوركم مرهون بهذه الجلسة , راجية منكم أن تحققوا لي هذا الأمل , الميعاد , يوم مولدي , الساعة مفتوحة . العنوان : بيت العلم , شارع الأدب , الحياة . المدعون : أحمد شوقي , جبران خليل جبران , إيليا أبو ماضي , توفيق الحكيم , محمد عبد الوهاب , نزار قباني. أحسست بعطش كثير , فأخذت أتجرع كوبي ماء , والورقة التي كتبتها بين يدي , وبدأت أقرأ, استغربت لما كتبته , فجاءتني نوبة ضحك بصورة مجنونة , وأنا أردد في أعماقي , كيف قمت بكتابة هذا , وبرهة سقط الصمت على لساني مدة طويلة , وكأنني عرفت سبب أرقي و فقلت في نفسي لما لا , فقمت بكتابة بطاقة الدعوة على الكومبيوتر , وقررت أن أرسلها في الغد , إلى كل من : شوقي , جبران , إيليا ,الحكيم , عبد الوهاب , قباني. ولما انتهيت من كتابة الدعوة , شعرت بنعاس كثير يراود أجفاني , فقررت النوم , وكانت الساعة عندئذ الرابعة صباحا. في الغد قمت كعادتي , على الساعة الثامنة صباحا , أتفحص عناوين الأخبار من فضائيات الإعلام , وصديقي بل رفيق دربي فنجان القهوة المقطرة بدون سكر في يدي أشربه, وبعدها غيرت محطة التقاط الهوى الفضائي , إلى محطة الزمن الجميل , وكانت تطرب نجاة الصغيرة أغنية * عيون القلب سهرانة *, وبعدها تذكرت على الفور ما كنت قد قمت به في الليلة الماضية , وذهبت إلى غرفتي بعد أن طربت أذناي أعذب صوت , وأجمل لحن , وأحلى كلمات , وفتحت الكومبيوتر وبدأت أقرأ ما كتبته أكثر من مرة , وفي الأخير نسخت بطاقات الدعوة وقررت إرسالها , ارتديت ملابسي المفضلة بانطالون جينز أزرق , وقميص أزرق , مع محفظة حاملة أوراقي وخرجت من البيت متوجهة صوب البريد , ولما وصلت طلبت من المستخدم فيه بإرسالها عن طريق البريد الاستعجالي , فوافق طلبي على الفور , رغم اندهاشه , بعدها أخذت وصل الإرسال وشكرت له صنيعه وذهبت إلى عملي. ولما رجعت إلى البيت , وأنا مع أسرتي في جو مليء بالدفء والحنان , طلبت منهم أن يغادروا البيت في التاريخ الذي يوافق شهادة كتابة الحياة مولدي , سألوني عن السبب , قلت لهم لدي ضيوف وأريد أن نكون وحدنا دون أي شخص مهما كان , وافقوني الرأي. كان الموعد بعد أسبوع , وأنا أهيأ نفسي , ماذا أقول , كيف أصنع , هل سيأتون , ماهو الحوار , هل سيأتوا جميعهم أم بعضهم , هل سيعرفون المكان , هل .... وهل ..... وهل ....؟! قبل قرب الميعاد بيوم واحد , أخذني والدي على انفراد وأدخلني مكتبه , سألني من سيكون القادم , أنا لم أتدخل في خصوصياتك بل لكي أطمئن فقط , ضحكت وقلت له , نجلتك مجنونة , أرسلت الدعوة يوم ميلادها إلى كل من شوقي , جبران , إيليا , الحكيم ,عبد الوهاب , وقباني , أليس جنونا ؟ سكت وقال , لما لا , خير ما فعلت. قال هذه الكلمات وتركني في مكتبه حائرة, مستغربة. وجاء الموعد , البيت خال ليس فيه إلا ذاتي , أنتظر , أروح وأجيء , ويداي ترتعشان , أجلس ثم أقوم , رن هاتف البيت , قطعت الخط , حتى هاتفي المحمول أقفلته , لا أريد أحدا أن يشاركني هذه اللحظة , فجأة رن جرس الباب , بدون أن أشعر, ذهبت مسرعة فتحته وجدت أمامي شخصا أسود اللون, قصير القامة ,يلبس بذلة سوداء , وعلى رأسه يحمل طربوشا , وبجواره عربة يجرها فرس منهمك القوة يظهر