الرد على الموضوع

أضف مشاركة إلى الموضوع: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

رسائلك

اضغط هنا للدخول

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

 

يمكنك إختيار أيقونة لرسالتك من هذه القائمة

الخيارات الإضافية

  • سيتم تحويلها www.example.com إلى [URL]http://www.example.com[/URL].

عرض العنوان (الأحدث أولاً)

  • 25/01/2008, 08:26 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    * كتب عن المؤلف*
    ............................

    1 ـ الفن القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين 1985ـ مكتب منيرفا بالزقازيق
    2 ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين 1986ـ مكتب منيرفا بالزقازيق
    3 ـ صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل ـ د. حسين على محمد 1999ـ دار الوفاء بالإسكندرية
    4 ـ فسيفساء نقدية : تأملات فى العالـم الروائى لمحمد جبريل ـ د . ماهـر شفيق فريد 1999ـ دار الوفاء بالإسكندرية .
    5 ـ محمد جبريل .. موال سكندرى ـ فريد معوض وآخرين 1999ـ كتاب سمول
    6 ـ استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ـ د . سعيد الطواب 1999 ـ دار السندباد للنشر
    7 ـ تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل ـ د . حسين على محمد 2001 ـ كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ الطبعة الثانية 2004 ـ أصوات معاصرة
    8 ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ـ نعيمة فرطاس 2001 ـ أصوات معاصرة
    9 ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب 2001 ـ هيئة قصور الثقافة
    10ـ محمد جبريل ـ مصر التى فى خاطره ـ حسن حامد 2002 ـ أصوات معاصرة
    11 ـ سيميائية العقد فى رواية النظر إلى أسفل ـ د . عبد الرحمن تبرماسين والعطرة بن دادة 2004 ـ أصوات معاصرة
    12 ـ المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل ـ د . محمد زيدان 2005 ـ أصوات معاصرة
    13 ـ التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ـ د . سمية الشوابكة 2005 ـ هيئة قصور الثقافة
  • 25/01/2008, 08:25 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    *مؤلفات محمد جبريل*
    ................................

    1 ـ تلك اللحظة ( مجموعة قصصية ) 1970 ـ نفد
    2 ـ الأسوار ( رواية ) 1972 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1999 مكتبة مصر
    3 ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( دراسة ) الكتاب الحائز على جائزة الدولة ـ 1973 هيئة الكتاب
    4 ـ انعكاسات الأيام العصيبة ( مجموعة قصصية ) 1981 مكتبة مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية
    5 ـ إمام آخر الزمان ( رواية ) الطبعة الأولى 1984 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 1999 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
    6 ـ مصر .. من يريدها بسوء ( مقالات ) 1986 دار الحرية
    7 ـ هل ( مجموعة قصصية ) 1987 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الإنجليزية والماليزية
    8 ـ من أوراق أبى الطيب المتنبى ( رواية ) الطبعة الأولى 1988 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1995 مكتبة مصر
    9 ـ قاضى البهار ينزل البحر ( رواية ) 1989 هيئة الكتاب
    10 ـ الصهبة ( رواية ) 1990 هيئة الكتاب
    11 ـ قلعة الجبل ( رواية ) 1991 روايات الهلال
    12 ـ النظر إلى أسفل ( رواية ) 1992 ـ هيئة الكتاب
    13 ـ الخليج ( رواية ) 1993 هيئة الكتاب
    14 ـ نجيب محفوظ .. صداقة جيلين ( دراسة ) 1993 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 مكتبة مصر
    15 ـ اعترافات سيد القرية ( رواية ) 1994 روايات الهلال
    16 ـ السحار .. رحلة إلى السيرة النبوية ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
    17 ـ آباء الستينيات .. جيل لجنة النشر للجامعيين ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
    18 ـ قراءة فى شخصيات مصرية ( مقالات ) 1995 هيئة قصور الثقافة
    19 ـ زهرة الصباح ( رواية ) 1995 هيئة الكتاب
    20 ـ الشاطئ الآخر ( رواية ) 1996 مكتبة مصر ـ ترجمت إلى الإنجليزية ـ الطبعة الثالثة 2002 هيئة الكتاب
    21 ـ حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) 1996 هيئة قصور الثقافة
    22 ـ سوق العيد ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب
    23 ـ انفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية
    24 ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
    25 ـ ياقوت العرش ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
    26 ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
    27 ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
    28 ـ مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) 1998 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2000 ـ المجلس الأعلى للثقافة
    29 ـ حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) 1998 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
    30 ـ حارة اليهود ( مختارات قصصية ) 1999 ـ هيئة قصور الثقافة
    31 ـ الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) 1999 ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
    32 ـ بوح الأسرار ( رواية ) 1999 روايات الهلال
    33 ـ رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) 2000 ـ مكتبة مصر
    34 ـ المينا الشرقية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
    35 ـ مد الموج ـ تبقيعات نثرية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
    36 ـ البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ( دراسة ) 2000ـ هيئة قصور الثقافة
    37 ـ نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) 2001 ـ مكتبة مصر
    38 ـ زمان الوصل ( رواية ) 2002 ـ مكتبة مصر
    39 ـ موت قارع الأجراس ( مجموعة قصصية ) 2002 ـ هيئة قصور الثقافة
    40 ـ ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ( رواية ) 2003 ـ روايات الهلال
    41 ـ حكايات الفصول الأربعة ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى
    42 ـ زوينة ( رواية ) 2004 ـ الكتاب الفضى
    43 ـ صيد العصارى ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى
    44 ـ غواية الإسكندر ( رواية ) 2005 ـ روايات الهلال
    45 ـ الجودرية ( رواية ) 2005 ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 : مكتبة الأسرة
    46 ـ رجال الظل ( رواية ) 2005 ـ دار البستانى
  • 25/01/2008, 08:24 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    ( 18 )
    *أطيـــــاف*
    .................

