اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
اللغة والعصر
لم يبق في أرباب الأقلام ومنتحلي صناعة الإنشاء من الأمة من لم يشعر بما صارت إليه اللغة من التقصير بخدمة أهلها، والعقم بحاجات ذويها، حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعربين، وأصبحت الكتابة في كثير من الأغراض ضربا من شاق التكلف، وبابا من أبواب العنت. واللغة لا تزداد إلا ضيقا باتساع مذاهب الحضارة، وتشعب طرق التفنن في المخترعات والمستجدات، إلى أن كادت تنبذ في زوايا الإهمال، وتلحق بما سبقها من لغات القرون الخوال. ومست الضرورة إلى تدارك ما طرأ عليها من الثلم قبل تمام العفاء، وقبل أن ينادي عليها مؤذن العصر: سبحان من تفرد بالبقاء، ويختم على معجماتها بقصائد التأبين والرثاء.
تلك هي اللغة التي طالما وصفها الواصفون بأنها أغزر الألسنة مادة، وأوسعها تعبيرا، وأبعدها للأغراض متناولا، وأطوعها للمعاني تصويرا قد أفضت اليوم إلى حال لو رام الكاتب فيها أن يصف حجرة منامة لو يكد يجدها فيها ما يكفيه هذه المؤونة اليسيرة، فضلا عما وراء ذلك من وصف قصور الملوك والكبراء، ومنازل المترفين والأغنياء، وشوارع المدن الغناء، وما ثم من آنية وأثاث، ملبوس وفراش، وغير ذلك من أصناف الماعون وأدوات الزينة مما لا يجد لشيء منه اسما على معاني في قلبه لا يتسنى له إبرازها بالنطق، ولا يجد سبيلا إلى تمثيلها باللفظ، كأن المقاطع التي يعبر بها عن هذه المشخصات لم يخلق لها موضع بين فكيه، وليست مما يجري بين لهاته وشفتيه. فعاد كالأبكم يرى الأشياء ويميزها، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا بالإشارة، ولا يصفها إلا بالإيماء.
يتبع
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
ويا ليت شعري ما يصنع أحدنا لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية، ورأى ما ثمة من المسميات العضوية، من أنواع الحيوانات وضروب النبات وصنوف المعادن، وعاين ما هناك من الآلات والأدوات وسائر أجناس المصنوعات، وما تتألف منه القطع والأجزاء، بما لها من الهيآت المختلفة، والمنافع المتباينة، وأراد العبارة عن شيء من هذه المذكورات.
ثم ما هو فاعل لو أراد الكلام فيما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية والمكتشفات الطبيعية والكيماوية، والفنون العقلية واليدوية، وما لكل ذلك من الأوضاع والحدود ، والمصطلحات التي لا تغادر جليلا ولا دقيقا إلا تدل عليه بلفظه المخصوص.
لاريب أن الكثير من ذلك لا يتحرك له به لسان، ولا يتعهد له بين ألواح معجمات اللغة ألفاظا يعبر بها عنه، ولا يغنيه في هذا الموقف ما عنده من ثمانين اسما للعسل، ومئتي اسم للخمر، وخمس مئة للأسد،وألف لفظة للسيف،ومثلها للبعير،وأربعة آلاف للداهية، وما يفوت الحصر لشيء آخر حرص مؤلف القاموس على استقصاء ألفاظه لم يكد يذكر مادة إلا وفيها شيء يشير إليه ويدل عليه.
يتبع
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
على أن اللغة مرآة أحوال الأمة، وصورة تمدنها، ورسم مجتمعها،وتمثال أخلاقها وملكاتها، وسجل ما لها من علوم وصنائع وآداب، وإنما تضع منها على قدر ما تقتضيه حاجاتها في الخطاب، وما يمثل في خواطرها أو يقع تحت حسها من المعاني.
ومعلوم أن العرب واضعي هذه اللغة كانوا قوما أهل بادية، بيوتهم الشعر والأديم، ومفرشهم الباري والبلاس(1 ) ولباسهم الكساء والرداء،وأثاثهم الرحى والقدر، وآنيتهم القعب(2) والجفنة(3)، إلى ما شاكل ذلك مما لا يكادون يعدونه في حل ولا ترحال. فأين هم وما نحن فيه لهذا العهد من اتساع مذاهب الحضارة، والاستبحار في الترف واليسار، وكثرة ما بين أيدينا من صنوف المرافق وأنواع الأثاث والزخارف، من نحن فيه من التفنن في أحوال المجتمع والمعاش، فضلا عما بلغ إليه أهل هذا العصر من التبسيط في مناحي العلم والصناعة، مما كان أولئك بمعزل عن جميعه، إلا ما حدث بعد ذلك في عهد استفحال الإسلام، مما ذهب عنا أكثره، وما فيه لو بلغ إلينا إلا غناء قليل.
ومهما يكن من حال أولئك القوم، وضيق مضطرب الحضارة عندهم، وما نجد في ألفاظهم من الفاقة والتقصير عن حاجات هذا الزمن، فلا يتوهمن متوهم أن ذلك وارد على اللغة من هرم أدركها فقعد بها عن مجاراة الأحوال العصرية، وأناخ بها في ساقة (4) الألسنة. فإن معنى الهرم في اللغة أن يحدث عند المتكلمين بها معان قد خلت ألفاظها عنها، ثم تضيق أوضاعها عن إحداث ألفاظ تؤدي بها تلك المعاني، ولا تبقى صالحة للإستعمال، وحينئذ فلا يبقى إلا أن يلقى حبلها على غاربها، أو يستعان بغيرها على سد ما فيها من الخلل بما يغير من ديباجتها وينكر أسلوب وضعها، حتى تتبدل هيأتها على الزمن، وتصير على الجملة لغة أخرى.