أنه قطع أميالا كثيرة حتى وصل , فقال لي , سيدي شوقي بك سيحضر حالا , لم أنطق بكلمة , بعدها نزل شخص متوسط القامة , بيضاء البشرة , وجهه مدور, عيناه سوداويتان , يضع شنبا فوق فمه , يلبس بذلة رمادية , قميصا أبيضا , وربطة عنق كالفراشة سوداء , وطربوش على رأسه , تقدم نحوي فقال , أنت أرسلت لي الدعوة , أجبته صامتة و أنا أحرك رأسي بالإيجاب , فدخل وقال لسائق العربة , يا عبدو ابق هنا وانتظرني , عندما أنتهي سأخرج , فدخل وأغلقت الباب وأنا جد مندهشة كأنني أحلم , دخلنا الصالة , فقال لي , ألم يحضر بعد أحد , أجبته , ليس بعد شوقي بك , وقال , ننتظر, ماذا عندنا سوى الانتظار , وأنا سأجلس دق جرس الباب ثانية , فاستأذنت أمير الشعراء وفتحت الباب وجدت فيلسوف العرب وحكيمها جبران , الفرحة سكنت قلبي , ورسمت على وجهي بشاشة لا يمكن أن يصورها إلا فنان التصوير جبران خليل جبران , قلت له مرحبة به , مرحبا , لو أنني كنت أعرف يوم ولادتي سيكون كما أنا عليه الآن , لاحتفلت في كل يوم بمولدي , ضحك وقال لي , لا يصدق الصادق إلا الصادق . أدخلته البهو , كان فيه أمير الشعراء وهو يتفحص إحدى المزهريات , فقال له جبران , أميري وأمير شعراء العرب كيف كنا قبلك وكيف نكون بعدك , فأجابه شوقي , فيلسوف وحكيم ونبي الشرق , هاجرت إلى الغرب وافتقدناك , فتعالى بالأحضان شوقنا ليس له بداية وليس له نهاية , شعرت حينها أن السعادة التي أعيشها في تلك الفترة لم تمر على أي إنسان في الوجود إلا أنا ,فرحة كبيرة امتزجت بردف دمع نزل من مقلتي , فجلسا بعد تبادل التحايا والسلام وبدأ يتحدثان , استأذنتهما لكي أحضر لهما شيئا ما , أجاباني بصوت واحد , حتى يكتمل النصاب , وافقت رأيهما على الفور بدون نقاش , ودق الجرس مرة أخرى , فذهبت وفتحت الباب , وجدت شخصا طويل الوجه , أصلع الرأس , متجعد الجبهة , يحمل نظارة بيضاء على عينيه , واقفا أما الباب وينظر إليها بتأمل أدركته على الفور أنه إيليا أبو ماضي , رحبت بقدومه , وأدخلته وهو ينظر ما حوله بتفكير عميق , ولما رآه جبران قال له , كيف حالك يا صديق المهجر , كيف تركت نيويورك , أجابه , لم أكن فيها , قال جبران , كنت إذن في بلد شجر الأرز كم اشتقت إليها , فأجابه إيليا , لا بل كنت في إحدى الندوات بفلوريدا و هذا من سوء أو حسن حظي دائما أن وقع هناك انفجار في إحدى جامعاتها , ولكني نجوت ...يقولها بسخرية , أجابه جبران وشوقي , حمدا لله على سلامتك , تفضل ... فجلسوا وبدأوا يتبادلون الحديث , وأنا أنظر إليهم كأنني رضيعة تريد الحديث لكنها تعجز عن الكلام , لأنها لم تجد كلمة تقولها أمام عمالقة الأدب العربي , وفي نفس اللحظة أفكر في الباب , فدق الجرس , استأذنت منهم وفتحته , فوجدت رجلا يضع النظارة في عينيه وشاربا فوق فمه ومعه حمار , فقال لي , أنا غاضب منك أرسلت لي الدعوة ونسيت صديقي وأشار إلى الحمار , ابتسمت فقلت له , آسفة , يا أب السخرية الأدبية في العالم العربي , فقال لي, سامحتك , فهيا ندخل يا صديقي , فدخلوا , وقال لي , ممكن أن نضعه هنا , لأنه ليس من اللائق دخوله للصالة , فقلت له , كما تريد هذا بيتك وأنا ضيفة فيه , فضحك وقال لي , ممنون لك , أدخلته إلى