    لم أعد أدخل بالسيارة إلى الساحة الرملية . أقف على ناصية الشارع الضيق . أخترق الظلمة . أسير على قدمى . أخلف البيوت القصيرة المتلاصقة ، والساحة الرملية . أتعجل صدى الطرقات على باب بيت الريامى فى حضن الجبل .
    ينفتح الباب ، فيغمرنى الضوء . أعاود التأكد من إغلاق الباب وأنا أمضى ـ وراء سالم الريامى ـ إلى داخل الشقة . تأخذنا المناقشات ، نشرق ونغرب . يظل فى بالى ما رواه لى عن الأشباح التى تتحرك من مراقدها ، وتسير فى الظلمة ..
    كنت أحب الجلوس ، والتجول ، فى البيت ذى الحجرات الثلاث ، تذكرنى بسوق نور الظلام فى مطرح : الجدران المزينة بالسيوف والخناجر ومشغولات الفضة والسجاجيد الصغيرة والمسابح وزجاجات العطر والأوعية الخزفية الملونة وأوعية البخور والخرائط وصور القلاع والأبراج والحصون ..
    قال :
    ـ أحب التاريخ وما يتصل به .
    حين علا صوت سالم الريامى يحذرنى من العودة بالسيارة : ـ وراءك مقبرة ، تلفت ـ بتلقائية ـ من نافذة السيارة . الظلمة المتكاثفة لم تتح لى رؤية أى شىء ..
    شعرت بتململ الأرض تحت السيارة . كأن الأرض تضطرب ، كأنها تتهاوى من تحتى ، تبتلعنى . ثم سكنت . حدست أنه قد تحرك تحتها ما لم أتبينه .
    كيف لم أفطن ـ من قبل ـ إلى وجود هذه المقبرة ؟
    وجدت فى سالم الريامى ونساً وميلاً لمشاركتى كلام السياسة . نناقش ما نستمع إليه فى الراديو ، أو نقرأه فى الصحف . لا تستوقفنا قضية بالذات ، ما نلتقط خيطه نكره حتى يلتقى بخيط آخر ، أو يتشابك معه . ربما امتدت أحاديثنا ، نتكلم فى أحوال الجو ، وأسعار العملات ، ومباريات المصارعة الحرة التى يقدمها التليفزيون مساء كل جمعة .
    أتهيأ ـ بالتعب ، أو بتقدم الليل ـ للانصراف . المشوار طويل من الحمرية إلى سمائل ، حيث أقيم .
    قلت :
    ـ لماذا هنا ؟ ألا توجد مدافن ؟
    ـ كنا نحرص على أن يدفن الموتى بالقرب من أسرهم !
    كان سالم الريامى مدرساً فى المعهد الدينى بالوطية . تتناثر فى كلماته أسماء النبهانى والفراهيدى وصحار وجبرين ونزوى وبهلا وسمائل ومناطق أخرى تنتسب إلى التاريخ العمانى . يستعيد حكايات فى التاريخ ، يعرفها ، ولا أعرفها ، بالشخصيات والأحداث والتفاصيل التى ربما أهملها المؤرخون ، أو لم تستوقفهم طويلاً .
    يسحب كتباً من المكتبة الخشبية لصق الجدار ، وسط الحجرة ، ومن الكتب المكدسة فى زوايا الحجرة ، من الأرض إلى السقف . يقرأ أحداث أيام البرتغال ، ومقاومة العمانيين ، والقتلى الذين دفنوا فى مواضع موتهم . اقتحم جنود البرتغال بوابات المدينة : الباب الكبير ، الباب الصغير ، باب المثاعيب . امتد القتال إلى مطرح وروى والوادى الكبير والوالجة والحمرية ، حتى المدن البعيدة عن مسقط . دافع العمانيون من شارع إلى شارع ، ومن بيت إلى بيت . قاتلوا بالسيوف والبنادق والبلط ، بكل ما وصلت إليه أيديهم من سلاح . استعادوا ما استولى عليه البرتغاليون من أراض وحصون قلاع . ما استخدمه الجيش البرتغالى من أسلحة متقدمة ـ حينذاك ـ أتاح له أن يقتل الآلاف من العمانيين ، ويستولى ـ ثانية ـ على ما استرده المقاتلون العمانيون . توالت الأشهر والسنوات ، وهم يحاربون ، ويموتون ، دون أن يلقوا السلاح ، أو يعترفوا بالهزيمة . من يموت ، يدفن حيث هو بثيابه وسلاحه . مئات ، وربما آلاف ، القتلى ، دفنوا فى الساحة الترابية الواسعة . نقل لى رواية أبيه : قد يحزن الأسلاف ما يواجهه ـ فى دنياهم ـ الأبناء والأحفاد ، يخرجون لمناصرتهم حتى يقضوا على ما يعانون .
    ***
    هل كان ما رواه سالم الريامى دافعاً لما حدث ؟
    رأيت ـ وأنا أطل من نافذة السيارة ـ أشخاصاً يتحركون بين القبور الحجرية المتناثرة أعلى الجبل .
    أنا لا أومن بالأشباح ، ولا رؤية الأطياف والخيالات فى الليل .
    أرجعت ما رأيت لأنه حدثنى عن أطياف الموتى ، تغادر قبورها فى الليل ، تطل على الأحياء ، وتعنى بأحوالهم . يربط بين ما يراه ، وما ترويه الحكايات القديمة . تداخله سكينة ، تشوبها لحظات من التوتر . توالى الوقائع والتصرفات ، دون أن تسفر عما يؤذى .
    حيرته ـ فى البداية ـ ظواهر لا تفسير لها : اصطفاق أبواب ، تحرك أثاث من موضعه ، إضاءة الأنوار وإطفائها ، تعالى صيحات أو نداءات من مواضع لا يتبينها . لم يستتبع أية ظاهرة ضرر مادى من أى نوع . أهمل ما يراه ، أو يستمع إليه . ألف التعامل مع الأطياف . لاحظ أنها تختفى من الحجرة التى ينيرها ، أو التى يستضيف فيها من يسامره . هو ينير البيت أن احتاج إلى الراحة ، أو إذا تهيأ للنوم فى الليل . وإن صحا على الخوف من تحطم الأثاث ، الأصوات العالية ، المختلطة والمتشابكة ، تشى بحدوث شىء ما .
    ظلت تطالعه ـ فى الظلمة ـ كائنات غير واضحة ، وتترامى ـ من مواضع لا يتبينها ـ أصوات لم يسبق له سماعها .
    الأيدى التى لا يراها ، تنقل الأثاث من موضعه ، تأخذه إلى غير أماكنها فى حجرات البيت ، أو إلى الشرفة المطلة على الساحة الترابية ..
    لاحظ ـ ذات صباح ـ أن ضلفة دولاب الملابس مفتوحة . راجع ما بها ، فوجد كل شىء على حاله . تفقد ـ حين أتى الليل ـ داخل دولاب حجرة النوم ، وتحت السرير ، وخلف الأبواب ، وفى الطرقة المفضية إلى المطبخ والحمام .
    أغلق ـ بإحكام ـ باب حجرة النوم . ترك النور مضاء إلى الصباح . تحوط لانقطاع التيار الكهربائى ، بوضع شمعة وكبريت على الكومودينو المجاور للسرير .
    لم تعد تشغله ـ بتوالى الأيام ـ فكرة أن بشراً آخرين ـ يعرف أنهم موتى ـ أو كائنات لم يستطع تمييزها فى الظلمة ، يشاركونه الإقامة فى البيت . أدرك أنهم لا يقصدونه بالشر ..
    اعتاد اختفاء كتب من المكتبة الصغيرة ، أو من رصات الكتب ، وإعادتها إلى مواضعها . لا فوضى . يدرك اختفاء الكتب فى بحثه عنها ، فى المواضع التى يعرفها . يجول بنظره فى يوم تال . يجدها حيث كانت قد اختفت . تعلو أصوات سعال فى داخل البيت ، ومن الساحة الخلفية ، ومن ناحية المقابر . يترامى ـ كالهسيس ـ صوت الراديو . إغلاقه له فى يوم كامل ينبهه إلى أن الراديو فتح فى أثناء الليل . ثمة من حرصوا على سماع ما يشغلهم متابعته ، ثم نسوا الراديو مفتوحاً ، أو أنه صحا فانصرفوا قبل أن يغلقوه . تتقابل الكراسى ، أو تصنع دائرة ، فى الشرفة المطلة على الساحة الترابية الصغيرة فى وضع المناقشة ، كأنه قد جلس عليها من أمضوا الليل فى الحديث ، أو فى القراءة . يصحو على صوت ارتطام فى حجرة نومه ، أو فى الحجرة المجاورة . كل شىء على حاله . يثق أن الأطياف لا تقدم على فعل الأذى . ذلك ما تقدر عليه فى نومه ، هى تبحث عن شىء معين ، وتعيده . يفز لرؤية الملاءة تغطيه ، بعد أن نحاها أول نومه لحرارة الجو . بعد لحظات استعادة نفسه ، يدرك أنه لا يوجد ما يخيف .
    لم يعد يشغله صوت الأبواب وهى تفتح أو تغلق ، أو خرير الماء فى المطبخ ، أو هدير سيفون الحمام بما يعنى استخدامه .
    ربما وجد نور الحجرة المطلة على الواجهة مضاء . يطمئن إلى أنه أطفأ نور البيت . عدا لمبة صغيرة فى الطرقة الموصلة بين الحمام والمطبخ وبين بقية حجرات البيت . يثق العمانى ـ فى تصميم البيت ـ أن دورات المياه ملاذ للجان والعفاريت . يحرص أن يفصلها عن البيت . يضىء ما حولها ، فلا تتسلل المخلوقات النارية إلى بقية البيت . تحولت الأطياف إلى جزء من مألوف يومه ، يتحركون فى البيت منذ العشاء إلى ما بعد الفجر .
    ***
    هل كان ما يسمعه سالم الريامى فى الليل حقيقة ؟
    أمضيت زمناً لا أتردد على بيت الريامى . أستعيد ـ فى تكرار دعوته ـ أطياف الأسلاف ، وما رأيته بالفعل ..
    عدت بابتعاد الوقت ..
    تسلل إلى أنفى ما تصورته رائحة الموت ، ربما لأنى عرفت طبيعة الساحة التى أقف على حافتها .
    حاول أن يطمئننى بوقفته المتابعة ، داخل الشرفة المطلة على الشارع الترابى ، والساحة ، والجبل .
    عانيت الارتباك ـ ولعله الخوف ـ وأنا أعود بالسيارة إلى جانب الساحة ، حتى لا أسد الشارع الضيق . تجاهلت الخشخشة فى أسفل ، وإن حدست أنها لا تصدر عن أوراق شجر فى خلو المكان من الأشجار ..
    علت الخشخشة ، وما يشبه تساقط الأحجار فى الساحة الترابية أسفل الجبل . توالى انبثاق أطياف لا نهاية لعددها ، كأنهم قاموا فى حركة واحدة ، ملأوا الساحة ، عرايا ، أو لفوا أجسادهم بأردية عسكرية متهرئة . فى أيديهم بنادق قديمة وسيوف ودروع . لعلهم أوسدوها القبور إلى جوارهم . تكاثروا فى الساحة حتى امتلأت بهم تماماً . رءوس معلقة فى الهواء ، وأعين مسملة ، وأجساد بلا رءوس ، أو تمشى على قدم واحدة ، وأكتاف مبتورة الأذرع . يتجهون بأنظارهم إلى الأمام ، لا يلتفتون ، ويحيط بهم الصمت . كأن الأجساد المتقاربة ، والمتلاصقة ، أشجار فى مساحات لا نهاية لها .
    تملكنى الذهول لدقات طبول ـ لم أدرك مصدرها ـ ترامت من بعيد . انطلق الرصاص من بندقية طيف ، تبعها انطلاق الرصاص من بنادق الأطياف المتلاصقة .
    توالى إطلاق الرصاص ، فغطى الساحة وما حولها . علت دقات الطبول ، كأنها تريد نهايات المدى ..
    تراقص الأطياف بالبنادق والسيوف والعصى . أفسحوا وسط الساحة لطيف ، تدلى من صدره دف هائل ، توالى ارتفاع طرقاته عليه باشتداد حركات الراقصين ..
    بدا كأن الأطياف تتخذ تكوينات وتشكيلات ، ثم بدا كأنها تتحرك . تحركت إلى خارج الساحة ، غطت الشارع الضيق ، والبنايات على الجانبين ، وأسفل الجبل .
    تركت السيارة وعدوت ناحية بيت الريامى ..
    من وقفتى إلى جانبه فى النافذة المواربة ، شاهدت الأطياف تتجه ناحية الشارع الرئيس والشوارع الفرعية ، تتحرك فى خطوات بطيئة ، صامتة ، صفوف طويلة ، تمتد إلى غير نهاية .
    ظلت مساحة الأطياف تتسع ، وتتسع . ترافقها أصوات خشخشة وتكسير وهمهمات تشى بالتهيؤ لفعل ما .
    (تمت المجموعة)
  • 25/01/2008, 08:23 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (17)
    *فى حضرة الديوان*
    ..............................

