العروبة والعرب في أدبيات الشعوبية
[align=center:70609a5944]العروبة والعرب في أدبيات الشعوبية[/align:70609a5944]
تشكل الآداب احد أهم عناصر ثقافة الشعوب وربما هي مصدرها الأول, والآداب بما فيها الشعر، والقصة, والخطبة والحكاية, والمثل والكناية فهي مرآة صادقة كونها تعكس الخلفيات النفسية والأخلاقية للشعوب وتعتبر مقياسا لتحضرها, وعادة ما يكون الأدباء هم حلقة الوصل الأولى التي تربط بين الشعوب فكريا وثقافيا وذلك لما يقدمونه من صور جمالية تخلوا من ألأمراض النفسية وعقد المتييز العنصرية والتفرقة الطائفية والتركيز على أظهار جوانب الشفافية وألأحاسيس المرهفة في الإنسان, إلا أن الحركة الشعوبية قد اتخذت من الآداب وسيلة لزرع بذور العنصرية والكراهية في نفوس أبناء أمتها تجاه العرب خاصة والإسلام عامة وكان الشعر احد أهم أفروع الآداب المستخدمة في هذا الإطار لكونه الأكثر التصاقا في عقول القراء والمستمعين والأسهل حفظا في الذاكرة ولذا نرى أن محمود الغز نوي احد أمراء الفرس واحد أعمدة الحركة الشعوبية في القرن الثلاث الهجري عندما حاول إن يؤجج مشاعر العداء الفارسي ضد الإسلام والعرب كلف الشاعر الشعوبي أبو القاسم الفردوسي بكتابة قصائد شعرية يمجد فيها تاريخ فارس وحضارتها ويشتم فيها العرب وحضارتهم الإسلامية ويحط من شأنهم, وقد تعهد له بأن يعطيه وزن ما يكتبه ذهبا وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته التي تخلوا من أي شاعرية واسماها الشاهنامه (ملك الكتب) حيث وضع جلها في شتم العرب وتحقيرهم وتمجيد الفرس وملوكهم، وراح العنصريون الفرس يحفضّون أبنائهم ويغذونهم بهذه القصائد وغيرها من الأشعار العدائية.
ومن نماذج الانتقاص والتحقير الذي كتبها الفردوسي في الشاهنامة (411-329هـ) تلك الأبيات التي يقول فيها:
زشير شتر خور دن وسو سمار
عرب را بجايي ر سيد أست كار
كه تاج كيانرا كند آرزو
تفو باد بر?رخ كردون تفو
وقد ترجمها الدكتور محمد علي اذر شعب الملحق الثقافي الإيراني السابق في دمشق وأستاذ الأدب العربي بجامعة طهران هكذا:
من شرب لبن الإبل وأكل الضب بلغ الأمر بالعرب مبلغا
أن يطمحوا في تاج الملك فتبا لك أيها الزمان وسحقا
وهناك أبيات أخرى مماثلة للفردوسي في الشاهنامة ومنها قوله:
سك در أصفهان آب يخ مي خورد عرب در بيابان ملخ مي خورد
وترجمتها: الكلب في أصفهان يشرب ماء الثلج, والعربي يأكل الجراد في الصحراء.
وقد أصبح التهكم والاستهزاء بالعرب وتحقيرهم سيرة الشعوبيين إلى يومنا هذا ولم تقتصر وسائلهم في التعبير عن عدائهم للعرب على هذا الباب من الآداب فقط بل أنهم سعوا في استخدام القصص وألاساطير وسيلة للحط من منزلة العرب وتأليب روح العداء في نفوس الأجيال فارسية اللاحقة ضدهم.
وانطلقت الحملة الشعوبية ضد العرب بعد ما أخذت الحضارة الإسلامية تزدهر وتنتشر بواسطة اللغة العربية التي طغت على لغة الأقوام والشعوب التي فتح الإسلام ديارها انذاك فالعربية إضافة إلى كونها لغة القرآن الكريم, فأنها أصبحت فيما بعد لغة الفقه والآداب وعلوم الطب والصناعة, وكانت مدارس خراسان ونيسابور وغيرها من مدارس بلاد فارس وبخارا وسمرقند عربية خالصة, وقد وضع أساطين العلوم الفلسفية والطبية والأدبية من أبناء تلك الديار من أمثال البيروني والفارابي والرازي جميع مصنفاتهم باللغة العربية وهذا ما أثار الشعوبيين وأغاظهم, حيث أنهم وكما يقول ابن حزم الاندلسي, كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكان العرب اقل الأمم عند الفرس خطرا تعاظم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة وقد اتخذ الصراع بين العرب والشعوبية ألوانا مختلفة, فقد وقفوا في وجه انتشار اللغة العربية وللتهوين من شأن العرب والانتقاص منهم ترجم الشعوبيون الشديدو العصبية كتبا في مناقب العجم وافتخارهم ورجم العرب بالمثالب وتحقيرهم.
ومن جملة ما وضعوه في هذا الشأن يمكن أن نستشهد بعدد من الكتب ومنها, كتاب مثالب العرب لهشام بن الكلبي حققه نجاح الطائي وأعادت نشره دار الهدى في بيروت عام 1998م, كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو من يهود فارس كتبا كثيرة تعرض فيها للعرب منها كتاب(لصوص العرب) وكتاب (أدعياء العرب) كما ألف كتاب (فضائل الفرس), وألف عيلان الشعوبي كتاب الميدان في مثالب العرب واتساقا مع هذا التوجه العنصري فقد ظهر شعراء وكتّاب آخرون في عصور متتالية مواصلين النهج الشعوبي الذي اختطه أسلافهم, وظهر من بينهم مهيار الديلمي (428ﻫ) وهو فارسي الأصل من أهل بغداد وقد غلا في أفكاره حتى قال له أبو القاسم ابن برهان: يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى أخرى فيها مجوسيا وأسلمت فصرت تسب الصحابة.
ولمهيار هذا ديوان شعر في أربعة أجزاء يتفاخر فيه على العرب بقومه, ويقول في إحدى قصائده:
لا تخالـي نـسباً يخفضني أنا من يرضيك عندَ النسبِ
قومي استولوا على الدهر فتى ومشوا فوق رؤوس الحِقبِ
عممـوا بالشمس هأماتِـهم وبنوا أبياتـهم بالشـهبِ
فأبي " كسـرى " على إيوانهِ أين في الناس أبُ مثل أبي
لقد استمرت المدرسة الشعوبية التي كان من أعمدتها الفردوسي والخيام وأبو مسلم الخراساني و أبا بكر ألخرمي الرودكي ومحمود الغزنوي تتناقل بين أحفادهم جيل بعد جيل حتى وصلت إلى اللصفويين الذين ألبسوها ثوبا جديدا وهو الطائفية, وقد تلبس الصفويون التشيع وادعوا النسب العلوي رغم أن المؤرخون الفرس يؤكدون أن إسماعيل ألصفوي قد ولد من أم ارمنية وأبا أذري وكان جده صفي الدين الاردبيلي شيخ طريقة صوفية سنية, إلا أن المصلحة القومية والروح العنصرية دفعتهم إلى التلبس بلباس التشيع وذلك لكي يضمنوا بقاء مدرستهم وانتشار أفكارها العنصرية.
وقد دأب الصفويون على شتم العرب بحجة الثأر لأهل البيت وقد أمروا كتابهم ووعاظهم بوضع الروايات والكتب التي ملؤها الشتم واللعن للصحابة والخلفاء والقادة العرب الذين كانت لهم القيادة في فتح بلاد فارس ونشر الإسلام في ربوعها.
ومن جملة ما وضعته المدرسة الصفوية, كتاب بحار الانوار للمجلسي الذي جاء بمئة وعشرون مجلد وقد دون فيه ألمجلسي ما طلبه الصفويون من الروايات والقصص التي تساعد على نشر بذور الفتن والتفرقة العنصرية والطائفية وقد جاء هذا الكتاب وهو يحمل بين دفتيه أفحش الجمل واغلضها ضد الرموز العربية الإسلامية.