البهو , وتبادل مع العباقرة الآخرين التحية , وهم يتقاسمون أطراف الكلام , وأنا أنظر إليهم بكل دقة , لم أكن قط في حياتي دقيقة أكثر من هذه اللحظة , رن جرس الباب , فتحته وجدته أمامي , شاعر المرأة نزار قباني , رحبت بمجيئه قائلة , أين أنت يا شاعر الحب , ورقة التصوير الجمالي , و الأسلوب السلس البديع , شوقنا إليك ليس له مثيل , ولن يعوضنا عنك إلا أحلى قصائدي , وأشعار خارجة على القانون , والأعمال الشعرية الكاملة , أجابني , هذا لطف منك سيدتي , وانحنى وقبل يدي , وسألني هل حضر الجميع , أجبته , نعم , لكن بقي محمد عبد الوهاب , فقال لي , آه هذا سننتظره طويلا , فأدخلته إلى البهو وتبادل التحايا مع نبغاء الأدب العربي , وبدأوا يتحدثون ويتحدثون , فقال نزار وهو يحدثني , سيدتي هذا البهو ليس غريبا عني , إنه كبهو في طليطلة وغرناطة والأندلس أليس كذلك يا أمير الشعراء , أجابه شوقي ,نعم , هذا ما قلته بالضبط لجبران عندما حل إلى هنا , فقال لجبران , ماذا قلت لك , وجبران ينظر في السقف و إلى الزخرفة الموجودة فيها قائلا , فعلا لقد قال لي أمير الشعراء أنه عندما كان في الاندلس رأى هذه الزخارف وهذه التلاوين التي دشنها رسام حانك وصانع بارع , أجابه قباني , نعم والله هذا ما أذكره أنا كذلك , جمالية تصوير فني سلس , مع زخرفة هندسية رائعة تمتزج بين أسلوبي الشرق والغرب , إنها لوحة فسيفساء رائعة , عربية , أندلسية , مغربية , يا سيدتي حتى لا تغضبي , فقلت لهما , هذا لطف منكما يا أمير الشعراء ويا شاعر المرأة , ثم استرسل الحديث بينهم وأنا أنظر إليهم والفرحة تملأ قلبي ويترجمها رسم على وجهي , ومر وقت طويل , ونحن ننتظر عبد الوهاب , فقال الحكيم , إلى متى ننتظر , ربما سيأتي عندما نذهب أو أنه سيريل لنا خادمه العم عبدو ويعتذر , أو يقول أنه يعتكف في غرفته لإخراج لحن جديد , أجابه أمير الشعراء , ننتظر لحظات إذا لم يأت نبدأ , لأنني تعاملت معه كثيرا وهو دائما يتأخر , فلننتظر قليلا , مر الوقت ونحن ننتظر عبد الوهاب , وإيليا أبو ماضي ينظر حوله كثيرا مطبق اللسان , ويتحدث قليلا , أما جبران فقد كان يصغي للحكيم تجربته في الأرياف لما كان نائبا فيها , وقباني ينصت كثيرا لأمير الشعراء وهو يحكي له عن معاناته في منفاه بالأندلس , أنا أنظر إلى هذا حينا وإلى هذا حينا آخر , حتى رفع الحكيم صوته قائلا , ماذا ننتظر إذن , فقال أمير الشعراء , هيا نبدأ .
فاستأذنتهم أن يصعدوا إلى الطابق الثالث حيث توجد غرفتي , وحتى يأخذ كل منا راحته و ولأنني أنا بالضبط كنت أريدهم أن يروها لأنها هي مسند وحدتي وغربتي , ورفيقتي , أشعر فيها بالراحة الشاملة , فقلت لهم , آسفة جدا سأجعلكم ترهقون أنفسكم بالصعود , فأجابوا بصوت واحد , فعلا الصعود صعب , وما أسهل النزول .
فتحت لهم غرفتي , لون جدرانها بيضاء , على اليمين هناك موضع الملابس , على اليسار توجد مكتبة , في الجانب الأعلى من الغرفة على اليمين هناك مكتب وعليه كومبيوتر وكرسي , في الجانب الآخر هناك سرير وموضع المرآة والعطور , وفي الوسط توجد أريكة بيضاء , على الجدران لوحة زيتية لحظة الغروب في البحر , وصورة فوتوغرافية لأبي وأمي و صورة لي أنا .