    رأيت أنى وقفت على باب الديوان ، أنتظر المثول فى حضرة السيدة الرئيسة والأولياء الأربعة أعضاء المجلس : سيدى إبراهيم الدسوقى ، وسيدى أحمد الشافعى ، وسيدى الرفاعى ، وسيدى أحمد البدوى ..
    بدا المكان فى عزلة عن العالم . غابت حتى أصداء الأصوات ، فلا أدرى موقعه . التف بضبابية شفيفة . اتسمت التفصيلات بالعمومية ، وإن أطلت تأمل الباب الخشبى الهائل الارتفاع ، القاعة الفسيحة ، يتوسطها حوض من الرخام ، تنبثق منه المياه ، الفانوس النحاس الهائل يريق ضوءه على الردهة المستطيلة ، الواسعة ، الأسقف والزوايا مجفتة بالنقوش المذهبة . المروحة المتدلية من السقف تصدر طنيناً خافتاً ، رتيباً ، السجاد الأحمر يمتص وقع الأقدام . علقت على الحائط لوحة نحاسية مستديرة هائلة ، مزينة برسوم منمنمة ، وساعة مستديرة ، بيضاء ، التقى عقربا الساعات والدقائق ، فلا يتحركان . على إفريز النافذة الحديدية الصغيرة ، المطلة على المنور ، صينية مستديرة فوقها قلل فخارية ..
    كنت إذا ضاقت بى الأمور ، لجأت إلى الحلم .
    ما أفشل أن أحياه فى الواقع ، أترك خيالى يفعله فى الأحلام التى أحاول صنعها ، أو اجتذابها . أخضعها لما أريد . أحاول ـ بالتركيز الشديد ـ أن أنقل إلى الأحلام ما ألاقيه فى الواقع . ما يستدعيه الحلم لابد أن يكون موصولاً بالصحو ، بالواقع ، على نحو ما . الشر ، الأماكن ، النبات ، الطير ، الحيوان . حتى الجان والعفاريت تتشكل لها فى نفوسنا صور مما نقرأه ، أو ترويه لنا الحكايات والحواديت ..
    قبل أن أروح فى النوم ، أركز فى ما أريد أن أعيشه داخل الحلم : اسم ، مكان ، أمنية . أضعه فى تكوينات وتشكيلات حتى يمتلئ به الذهن تماماً .
    الحلم عزلة خاصة ، جزيرة أحيا فيها بمفردى . أستقبل من يهمنى رؤيته ، من لى معه صداقة وصلة . أعيش فى الحلم علامات وإشارات ، حكايات كاملة ومبتورة ، واضحة أو يغلفها الضباب . أتوق لتحقيق ما لا أدرك ملامحه جيداً .
    الحلم مرآة لما عشته فى النوم . يصدر من داخلى . أحاول تفسيره لفهم ما يحدث فى أثناء النوم ، وانعكاسات الأيام القاسية . يختلف عن فتح المندل وقراءة الفنجان والغيب ووشوشة الودع والتنبؤ وضرب الرمل وغيرها مما لا أعرفه ، ولا شغلنى . أطيل فى الصحو . لا أنام قبل أن تبدو الأبواب مفتوحة . أطمئن إلى خطواتى ، وما أتوقع رؤيته . أركز على ما حدث ، وتوقعات تشغلنى . هى آخر ما أفكر فيه قبل أن أذهب للنوم . أعد لها مخيلتى ، فتطالعنى .
    صرت أحيا مع الأحلام ، وما تهب من رؤى تظل معى فى اليقظة . أحلم ، وأحلم . ربما تكرر جو الحلم ، لا الحلم نفسه ، أكثر من مرة . سرت فى شوارع أثق أنى رأيتها ، وشوارع لم يسبق لى رؤيتها . اختلطت الميادين والأسواق والحجرات ومحطات السكك الحديدية والمطارات والموانى والحدائق والقطارات وعربات الترام والسيارات والحنطور والأبواب والنوافذ والجدران والردهات المعتمة والمقابر والأضواء والظلال والأطياف والأماكن المغلقة والأصوات العالية والهامسة ، ما تقول كلمات محددة ، وما يغيب عنها المعنى . حلمت بالقدرة على الطيران ، السير فوق الماء ، التقاط الثمار من أشجار خرافية ، مخاطبة الحيوان والطير والنبات .
    لم يعد ما أعيشه مقصوراً على أحلامى . تظل فى داخلى وأنا أمشى ، وأجلس ، وأصيخ السمع ، وأتكلم . جعلت نفسى حالماً جيداً . الأحلام خلاص مما أعانيه فى الواقع . حتى ما يبدو متعباً ، أو مخالفاً لتوقعى ، أتجاوزه بالانغماس فى الحلم مرة ثانية ، وثالثة .
    إذا صحوت على ما أخشى تصوره ، أو حدوثه ، تلوت آية الكرسى ، والمعوذتين ، وتمتمت بالأدعية . اعتبر ما رأيته فى الحلم كأنه لم يكن . ربما لجأت إلى الشيخ عبده المغازى إمام مسجد سيدى نصر الدين . يجيد تعبير الأحلام وتفسيرها . أستعيد ما ظل فى الذاكرة من أحلام الليلة السابقة . كما جرت . لا أضيف إليها ، ولا أحذف منها . أعطيه إنصاتى . يتحدث عن تفسيره لما يطالعنى من أحلام . يكرر اسم ابن سيرين بما يدل على صحة التفسير . يعيد لى أحلامى بالمعانى التى لم أفطن إليها . يفسر ما أقصه من رؤيا بما أتوقع حدوثه فى الأيام التالية ، أو يتحدث عما لا أستطيع فهمه ، ولا أدرك كنه معانيه . يضفى الأضواء والظلال ، ويجسد ما التف بالشحوب .
    لجأت ـ فى البداية ـ إلى ما يفعله كل ولى بمفرده ، بلا حاجة إلى المحكمة الباطنية ، ترأسها رئيسة الديوان ـ رضوان الله عليها ـ يساعدها فى ما تقضى به أولياء الله الأربعة .
    أعرف أن الديوان يدير حياتنا . جعل لنفسه مسئولية رعايتنا ، وحل مشكلاتنا . حاولت أن أسير إلى حيث يكون . ألجأ إلى المحكمة الباطنية . هدنى اليأس من محاكم الدنيا . لم أظفر بالعدل ولا الإنصاف ، ولا من يهبنى إنصاته . أقف بين يدى الحضرة ، أو أضع مظلمتى فى أيدى المريدين والحجاب والأولياء . ما أتمناه أن يحكم سادة الديوان بينى وبين أعدائى بالعدل ، رفع الظلم الذى أعانيه . لا أريد ما ليس من حقى ، ولا ما هو حق لغيرى . تنقلت بين العديد من الجوامع والمساجد والزوايا . حتى الأضرحة والمقامات المتناثرة فى الخلاء سعيت إليها . قرأت فى السير والكرامات والمكاشفات والحقائق التى تغيب عن البشر العاديين . حدست أن الديوان يعقد جلساته أسفل مقام السيدة زينب ، فهى رئيسة الديوان . انتقل توقعى إلى مقامات الشافعى والرفاعى والدسوقى والبدوى . زرتها . تركت نفسى بين المتزاحمين ، همى أن أبوح بما أعانيه . رنوت إلى المقام ذى الجوخ الأخضر ، طرزت عليه خيوط مذهبة من الآيات القرآنية . لامست يداى القضبان المعدنية ، علقت عليها قطع من الثياب الداخلية لطالبات الشفاء والبرء من العقم . تهدج صوتى بطلب النصفة والمدد . قصرت ما أطلبه على قراءة الفاتحة ، ونصرتى على أعدائى .
    لما طالت جولاتى ، وأدركنى التعب ، خامرنى ما يشبه اليقين أن الديوان موضعه السماء ، حيث لا سبيل للوصول إليه بغير الدعوات والابتهالات ، والحلم ..
    الرجل أمام الباب وضع على رأسه عمامة ، وارتدى جبة من الجوخ الأخضر ، تحتها قفطان من الحرير ، به خطوط زرقاء . فى يده اليمنى مسبحة لا تفارقها دون أن يجرى بإصبعيه على حباتها ، وفى اليد اليسرى عصا من خشب الجميز . عيناه تبرقان من تحت حاجبين كثيفين ، وأخفى تضخم شفتيه بشارب كث .
    قلت :
    ـ أريد أن أعرض مظلمتى .
    قال :
    ـ أكتب ما تشكو منه ، وضعه على مقام أحد الأولياء ..
    وجرى بأصابعه المضمومة على الهواء :
    ـ أولياء الديوان يدرسون التظلمات المكتوبة ..
    أهملت صدوده . رفعت صوتى ، حيث أقف ، أنادى على الأولياء وراء الباب المغلق : أغيثينى يا رئيسة الديوان .. ياأم العواجز .. يا أمنا الرؤوم .. يا كريمة الدارين .. يا صاحبة الشورى .. أغثنى يا سيدى أحمد البدوى .. يا أبا اللسانين ، يا باب القبول ، يا أبا فراج . حررت الأسرى ففك قيدى .. يا قاضى الشريعة سيدى محمد بن إدريس الشافعى .. عرف عنك الاستجابة لمطالب النصفة والمدد .. يا أبا العينين يا دسوقى .. كراماتك ومكاشفاتك بلا حصر .. المدد يا أبا العلمين يا رفاعى ..
    عدت إلى مقامات الأولياء . أسلم نفسى لأمواج اللائذين بالمقام ، أو أقف أمام المقام وحيداً . ألصق خدى بالمقصورة النحاسية . أرفع يدى فى الهواء . أغترف ما يحيط به من بركات لا ترى ، أدسها فى جيبى . يعبرنى الواقفون حول المقصورة ، والساعون بالقرب منها . أهمس بالكلمات لحضرة الولى ، أناجيه ، أرفع إليه ما يرهقنى وأشكو منه . أدفع برسائلى من قضبان المقصورة النحاسية ، تختلط برسائل أخرى كثيرة ، متناثرة فى الأرضية .
    تملكنى قلق لعدم تحقق شىء مما منيت به نفسى . تعددت رسائلى ، وترقبت النصفة ، لكن الأيام توالت دون أن يبين الأفق عن منفذ .
    أدركت أنى ربما لا أحسن صياغة الرسائل . لجأت إلى شيخ يقترب من الستين ، ظللته مظلة من القماش الملون ، أقصى الرصيف المواجه لمبنى المحكمة الوطنية .
    أمليت على العرضحالجى العجوز مرامى ، وما أريد التعبير عنه . يكتبه بلغة تحسن المخاطبة . أرفعه إلى مقام حضرة الديوان . رجوت ـ يحدونى الأمل ـ أن يحضر الجلسة الشريفة أهل البيت ، أخص سيدى الحسن وسيدى الحسين ..
    ***
    أعرف أن صفاء النفس مدخل لكل ما أسعى إليه من خطوات ، للتخلص مما يشغلنى ، وأعانيه ..
    قال الشيخ المغازى :
    ـ لا صفاء للنفس ما لم تراقب السياسة الشرعية والسنة النبوية .
    حدثنى عن إهمالى وتقصيرى . طالبنى بمعالجة قصورى وزلاتى ، حتى ينفتح لى طريق الباطن . تعلق قلبى بالصفاء والنقاء ، وتطلع إلى الأمنيات السامية .
    نصحنى الشيخ أن أنشغل بالذكر الإلهى ، وأن أظهر ـ حتى بينى وبين نفسى ـ الرضا والقبول والإذعان . قال :
    ـ التضرع يفتح الطريق .
    نصحنى بالتضرع والتوسل والتماس النصفة والمدد ..
    روضت النفس على التعبد والمجاهدات والرياضات الروحية . أخلصت فى التضرع . انشغلت بذكر الله والتسبيح والتهليل والدعاء وتلاوة القرآن ، وختمه . أتلو سور ياسين والمزمل والأعلى والانشراح والقدر وقريش .
    شاركت فى موالد الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من أرباب الأشاير . أخترق الزحام والمواكب وخيام الصوفية وأكشاك الختان وحلقات الذكر وسرادقات السيرك ورواة السيرة والأدعية والابتهالات وغناء المنشدين وقرع الطبول والدفوف ..
    اخترت لأداء الذكر مسجد تربانة بشارع فرنسا . استندت إلى الدرابزين الخشبى ، وصعدت الدرجات المتآكلة . ملت إلى اليمين . الصالة المستطيلة فرشت أرضيتها بالحصير ، وتماوج ضوء الشارع من النوافذ ذات الزجاج المعشق ، الملون ، باللمبات الثلاث المتدلية من السقف ، وعلقت على الجدران آيات قرآنية ، ودعوات . أغلقنا النوافذ ، وأضأنا الشموع الموضوعة على الأرفف ، وفوق المكتبة لصق الجدار ، والطاولات ، والكراسى . بدأنا ـ ونحن قعود ـ بتلاوة الورد ، ثم قمنا إلى الذكر . انتظم صفا المنشدين ، من ورائهم صفوف الذاكرين . علا صوت الشيخ ـ فى المنتصف ـ ببدء الحضرة . رددت الأفواه لفظ الجلالة وعبارات الذكر والإنشاد ، على إيقاع التصفيق ، وتطويحات الأجساد والرءوس بالوجد والشوق ، حتى انطفأت الشموع تدريجياً ، وسادت الظلمة ..
    جلسنا فى مواضعنا ، نسلم النفس للدعة والسكون والتأمل ، نستعيد المنمنمات والتأثيرات ، نستغرق فى النشوة ، نمتص حلاوة الذكر ..
    ***
    تنهد الخادم ، وأظهر ما يشبه نفاد الصبر :
    ـ ماذا تطلب من هيئة المحكمة ؟
    قلت :
    ـ لا أستطيع حتى أن أكلمهم عما يعرفونه جيداً . إنهم يعرفون ما بكل رسالة قبل أن تتصفحها أعينهم ..
    ثم فى لهجة تأكيد :
    ـ إنهم أولياء الله !
    ـ هل تعرف أن وعد النذر يجب أن يسبق طلب النصفة ..
    وأشاح بيده :
    ـ عد بنذر تلتزم بتنفيذه .
    أعاد طرح العباءة على كتفيه . ضمها إلى صدره بأصابع متوترة . طوح بالعصا فى عصبية ، ومضى داخل الديوان ..
    ***
    داهمتنى الكوابيس فى أثناء النوم . دوامات قاسية من اللكمات والركلات ، لا أعرف كيف أتقيها ، وأصرخ من تأثيرها . يظل صراخى حتى يوقظنى من فى البيت . عرفت أن الوفاء بالنذر ينبغى أن يسبق ما أرجوه . ما حدث هو تنبيه ، قرصة أذن ، من الأولياء ..
    وفيت بما نذرته على نفسى من خدمة الأضرحة . كنست الأرضية بما لا أحصره من المناديل ، بما لا أذكره من السنوات ، خدمت الزوار بما وسعنى ، وزعت الفول النابت والفتة واللحم والماء البارد ، أديت ـ دون أن يطلب منى ـ دور المبلغ فى صلاة الجمعة ..
    طلب الخادم أن أبدل ما أقدمه من نذور إلى أولياء الله : الشموع وكسوة المقام والسجاجيد والحصر وأدوات النظافة . إذا قدمت الذبائح والطعام والنقود ، فهو ما يسعد الأولياء أن يوزع على فقراء المريدين والمحاسيب ..
    ***
    تكررت مطالب الخادم بما لا أقوى على تلبيته . شرطه لإتاحة الدخول على سادة الديوان ..
    رأيت أنى فى سوق أشبه بسوق راتب ، أو شارع الميدان : الزحام والأصوات المتلاغطة والمياه الآسنة ، ورائحة الزفارة والعطن . فتشت ، وانتقيت ، وساومت ، واشتريت . عشرات الأنواع من الخضر والفاكهة والسمك والطير ، والمخلوقات التى ذكرت أسماءها دون أن أعرف ما هى . زرت الصاغة وزنقة الستات وسوق الترك وصحراء المتراس وحلقة السمك والمذبح والمدابغ . ترددت على أسواق لا أعرفها . أبحث عما يسهل شراؤه ، وما يبدو كالمستحيل . عانيت فى التفرقة بين ذكر الحمامة وأنثاها ، البحث عن قط من سلالة فرعونية ، الحرص على دقة الخلط بين بخور المستكة والصندل والجاوى . حتى سوق الكانتو حاولت أن أجد فيها ما لم أجده فى سواها من الأماكن . عرفت متى توضع البضاعة فى صندوق أو قفص أو جوال ، أو فى داخل علبة أنيقة ، أو تلف فى كيس ورقى ..
    ***
    ظللت فى حيرتى . سرت فى مفازة العتمة دون مرشد أو قليل . تكرر سؤالى إن كان سادة الديوان قد ناقشوا مظلمتى . اكتفى الخادم بكلمات مدغمة ، لا تؤدى معنى محدداً ..
    لم أحاول التردد على أقسام الشرطة ، ولا الوقوف أمام أبواب المحاكم . يقينى أن الأمل فى سادة الديوان ، فى عدلهم غناء عن كل ما هو خارج المحكمة الباطنية . إنهم كالشمس للدنيا ، وكالعافية للبدن ..
    قال :
    ـ ادفع ما فيه القسمة ..
    ـ لم أتأخر فى تقديم كل ما طلبته منى ..
    ـ ما أطلبه ليس لى .. إنها طلبات أولياء الله ..
    قلت فى نفاد صبر :
    ـ الأولياء يغيثون الناس ولا يبتزونهم ..
    وهو يهز قبضته فى وجهى :
    ـ لا تخطئ فيسخطونك قرداً !
    لاحظت المسبحة التى أخذها ليهديها إلى الأولياء . مددت يدى أستعيدها . عاد بظهره إلى الوراء . قال : حصلت على ما فيه القسمة . هو البداية ، المدخل ، المفتاح ، للوفاء بالنذر . الماء لا يفوت على العطشان . لن يرضى أولياء الله أن تقدم لهم النذور دون أن ترضينى ..
    ركبنى العناد ..
    طوقت عنقه بيدى لأنتزع المسبحة . قاوم ، وزاد عنادى . ضغطت بآخر قوتى . لم تشغلنى حشرجاته المتألمة حتى سقط ، ساكتاً ، تحت قدمى ..
    أذهلنى ما حدث . لم أكن أعددت له نفسى ، ولا تصورته . ما فعلته من الكبائر ، فلن يقبل سادة الديوان مظلمتى . أدركت أنه من المستحيل أن تنصت المحكمة الموقرة لى ، أن تجد فى كلماتى ما يستحق الالتفات . قتلى للرجل بدل المعنى . صرت ظالماً لا مظلوماً ، فلا أستطيع أن أرفع إلى مقام الحضرة ما يقنعها من دفوع وتبريرات ..
    لكن البسمة الواسعة ، المشفقة ، احتوتنى ..
    أومأت العينان الباسمتان ، تأذنان لى بالدخول .
  • 25/01/2008, 08:23 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (16)
    *مكاشفــة*
    ....................