ومن الكتب الأخرى التي وضعت في هذا الشأن كتاب (مفاتيح الجنان) لصاحبه عباس ألقمي وهو أيضا محمل بالسباب واللعنات للعرب وذلك كله بحجة الدفاع عن أهل البيت متناسين أن الأمام علي عليه السلام قد نهى شيعته عن السب والشتم وهذب أخلاقهم حيث قال (اكره لكم إن تكونوا سبابين) إلا أن هؤلاء الشعوبيين عادوا الأمام علي وتجنوا عليه بزعمهم الانتساب إلى مدرسته, وخير من كشف ضغينتهم وأوضح حقيقتهم هو شاعرهم الرودكي الذي قالها بصراحة:
عمر بشكست ?شته هجبران عجم را برباد فنا داد ر? وريش جم را
اين عربده وخصم خلافة زعلي نسيت با آل عمر كينه قديم أست عجم را
وترجمتها: أن الصراع والعداوة مع العرب ليس حبا بعلي والدفاع عن حقه في الخلافة, ولكنها
البغضاء والعداوة لعمر الذي كسر ظهر العجم وهد حضارتهم.
وهكذا بقيت المدرسة الصفوية الشعوبية على ديدنها فكلما أرادت إن تكيل الشتم والسب للعرب لجأت إلى اتخاذ الدين والمذهب غطاء لنفث سموهما, وهاهو شيخ السبابين مصباح اليزدي احد كبار أساتذة الحوزة الصفوية يفرد أكثر من مئة صفحة من كتابه سيرة سيد المرسلين لسب العرب ويدعي إن ما حمله القرآن من تحذير ونظير إنما هو موجه للعرب على وجه الخصوص, وأن الأقوام التي انزل الله عليها الغضب وأبادها كانت أقوام عربية وقد سميت بالعرب البائدة، والمعنيون بالجاهلية هم العرب تحديدا, وهناك الكثير من الأوصاف الشائنة التي ينسبها للعرب.
هذه مدرسة الشعوبيين وهذه سمومهم الفكرية التي بذروها في عقول أبنائهم وغزوا بها عقول وأفكار العديد من أبناء امتنا تحت يافطة الولاء لأهل البيت، ولكنهم...... يمكرون.
ــــــــــــــــــــــ
كاتب وسياسي عربي من الأحواز
e-mail: almousawi17@hotmail.com
ألف ليلة وليلة والتراث العرب
Quote:
Originally Posted by
عبد اللطيف ذياب أحمد
( الجزء الخامس
الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة
تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة
بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .
( الجزء السادس )
الباب السادس
السلطة العربية
في ألف ليلة وليلة
السلطة في الأمة تعني القيادة المسؤولة عن تطبيق القانون والعمل بمقتضاه ، وهي كفيلة بإقرار العلاقات بين الراعي والرعية ، على أساس من السلم والعدل والطمأنينة ، التي ينهض عليها بناء السلام الاجتماعي سليماً راسخ الأركان ، وهي ضرورة لازمة في بناء الأمة ، وركن أساسي من أركان الدولة ، لا يمكن الاستغناء عن هذا الركن أو تجاوزه بأي حال من الأحوال ، لما له من أهمية وخطورة في حياة الأمة واستقرارها ورقيها .
فبالسلطة وحدها يصان الدين والشريعة ، وبها تحافظ الأمة على سلامة كيانها وصون وجودها ، ومن ثم تحافظ على أمن واستقرار أبناء الأمة وإشاعة العدل فيما بينهم ، وتحفظ لهم دينهم ودنياهم ، أي أن السلطة هي الحارس الأمين للأمة في الداخل والخارج ، وإن ضياعها وهدمها يعني ضياعاً لهيبة الأمة وقوتها ، فيكون بذلك ، ترديها في مهاوي الفوضى والضياع ، ومن ثم استلابها وتفتتها وموتها .
وقد أوجبت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ، منذ القدم ضرورة السلطة للأمة ، فكانت في الإسلام ضرورة لازمة للحفاظ على الدين والدنيا ، [ مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد ، فالفسطاط الإسلام ، والعمود السلطان ، والأطناب والأوتاد الناس ، لا يصلح بعضه إلا ببعض ](1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا : يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي ،عليه الصلاة والسلام ، إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم (2) .
ولقد اتخذت الدولة العربية الإسلامية الوليدة الخلافة لنظام الحكم فيها ، فكانت الخلافة هي الشكل القومي المستحدث بها ، وقد وجدت في هذا الشكل من نظام الحكم التعبير الصحيح عن المجتمع العربي في صيرورته الحقة المنشودة ، والتجسيد السليم للأمة العربية في كينونتها الحقيقية المثلى ، وقد اتخذت هذه الخلافة شكل كيان دنيوي آخروي معاً ، جامعة بين السلطتين الروحية والزمنية التي تنتظم وتنظم حياة المجتمع العربي بكامله ، أفراداً وجماعات وهيئات ، وشعباً ووطناً وأمة وحضارة (1) .
فالسلطة في الدولـة العربيـة الإسلامية ، قامت على مبادئ الإسلام وأسسه ، ومن أجل تحقيق هذه المبادئ والأسس وصيانتها ، إذاً فهي من الإسلام وللإسلام ، فالسلطان والدين إخوان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر ، كما يُقال ، أي أن هناك علاقة عضوية متينة بين الإسلام وسلطته ، ونظراً لهذه العلاقة العضوية المتينة ، فإن أي تخريب لأي منهما يؤدي حتماً إلى تخريب الآخر .
فالغاية الأساسية من السلطة في الشريعة الإسلامية أن تحافظ على مصالح الأمة الدينية والدنيوية معاً ، لأنه منوط بها شرعاً العمل على تحقيق المصالح الدنيوية لأفراد الأمة ، ودفع المضار والمفاسد عنهم ، ومطلوب منها في الوقت نفسه أن تعمل على الحفاظ على دينهم وتحقيق المصالح الآخروية لهم ، وبمعنى آخر ، تقوم السلطة بتحقيق الغاية الأساسية من الحكم في الإسلام ، وهي حراسة الدين وسياسة الدنيا .
ـ 2 ـ
لقد أدركت الشعوبية قيمة السلطة العربية في استمرار الدولة العربية الإسلامية ، وقوة وعزة أبناء الأمة ، فعملت جاهدة على تخريب هذه السلطة ، والعمل على إضعافها بشتى الأساليب وبمختلف السبل ، المباشرة والغير مباشرة منها ، أما الأعمال المباشرة ، فقد تكلمت عنها كتب التاريخ بكثير من التفصيل ، والتي تتلخص بقيام الحركات المسلحة الهدامة ضد السلطة في الدولة العربية ، أما الأعمال الغير مباشرة ، فهي العمل على إظهار العرب بصورة لا تؤهل أياً منهم لإمارة أو قيادة دفة الحكم وإدارة المجتمع ، وإظهار السلطة العربية الإسلامية بمظهر مخالف لحقيقتها الحقة ، وذلك ليسهل على الشعوبية النيل منها .
وبما أن العدالة هي المعيار الرئيسي والأساسي الذي يحكم الناس بموجبه على صلاح السلطة أو الحاكم منذ أقدم العصور ، وخير الحكام بنظر الناس العادل وأسوأهم الظالم ، وأحسن ما يخلد ذكر الحاكم الصالح مناقبه التي تبين حرصـه على تطبيق العدالـة . لذا عملت الشـعوبية خيالها المريض في وضع القصص والحكايات الكاذبة ، وتزوير الأحداث التاريخية ، وغايتها من ذلك إظهار السلطة العربية الإسلامية ، بمظهر السلطة الجائرة الطاغية ، ولن تنسى الشعوبية بالمقابل من أن تتغنى بالحكام والملوك الأعاجم وتبيان سياستهم الرشيدة وعدلهم لرعاياهم ، وركزت بشكل خاص على الملوك وأكاسرة الفرس ووزرائهم .
حاولت الشعوبية إظهار ملوك وأمراء الدولة العربية الإسلامية بمظهر الكافرين المارقين الخارجين على تعاليم الإسلام ومبادئه ، وغايتها من ذلك الضحك على عقول العامة من الناس لكسبهم إلى صفها ، أو لتحييدهم على الأقل ، لأن الشعوبية تعرف تماماً أن الإسلام يوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم ، لقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، ولقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى الإمام فقد عصاني } .
وتعرف الشعوبية ، بأن الإسلام يمنع المسلمين من الخروج على الإمام أو الأمير طالما أنه مستكمل أسباب الإيمان ، لذا حاولت أن ترمي ولاة الأمور بمسائل يستنتج منها (( الكفر البواح )) الذي يجوز عند ذلك ؛ كما قال بعض الفقهاء ؛ منازعة الأمير والعمل على إبعاده من السلطة ، لأن الرسول الكريم ، قد أمر المسلمين بأن يرفضوا تنفيذ أوامر السلطان التي تتنافى مع نصوص الشريعة الإسلامية ، وأن يخلعوا هذا السلطان إذا بلغ كفره درجة الكفر البواح ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المرفوع:{لا طاعـة في معصية إنما الطاعة في المعروف } .