دخلوا وبدأوا ينظرون الغرفة , وجلس أمير الشعراء والحكيم على الأريكة , وراح إيليا أبو ماضي ينظر في اللوحة الزيتية , وجبران يتفحص المكتبة , وقباني يتفحص الكومبيوتر ويقرأ ما فيه , لحظة قال جبران , ماذا أرى هنا , كتب قانون بالعربية والفرنسية , على كتب سياسة ومجلات وجرائد عربية وفرنسية كذلك ,على قاموس لغوي عربي , فرنسي , إنجليزي , على أدب عربي من معلقات العشر إلى كتبي وكتب الحكيم ونزار وإيليا وشوقي , ماذا هناك في هذا الرف , ماذا أرى أسطوانات لأغاني الزمن الجميل , وثلاث أشرطة فيديو لقصص الأنبياء موسى وعيسى ومحمد , وأغاني .......... ماذا هناك , يذهب إليه نزار ويقول له , إنها أغاني غربية لبيار بلا شار , وفيليكس غراي , وباتريسيا , وخوليو إغليسياس , فيقول له جبران من هؤلاء ,يجيبه نزار , إنهم مطربون غربيون لكن أغانيهم راقية وفيها لوحة شعرية جميلة , يجيبه شوقي رافعا رأسه , ليس كشعرنا نحن , يرد عليه نزار , شعرنا لن ولن يضاهيه أي شعر في العالم , ثم يتوجه نزار نحو موضع الملابس وفتحه فوجد بانطالونات معلقة وجينز و أقمصة من نفس ألوان البانطالونات , فقال لي , أ أ نت ا مرأة , فأجبته , طبعا , أنا من قال عني جبران , المرأة كالغرفة , لا أقصد كل الغرف , بل تلك الغرفة الدافئة التي تستميل الإنسان حينما يدخل فيشعر برفاهيتها وموافقتها له حتى ينسى كونه غريبا و أنه ضيف و يسمع كلمات التأهيل فيظن نفسه في بيته , هكذا المرأة , أقصد أنا , قال له الحكيم , خذ , لقد أعطتك في الصميم , ولن تجد ما ترد عليه بها , فقال له نزار , بلى , أعرف سيدتي المرأة بالفساتين وليس بالبانطالونات , ابتسمت وفتحت له الجانب الآخر من موضع الملابس ووجده مليئا بالفساتين , فقال لي , عذرا سيدتي , آسف جدا , وانحنى وقبل يدي , قلت له , أستعمل هذه وأوجه بيدي إلى البانطالونات عندما أريد الخروج للدراسة أو العمل , أما هاته فأستعملها عندما أريد ان أشعر أنني أنثى في بيتي وفي غرفتي هاته , يقول لي , فعلا قمت بإسقاط راية الصمت على فمي سيدتي ...........
فشرقنا ........... يصادر الرسائل الزرقاء
يصادر الأحلام.................. من خزائن النساء
ويذبح الربيع , والأشواق ....................... و الظفائر السوداء
يصنع تاج الشرف الرفيع .................. من جماجم النساء
جعلنا ..................................
نحسب المرأة ............... شاة أو بعيرا
ونرى العالم ................ جنسا وسريرا
ولحظة وقف الحكيم وقال , كنت أقول دائما , فتش عن المرأة , فهي سبب الأحزان , أما الآن فأقول , فلننظر جيدا في المرآة , نبحث عن مكمن الخلل في أطراف الحياة , فلننظر جيدا في المرآة , ولحظة صرخ وقال , آه , عصاي , كم اشتقت إليك ,لقد نسيتها هل بإمكاني أن آخذها يا مضيفتنا , فقلت له , ما عدا الله , أنتم أهل بيت أما أنا فهي الزائرة عندكم , خذها , هذا شرف لي , قال لي , أكيد هذه لجدك , أجبته , بل أصدقك القول اشتريتها خصيصا لحضرتك , أجابني شاكرا , لطف منك سيدتي .
استأذنتهم أن أحضر لهم شيئا , فوافقوني , أحضرت كوب شاي لأمير الشعراء اقتنيته بطلب من إحدى وصيفات الخديوي إسماعيل أن تجلبه لي , فكان ذلك , وأحضرت فنجاني قهوة لكل من جبران وإيليا , أما الحكيم فقد أحضرت خادمه أمين وهو نوبي , اعتاد أن يقوم بخدمته ويعني بأمره , واعتاد الحكيم أن يكون سخيا معه في العطاء , وأحضر له فنجان قهوة , أما نزار فقد حضرت له فنجاني قهوة , الأول بسكر زائد , والثاني ناقص عليه , وحضرت لنفسي فنجان قهوة مقطرة بدون سكر , ودخلت عليهم الغرفة و فوجدت إيليا أبو ماضي يأخذ كتاب * من هو اليهودي * لعبد الوهاب المسيري , وجبران يقرأ كتاب * الدين والسياسة * لسالمة عبد الجبار , وشوقي يتفحص شعر * شعبان عبد الرحيم * , والحكيم يقرأ مسرحية * عفاريتو *.