    تقف على شاطئ البحر . تنظر إلى البلانسات والقوارب ، وشباك الصيادين ، وطيور البحر تحوم فوق الأمواج الساكنة ..
    خلا الشاطئ وقت الصباح الباكر ، إلا من قوارب متباعدة ، وصياد يجذب طراحته فى المسافة بين البحر والأرض الرملية ..
    طال الأخذ والرد بينك وبين نفسك ، قبل أن تخترق الشوارع الضيقة . تعبر طريق الكورنيش . تقف أمام البحر ، تتعثر فى رماله . تلامس الأمواج الهادئة قدميك . تبدو الفرصة مواتية تماماً ، لكى تقذف فى البحر بما تعانيه . قال أبوك : البحر واسع ، يبتلع حتى الجيف . قالت أمك : البحر طاهر ، يغسل ما يلقى فيه من أوساخ . قال الشيخ عبد الله الصمدى إمام جامع البوصيرى : إذا أردت أن تتخلص من متاعبك ، الق بها فى البحر . وهز إصبعه منبهاً : لكى يتحقق ما تريد ، يجب أن يكون البحر حصيرة ..
    تختلط ـ فى ذاكرتك ، وتهيؤك للفعل ـ رؤى ، وتصورات ، وملامح واضحة وشاحبة . تبدأ فى الحكى ، البوح بما فى النفس من الأسئلة والملاحظات القاسية .
    قلت :
    ـ أنت تتكلمين بما يفوق قدرتى على الإنصات ..
    قالت :
    ـ ربما لأنى لست من تريد الكلام معها .
    يلح الشعر الأسود المنسدل على الكتفين ، والبشرة البيضاء المشربة بالحمرة ، والعينان الخضراوان الواسعتان ، والأنف الصغير . تملأ البسمة الهادئة صفحة الموج الساكن . يذوى ـ بلا توقع ـ توالى الصور .
    تنفض رأسك ، وتغمض عينيك . تتنهد فى حيرة ..
    تلح صورة مكتبك فى العمل ، فتستعيدها . أوراق وملفات وأرقام وبيانات وأسئلة وأجوبة ومناقشات . تتهيأ لاختيار ما تعد لإلقائه فى البحر . تتحدث به ، فيغيب فى ذاكرة الأمواج ، وتنساه . عينا نجاتى زميلك فى المكتب ، ترنوان إليك بنظرة ود :
    ـ إذا ضايقتك الحياة ، فما ذنبى ؟
    حاولت أن تظل وحيداً ، لا تختلط إلا لظروف العمل ، أو قضاء ما تحتاجه . تحرص فلا يدخل حياتك إنسان ما ، الضرورة تأتى به ، ثم يبتعد ، أو تبتعد . لا تميل إلى الأخذ والرد ، وما تجد فيه ثرثرة لا معنى لها .
    تستعيد ـ ثانية ـ نزولك من البيت . اختراقك شوارع السيالة فى اتجاه البحر . اكتفاءك بإيماءة التحية . لا تلتفت إلى الجالسين على أبواب البيوت والدكاكين ، ولا داخل المقاهى . أمضيت الليل بطوله فى تذكر ما جرى ، وتوقع الآتى . توالى ضوء الفنار ، والأذان ، وصيد الجرافة والطراحة والسنارة ، والحرب ، والمظاهرات ، والصلاة ، وحلقة الذكر ، وأهازيج السحر ، والموالد ، ومواكب الصوفية . كتبت كل واقعة فى ورقة ، ما تعانيه ، وتشكو منه . تطلب الغوث والنصفة والمدد .
    تفتش فى جيوبك ، تبحث عن الأوراق . تفاجئك بتمزقها ، أو عدم وضوحها ، أو أنها تعبر عن معان لم تكن كتبتها .
    تذكر ما كتبته جيداً . تأملت ما حدث ، راجعته ، رصدت الأفعال الشريرة ، ليسهل عليك قراءة ما تشكو منه . تتركه للبحر ، تطويه أمواجه ، تغيّبه ، وإن كان توقعك أنه لن يغيب . يقضى فيه البحر بالصواب . يصارحك ـ فى الصحو أو المنام ـ بما يجب أن تفعله . للبحر عالمه وأسراره ، ومخلوقاته التى تحفظ الأسرار ، تبقيه على حال الطهر والصفاء .
    تلجأ إلى الذاكرة . أحاديث ركوب البحر وعمليات الصيد والنوات وغرقى الرياح والعواصف . حوادث بعيدة وقريبة ، اختطفت فيها مخلوقات البحر من كانوا فوق الأمواج .
    تشير إلى الجزيرة الصخرية فى أفق الأنفوشى :
    ـ تحطمت قوارب كثيرة فى أثناء النوات ..
    تفاجئك الكلمات :
    ـ الحياة فى البحر تستحق المخاطرة !
    يلح السؤال : مادمت تحيا ، لماذا يشغلك الموت ؟
    الصيادون يركبون البلانسات ، يتجهون إلى أعالى البحار ، الأسماك الصغيرة تتقافز فوق المياه ، ورش المراكب تظل فى عملها من نجمة الصباح إلى شحوب النهار ، العجائز ينشغلون برفو ثقوب الغزل ، وتعليقه ـ حتى يجف ـ على المناشر ، أو فوق ظهور القوارب ، صفافير البواخر يترامى من الميناء الغربية ، الطيور تحلق فى السماء ، وتمضى إلى نهاية الأفق ، الأولاد يطلقون الطائرات الورقية ، يتابعون تحليقها ، ويحاولون اجتذاب الطائرات الورقية الأخرى ..
    هذه هى الصورة فى تجسيدات الذاكرة . لا شأن لها بالموت ، ولا بخواطر من أى نوع .
    تستعيد ما حدث بلا أوراق تعينك على التذكر . تختلط المرئيات والأحداث والوجوه والملامح ، تغيب الصورة الواضحة . تتصاعد فى الذهن ، كأطياف ، أو أشباح ، أو تكوينات هلامية .
    تلتفت ـ بعفوية ـ إلى الوراء . بنايات السيالة كساها النشع والأعشاب والطحالب الخضراء . الشبابيك محطمة . الأبواب الخشبية ، القديمة ، تعلو درجات حجرية متآكلة . مياه الغسيل ، وبقايا الطبيخ ، وأحشاء السمك ، والمحارات الميتة .
    لا تجد فى نفسك ميلاً لشىء ما ، ولا رفضاً لما غابت ملامحه .
    تطوح بالأوراق ، تختلط بالرمال والحصى . تطايرت أوراق تحت هياكل البلانسات ، وقطع الحجارة ..
    تخلف البحر وراءك ..
    تمضى إلى داخل السيالة .
  • 25/01/2008, 08:22 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (15)
    *جدتي رقيـة*
    ....................