إن غاية الشعوبية في محاربتها للسلطة العربية الإسلامية ، ومحاولاتها المستمرة لتدميرها ، ما هي إلا تدمير أسباب قوة العرب الأساسية المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف ، ليتسنى لها إرجاع المجد الكسروي الغابر ، ومجد الدولة الفارسية التي سقطت تحت سنابك خيول العرب المسلمين ، فبقى هذا الأمل يراودهم ، فعملوا لتحقيقه وبشروا بعضهم بقرب بلوغ هذا الأمل ، فهذا أحد رجال الشعوبية من الفرس الموتورين والملقب بزيدان يقول عنه ابن النديم : ( أنه كان يزعم أنه وجد في الحكم النجومي انتقال دولة الإسلام إلى دولة الفرس ودينهم الذي هو المجوسية ، في القِران الثامن لانتقال المثلثة من برج العقرب الدال على الملّة إلى برج القوس الدال على ديانة العظائم ، يروم انقلاب الدولة )(1) .
وقد تعاظم هذا النهج ، الغير مباشر ، في التهجم على السلطة العربية الإسلامية ، وخاصة بعد فشل كل المحاولات الشعوبية المسلحة في تحقيق ذلك الأمل في إسقاط الدولة العربية الإسلامية وبعث دولة الفرس والدين المجوسي المندرس من جديد ، وقد أتاح لها هذا الأسلوب الماكر ، الوصول إلى غايتها السوداء ، فضعفت السلطة العربية وسقطت الدولة العربية الإسلامية ، وتشتت الأمة العربية إلى دويلات ضعيفة واهنة القوى ، وما زالت على هذا الحال المؤسف إلى يومنا هذا ، ومع كل هذا النجاح الذي حققته ، ما زال دعاتها الفرس الحاقدون ماضون في غيهم لطمس كل ما هو عربي .
ـ 3 ـ
لقد اتبعت الحكايات ؛ التي تمثل النتاج الشعوبي في هذا المضمار الأدبي ؛ الأسلوب القصصي في محاولتها مسخ الإنسان العربي ، وتشويه الدين الإسلامي الحنيف ، وتكدير صفاء الأخلاق العربية ، وتلطيخ الحياة الاجتماعية العربية ، واتبعت الأسلوب ذاته في محاولتها تشويه ومسخ السلطة العربية الإسلامية ، الممثلة للقوة الأساسية التي فيها يحافظ على كيان الدولة العربية والمجتمع العربي من الانحلال والضياع ، هذا الأسلوب الذي قدمته في الظاهر للتسلية والتظرف ، بينما أرادت منه في الباطن الوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة .
لقد أفلحت حكايات هذا الكتاب الشعوبي ، بفضل هذا الأسلوب الماكر في الوصول إلى غايتها في تشويه الصورة التاريخية الرائعة للأمة العربية ، وإعطائها بدلاً عنها صورة شوهاء قاتمة ؛ وقد رأينا في الأبواب السابقة ؛ كيف عملت مسخاً وتشويهاً وتحقيراً لكل ما هو عربي ، وسنرى في هذا الباب أيضاً كيف هاجمت هذه الحكايات الشعوبية ، السلطة العربية الإسلامية ، وبأي صورة كاذبة صورتها ، وبأي صفة دونية وصفتها .
ولكن قبل أن نبدأ بتبيان ذلك ، أرى من اللازم التكلم ولو بشكل موجز عن علمين من أعلام العروبة والإسلام ، تناولتهم الحكايات بشيء من التركيز وبكثير من التشويه والتقول الكاذب عليهما ، وحياكة الأحداث والحكايات المزورة حولهما ، هذان العلمان هما الخليفة العباسي هارون الرشيد ، والقائد العربي الحجاج بن يوسف الثقفي ، لأن في هذا توضيحاً وتبياناً للحقد الفارسي الشعوبي الأسود على الأمة العربية وعلى رجالاتها وقادتها العظام .
فالخليفة هارون الرشيد ، الذي اتهمته الحكايات بكل نقيصة ، من غدر وقلة وفاء ، والارتجال بالحكم وتسرعه في البت بأمور الرعية والدولة على غير هدى ، وبالظلم والطغيان ، إلى إظهاره فاسقاً رعديداً ماجناً ، يلهو ويلعب ولا يحلو له غير مجالسة المغنين والمغنيات ، ودار خلافته ماخور للعهر والفجور ، يقضي فيه أوقاته بين الجواري ومعاقرة الخمور ، فهو في مجالسه ؛ كما تصفه الحكايات ؛ تحف به الجواري والقيان ، وبين يديه الأباريق المترعة تترجرج أفواهها والكؤوس تتقارع حافاتها ، وما إلى ذلك من تهم وأكاذيب ، يفتقر إلى هيبة الحاكم وليس له من الصفات النبيلة شيء يذكر ، خالياً من كل عمل يحمد عليه . فما حقيقة هذا الرجل ؟ ولم هذا الهجوم القاسي المتجني عليه من قبل عامة الشعوبية ومن سار على منوالهم ؟ .
كان هارون الرشيد بحق ، واسطة عقد بني العباس رجولة ومروءة وديناً وعفة وتصدقاً ، ولم يكن متزمتاً جافاً ، بل يبيح لنفسه أن تلهو لهواً بريئاً شريفا ، كما أنه كان ذا جهاد صادق في سبيل الله ودمعة سريعة خوفاً من الله ، كان متديناً يحج سنة ويغزو أخرى ، كذلك مدة خلافته إلا سنين قليلة ، وهو أول من حج من الخلفاء ماشياً على قدميه ، كان يصلي في اليوم مائة ركعة ، ويتصدق من خالص ماله على الفقراء والمساكين في سبيل الله ، ولم يقرب منكر عمره كله [ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاواهم فيه معروفة ، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها ] (1) . لقد بلغت الدولة العربية الإسلامية درجة عالية من الحضارة والتقدم ، والقوة والمنعة والسمو والرفعة، مهابـة الجانب في الداخل والخرج ، مستقرة الأحوال الطرق آمنة والناس مطمئنة على حياتها وممتلكاتها مما حذا بالمؤرخين والمحققين إطلاق (( العصر الذهبي للدولة العربية )) على عصره .
هذا هو الخليفة هارون الرشيد باختصار شديد ، أما لماذا هذا الكره والحقد على هذه الشخصية العظيمة الذي وقع عليه من قبل الشعوبية ، فهناك أسباب كثيرة ، منها ميله إلى الجانب العربي ، وتمسكه ومحافظته على التقاليد العربية ومثل وأخلاق وقيم العرب ، فقد وقف بشدة وحزم ضد المفاسد والسموم التي بثها الفرس الزنادقة ، من مجون ومعاقرة الخمور في المجتمع العربي المسلم [ ولم تقف حكومة الرشيد مكتوفة الأيدي أمام هذه المفاسد ، بل أخذت الشرطة تطاردهم حيثما وجدتهم ، وتعاقبهم وتنزل بهم القصاص الشرعي من جلد وحبس وغيره ](1) ، هذا كله أغاظ الشعوبية التي حاولت أن تدمر المجتمع العربي ، عن طريق إشاعة الفساد واللاأخلاقية بين أبناء العروبة .
ومما زاد في غيظها وأفقدها رشدها وصوابها ، قيام الخليفة بعمله التاريخي العظيم في القضاء على العائلة البرمكية الفارسية التي كانت تمثل رأس الأفعى للشعوبية ، المنعقد عليها آمال الفرس في إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، فنكل بهم شر تنكيل واجتث جذورهم المتغلغلة في جميع مناحي الدولة العربية ، وأنقذ بذلك الأمة العربية من أخطر محاولة شعوبية ، مرسومة بكل دقة ومكر ، وأبعدها أثراً في الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والسياسية ، وكان الشعوبيون الحاقدون قد عقدوا الآمال الكبار على هذه الأسرة الفارسية في الوصول إلى بغيتهم وتحقيق أحلامهم الخائبة .
لهذه الأسباب مجتمعة ، كان عداء الشـعوبية ، لهارون الرشيد ، وصب حقدها الأسود عليه ، حيث حاولت جاهدة في أن تشوه سيرته الطيبة ، من خلال وضع الحكايات الكاذبة واختلاق الأحداث المزورة للنيل من دينه ودنياه ، ولأن تاريخ هذا العلم العربي كتب بيد فارسية حاقدة ، فإن كل ما جاء عنه في هذه الكتابات مشكوك فيه ، يجب إعادة النظر بما كتب ونسب لهارون الرشيد من أكاذيب أو لغيره من أعلام العروبة .
أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي أظهرته الحكايات ، بالطاغية الذي لا يرحم ، الخارج على الدين ، الظالم الذي لا يخاف الله ، الموغل بالكذب والأفك والخداع ، ذي نفس جبلت على الحقد والغدر واللصوصية ، والتي حاولت الحكايات النيل منه في كل مناسبة وبأي شكل كان . فحقيقة هذا العربي الفذ العظيم ، خلاف ذلك تماماً ، فالحجاج كان رجلاً متديناً إلى درجة لا يرقى إليها الشك ، مستقيماً لا تأخذه في قول الحق وفعله لوم لائم عفيفاً عن أموال الغير غيوراً على أعراض الناس ، [ وكان صادقاً يكره الكذب ويحب الصدق ويعفو عنه ](1) .
وهو القائد العربي الفذ الذي استطاع بحكمته وقوته وتصميمه وصبره على أن يقضي على فلول الفرس القائمين على رأس الشعوبية العاملة حينذاك على مسخ عروبة العراق ، ولإثارة الفوضى والحروب داخل الدولة العربية الفتية ، إنه الأمير العربي الذي أنقذ عروبة العراق وبكل شجاعة من مؤامرات الفرس الحاقدين ، أي أنه هو القائد العربي الفذ الذي ألجم صوت الشعوبية في العراق ، وثبت السلطة العربية في هذه المنطقة الخالصة العروبة ، التي كانت مأوى الدهاقنة الفرس الحاقدين على العرب والعروبة ، ومسـرحاً لنشـاطهم التخريبي الموجه إلى الأمة العربية ، وهذا ما أكسبه عداء الشعوبية ؛ التي أعلنت حرب لا هوادة فيها عليه وعلى سيرته العظيمة ؛ إلى يومنا هذا .
ـ 4 ـ
لقد ركزت الحكايات على إظهار ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية بمظهر لا أخلاقي رخيص ، ووصمتهم بكل نقيصة وقبيحة ، فهم يرتكبون المحرمات عياناً ولا ينهون أحداً عنها ، فالخمر أصبح عندهم مباح يعاقرونه علناً ولا يردعون رعيتهم عنه وهذا كذب وافتراء ،لأن العرب لم يستسيغوا هذه العادة الوافدة ، ثم من المعلوم أن الخمر محرم في الإسلام ، وقد أمر الله باجتنابه، حيث قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } ، ومن ثم كانت العرب أسبق من غيرها في معرفة مضار الخمر على الفرد والمجتمع ، ولهذا لم يتفشى بين العرب المسلمين ، فكيف له أن يتفشى بين حكامهم ؟ والموانع كانت أمامهم كثيرة تمنعهم من السقوط في هذا المستنقع الآسن .
لقد جاء في كثير من الحكايات ، بأن قادة الدولة العربية الإسلامية يتعاطون المسكر ، واتهمت بعضهم بصريح العبارة ، فلا يمر ذكر مسئول عربي في الحكايات إلا وقرن به تعاطي الخمور . وقد ركزت بشكل واضح على الخليفة هارون الرشيد ، أظهرته في أحداثها ، سكيراً مدمناً على الخمور . هذا الاتهام الباطل لهذا العلم العربي العظيم ، يرِد كثيراً في أحداث الحكايات ، نورد هنا مثلاً واحداً إلى ذلك ، مع كثرة الأمثلة الموجودة في هذا الكتاب الشعوبي،تقول إحدى الحكايات [ ثم دنى من التخت ؛ أي الرشيد ؛ فرأى الذي فوقه صية نايمة وقد تجللت بشعرها فكشف عن وجهها فرآها كأنها البدر ليلة تمامه فملأ الخليفة الكأس من الخمر وشربـه على ورد خدها ومالت نفسه إليها فقبل أثراً كان بوجهها ](1).
كما اتهمت ؛ هذه الحكايات الشعوبية ؛ الخليفة عبد الملك بن مروان بمعاقرة الخمر ، هذا الخليفة التي أجمعت المصادر العربية التاريخية على تقواه وورعه ، يقول الخضري بك رحمه الله في عبد الملك : ولما شب كان عاقلاً حازماً أديباً لبيباً وكان معدوداً من فقهاء المدينة يقرن بسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وقال الشعبي ما ذكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فأني ما ذكرت له حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه(2) . فهل يعقل على من كان على هذه الدرجة من المكانة العظيمة والمعرفة الواعية بأمور الدين أن يخرج على تعاليم الدين ويقع بالإثم وارتكاب الموبقات ؟ كيف يعقل أن يكون هذا الخليفة قد عاقر الخمر ؟ وكيف يعقل أن يرى أخته في مجلس تدور فيه كؤوس الخمر على جالسيه ولا يحرك ساكن ؟ ، هذا ما لفق عليه في كتاب ألف ليلة وليلة الشعوبي ، ففي حكاية نعم ونعمة [ ثم أن نعماً أعطت العود لسيدها نعمة وقالت غني لنا شعراً فأخذه وأصلحه وأطرب بالنغمات فلما فرغ من شعره ملأت له قدحاً وناولته إياه فأخذه وشربه ثم ملأت قدحاً آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته ، ولم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار وهم في لذة وحبور وفرح وسرور فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين فلما نظروه قاموا إليه وقبلوا الأرض بين يديه واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدمته لأخيها فأكل وجلـس معهم في تلك الحضرة ثم ملأ قدحاً وأومى إلى نغم أن تنشد له شيء من الشعر فأخذت العود بعد أن شربت قدحين وأنشدت 00 فطرب أمير المؤمنين وملأ قدحاً آخر وناوله إلى نغم وأمرها أن تغني ](1) .
إن ذكر الخليفة عبد الملك بهذه الصورة ، له أسبابه ودوافعه عند عامة الشعوبية ، فهو الذي جمع أمر الأمة العربية ، ووحدها وقضى على الفوضى والاضطرابات التي كادت أن تعصف بها ، والتي تشكل مثل هذه الحالة البيئة المثلى لتحرك الشعوبية التي لا تستطيع الصيد إلا بالماء العكر . وهو الذي عرَّب الدواوين من الفارسية إلى العربية ، فكان هذا العمل العظيم فيه الضربة القاصمة لظهر دعاة الشعوبية من الفرس ، ويظهر أثر هذا العمل جلياً في قول الفارسي ( مردانشاه بن زادان فروخ ) لناقل الديوان إلى العربية :قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية (2) ، وهو الذي قضى على فلول الشعوبية المتآمرين على الدولة العربية ، بسحق دهاقنة الفرس المجوس في العراق العربي ، وذلك بواسطة عامله العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، لكل هذه الأعمال العروبية التي قام بها أثارت حفيضة الشعوبية عليه ، فناصبته العداء وناصبت قادته الذين ساعدوه في أعماله العظيمة هذه ، نفس العداء .
وأظهرت الحكايات كثيراً من الشخصيات العربية الإسلامية الأخرى ، بهذا المظهر المجافي لروح الإسلام ومبادئه ، فهذا الخليفة الأمين وذاك الخليفة المأمون ، وهؤلاء الأمراء كأبي عيسى وعلي بن هشام وغيرهم ، ناهيك مِن مَن ذكر من عليّة القوم وعامة العرب ، جميعهم يشربون الراح في الليالي العجاف وفي الليالي الملاح على حد سواء .
وصورت الحكايات قصور الخلفاء بصورة زائفة ، أظهرتها في أحداثها وكأنها مواخير للدعارة والفجور ، أعدت لتعاطي المسكرات وممارسة العهر والفسق والمجون ، لا لإدارة البلاد والنظر في أمور العباد ، فترينا الحكايات من خلال أحداثها صورة لما يجري داخل هذه القصور ، فهذه جارية تترنح من السكر في ممرات القصر ، وتلك جارية أخرى تتعاطى اللذة المحرمة مع عشيقاً ، وهذه زوجة الخليفة تحيك مؤامرة ضد إحدى الجواري التي سلبت منها زوجها والخليفة لا عمل له إلا الدوران على مقصورات الجواري ، يغازل هذه الجارية أو يشرب الخمر على ورد خدود تلك ، أو يراود إحداهن عن نفسها ويطلب منها الوصال ، لا يخلو ركن من أركان قصر الخلافة ؛ في ليل أو نهار ؛ من آلة تعلو بالنغمات أو من مائدة عامرة بالخمور ، أو من عناق وتقبيل ولعب ولهو ومجون ، ولا راحة لأمير المسلمين ولا تطيب له نفساً إلا النوم بين جاريتين أو أكثر ليلعبن له في جهازه التناسلي لتخفيف شبقه وصبوته ، وإذا وقع بغرام جارية ؛ وكم يقع في ذلك على رأي الحكايات ؛ نسيَ كل شيء ، الخلافة والرعية والأهل والولد ، بل نسيَ نفسه ذاتها .
