وتبقى الطفولــــــة ...لا زال يذكر ... منذ ثماني سنوات، جلس يكتب حديثا، بعد أن ألم به إحساس غريب .. لا زال يذكر أنه استيقظ مندفعا إلى المشاحنة بدون هوادة كعادته .. كان نومه يقظة، وكانت يقظته هذيانا وشرودا عميقا .. أما النوم، فبحث عنه دون جدوى في موج الإصطدام المتلاطم، وأما الهدوء، فصار في عداد المفقودين، إذ ترقبه طويلا في طفولته، لكن الشوق العاصف لم يكن ليسفر في النهاية إلا على ما هو من قبيل السراب ...
لازال يذكر أن خلجات نفسه اضطربت ساعتها، ثم أحس بملامح وجهه تتداخل، والأفكار في ذهنه تتضارب .. إحتمى بالكلمة كأنه غريب بين أهله، وكم حاول أن ينغمس في البكاء، لكن الدمع استعصى في عينيه .. حاول أن يصرخ بكل ما أوتي من قوة، فإذا بأعماقه تمتص صراخه .. إنقبض دم وجهه فجأة، وانتابته رعشة شديدة تملكت أوصاله .. عم الصمت بعدها المكان وشل لسانه، ولما أمسك بالقلم كتب هذه الذكرى القاسية ...
زمنا طويلا قضاه بين أصدقاء طفولته .. شاركهم ألعابهم وضحكهم، وبادلهم النكتة والبسمة، في حين كان يجد نفسه في عزلة عنهم بين الفينة والأخرى .. الأصدقاء أو(أولاد الحومة) أرجعوا سبب عزلته المتقطعة عنهم إلى عامل الخوف ..(ولد دارهم)، وهو كان يكره نعته بهاته الصفة، ومما كان يثيره ويوقظ غضبه واستياءه أكثر فأكثر، هو أن مواقفه التبريرية كانت تقابل من طرفهم بإصرارهم الشديد على نعته بـ(الخواف) .. كان كل واحد من أصدقاء طفولته يفاخر غيره، ويرى نفسه الأشجع والآخرين دونه في الشجاعة، أما هو فكان يجد في سلوكهم تهورا لا شجاعة، وطيشا وخيم العاقبة لا تعقلا ...
مع مضي الزمن، أحس أنه غريب بين أصدقائه .. طفل غريب بين الأطفال .. تضاعفت مضايقتهم له، وتجاوزوا بها حدود الإحترام، إذ صار شغلهم الشاغل هو الطعن في هدوء الغير، والإستمتاع بتوتره، وانفعاله، وغضبه ..
كره هذا النوع من التعامل، فبدأت على إثره هوة تنشأ بينه وبين العديد من الأطفال شيئا فشيئا، إلى أن قرر في النهاية اعتزالهم، بعدما أيقن أن لا توافق ولا انسجام يجمعه بهم، وأدرك أنه سينتهي لا محالة إلى مشاجرات معهم لا خير فيها .. كان الأمر عسيرا عليه في البداية، بحيث أصبح لقاؤه بهم نادرا جدا، بل وفضل تجنب رؤيتهم وسماع صوتهم، وذلك تفاديا لأي استياء أو تصادم، إلى درجة أنه بدأ يقلل من فرص مغادرته البيت ...
(فين غبورك أخاي..؟) سؤال واحد يتكرر ويعترض أذنيه كلما مر بأحد أصدقائه الأطفال .. سؤال لم يجد له إلا جوابا وحيدا، يرمي به إليهم جاهزا دون إيضاح يصحبه أو تفصيل: (غير هنا أخاي ..؟)
كانت عزلته ذات وقع شديد على نفسه .. زمن الطفولة .. زمن اللعب والمرح، والبراءة والإنطلاق ..أصبح شبه وحيد، بعدما ألف (الحومة) وأصدقاء (الحومة) ألفة شديدة، ثم إنه لا زال يذكر أنه بذل جهدا جهيدا ليعتاد على عالم عزلته الجديد، وكلما تذكر هجره لأصدقائه الصغار، أو سمع أصولتهم تتعالى في سماء الزقاق، وهم يتجارون ويتنادون، إلا واندفعت نبضات قلبه مسرعة، لا يستطيع معها تحكما في ارتباكه، ولما يجلس وحده، يشعر بارتياح يشوبه التدمر، وتسري آثار قشعريرة غريبة في جسمه الصغير، لكن إحساسا غريبا كان يوجه إليه الملامة أحيانا وأصبع التأنيب، وكثيرا ما كان يفضي به إلى الشعور بالندم على ما اتخذه من قرار، بينما يداهمه الدمع ويلهب أجفانه، أما السؤال الذي كان يفضي به إلى المرارة، وينتصب أمامه غير ما مرة كشبح مخيف، هو هل كان على صواب لما أقدم على قرار العزلة ..؟
حرم نفسه من اللعب في زمن اللهو والمرح .. حرم على نفسه التحدث إلى أقرانه .. كانت أطواره مثيرة، وكان قرار عزلته أكثر إثارة وهو يخطو أولى خطواته في تلك السن المبكرة .. حاول التأقلم مع فضاء ضيق لما وجد نفسه حبيس جدران البيت، لكنه فشل في تعويض حركة العالم الخارجي وصخب الأطفال ومتعهم، ومع ذلك قاوم الفشل باستماتة حتى لا يعود يوما إلى الإتصال بكل من عرفهم من (أولاد الحومة) .. كانت تجربة قاسية أطبقت بقساوتها على أنفاسه ...
بعيدا عن (الحومة) اكتشف بعد زمن غير قصير أصدقاء جدد .. أصدقاء المدرسة والدراسة، ولما كشفوا النقاب عن عزلته التي ولدت فكرتها في أعماقه وشبت وكبرت رفقته، أخذوا يوجهون له اللوم .. لاموه على قرار العزلة التي وأد نفسه فيها .. شجعوه على سحب قراره وقطع جذور هذا القرار، لكن لومهم وتشجيعهم حرك في نفسه آثار الماضي العصيب، التي ظلت زمنا تلف حبلها المعتم على أنفاسه فتخنقها ...
وتأتي المفاجأة .. بعدما استبعد تكسير عزلته القاتلة، التي تراكمت عقدها في نفسه، تحول لوم أصدقائه في المدرسة إلى قوة مكنته من الخروج إلى الحياة من جديد .. كانت ولادة جديدة وشاذة في ذات الوقت .. صار الكثير من أيام طفولته المفتقدة يحجب عنه ذلك البعض الآخر الذي عاشه بالفعل بين أصدقاء الطفولة والصبا ...
د. أبو شامة المغربي