    لم تعد جدتى رقية تقدر على النزول من الطابق الثانى ، أو الصعود إليه . عانت تورم قدميها ، وأبطأت الشيخوخة حركاتها . حتى ما كانت تثيره من أسئلة ، لم يعد يشغلها ..
    ضايقتها فكرة أنها لن تستطيع الخروج من حجرتها ، هبوط درجات السلم ، السير ـ عبر الشوارع الضيقة والحوارى والأزقة ـ إلى شاطئ البحر ، التطلع إلى الأفق ، حيث شاهدت البلانس يغرق بمن فيه ..
    كانت تمضى ـ كل صباح ـ إلى شاطئ البحر . تسحب العباءة السوداء من شماعة الجدار . تتأكد من إحكام الإيشارب حول رأسها ووجهها . تدس قدميها فى الشبشب ، وتمضى خارج الحجرة . فى بالها أن ترى البحر قبل أن تموت ، تحدق فى الأفق ، تواجه ما عجزت عن مواجهته فى غرق البلانس أمام عينيها ..
    كانت جالسة على الكورنيش الحجرى لشاطئ الأنفوشى وحدها . الدنيا فى غبشة الفجر . اكتست المرئيات بلون الرماد .
    وضعت جدتى رقية كفها على عينيها ، تحدق فيما لم تتأكد من رؤيته فى الأفق : لنش سواحل ، بلانس ، باخرة ركاب . التأرجح فوق الأمواج العالية جذب انتباهها . حدست أن الجسم الطافى يصارع الأمواج ، يقاوم الغرق .
    أرادت أن تنبه إلى ما يحدث . خذلها صوتها . شعرت أنها عاجزة عن النطق . أشارت بيدها إلى الجالسين فى المقهى وراءها ، وإلى النوافذ المفتوحة . نزعت الإيشارب الأسود من رأسها . طوحت به . لكن البلانس غرق ، ابتلعه البحر . لم يعد على السطح سوى بقايا الجزء العلوى من الصارى . لما وجدت جدتى صوتها ، كان البلانس قد غرق فى البحر تماماً ..
    تغيرت جدتى رقية من يومها . أمضّها الإحساس بالذنب . صارت شخصاً آخر ، ينتمى لدنيا أخرى . تحاسب نفسها ، تناقشها ، تأخذ منها وتعطى ، تعيب عليها ما اعتبرته تقصيراً فى إنقاذ البلانس ..
    ـ من لم ينقذ نفساً استغاثت به فقد قتلها ..
    ثم فى تألم :
    ـ خذلنى صوتى !
    احتضنتها أمى بنظرة إشفاق :
    ـ لم يكن فى استطاعتك فعل شىء !
    لم تصدق ما اعتاد أبناء بحرى قوله ، عندما يغيب البلانس فى الأمواج ، فإن عرائس البحر يجتذبن من يرون اصطحابه إلى عوالمهن فى قاع البحر . عروس البحر تتزوج من تختاره . تنجب منه الأولاد والبنات . لا تعيده إلا بعد أن تدركه الشيخوخة ، معه أموال وفيرة ومجوهرات ونفائس . يحيا على نعمته ما تبقى من عمره . عرائس البحر يجتذبن البشر فرادى . أما الأمواج فتختطف البلانس بكامله . للأمر صلة بعوالم البحر ، ما يحفل به من أسرار وعجائب ..
    واصلت جدتى سيرها ـ قبل بياض النهار ـ إلى شاطئ الأنفوشى . تخترق شوارع السيالة فى اتجاه البحر . تجلس ـ صامتة ـ على الكورنيش الحجرى . الموضع نفسه الذى شاهدت منه غرق البلانس . يداخلها تأثر للحظات انبثاق الفجر . اختلاط الظلمة بضوء النهار الوليد يغلف الكائنات برمادية شفيفة . النهار قادم إذن . لن يظل الليل قائماً . يخيفها الظلام . تظهر قلقها إذا علت الإضاءة . تخشى انقطاعها فيقتحمها الخوف . استقر فى داخلها الإحساس أنها ستموت قريباً . تتعمد الكلام لمجرد طرد التوقعات القاسية والعدم . تمتد أحاديثها وتتشابك . تتحدث عما لم نعشه ولا نعرفه . ربما جاء فى مسامرات أبى وأمى ، أو أخوالى ، أوقات الليل . كازينو الأنفوشى ، ليالى رمضان فى حديقة سراى رأس التين ، إعادة بناء أبو العباس وقت الحرب العالمية الثانية ، نزول أول بلانس بالموتور فى مياه البحر . تحذر من أن يجرى السماك جابر الأباصيرى على رقبة الترسة إلا بعد أن يتم بيعها بالكامل . يدفع كل مشتر ثمن ما يريده حتى يكتمل وزن الترسة ، فيذبحها .
    ظلت جدتى على حالها من الخوف مما تراه ولا نتبينه . أكثرت من التردد على مقامات أولياء الله الصالحين : أبو العباس ، ياقوت العرش ، نصر الدين ، وغيرهم من الأولياء . تحرص على الاستحمام ليلة الزيارة . تتطهر قبل أن تدخل الجامع . هذه بيوت الله ، وهؤلاء أولياؤه الذين نلجأ إليهم فى طلب النصفة والمدد . تقف أمام المقام . تلمس المقصورة . يتهدج صوتها بأدعية وابتهالات . كتب لها الشيخ فلان خادم جامع طاهر بك ـ فى ورقة صغيرة ـ آيات من القرآن الكريم . وضعها فى كوب ، امتزجت فيه قطع السكر المذاب بماء الورد . تجرعه على ريق النوم . صنع لها حجاباً ، غلفه بما يشبه المحفظة الجلدية الصغيرة . طالب أن تحرص على أن تعلقها فوق صدرها من الجانب الأيسر ، يكون فى موضع القلب . لجأت إلى التعاويذ والعمل وتمائم العين والجعران وخمسة وخميسة . أدارت مجمرة البخور فى حجرات البيت والسلم والقاعة التحتية والمطبخ والحمام . حتى مدخل البيت تضوع فيه امتزاج روائح العود والصندل والمستكة والجاوى والفسوخ والفخمة والشوش الأحمر ..
    انشغلت جدتى رقية بالتردد على المشايخ فى أزقة بحرى ، والجلوس إلى الغجريات أمام باب البيت . حياتها فى السحر وقراءة الكف والفنجان والرمل والودع والمندل ، وقراءة السحب والبرق وأوراق الشجر والعمل والنفخ فى العقد والتطلع إلى الرؤيا ، واستحضار الأرواح وتجسيدها . تحدثت عن قوى الجان ، أفلحت فى الاستعانة بها ، خصصت لها الذبائح ، توزع لحمها على الغلابة والمعوزين . تقف على باب البيت ، ترافقها فى خطواتها . تدفع عنها الأذى . سخرتها ـ بواسطة الأعمال المؤكدة التأثير ـ لكى تؤدى دورها ، بالتعازيم والطلاسم والرقى . تصعق المتسللين ـ أو المقتحمين ـ بنيران الأعين ، أو تغيبهم فلا يراهم أحد . عادت بحفنة تراب من مقام سيدى أبو العباس ، نثرتها أمام باب البيت ، وفى المدخل ..
    مالت جدتى إلى العزلة . تلزم حجرتها ، لا تتركها . تشغل معظم وقتها بأداء الصلاة ، أو بقراءة الأذكار والأوراد . تساعدها أمى على تناول طعامها ، وعلى قضاء حاجاتها ، وتحممها ، وتجيب عما يشغلها من أسئلة ، وتأخذ منها وتعطى ، فلا تشعر بالوحدة .
    كانت تعانى إذا غادرت حجرتها إلى الحمام ، وتجر قدميها المتورمتين . يحزنها أنها أصبحت فى أعيننا بلا فائدة ، وأن البقاء فى البيت هو ما يجب أن تفعله ..
    ـ أنا عجوز تنتظر الموت ..‍
    قالت أمى :
    ـ الموت نهاية كل حى ..‍
    ـ أشعر أنى بيت آل للسقوط ..
    أردفت فى صوت كالهمهمة :
    ـ تأخر الموت كثيراً .. ‍
    ***
    ما رأته جدتى فى المنام ظل يتراءى لها . أدركت أنها لن تنام جيداً. ربما لن تنام على الإطلاق، إذا ظل ما رأته فى داخلها ، تحتفظ به لنفسها. يضايقها اتصال ساعات الأرق. وإن سرقها النوم ـ وهى جالسة ـ فى أوقات مفاجئة ..
    رأت رجلاً يعتلى صارى بلانس . هو البلانس الذى شاهدت غرقه ، أو يشبهه . كان الرجل يرتدى زى الصيادين : السروال الأبيض الضيق عند الكاحلين ، فوقه فانلة بكمين طويلين ، عليها صديرى كثير الأزرار ..
    كان الرجل يلوح بيده ، ويعلو صوته كأنه يستغيث ، أو يبتهل فى حضرة ولى ، وقفز راكبو البلانس فى أمواج البحر العالية . ابتلعتهم ، ثم عاد البحر حصيرة كما كان .
    علا نعيق غربان سود ، وتشابك ، فتسلل إلى داخل جدتى انقباض ، وتوقعت ما لا يؤذن بخير . كانت الغربان تحوم فوق البلانس . تتقارب حتى تتلامس أجنحتها فيما يشبه السحابة الصغيرة . تختفى وراء قلعة قايتباى ، وتنطلق فى الأفق إلى ما بعد سراى رأس التين ، ثم تعود إلى تحليقها الصاخب فوق البلانس ..
    أصاخت جدتى سمعها ، تتبين ما يقوله الرجل ..
    علت الأمواج فى المد ، ونعيق الغربان ، فغاب صوت الرجل . صرخ بالاستغاثة ، لكنها تركته للأمواج . انحسرت الأمواج فى الجزر ، وتباعد نعيق الغربان ، فتبينت جدتى قول الرجل :
    ـ لماذا البحر يبتلعنا ؟
    ظلت جدتى فى إنصاتها الملح . لم يتغير ما قاله الرجل عن العبارة نفسها ..
    قالت أمى :
    ـ هذا الحلم لأنك مشغولة بما حدث ..
    قالت جدتى :
    ـ ما رأيته كان فى موضع غرق البلانس ..
    ـ البحر يبتلع الكثير من المراكب والبشر ..
    وشوحت بيدها مهونة :
    ـ وجودك على الشاطئ مجرد مصادفة ..
    هزت جدتى رأسها :
    ـ لو لم يخذلنى صوتى كنت أستطيع إنقاذهم ..
    ربتت أمى على كتف جدتى :
    ـ أتى أجل من كانوا فى البلانس فأخذهم ..
    ***
    لم تصدق جدتى تفسير أبى لرؤيتها سيدى أبو الحسن الشاذلى فى المنام ..
    قال إن رؤية الشاذلى فى ميدان الأئمة تعنى النجاة من النار ، أما مصافحتها للإمام فى حضرة أولياء الله من الأقطاب والمريدين ، فهى بشير بالأمان يوم الحساب ..
    استعادت جدتى ما حدثت به الشاذلى من ظروف غرق البلانس ، وأنها لم تقدر على الصراخ لإغاثة الصيادين ، فحدث ما حدث ..
    طمأنها القطب الأعظم بأن الله يرى حتى الجنين فى بطن أمه ، حتى خائنة الأعين وما تخفى الصدور ..
    قال أبى :
    ـ لست مسئولة عن غرق البلانس ولا عن موت أحد ..
    أردف :
    ـ أحياناً يركب البحر البلانس بدلاً من أن يركب البلانس البحر ..
    أرجعت جدتى قول أبى إلى إشفاقه عليها ، قلقه مما تعانيه . قالت إن الأولياء يشفعون ، أما الخلود فى الجنة أو النار ، فالأمر لله وحده ..
    ***
    لم تعد جدتى تبدى ضيقاً ولا مللاً فى اعتكافها داخل حجرتها . تعزل نفسها عن كل ما حولها . تخلو إلى تلاوة آيات من القرآن ، أو إلى أدعية وابتهالات . ربما وشى صوتها بالحزن وهى تقول كلمات منغمة كالتعديد .
    اعتبرت أمى ما تبديه جدتى نوعاً من الفضفضة والتنفيس عما يشغلها من توقعات قاسية . ما أخافها أن جدتى كانت ـ فى بعض الأوقات ـ تطلب أن نغلق عليها باب الحجرة ، فلا ندخل لأى سبب .
    كنا ننفذ ما تطلب ، دون أن نسألها ، وإن اقتصر تصورنا على أنها ربما تريد أن تركن إلى النوم . طال ـ ذات ضحى ـ إغلاق باب الحجرة ، فأدارت أمى أكرة الباب ، ودخلت ..
    كانت جدتى جالسة على السرير . دلت ساقيها ، ووضعت ذقنها على راحة يدها ، كأنها تتأمل ، أو ترى ما لم تتبينه أمى ..
    ـ أطلت إغلاق الباب ..
    ـ كانوا يزوروننى ..
    أضافت وهى تومئ برأسها :
    ـ إنهم يزوروننى دائماً ..
    ـ من هم ؟
    ـ أولياء الله ..
    أردفت :
    ـ أحزنهم ما أعانيه منذ عجزت عن إنقاذ البلانس ..
    ـ لم يكن بيدك فعل شىء ..
    ـ هذا ما يقولونه . يزيدون عليه كلمات تريح القلب ..
    ***
    لما طالعتنا جدتى رقية ، بوقفتها أعلى السلم ، مستندة على الدرابزين ، كنا نتناول طعام الإفطار فى الصالة التحتية ..
    علا صوت أمى بالسؤال :
    ـ لماذا تركت حجرتك ؟
    أضاف أبى فى لهجة مشفقة :
    ـ لا تستطيعين الوقوف على قدميك ..
    قالت جدتى :
    ـ كما ترى .. أقف ولا أشكو شيئاً ..
    رقى أبى درجات السلم. أسند ذراع جدتى على كتفه. هبط بها إلى حيث نجلس حول الطبلية. أفسحنا ـ أبى وأمى وأخوتى ـ لجدتى بيننا مكاناً بيننا . بدت هادئة النفس ومطمئنة. عابت على أمى ـ وهى تصطنع غضباً فى ملامحها ـ أنها تمنع الفول المدمس عن طعامها، وهو ما ستحرم عليه بعد ذلك تماماً. لا أحد يعرف طعام الجنة ، وإن اختلف ـ بالتأكيد ـ عن طعام الدنيا ..
    قالت وهى تضع اللقمة فى طبق الفول :
    ـ أريد عربة تقلنى إلى الأنفوشى ..
    أردف لنظرة الدهشة المتسائلة فى أعيننا :
    ـ عرفت فى الحلم ما أراح ضميرى ..
    وشى صوت أبى بإشفاق :
    ـ حلم جديد ؟
    ـ للأحلام تفسيراتها ..
    قالت إن الملكين ناكر ونكير ، الكرام الكاتبين ، زاراها فى نومها . طالباها بالتهيؤ للقائهما فى القبر . رجتهما أن يطلعاها على صحيفة حياتها ، ما كتباه من أفعالها فى الخير والشر . كل شىء ـ بالأمر الإلهى ـ سجلاه . سألتهما عن البلانس ، ما إذا ابتلعته الأمواج ، أم اجتذبته عرائس البحر . أكدا أن ما حدث لم يكن لها فيه حيلة . هى امرأة مسكينة ، بلا حول ، حتى الصراخ حاولته ، وإن احتبس الصوت فى حلقها . بشرها الملكان بأن كفة الحسنات ـ فى حياتها ـ ترجح كفة السيئات ، والله غفور رحيم ..
    قالت جدتى ما قالته دفعة واحدة . كأنها تستعيد ما حفظته جيداً ..
    ***
    ماتت جدتى فى الضحى .
  • 25/01/2008, 08:20 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (14)
    *مواجهــــــة*
    ....................