نرى هذه الحالة في حكاية الرشيد مع الجاريـة قوت القلوب [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاضي وقعد شهراً كاملاً لا يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ] ، وعندما يعظم ذلك على أرباب الدولة لا يجدون من يشكون إليه سوء الحال إلا جعفر البرمكي ؛ وهنا إشارة خبيثة من دعاة الشـعوبية ، وهي أن السياسـة للفرس وحدهم ولولا خبرتهم ومهارتهم في هذا المجال لما استطاع العرب تسييس أمور دولتهم ؛ فتتابع الحكاية قولها : [ فصبر الوزير على أمير المؤمنين حتي كان يوم الجمعة فدخل الجامع واجتمع بأمير المؤمنين ] ، ويحاول البرمكي مع الخليفة لإرجاعه لعقله وترك ما اعتراه من هوى ، ولم تنسَ الحكاية من إظهار معرفة البرمكي بخفايا السياسة وإدارة الأمور [ واعلم يا أمير المؤمنين أن أحسن ما تفخر به الملوك وأبناء الملوك هو الصيد والقنص واغتنام اللهو والفرص فإذا فعلت ذلك ربما تشتغل به عنها وربما تنساها ](1) .
ليس هذا فحسب ، بل أن حكام الدولة العربية ، في الحكايات ، يحبذون فجور حاشيتهم ومقربيهم ، لا يردعونهم ولا ينهونهم عن فسقهم وفجورهم وانحلال أخلاقهم ، بل يشجعونهم ويؤيدونهم على ذلك . نرى هذا عندما يأتي الخليفة هارون الرشيد إلى دار أبي نواس ويجده يعاقر الخمرة مع ثلة من الغلمان المرد ، يلوط بهم ويلاط به [ فلما غلب السكر على أبي نواس ولم يعرف له يداً من رأس مال على الغلمان بالبوس والعناق والتفاف الساق على الساق ولم يبالي إثم ولا عار ] ، فيستأذن الرشيد بالدخول ويؤذن له ، يرى الوضع المزري الذي كان عليه أبي نواس ورفقته ، يسأل الخليفة عن هذا الحال ، فيكون رد أبو نواس [ الحال يغني عن السؤال ، فبدلاً من أن يعتري الخليفة الغضب على هذا الفاسق الماجن أو ينهاه عن فجوره ، يأخذ الرشيد بممازحة أبي نواس فيقول :[يا أبا نواس استخرت الله تعالى ووليتك قاضي المعرصين ] ولم تنتهِ الحكاية عند هذا بل تستمر بإظهار جرأة أبي نواس على الخليفة ويسـأل : [ وهـل تحب لي هذه الولايـة يا أمير المؤمنين ] ، وعندما يرد عليه الخليفـة بالإيجاب ، يقول : [ يا أمير المؤمنين هل لك دعوة تدعوها عندي ] ، عندها فقط يغتاظ الخليفة ويترك أبا نواس وهو يضمر له الشر والانتقام ، لا على فسقه وفجوره أو غيرة على الدين الذي يلوثه هذا الماجن المأفون ، وإنما على ما لحقه من إهانة(1) .
ولا تكتفي الحكايات بتصوير حكام العرب بمحبذي الفسق والفجور ، بل يساعدون ندماءهم وحاشيتهم على الموبقات ، فهذا أبو نواس مرة أخرى ، يجده حاجب الخليفة مرتهناً في بعض خمارات العاصمة بغداد على ألف درهم أنفقها على الفسق والفجور والمجون مع أحد الغلمان المرد ، وعندما يحكي حكايته للحاجب ، يقول الحاجب [ أرني إياه - أي الأمرد – فإن كان يستحق ذلك فأنت معذور ] ، فلما يعرف الحاجب حال أبي نواس ومدى غرامه بذلك الغلام الأمرد [ فرجع إلى الخليفة وأخبره بحاله فأحضر الخليفة ألف درهم وأمر الحاجب أن يأخذها ويرجع بها إلى أبي نواس ويدفعها عنه ويخلصه من الرهن ] وعندما يحضر أبو نواس بين يدي الخليفة ، لا يذكر أمير المؤمنين أي شيء عن الموضوع ولا حتى أن يسأله عن حالته التي كان عليها ، وإما يطلب منه إنشاد الشعر ، وكأن شيئاً لم يكن قد حصل ، لأن مثل هذا الفسق والفجور ؛ حسب رأي الحكايات ؛ مألوف لديه لا تثير عنده أي غيرة على خلق ولا على دين (1) .
ـ 5 ـ
وتتابع الحكايات بنفث سمومها الشعوبية ، بإظهار ظلم وطغيان وعتو وتعسف ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية ، فهم يحكمون بأهوائه ونزواتهم ، لا كما أمر الله وكما تتطلبه العدالة ، يأخذون ما بأيدي الرعية لأنفسهم غصباً واقتداراً ، دون أن يستطيع أحد من دفع أذاهم أو منع ظلمهم وطغيانهم.
ففي حكاية خليفة الصياد ، نرى تعسف وظلم الخليفة الرشيد ، وعدم توانيه عن سلب أموال الرعية ولا يسلم منه حتى الفقراء منهم [ فلا بد أمير المؤمنين هارون الرشيد يسمع بخبرك من آحاد الناس فربما يحتاج إلى مال فيرسل إليك ويقول لك إني محتاج إلى مبلغ من الدنانير وقد بلغني أن عندك مائة دينار فأقرضني إياها فأقول يا أمير المؤمنين أنا رجل فقير والذي أخبرك أن عندي شيء من ذلك كذب علي وليس لدي ولا عندي شيء من ذلك فيسلمني إلى الوالي ويقول له جرده من ثيابه وعاقبه بالضرب حتى يقر ويأتي بالمائة دينار التي عنده ](1) ، بل أن حكام الدولة العربية الإسلامية قد تجاوزوا هذا الظلم والطغيان إلى ما هو أفضع وأبشع من ذلك ، فلم يكتفوا بسلب مال الرعية وأرزاقهم ، بل كانوا يسلبون نساءهم وجواريهم قهراً وغصباً . فهذه الجارية تحفة العواد ، في حكاية حسن البصري ، تخاف أن يتعرف أمير المؤمنين إلى زوجة حسن البصري منار السنا ، فيقتل زوجها ويأخذها منه غصباً ، تقول الجارية لسيدتها زبيدة زوجة الخليفة [ رأيت جارية في الحمام معها ولدان صغيران كأنهما قمران ما رأى أحد مثلها لا قبلها ولا بعدها وليس مثل صورتها في الدنيا بأسرها وحق نعمتك يا سيدتي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها وأخذها منه 00 وأنا أخاف يا سيدتي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها ويتزوج بها ](2) .
ونرى مثل هذا الظلم والقهر والتعسف بحق الرعية في الدولة العربية ، في حكاية مروان بن الحكم عامل معاوية بن أبي سفيان على المدينة المنورة ، حيث أنه يجبر الإعرابي على طلاق زوجته ثم يتزوج منها ، لأنه أحبها لحسنها وجمالها ، تقول الحكاية [ فلما وقفت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب فصار لي خصماً وعلي منكراً وأظهر لي الغضب وبعثني إلى السجن فصرت كأنما نزلت من السماء واستوى بي الريح في مكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم وأنا ضامن خلاصها من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البدل وأجابه إلى ذلك فأحضرني ونظر إليَ كالأسد الغضبان وقال يا إعرابي طلق سعاد قلت لا أطلقها فسلط جماعة من غلمانه فصاروا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجـد لـي بـداً إلا طلاقها ففعلت فأعادني إلى السجن فمكثت فيـه إلى أن انقضت العدة فتزوج بهـا وأطلقني ](1) .