فقال إيليا أبو ماضي , إذا كان الوجود لا بد من الوجود , ولا مفر من نهاية حتمية , فالوجود لا بد أن يوجد لكل كائن حي , أما جبران فقال , العلم والدين متفقان أبدا , أما العلم والمذهب فلم يتفقا , وشوقي يقول , قرأت حتى قرأت ووجدت الشعر قد انتحر في أحضان أصوات وماديات أطباق فضائيات المغنى , وأن الشعر باللغة العربية الفصحى أرقى من الشعر باللهجات , أما الحكيم فقال , تجولت فرنسا , وزرت أماكنها , وسكنت باريس وعرفت مسارحها وحضرتها ولمست فيها روح الكاتب المسرحي , وأداء الممثل المسرحي , وإخراج المسرحية إلى الوجود بيد مخرجها , ولما قرأت هاته المسرحية , فإنها فعلا عفاريتو لمن كتبها , وعفاريتو لمن قام بأدائها , وعفاريتو لمن قام بإخراجها , سأرسل لهم طلبا مستعجلا لإلقاء مسرحية بعنوان * الجن والجنيات *.فقال نزار وهو على الكومبيوتر يبحث فيه , أ أ قول لكم ماذا يقال عنا : أجابوه بصوت واحد : قلنا .
قال , اسمعوا , يقال عنك يا أمير الشعراء وعذرا كثيرا على أنك شخص انتهازي متملق , تقربت من بلاط الخديوي حتى يمن عليك بعطاياه , فكان لك ذلك , وكنت تمدح كل من يجلس على الكرسي , ومن تنتقده فهو الشعب . رفع شوقي رأسه وابتسم و صمت.
أما أنت يا جبران فيقال عنك , أنك ألهت نفسك , وارتميت بين أحضان ألوهية الرب مع ذاتك , بل أنت سميت نفسك بالنبي , فقال جبران :
تلك هي شريعة البحر والبحارة , فإذا أنت أردت الحرية كان عليك أن تحول حاجات الحياة إلى ضباب , إن ما لا شكل له ينشد أبدا أن يكون ذا شكل , حتى السديم الذي لا يعد , يود أن يتحول إلى شموس وأقمار , ونحن الذين طلبنا الكثير , وعدنا الآن إلى الجزيرة قوالب صلبة , علينا أن نصبح ضبابا مرة أخرى , ونأخذ في التعلم من البدء , و أي شيء هناك ينمو ويشهق في الأعالي إلا وهو يتحطم عند الهوى والحرية .
فأجابه نزرا قائلا :
أي ضعف وانحلال ؟
يتولانا إذا الضوء تدفق
فالسجاجيد , وآلاف السلال
وقداح الشاي ......... والأطفال........ تحتل التلال
في بلادي ..............
حيث يبكي الساذجون
ويعيشون على الضوء الذي لا يبصرون
حيث يحيا الناس من دون عيون
حيث يبكي الساذجون
ويصلون , ويزنون , ويحسون اتكال
منذ أن كانوا ............ يعيشون اتكال
وينادون الهلال :
يا هلال ............
فقال الحكيم , ماذا عني يا شاعر المرأة , أعتقد أنهم نسوني , وحتى إن ذكروني قالوا عني في كراريس تعليمهم الثانوي , يمر الامتحان على الطالب وينتهي بصيف مليء بالطرب والمرح , قلي بالله عليك ماذا عني , قال نزار , وكأنك فعلا قرأت ما هو مكتوب هنا , قالوا أن الحكيم , كان حكيم زمانه في سخريته وكرهه للمرأة وسخطه عليها , حتى أنهم قالوا أنك مترفع عن أهل الأرياف عندما كنت هناك , وحتى أنك اتهمت قمر الدولة بأنه هو القاتل , وهو بريء من الجريمة التي ارتكبت , لذا لما نقلوك من الأرياف , وسكنت القاهرة ولم يبق لك أصدقاء خسرتهم بترفعك وسخريتك لهم , اتخذت من الحمار صديقا لك , لم تبق تكتب إلا عنه .