    الطريق تتلوى صاعدة فوق الجبال المتلاصقة ، تمضى إلى نقطة غير مرئية . زرقة السماء صافية ، إلا من سحب صغيرة ، متباعدة ، وثمة نسائم خريفية باردة ..
    افترش الناس الأرض فى دائرة واسعة . النساء خلف الرجال ، فى مواضع تتيح لهن الرؤية . على الأسطح ، وفى الشرفات ، وعلى مقاعد أمام الجدران ..
    الديكان يتصارعان . الجسدان هائلان ، والحركة رشيقة ، والقدرة لا حد لها على العراك . إما أن ينتصر أحدهما ، يقضى على الآخر ، يلقيه هالكاً على الأرض ، أو يموت . تتعالى دقات الطبول والصيحات الوحشية ، الصاخبة ، تحرض على العنف والقتال حتى الموت : إدبك فى عين زنبيله .. لا تفلته .. اكسر جناحه قبل أن يكسر جناحك . يتقاتل الديكان حتى يفقدا القدرة على الحركة . الأعين تلتمع بنشوة غامضة ..
    نادى الشيخ على الديكين ...
    دخل الرجلان قلب الساحة الدائرية . بيد كل منهما ديك ، يختلف لونه عن الآخر ..
    اتجه الشيخ إلى على حمدون :
    ـ هل أنت على ثقة من هذا الديك يصلح للمصارعة ..
    قال على حمدون :
    ـ أتيت به لينتصر لا ليموت ..
    ـ تعرف أنه لابد من غالب ومغلوب .. قاتل ومقتول ..
    وهو يهز رأسه :
    ـ أعرف ..
    أدركه اليأس من أن يتعلم الديك المصارعة . تكوم على نفسه ، لا يقاوم ضربات الديك الآخر ، ولا نقراته المتوالية . لاحظ الديك إشارته إلى الولد ليحمله إلى الداخل . أولى به المطبخ . فاجأه بنقر الديك المهاجم فى عينيه . فى العينين تماماً ، فانبثق الدم . صرخ الديك المهاجم . ارتفع ، وهبط ، وتقلب فى الأرض .
    أشار على حمدون إلى الولد . ترك الديك الأبيض فى موضعه ، وحمل المتداخل اللونين الرمادى والأبيض إلى الداخل ، للتعجيل بذبحه ..
    تكرر الأمر فى مصارعات تالية . يظل الديك الأبيض على تكومه ، وتحمّله للضربات والنقرات . فى لحظة غير متوقعة ، يفز فى وجه الديك المهاجم . يثقب العينين ، فينبثق الدم ..
    عنى على حمدون بعلاج الديك من الجراح التى أدمت جسده . أدرك أنه لا يميل إلى المصارعة ، وإن دافع عن نفسه حين يزداد الألم ، ويعلو إيقاع الخطر . ضربة واحدة ، فى لحظة غير متوقعة ، يثأر بها لنفسه . يعود إلى موضعه ، ويتكوم ..
    قال الحكم الشيخ :
    ـ أنا أشفق على هذا الديك ..
    قال على حمدون :
    ـ لو أنك رأيته فى المجاولة فسيذهلك ..
    قال الحكم :
    ـ جئت به للمصارعة أم لينتحر ؟
    ـ لولا أنى أثق فيه ما دفعته إلى المجاولة ..
    ولجأ إلى تعبيرات يديه :
    ـ إن ديكى يفعل ما لا أستطيع أن أفعله !
    أهمل شعور الخذلان فى داخله لنظرات الناس المستخفة إلى ديكه الأبيض . يعلو رأسه النحيل عرف أحمر ، متهدل ، ومنقاره رفيع ..
    تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ لو يتحرك الديك فى اللحظة التى لا يتوقعها هو نفسه . ينقر الديك البنى فى وجهه ، فى عينيه . يجبره على الفرار . يقضى على النظرات المستخفة ..
    تواجه الديكان ..
    تراجع الديك البنى إلى الوراء . نبش فى الأرض الرملية . نفش ريشه . رفرف بجناحيه فوق الديك الأبيض . مال بمخالبه . ضرب الديك الأبيض ، ثم استعاد وقفته على الأرض . اقترب حتى لامس الديك المنكمش . غرس منقاره فى جسده . نقر وجهه وعنقه ورأسه . حتى عينيه ، بدا أن الديك الأبيض أغمضهما قبل أن يخترقها منقار الديك البنى ..
    ظل الديك الأبيض على تكومه ..
    يعرف أن عبد الحكيم الطائى وضع " البيسة " فوق الأخرى ، حتى اشترى ديكاً هندياً . هو أفضل أنواع الديكة . رفض الديوك العربية والهولندية والتايلندية والتركية . الهندى أشرس الديوك . عضلاته قوية ، حجمه كبير ، صورته تسر النظر . يخرج منتصراً أمام خصومه ..
    أشار الطائى إلى سلسلة الجبال المتداخلة الألوان ، لا أفق لنهايتها :
    ـ هل يوجد فى المنطقة ما هو أضخم من هذا الجبل ؟
    ـ لا أعرف ..
    قال فى لهجة باترة :
    ـ لا يوجد !.. هذا شأن ديكى .. لا يوجد ما هو أقوى منه ..
    تخلى على حمدون عن توقعه بأن الديك الأبيض سينقر عينى البنى فى اللحظة التى يختارها . لحظة ما قبل الإغماء ، أو الموت . ظل الديك منكمشاً على نفسه ، طوى مخالبه تحت جناحيه . غطت الدماء ريشه وعرفه ورأسه دون يغادر تكومه الذليل . يدرك على حمدون أن ديكه الأبيض لا يهاجم إلا من يهاجمه . يظل منطوياً على نفسه ، منكمشاً ، يتحمل الضربات ، دون أن يبدى تألماً ، ولا مقاومة ، لكنه استغرق فى الانكماش ، فلا يبدو إن كان صاحياً أم راح فى النوم . عكست نظرات الحلقة المحيطة إشفاقاً من أن الديك الأبيض ليس نداً لخصمه ..
    أومأ على حمدون بالموافقة على أن يفصل الحكم بين الديكين ، يعلن ـ لعدم التكافؤ ـ فوز الديك البنى . تخلى عن ثقته بأن ديكه سيتحرك فى لحظة يختارها ، يطيح بالديك البنى ، فيعلن الحكم فوزه . لا يعرف متى ولا كيف ، لكن ذلك ما توقعه . لم يتصور أن الديك يخذله ، يظل فى انكفائه حتى يقتله الديك البنى تماماً ..
    تهيأ الجميع للانصراف . توقعوا أن الديك البنى قضى على خصمه . لكن الديك الأبيض ـ فى لحظة لا يتوقعها أحد ـ تماسك ، واستجمع قوته . قفز من فوق ساعد الرجل ناحية خصمه . فى اتجاه العينين . نقرهما فى المنتصف تماماً ، فانبثق الدم ..
    طار الديك المثقوب العينين فوق الرءوس ، وجرى .
    فز الجالسون ، وجروا وراءه . لم يصدقوا أنه ترك المجاولة وهو يكاد يقضى على خصمه . حتى الحكم الشيخ تردد فى إعلان النتيجة . توقع عودة الناس بالديك الهارب ، فيقضى على الديك الأبيض ، ويعلن فوزه ..
    لكن الزمن طال ، وامتد . بدأت الحلقة فى الانفضاض ، ونزل النسوة من فوق الأسطح ، وتركن الشرفات والمقاعد ، وأغلقن أبواب البيوت ..
    تنبه على حمدون إلى وقفته فى الساحة الخالية ، والديك الأبيض فى التكوم الذى ألفه . حتى الأضواء المتناثرة توالى إطفاؤها فسادت الظلمة ..
    انحنى ..
    حمل الديك . عدل الدشداشة على جسده ، وثبت المسرة فوق رأسه ..
    مضى ناحية القرية ..
  • 25/01/2008, 08:18 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (13)
    *حقائق الجدار*
    ......................