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، والقائد العربي العظيم ، يستغل منصبه ، كما تقول الحكايات ، فيحتال على أخذ الجارية ( نعم ) زوجة التاجر نعمة تعسفاً ، وغايته من ذلك إرسالها إلى الخليفة عبد الملك بن مروا في دمشق [ لا بد لي أن أحتال على أخذ هذه الجارية التي اسمها نعم وأرسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لأنه لم يوجد في قصره مثلها ولا أطيب من غناها ] ، فبعد أن يفعل الحجاج فعلته الشنيعة بخطف الجارية بمساعدة من إحدى العجائز المحتالات ، يبدأ نعمة بالبحث عن زوجته ، فيداري صاحب الشرطة الأمر عن نعمة خوفاً من بطش الحجاج ، فإن سأله عن زوجته قال له لا يعلم ذلك إلا الله، ويشكو نعمة أمره إلى الحجاج نفسه ، فيظهر أسفه وعدم معرفته بهذه الفعلة الشنيعة ، ويأمر صاحب شرطته بالبحث عن الجارية المخطوفة من بيت زوجها ، ويعد زوجها بمجازاة مرتكب هذه الجريمة ، وأخير يعلم نعمة من أبيه بأن غريمه وخاطف زوجته هو الحجاج نفسه(1) . إن هذه الحكاية مع ما أظهرته من ظلم وجور وتعسف أمراء الدولة العربية الإسلامية ، فهي مكرسة تكريساً كلياً للنيل من الحجاج ، باتهامه باللصوصية والكذب ، [ فقالت أخت الخليفة يا أمير المؤمنين هذه نعم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأوصلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار ](2) .
ونجد استبداد الحكام العرب وطمعهم بما في أيد الرعية ولصوصيتهم ، في حكاية محمد الأمين ابن هارون الرشيد [ ثم أن محمد الأمين بن زبيد توجه يوماً لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقاة أن يكثر الشراب على جعفر حتى يسكره ثم أخذ الجارية معه ](3) ، فهذه الحكاية تتهم الأمين بشرب الخمر والخيانة والغدر بمن قام بواجب الضيافة نحوه ، ومن ثم اتهامه بالسرقة واللصوصية والاحتيال ، ولكن هناك ملاحظة هامة في هذه الحكاية ، وفي مثيلاتها التي يذكر فيها محمد الأمين ابن هارون الرشيد ، فكلما ورد اسم الأمين في حكاية من الحكايات نسب إلى أمه زبيدة لا إلى أبيه هارون الرشيد كما هو المفروض ، وهنا تكمن غاية شعوبية بكل تأكيد ، هي النيل من محمد الأمين ومن أمه زبيدة ، فمن محمد الأمين ؟ الذي ظهر في جميع الآثار الشعوبية بصورة الخليفـة الماجن المستهتر الفاجر ، إنـه الأمير العربي الذي وقف بحزم بجانب الصف العربي الذي كان في صراع مع العناصر الفارسية التي نشطت بعد موت الرشيد ، والتي وجدت في الأمين الخصم العنيد لها ، والمقوض لآمالها إن استمر في الخلافة التي هي حق شرعي له ، فحاكت المؤامرات ضده حتى استطاعت من إنهائه وقتله ، ومن ثم أخذت بتشويه سـيرته تشويهاً ليس له مثيل ، والنيل من زبيدة ابنة أبي جعفر المنصور العربية القريشية التي لعبت دوراً بارزاً في مجابهة المؤامرات الفارسية التي كان يحيكها البرامكة ضد الدولة العربية الإسلامية ، واستطاعت بذكائها أن تنبه زوجها الرشيد إلى مكر البرامكة وتحثه بالإسراع في القضاء على رؤوس المتآمرين الذين يحيكون هذه المؤامرات ضد بني قومها العرب ، لهذا حقدت عليها الشعوبية كل الحقد ، فعندما تنسب الحكايات محمد الأمين إلى والدته لا إلى والده ، تريد من ذلك المسبة والتشهير بزبيدة ، لأن في عرف العرب النسب إلى الأم شتيمة ، فإن أرادوا أن يشككوا بنسب شخص ما أو أن ينبزوا أمه بالفجور ، نسبوه إلى أمه ، قالوا ابن فلانة لا ابن فلان ، فالشعوبية بهذا الأسلوب القذر تحاول أن توحي للمتلقي بأن محمد الأمين أبن زنا ، وأن أمه زبيدة زانية ، ويمتد هذا السباب إلى العرب جميعهم ، فهم جميعاً أولاد زنا ونساؤهم فاجرات لا يحفظن فروجهن .
وهذه حكاية أخرى ، تظهر نوعاً جديداً من ظلم وجور الحكام العرب وتعسفهم واستبدادهم بالرعية ، فهذه حبيبة قمر الزمان كانت زوجة الصائغ البصري في أول أمرها ، وقدم زوجها الصائغ خدمة لوالي البصرة ، فأراد الوالي إكرامه فسأله أن يتمني عليه أي شيء يرغب فيه ، فيستشير الصائغ زوجته ، فتشير عليه بأن يطلب من الوالي أن يأمر رعيته بأن تُخلا شـوارع المدينة من المارة ضحى الجمعة ولمدة ساعتين ، ومن يُرى في الشارع أو مطلاً من باب أو نافذة في هذا الوقت يقطع رأسه ، ويستجيب الوالي لذلك وينفذ للصائغ هذا الطلب الغريب ، وكانت زوجة الصائغ تخرج في ذلك الوقت مع جواريها الثمانين فمن وجد من خلق الله في الطريق قتلته ، إن كان من أهل المدينة أو كان غريباً عابر سبيل فيها ، فضج الناس وتذمروا من هذه المصيبة ، ولكن أمر الوالي بقي نافذاً عليهم مقيداً لحريتهم ، لمجرد رغبة سخيفة أرادتها زوجة صائغ ثري قدم خدمة لذلك الوالي .
ـ 6 ـ
يظهر لنا كتاب ألف ليلة وليلة من خلال أحداث حكاياته ، صورة أخرى من صور جور حكام العرب المسلمين ، وذلك حينما تصور حال حاشية الحكام وولاتهم ووزرائهم ، فخليفة العرب المسلمين تحيط به حاشية جاهلة فاجرة ، لا همّ لها إلا الشراب والفجور والفساد ، وهو يستعين بالشطار والمحتالين في تسييس دولته وإذلال رعيتـه ، فيقدم هؤلاء اللصوص ويرتب لهم المراتب الكبيرة [ أنه كان في زمن خلافة هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف وآخر اسمه حسن شومان وكانا صاحبا مكر وحيل ولهما أفعال عجيبة فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة وجعله مقدم الميمنة وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة وجعل لكل منهما أربعون رجلاً مـن تحت يده ](1) .
وهذه دليلة المحتالة تصبح مقدمة بغداد ، ذلك عندما يعجب الخليفة هارون الرشيد بحيلها ومكرها ، فيطلب منها أن تتمنى عليه فتقول لـه [ إن أبي كان عندك حاكم البطانة وأنا ربيت حمام الرسائل وزوجي كان مقدم بغداد ومرادي استحقاق زوجي ومراد ابنتي استحقاق أبيها فرسم لهما الخليفة بما أرادتاه ](1).
هؤلاء الشطار يعيثون فساداً في الدولة العربية ويتصرفون بحياة الناس كما يحلو لهم وكما يشاءون ، وهم مطمئنون آمنون من أن ينالهم أي عقاب ، أو عتاب عن ما تقترفه أيديهم من جرائم ، وذلك لمساندة الخليفة لهم وإعجابه اللامحدود لأعمالهم القذرة ، فهذا أحمد الدنف يقتل عاملين يهوديين من عمال الخليفة ويسلبهم مالهم بدون خوف ولا وجل من أحد [ وخرجا من بغداد ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى الكروم والبساتين فوجدا يهوديين من عمال الخليفة راكبين على بغلتين فقال لهم أحمد الدنف هاتوا الغفر فقال اليهود نعطيك الغفر على أي شيء فقال لهم أنا غفير هذا الوادي فأعطاه كل واحد منهما مائـة وبعد ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين ](2).
ولن تنسى الحكايات من إلباس بغداد عاصمة الخلافة ، ثوب الفوضى والإجرام ، بتصويرها مأوى للشطار والمحتالين [ يا ولدي
لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار
كثير وتنبت فيها الشطارة كما ينبت البقل في الأرض ](1) .
هذه هي الحال التي عليها حكام الدولة العربية الإسلامية ، وهذه هي حاشية الخليفة هارون الرشيد وأعوانه ، ثلة من اللصوص والشطار والمحتالين رأس مالهم المكر والخداع والاحتيال ، هكذا أرادت ؛ حكايات هذا الكتاب الشعوبي ؛ أن تظهر حاشية الحاكم العربي .