فقال الحكيم , لقد استطاع هذا الفيلسوف الصغير أن يبلغ قمة الصفاء , تلك القمة التي طمع الكثير أن يصلها يوما , لقد استطاع هذا الصديق أن يرى الحياة والموت من ثقب واحدة و وأن يرى الكائنات المتحركة والجامدة من عين واحدة وأن يخترق الكون كله بجسمه الصغير النحيل , وأن يتوهم أنه زعيم خطير أو مفكر بصير ... إن هذا الشيء الحقير الذي سميناه جحشا وحمارا هو في نظر * الحقيقة العليا * مخلوق يثير الاحترام ... في حين أن كثيرا ممن سميناهم عظماء فركبوه , ولم يبصروا الغرور وهو يركب رؤوسهم , هم في نظر * الحقيقة العليا * مخلوقات تثير السخرية , نعم كنت أشعر دائما شعورا غامضا أن حبي لهذا الجحش هو حب مقترن بشيء غير العطف والاشفاق ... إنه التقدير والتبجيل , أيها الزمان , أيها الزمان ... متى تنصف أيها الزمان فأركب .... فأنا جاهل بسيط أما صاحبي فجاهل مركب .
فقام الحكيم في اتجاه الكومبيوتر وقال , سأقرأ ماذا عنك يا شاعر المرأة , اسمع يا سيدي , قالوا أنك شاعر ماجن , تحث المرأة على الفجور , كما أن الرجل عندك هو ذاك السيف البثا ر , يسحق المرأة بين يديه , لك سحر جذاب في الغواية و الإغراء , تدفع لجعل جميع البشر حيوانات , تدفعه غريزته و تذهب به إلى إشباعها بجميع الطرق . فضحك نزار وقال
علقت في بابها قنديلها
نازف الشريان , محمر الفتيله
في زقاق ضو آت أوكاره
كل بيت فيه , مأساة طويلة
غرف ضيقة موبوءة
وعناوين ل ماري .... و جميلة
وأمام الباب ...........صعلوك هوى
تافه الهيئة ........مسلوب الفضيله
يعرض اللحم على قاضمه
مثلما يعرض سمسار خيوله
قيمة الإنسان .................ما أحقرها
زعموه غاية .......... وهو وسيلة
يا لصوص اللحم ............ يا تجاره
هكذا لحم السبايا ........ يؤكل
منذ أن كان على الأرض الهوى
لأنتم الذئب ......... ونحن الحمل
أشتهي الأسرة والطفل ....... وأن
يحتويني , مثل غيري منزل
متى تفهم ؟
يامن صارت الزوجات بعضا من هواياتك
تكدسهن بالعشرات ......... فوق لذاتك
تحنطهن كالحشرات ......... في جدران صالاتك
متى يستيقظ الإنسان في ذاتك ؟
ولحظة يظهر محمد عبد الوهاب وآلة العود يصطحبها معه , ودخل الغرفة ويقول , أعذروني آسف جدا لتأخري , فقد أصاب السيارة عطب , كنا أنا والعم عبدو في الطريق من القاهرة إلى صحراء تونس تعطلت بنا السيارة وعجلتها انفجرت بنا , كنا هالكين لا محالا لولا تدخل قدر الله ولطفه , المهم هو أننا لما تعطلت السيارة طلبنا المساعدة من السيارات المارة هناك , آه يا للكارثة لا مجيب لمن يستغيث , مدة طويلة ونحن واقفين هناك مابين الحدود التونسية الجزائرية ولا أحد قدم لنا المعونة , اضطر العم عبدو بأن يذهب على رجليه إلى الجزائر ويشتري العجلة ويأتي , حتى صادفه حمار الحكيم فكان أرحم , فركبه حتى وصل الجزائر واشترى العجلة ورجع , وأصلح السيارة , فعذرا وآسف جدا لتأخري , فأجابه شوقي باستغراب واندهاش , ألهذه الدرجة لم تجد من يساعدك ؟ أجابه إيليا , وهل يستنجد غريق بغريق , يرد عليه جبران , في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك , غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلهما لتستريح من أوجاعها بل تكتفي بتمريضها وتنظيف خارجها وملئ ثقوبها بالذهب اللماع.فيقول الحكيم , أنظر جيدا في المرآة , أنظر جيدا في المرآة , فقال نزار
شرقنا المجبر .........تاريخا .......... وأحلاما كسوله
وخرافات خوالي .......................