    ـ 1 ـ
    أستلقى على ظهرى . تتقاطع اليدان خلف الرأس ، أتأمل تكوينات النشع فى السقف ، وفى أعلى الجدران ..
    أحدثت الرطوبة نشعاً ، تقشر به طلاء الجدران عن أشكال ، صغيرة وكبيرة ، مستطيلة ، ومربعة ، ومستديرة ، ومفرطحة ، ومشرشرة ، ومتداخلة . أتصور الملامح والشخصيات والأحداث .
    تفاجئنى الأشكال بتحورها . يتلاشى ما كنت قد أطلت تأمله فى الليلة السابقة . تحل أشكال جديدة ، لها استداراتها وانبعاجاتها .
    ألجأ إلى التخيل ، إلى قدرتى عليه ، أضيف إلى الشكل ، وأحذف منه ، أتخيله فى الصورة التى أريدها ، وما يكتمل به المشهد ، الحركات والسكنات والمعانى التى يعبر عنها .
    إذا لم تعبر التكوينات على الجدار عن أشكال محددة ، ولا قسمات يسهل التعرف عليها ، فإن الخيال يضيف إليها ، ويحذف منها ، ويحورها . ثمة وجوه وأجساد وعربة يد ومشنة سمك وعصفور وبقرة وسنارة صيد ووردة ومقعد وكوب وميكى ماوس وسماعة طبية وطبق وكتاب وقلم وفازة وسكين وعروسة مولد وقادوم وساعة حائط وفرشاة ودراجة وأباجورة وسماعة تليفون ومئذنة وديك ومسبحة وعملة معدنية وحذاء وشجرة .
    كانت جدتى تفارقنى إلى حجرتها ، بعد أن تروى لى ما أحبه ـ ويخيفنى ـ من حكايات على الزيبق ، والشاطر حسن ، والسفيرة عزيزة ، وست الحسن والجمال ، والسندباد البحرى ، وطائر الرخ وجنيات البحر ، وجزر الواق الواق ، وأبو رجل مسلوخة ، والعفاريت ، والجان ، والمردة ، والأشباح ، والأطياف .
    الضوء المنبعث من الطرقة يضيف إلى ما أتصوره فى تكوينات نشع الجدار . تتجسد ، وتتحرك ، وتتلاقى ، وتتباعد ، وتفعل ما أتصوره مما روته لى جدتى . يبلغ الأمر حد مغادرة الجدار ، والاتجاه ناحيتى بعينين تقدحان شرراً ، أو يدين تتحولان إلى مخالب ، أو أنياب تهم بالتهامى ..
    يتجسد أمامى الرجل ذو الساق الحبلى ـ فى حدوتة جدتى ـ بدلا من زوجته المريضة ، الأميرة فى قصرها تنصت إلى توسل الشاب بأن تعطيه مما فى قصرها من عنب للمريض فى بيته . الصراصير الكثيرة التى تملأ البئر تلبية لأوامر العجوز الشريرة : يا بير يا بير .. اديها صراصير كتير !
    يسلمنى النوم إلى أحلام وكوابيس ، لا تنتهى ..
    ـ 2 ـ
    فى الصباح ، أغمض عينى ، ثم أفتحهما ، لأتبين ما إذا كانت الأشكال لا تزال فى مواضعها ..
    ألاحظ التغيرات التى تحدثها الرطوبة فى تكوينات النشع . تأخذ أشكالاً جديدة . ظهرت تفاحة لم تكن موجودة فى زاوية الجدار . تشوشت مساحة الشجرة . بدت أخطبوطاً له العديد من الأيدى المتشابكة ، المتباعدة . لامست ما تصورته أوزة لها عنق ومنقار وجسد ممتلئ . توقعت أن تحتضنها فى اتساع مساحات النشع ، أو تؤذيها ...
    أتنبه إلى أنى استغرقت فى النظر إلى الجدار . شردت حتى عن محاولة تأمل التكوينات ، وتصور ما تعنيه .
    أحاول تجاوز ما أعانيه . أسحب كتاباً من الكومودينو المجاور ، أو أدير المسجل الصغير ـ فى صوت خافت ـ على أغنيات ، لا أعطيها انتباهى . ربما حاولت تناسى الأمر برشفات متباطئة من كوب شاى .

