أَيجلِسُ السَّـــحَابُ ؟!
تأملت قول عمرو بن برَّاق الثُّمالي يصف سحاباً :
أروى تهامةَ ثم أصبح جالساً ** بشعُوف بين الشَّثِّ والطُبَّاق
فتساءلت عن المعنى المراد هنا لـ " جَلَسَ " ..
أهو من استقرار السحاب كأنما هو جالسٌ ؟!
أي المعنى التقليدي لمفردة " جلس " كما في اللسان :
( الجُلُوسُ: القُعود. جَلَسَ يَجْلِسُ جُلوساً ، فهو جالس من قوم جُلُوسٍ .
والجِلْسَةُ الهيئة التي تَجْلِسُ عليها، بالكسر )
والمتأمل لبيت ابن برَّاق الآنف الذكر ، وبالمناسبة فهذا الصحيح في اسمه وليس " ابن براقة " كما في بعض الكتب وانظر منها ( صحيح الأخبار لابن بليهد 3/9 ) وهو في ذلك متابع لـ ( معجم البلدان ، ومعجم ما استعجم ) ، فذاك شاعر آخر يمني همداني ، وهذا ثمالي أزدي ..
أقول المتأمل للبيت ربما ظن بداهة أن الشاعر يصف هيئة السحاب ...
والصحيح _ كما ظهر لي والله أعلم _ أنه يريد أن يخبرنا عن المكان الذي غادر إليه السحاب ...
أي أنه كان مُتْهِماً فأنجَد ...
وهذا يوضحه جارُ ابن برَّاق أعني ساعدة بن جُؤَيَّة الهذلي إذ يصف السحاب وقد مَرَّه :
ثم انتهى بصري ، وأصبحَ جالساً ** منه لنجدٍ طائقٌ متغرِّبُ
قال شارح أشعار الهذليين :
يقول : ثم انقطع بصري دون هذا الغيم ...
قلت : وهذا يعني أن السحاب غادر وابتعد ولم " يجلس " بمعنى " يمكث " .
وأما قوله " متغرِّب " فكما في القاموس : " وتَغَرَّبَ: أتَى من الغَرْبِ. " أو بمعنى " ابتعد " المعنى المعروف ، وكلا المعنيين أوردهما السكري في شرح البيت ، وكلاهما يدلان على ما ذُكر .
ومما يذكر هنا أن السحاب في السَّروات أكثر ما يأتي من الغرب في الشتاء ثم يولي إلى نجد وهو ما يسمى بـ " الوسم " .
وعليه فـ " جلوس السحاب " إنما يعني أنه ارتفع عن الغور ، غور تهامة ...
قال في اللسان : " وجَلَسَ السحابُ : أَتى نَجْداً " .
واستشهد عليه ببيت ساعدة الآنف .
وقبلها قال : " والجَلْسُ: ما ارتفع عن الغَوْرِ ..
وزاد الأَزهري فخصص: في بلاد نَجْدٍ . "
وفي معجم البلدان : " جلس القوم إذا أتوا نجداً " وأنشد :
" شِمالَ مَنْ غارَ بهِ مُفْرِعاً ** وعن يَمينِ الجالِسِ المُنْجدِ " .
وأنشد أيضاً لابن هرمة :
" فإن سكنت بالغور حنَّ صبابةً ** إلى الغور ، أو بالجَلس حنَّ إلى الجلسِ "
قلت : ومما يذكر هنا أن إبراهيم بن هرمة ، آخر من يستشهد النحاة بشعره في النحو من ساكنة المدن .
وأورد الزمخشري في أساس البلاغة بيت دريد بن الصمة وفيه :
حرامٌ عليها أن ترى في حياتها ** كمثل أبي جعْدٍ فغوري أو اجلسي
وبضدها تتبين الأشياء ، ليكون ، فـ " غوري " أي اذهبي إلى الغور ، أي غور تهامة ، و " اجلسي " أي اذهبي إلى الجلس يعني نجداً ...
،،،،
وبعد فلقائل أن يقول : إن في بيت ابن برَّاق الثمالي
أروى تهامةَ ثم أصبح جالساً ** بشعُوف بين الشَّثِّ والطُبَّاق
ما يشير لجلوس السحاب بمعنى بقائه ...
فالسحاب أصبح جالساً بالشعوف وهي أعالي الجبال .
وقائل هذا جعل " الباء " هنا ظرفية ، أي جلس السحاب في شعوف الجبال ...
أو استعلائية بمعنى " على " .
ويمكن أن يجاب عليه بأحد أمرين ، ولست مستوثقاً منهما :
الأول / أن يقال إن " الباء " هنا تفيد المجاوزة بمعنى " عن " أي أن السحاب ذهب منجداً عن الشعوف ذات الشث والطباق ( وهما نبتان لا يكونان إلا في الجبال ) .
الثاني / أن يقال إن " الشُّعوف " هنا ليست بمعنى رؤوس الجبال أو ما أشرف منها على الغور ، وإنما هو " المطر الخفيف "
كما قال في اللسان : " والشَّعْفةُ: المَطْرةُ الهَيِّنةُ " .
وقال : " والشَّعْفةُ: القَطْرة الواحدة من المطر" .
فيكون المعنى أنه أروى تهامة ثم أنجَدَ " أي قصد نجداً " وإنما فيه قليل من مطر .
ورغم أني غير مطمئن للتوجيهين كليهما ، لكن لعل فيما سبق غنية ، والمجال مفتوح لمن أحب أن يدلي بدلوه ...
وليلحظ أن الشاعر ترك صرف " شعوف " ، فالبيت لا يستقيم بالصرف ...
وهذا موضع إشكال لدي ، فالغالب على أن " شعوف " بالضم ، جمع : شعَف ، هذا على الأصل .
ورواها ياقوت بالفتح وقال : " موضع بنجد " ... فليُتَامل .
فهل أخذها الشاعر ضرورة ، أم في البيت تصحيف ، أم جعلها علماً مؤنثاً ؟
وقد يكون في حسن التوجيه هنا ما يفيدنا فيما كنا بصدده من بحث ، وفوق كل ذي علم عليم .