والملفت للنظر في هذه الحكايات التي تتحدث عـن الشطار
والمحتالين لم يرد فيها ذكر البرامكة على الإطلاق ، بل لم يرد فيها ذكر لأي فارسي لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك بخلاف ما نجده في بقية الحكايات الأخرى ، وعندي : أن هذا الإغفال للبرامكة وسواهم من الفرس في حكايات الشطار ، له مغزى ومعنى وقصد ، وكأن الحكايات تريد أن تقول : أن هذه الأحداث وقعت بعد أن غدر الرشيد بالبرامكة فذهب بذهابهم خيار الناس وساستهم وعقلاؤهم ، ولم يبق أمام الخليفة هارون الرشيد غير الشطار والمحتالين والرعاع يعتمد عليهم في حكم الرعية ، فعاثوا بالعباد فساداً وخربوا البلاد باستباحتهم إياها نهباً وسلباً ، بعد أن كانت في ظل البرامكة الفرس تهنأ بالاستقرار والأمن والطمأنينة .
وتظهر الحكايات أمراء الأقاليم الإسلامية ، ظلاماً مجرمين ، يبطشون بالرعية مستغلين مناصبهم العالية في تحقيق أغراضهم ومقاصدهم ومآربهم الشخصية ، ففي الحكاية المنسوبة إلى المعين بن ساوي والفضل بن خاقان ، نرى هذا الاستغلال ، فعندما يقف دلال الجواري في السوق ، يحذر علي بن نور الدين بن الفضل من بطش المعين عامل الخليفة هارون الرشيد ويصف كره الناس له ، وينصحه أن يحمل جاريته التي كان يريد بيعها ، ويعود بها من حيث أتى ،فأن رآها المعين واشتراها فهو لا يدفع الثمن بل يكتب ورقة ، كما يفعل في كل مرة ، فلا يقبض الثمن منه أبداً . (1)
كما تصور لنا هذه الحكاية نفسها ، الصراع المستمر بين عمال الخليفة من أجل السلطان والنفوذ والبقاء في الإمارة ، فهذا الوزير الفضل بن خاقان نراه بصراع مستمر وعداء دائم مع المعين بن ساوي ، ويبقى هذا العداء قائماً حتى بعد موت الفضل ، نرى ذلك حينما يعمل ابن ساوي بكل جهده على إبعاد ابن الفضل علي نور الدين ، عن البلد بل يتآمر على قتله لكي يتخلص منه إلى الأبد .
وهناك في الحكايات صور كثيرة من هذا الصراع بين عمال ووزراء الخلفاء ، ففي حكاية الوزيرين شمس الدين ونور الدين ، عندما يموت الوزير نور الدين ، ويتقاعس ابنه حسن نور الدين عن مقابلة السلطان ، فيولي السلطان الوزارة لغيره ، نرى أن أول عمل يقوم به الوزير الجديد [ أن يختم على أماكن نور الدين وعلى ماله وعلى عماراته وعلى أملاكه ](1)، وذلك ليستخلصها لنفسه ، كما أنه أراد قتل ابن نور الدين خوفاً من أن يسترد مكانة أبيه ، لولا هربه بمساعدة أحد مماليك أبيه الذي سهل له الفرار وتخليصه من مصيره المحتوم .
وتخبرنا حكاية غانم بن أيوب ، عن جهل وحمق وطغيان أمراء الأقاليم الإسلامية وتعسفهم وظلمهم للرعية ، فعندما يرسل الخليفة هارون الرشيد مكتوباً لنائبه على دمشق يأمره فيه بالقبض على غانم [ ثم كتب مكتوباً للأمير محمد بن سلمان الزيني وكان نائباً على دمشق ، ومضمونه ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله لي ] ، لكن نائبه على دمشق لا يكتفي بتنفيذ ما أمر به بل يظهر تعسفه وطغيانه ، عندما يأمر زبانيته بنهب بيت غانم والقبض على أمه العجوز وأخته المريضـة [ فلما وصل المرسوم إليه قبله ووضعه على رأسه ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب فجاءوا إلى الدار فوجدوا أم غانم وأختـه قد صنعا قبراً وقعدتا عنده يبكيان فقبضوا عليهما ونهبوا الدار ولم تعلما ما الخبر ] (1) .
ـ 7 ـ
وصورت الحكايات الجهل الذي عليه حكام الدولة العربية الإسلامية ، وما هم عليه من حمق وسذاجة ، وعدم أهليتهم لحكم العباد ، وقلة درايتهم بأمور الإدارة والسياسة . متبعة في ذلك الكذب والتزوير والتهويل ، فهذه حكاية خليفة الصياد ، تظهر حمق وسذاجة الخليفة هارون الرشيد وقلة عقله وسفاهة حكمته ، حينما يضع مصير خليفة الصياد على كف عفريت [ أن أحضر خليفة الصياد وآمره أن يأخذ ورقة من هذه الأوراق لا يعرف ما فيها إلا أنا وأنت فأي شيء كان فيها ملكته له ولو كان فيها الخلافة نزعت نفسي منها وملكته إياها ولا أبخل بـها عليه وإن فيها شـنق أو قطع أو هلاك فعلته به ](2) .
وخليفة العرب المسلمين، في هذه الحكايات الشعوبية ، أحمق سفيه ، يوم ينسيه غناء الجارية أنيس الجليس ، مكانته العالية ومقامه الرفيع ، فيتصرف تصرف من كان في عقله مس من جنون ، فها هو ؛في هذه الحكاية ؛ يتسلق شجرة مطلة على المكان الذي توجد فيه أنيس الجليـس ليرى ما يحدث هناك [ فرأى شجرة جوز عالية فقال يا جعفر أريد أن أطلع على هذه الشجرة فإن فروعها قريبة من الشبابيك وأنظر إليهم ثم أن الخليفة طلع فوق الشجرة ولم يزل يتعلق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشبابيك ](1) وتتابع الحكاية في تشويهها لصورة الخليفة هارون الرشيد ، عندما يرضى أن يلبس ثياب كريم الصياد المليئة بالقاذورات [ يا كريم اقلع ثيابك فقلع ثيابـه وكانت عليه جبة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن وفيها من القمل الذي له أذناب ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض وقلع عمامته من فوق رأسه وكان له ثلاث سنين ما حلها وإنما كان إذا رأى خرقة لفها عليها وما كاد يلبسها الخليفة حتى جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي به ](2) ، لقد قام خليفة العرب المسلمين بكل هذه الحماقات ، ليشبع رغبة مجنونة راودته ، ليتمتع بسماع أنيس الجليس ، فعندما يجلس إليها ، بعد هذا العناء ، ويسمع غناءها ويطرب لصوتها الجميل ، ينسيه اندفاعه وطربه ونشوته ، من معاقبة خولي البستان الذي أقسم قبلاً على معاقبته بسبب إحداثه الهرج وإيوائه جارية غريبة مع صاحبها في بستان الخليفة ، مخالفاً أوامر الخليفة التي أمره بها بعدم السماح لأي كان في الدخول إلى هذا البستان .
ومثل هذه الحكاية كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، وبتركيز خاص على شخص هارون الرشيد ، فهو إذا أرق وجفاه النوم طلب من أعوانه أن يجدوا سبباً بإزالة هذه الحالة عنه وإلا ضرب أعناقهم [ وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك ](1).
وهذه حكاية أخرى ، حكاية الصبية المقتولة ، تصور كذلك حمق وتعسف الخليفة هارون الرشيد ، وطيش قراراته وعدم سدادها ، فهو يأمر ؛ كما تقول الحكاية ؛ جعفر البرمكي أن يجد قاتل الصبية وإن فشـل سيكون مصيره القتل [ وحق اتصال نسبي بالخلفاء من بني العباس إن لم تأتني بالذي قتل هذه الفتاة لأنصفها منه لأصلبنك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك ] ، ويكاد الخليفة أن ينفذ وعده بجعفر البرمكي عندما يعود إليه دون أن يجد قاتل الصبية ، فيأمر الخليفة بصلب جعفر البرمكي وأبناء عمومته ، وهنا تستغل الحكاية هـذا الحـدث لتظهر حب الناس لآل برمك ، فتقـول [ وصار الخلق يتباكون على جعفر وعلى أولاد عمومته ] وقبل أن ينفذ الخليفة ما عزم عليه ، يتقدم أحد الناس ويعترف باقترافه هذه الجريمة ، إن الذي دفعه للاعتراف ، كما تقول الحكاية ، حبه للبرامكة ولولا حبه لهم لبقي مستتراً ، هذه الصبية هي زوجة لهذا الرجل قتلها لشبهة لحقت بها . وتتابع الحكاية أحداثها الملفقة للنيل من الرشيد ، يأمر الخليفة بصلب الاثنين ، ولكن الحكاية لا تنسى هنا من إظهار عدل آل برمك وحسن حكمتهم ورجاحة عقولهم واهتمامهم بأمور الرعية ، عندما يقول جعفر للخليفـة [ إذا كان القاتل واحد فقتل الثاني ظلم ] ، وتؤكد الحكاية من جديد على حمق الخليفة وظلمه ، عندما يعرف سبب قتل الفتاة ، وأن المسبب الحقيقي لهذه الجريمة عبد من العبيد غير معروف الهوية ، فيقول الخليفة لجعفر البرمكي [ أحضر لي هذا العبد الخبيث الذي كان سبباً في هذه القضية وإن لم تحضره فأنت تقتل عوضاً عنه ](1) .