هامش:
(1 ) البلاس: البساط من الشعر
(2) القعب:القدح من الخشب.
(3) الجفنة:الصفحة الكبيرة.
(4) الساقة: المؤخر.
يتبع
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
سلام الله عليك
لدي كتاب مفيد سأنقل منه بعض الفوائد في هذا الإطار
جهد رائع
سلمت
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
سلام الله عليك
أتدري ما قال جرجي زيدان في حق الشيخ ابراهيم اليازجي" ...إن الشيخ ابراهيم اليازجي هو اللغوي القدير، واللغة بين يديه كالشمع طواعية وليانا، فهو مالك زمامها، متسلط عليها، واقف على أدق أسرارها، متعمق في كل مناحيها ومبانيها، يريد أن يرجع بها إلى فصاحتها الأصلية وأن يفتح أبوابها لكل اختراعات العصر فتجاري الرقي العالمي." أظن بأن من واجبنا دعم مجهودات "الشيخ ابراهيم اليازجي " والتعريف بها. خاصة في ظل ما تعرفه اللغة العربية من نكران وتخبط.
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
وليس بمنكر أن ما وصفناه من هذا الحال يشبه في بادئ ما نشاهده من حالة لغتنا اليوم، وما لم نزل ننعاه عليها منذ حين، من تقصيرها عن الوفاء بمطالبنا العصرية،إلا أن ذلك إذا استقريت أوجهه وأسبابه، وسبرت غور اللغة في نفسها، وقست مبلغ استعدادها، علمت أنه ليس منها في شيء وأيقنت أنها لا تزال في ريعان شبابها وطور ترعرعها، وأن فيها بقية صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة. ولكن ما أدركها من ذلك وارد من قبل الأمة، وتخلفها في حلبة الحضارة والمدينة إذ اللغة بأهلها، تشب بشبابهم وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم.
وبديهي أن اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها. وقد اختصت هذه اللغة بميزية عز أن توجد في غيرها، وهي أن أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعا، إلا أنها من أكثرهن صيغا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب فضلا عما فيها من تشعب طرق المجاز.
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
واعتبر ما ذكرناه من ذلك بالرجوع إلى ما كانت عليه اللغة زمن الجاهلية، وفي صدر الإسلام، ومقابلتها بما بلغت إليه على عهد الخلفاء من بني العباس بعد سكون الغارات واستتباب الفتوح، وتنبه الأمة لطلب العلوم، وتبسطها في فنون الحضارة، بحيث خرجوا بها من حال الخشونة البدوية إلى أبعد مذاهب المدينة الشائعة لعهدهم ذاك، لم يكادوا يدخلون فيها لفظا أعجميا، ولا اضطروا فيها إلى وضع جديد، ولكنها خدمتهم بنفس أوضاعها التي وضعتها العرب، فاشتقوا منها ما لا عهد به للعرب على وجهه الذي نقلوه إليه، ولم تتكلم به أصلا حتى أحاطوا بصناعة الفرس وعلوم اليونان، وأدخلوا كثيرا من مصطلحات الأمم التي اجتاحوها شرقا وغربا، وزادوا على ذلك كله ما استنبطوه بأنفسهم، واللغة مشايعة لهم في كل ما أخذوا فيه، لم تنصب مواردها دونهم، ولا رأينا من شكا منها عجزا ولا تقصيرا، إلى أن أدركهم من تبدل الأطوار وغارات الأقدر ما وقف بهم عند ذلك الحد، فوقفت اللغة عند ما نراه في ما وصل إلينا من كتبهم. وتوالي الاجتياح بعد ذلك على الأمة وتتابعت دواعي الدمار، حتى اندرست أعلام حضارتها، وذهبت علومها أدراج الرياح، فزال أكثر اللغة من ألسنتها بزوال معانيها، حتى صار الموجود منها اليوم لا يقوم بخدمة أمة متمدنة ولا هو أهل لأن يبلغ بها ما منزلته تلك.
ولذلك فإن كان ثمة هرم فإنما هو في الأمة لا في اللغة، لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاصق بها ولا ملحق بها وهنا ولاعجزا، وإنماهو عجز في ألسنة الأمة ومداركها، وتأخر في أحوالها واستعدادها. ولو صادفت من أهلها البقاء على عهد أسلافهم من السعي في سبيل الحضارة، وتوسيع نطاق العلم، لم تقصر عن مشايعتهم في كل ما فاتهم من الأطوار حتى تبلغ بهم إلى مجاراة العصر الحالي.
انتهى.
رد : اللغة والعصر بقلم الشيخ ابراهيم اليازجي
Quote:
Originally Posted by طارق شفيق حقي
سلام الله عليك
لدي كتاب مفيد سأنقل منه بعض الفوائد في هذا الإطار
جهد رائع
سلمت
فضل العلماء على اللغة العربية وتعريبها
وضع الشيخ إبراهيم اليازجي :
الحاكي للفونوغراف
والمضخة للطلبما
والطلاء للفرنيش
والصرد لأعلى الجبل
والحسر لقصر النظر ( ميوب)
والمجلة للجورنال
ووضع الشيخ إبراهيم الحوراني :
المجهر للميكروسكوب
والمرقب للتلسكوب
والحوصلة للكبسولة
ووضع الدكتور يعقوب صروف
المصح للسناتورم
والصلب للفولاذ
الفسائل للمشاتل