شرقنا, الباحث عن كل بطوله
في ........... أبي زيد ا لهلالي
ويسترسل نزار الحديث , فيقول , أطرب لنا يا عبد الوهاب فقد اشتقنا إليك كثيرا , أجابه عبد الوهاب , دعنا نرى ماذا هناك على أطباق الفضائيات , ربما سنجد هناك شيئا , فتح الشاشة الصغيرة , وراح يتجول بين محطات المغنى , شوقي يصرخ , ما هذا ؟ ما هذا ؟؟؟!!!! إيليا أبو ماضي قال
جئت لا أعلم من أين
ولكني أتيت
أبصرت طريقا قدامي
فمشيت
وسأبقى سائرا
إن شئت هذا
أم أبيت
كيف جئت
كيف أبصرت طريقي
لست أدري ؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!
جبران قال, هل في هذا العالم طائفة من الخرسان لأنتمي إليها ؟
و يقول الحكيم , ألم أقل لكم أن الذي سميناه حمارا في نظر الحقيقة العليا مخلوق يثير الاحترام , ومن يركبوه هم في نظر الحقيقة العليا مخلوقات تثير السخرية ؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!
فيقول نزار لعبد الوهاب , أنظر هذه المحطة إنه كاظم الساهر الذي تغنى بشعري , لحظة نسمعه ما ذا يقول ؟ أهذا كاظم الساهر؟! ما هذا الشيء الذي يقول , دلع ... دلع ... ماذا ؟ آه يا زمن لو كنت أدري أن الشعر سيتدنى إلى هذه الدرجة لأخذته معي , كارثة , فغير محمد عبد الوهاب المحطة ووجد أخرى فيها أغاني الزمن الجميل , فقال أنظروا هذه نجاة اسمعوها فقد تغنت بألحاني , اسمعوها ..... واستمعوا و أنا معهم أغنية نجاة * أسألك الرحيلا * , ولما انتهت نزلت أغنية أخرى بصوت وصورة عبد الوهاب فقالوا جميعا بصوت واحد :
أليست هناك أشعارا , اجتمعت فيها رونقة الشعر وسلاسته , مع أعذب الألحان , وأرق الأصوات غير نجاة الصغيرة وصفوان بهلول في هذا الزمن ؟ أم أن هذا الزمن لشعر يرفع صاحبه المفعول وينصب الفاعل ؟ لو كنا نعرف أن الشعر سينتحر , وأن الأدب سيموت , وأن الفلسفة ستذوب , وأن الفن سيكون ماجنا , لأخذنا حمولتنا معنا , وما تركناها ها هنا .
فقاموا جميعا ونظروا إلي وقالوا لي , وداعا , قلت لهم , أرجوكم لا تذهبوا , ابقوا معي ولو للحظات , قالوا , نشكر دعوتك لنا , وفتحوا الباب , فقلت , متى نلتقي .....؟ قالوا بصوت واحد , أنت لما أردت أن نراك كتبت لنا الدعوة , فمن يرغب بلقيانا سيبعث لنا كما فعلت أنت ,لقد كنا ضيوفا عندك , ونتمنى يوما ما أن نكون عند :
فاروق شوشة – طارق حجي – أحمد محمد عبد الرحمان – محمود الزهيري – أحمد طايل ........ واللائحة طويلة..............
نشكرك جزيل الشكر على هذه الدعوة , التي كنا ننتظرها منذ وقت طويل , فوداعا , فقلت لهم , لا بل إلى لقاء آخر , وأردت أن أخرج معهم فمنعوني , وبقيت وحدي في غرفتي والساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحا , وأخذت قرطاسي الأسود بين يدي وكتبت :
الدعوة إذن مفتوحة , وعلى الراغبين في استضافة عظماء الأدب العربي , ما عليه إلا أن يكتب العنوان التالي :
بيت العلم – شارع الأدب – الحياة
ويرسلها عبر تراسل الأرواح كما فعلت أنا , كان هذا هو احتفال بيوم مولدي الذي كان أروع احتفال عرفته في حياتي .
حبي , احترامي , أشواقي لكل من :
شوقي – جبران- إيليا – الحكيم- نزار – عبد الوهاب ...........
فدوى .