إن هذه الحكاية بقدر ما حاولت من النيل من حكام الدولة العربية الإسلامية ، حاولت كذلك أن تقول أن نكبة البرامكة التي نفذها الخليفة هارون الرشيد ، لم تكن بسبب جناية قد اقترفوها أو خيانة قد دبروها ضد الخليفة والدولة والأمة العربية ، وإنما كان سبب نكبتهم حمق هذا الخليفة وتهوره وجنونه التي راح ضحيتها هذه العائلة التي خدمت العباسيين بكل إخلاص ، ولكن التاريخ يكذب هذا التزوير وهذا الهذيان الشعوبي الأخرق .
ـ 8 ـ
هناك صورة أخرى زاهية عن الحكام جاءت بها الحكايات ، ألا وهي صورة ملوك التاريخ العظماء ، وجميع من ذكر فيها من الأصول الأعجمية الفارسية ، ولا يوجد بينهم عربي واحد ، هذه الصورة الزاهية ، أبرزت الصفات المثالية التي عليها ملوك الفرس وأمراؤهم ، فأظهرتهم آية في العدل والسهر على مصالح الرعية ، وعلو همتهم وروعة حكمتهم ورجاحة عقولهم . فهذه حكاية أنوشروان الفارسي التي يوصف فيها بالملك العادل ، فهو يُظهر يوماً المرض ويأمر ثقاته أن يطوفوا أقطار مملكته وأكتاف ولايته ليأتوا له بلبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها ، كما أشار عليه الأطباء ، وعندما يعود الثقاة إلى مليكهم ويخبرونه بفشلهم في إيجاد طلبه ، يفرح أنوشروان ويقول لحاشيته [ إنما أردت أن أجرب ولايتي وأختبر مملكتي لأعلم هل بقي فيها موضع خرب لأعمره وحيث أنه الآن لم يبقَ فيها مكان إلا وهو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجة الكمال ] ، ثم تأخذ هذه الحكاية بمدح ملوك الفرس بشكل صريح [ فعلم أيها الملك أن أولئك الملوك القدماء ما كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولايتهم إلا لعلمهم أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفر لأنهم كانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه حيث قالوا أن الدين بالملك والملك بالجند والجند بالمال والمال بعمارة البلاد وعمارة البلاد بالعدل في العباد فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم ولا يرضون لحشمهم بالتعدي علماً منهم أن الرعيـة لا تثبت على الجور وأن البلاد والأماكن تخرب إذا اسـتولى عليها الظالمون ](1) .
فأين حكام الدولة العربية الإسلامية ؛ في كتاب ألف ليلة وليلة ؛ من هذا كله ، فهم لا دين لهم ولا ذمة ، وبلادهم خراب تنعق بها وعلى أنقاضها الغربان ، ورعيتهم مقهورة مسحوقة تحت وطأة الظلم والطغيان ، وتفتقد هذه الرعية أبسط قواعد العدل والإنصاف وتفتقر للأمن والطمأنينة ، والمقربون من الحكام العرب يعيثون إفساداً وفساداً في الأرض أمام أعين أسيادهم ، فهم بالجملة ظالمون طغاة متجبرون .
وعملت الحكايات على تصوير عظمة آل برمك الفرس ، وإبراز حسن سيرتهم بين الناس ، وذلك كلما سنحت لها الفرصة بذلك ، فلا أحد يستطيع أن يفك العاني والمغموم وأن يقدم مساعدة لمن وقع في محنة ، غير البرامكة ، حتى الخليفة نفسه لا يستطيع أن يعمل عملهم الخيِّر اتجاه الرعية [ لا أحد يقدر على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك غير البرامكة ](1) . واتبعت الحكايات في ذلك أسلوب لا يخلو من الخبث والمكر للوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة ، فهي كلما أظهرت الخليفة الرشيد بمظهر مزري منحط ، أظهرت بالمقابل محاسن البرامكة وعظمتهم ، كما رأينا في حكاية الفتاة المقتولة ، التي تظهر مدى جهل وحمق الخليفـة الرشيد ، ومدى عدل وحكمة جعفر البرمكي .
ونرى مثل هذه المقارنة الشعوبية الماكرة ، في حكاية منصور بن زياد عامل الخليفة الرشيد ، فبينما تظهر الحكاية تشدد وتعنت الرشيد في معاملة رجاله وأعوانه ، المنكب على ملذاته ، الناسي أمور رعيته ، الغافل عن مشاكل دولته ، تظهر الحكايات وبنفس الوقت ، البرامكة الفرس ، بأنهم الملاذ الوحيد وملاك الرحمة في التخلص من هذا الظلم والتشدد والتعنت ، المسيرين أمور الدولة بكفاءة وخبرة عالية ، الساهرين على راحة الرعية ، فعندما يأمر الخليفة الرشيد عامله منصور بن زياد بتسديد ما عليه من ديون لبيت المال ، ويساعده البرامكة على تسديد هذا الدين ، ويعلم الرشيد بذلك ، يقول انه لا يقدر أحد على إنقاذ منصور إلا البرامكة ، فكأنه بهذا كان يعلم أن عامله لا يملك المال اللازم لسداد ديونه ، وأن طلبه تسديد ما عليه ، فيه تعسف وظلم وتكليف بما لا يطاق ، وأن البرامكة هم أصحاب فضل على من يغدر بهم الخليفة ، من الخاصة والعامة ، ويزيد فضلهم حينما ينقل إليهم الواشي جحود منصور ، وأن هذا الرجل الذي أنقذوه من موت محقق على يد الخليفة ، ينكر جميلهم عليه ، ويقر أنهم فعلوا معه ما فعلوه خوفاً منه لا كرماً منهم ، فيلتمسون له العذر ويسامحونه(1) .
وفي حكاية الحمال والثلاث بنات ، يظهر فيها وفاء البرمكي جعفر بن يحيى ، وحنث الخليفة الرشيد بالوعد وعدم وفائه به ، حيث أن البنات الثلاثة قد اشترطن على من حضر مجلسهن في تلك الليلة أن لا يسألهن شيئاً عما يرونه من حالهن ، وبعد أن يرى الخليفة ؛ المتنكر بزي التجار ؛ غريب حالهن ، يصر على معرفة أمرهن ناسياً الوعد الذي قطعه على نفسه ، ولكن جعفر لا يرضى أن يحنث بوعده فيقول : [ ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا شرطاً فنوفي به ](2) .
إن مثل هذه المقارنة الشعوبية بين جهل وحمق وظلم وغدر الخليفة الرشيد وبين عقل وحكمة وعدل ووفاء البرامكة ، كثير جداً في أحداث الحكايات ، وكأنها أرادت من هذه المقارنة الشعوبية تبيان سفه وجهل وظلم وغدر الحكام العرب المسلمين ، من خلال سفه وجهل وظلم وغدر الخليفة ،المفترى عليه هارون الرشيد ، ورشد وعقل وعدل ووفاء الملوك والأمراء الفرس ، من خلال رشد وعدل ووفاء البرامة الفرس .
# * # * #
لقد نجحت الشعوبية من خلال حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، من تشويه حقيقة السلطة العربية الإسلامية ، وإظهارها بمظهر الخارج على الدين ، الجائر على العباد ، الساهية عن أمور الرعية ، المنغمسة في الملذات والرذيلة ، وبذلك تسوغ للعامة الخروج على السلطة ، ودفعهم للعمل على هدمها ، وتحاول أن تؤثر في نفوس أهل الورع والتزمت من رجال الدين وعلماء المذاهب ، وتثيرهم عليها .