    ـ 3 ـ
    انتفضت ـ بتلقائية ـ لسقوط حشرة من السقف فوق رأسى . تأملت نثارها فوق الملاءة ، وعلى الأرض ..
    بدا التكوين مسدساً فى يد بلا ذراع . لم أكن أفكر فى معارك ولا قتال ، ولا ما يحرض على العنف . ألح التكوين على اجتذابى إليه . بدا مغايراً لكل ما على الجدار من ملامح وقسمات .
    تداخلت الأشكال ، ناقصة ، ومبتورة ، ومنفصلة عن اكتمالها : خرطوم فيل ، سنم جمل ، وجه كلب ، عصا مكسورة ، سبحة منفرطة الحبات .
    أذهلنى تحرك ما بدا أنه ثعبان ضخم . زحف بجسده ناحية الأجسام الصغير المتناثرة فى اتجاهها . ابتلعها ، فم يعد إلا شحوب لون الجدار .
    تحولت النقط المتناثرة فى زوايا الجدار إلى ما يشبه الحشرات ، أو الحيوانات الصغيرة ، تختلط وتتشابك .
    حين انطلقت من الجدار ، وحلقت فى سماء الحجرة ، أدركت أنها تحولت إلى طيور سوداء متلاصقة ، تضفى ظلالاً داكنة على الضوء الخافت أصلاً .
    أبحث عن الونس فى ترامى هدير الأمواج من النافذة المواربة ، وأغنيات الراديو القريب ، ونداءات جرسون المقهى ، وضربات النرد ، وصيحات الرواد ، ومواء قطط ، أخمن أنها تتعارك حول كومة زبالة .
    هبت ـ من النافذة الصغيرة ـ دفقة هواء مفاجئة . تحركت لها ظلال اللمبة المتدلية من السقف . رسمت تكوينات لبشر تختلط فيما يشبه العراك .
    التحمت التكوينات . صارت تكويناً واحداً ، أشبه باستدارة وجه ، وإن تشوهت الملامح فى جانب الرأس ، والجبهة والذقن . بدت العينان متماثلتين فى المساحة والاتساع . تحدقان أمامهما بنظرة ثابتة ، والشفتان منفرجتان فى هيئة الغضب .
    ـ 4 ـ
    ظلت تكوينات نشع الجدار فى حياتى ، وإن لم يعد لها التأثير المخيف ، القديم . أترقب ـ فى أثناء النهار ـ تلك اللحظات التى أنظر فيها إلى الجدار . ألتقط الكلمات من الكتاب بين يدى ، أدير الراديو ، أصيخ السمع إلى ترامى النداءات ، وتلاغط الأصوات ، وصيحات الطيور ، وهدير الموج من ناحية الأنفوشى .
    أسرح فى تصورات السكون والحركة والملامح والقسمات والتعبيرات . يضيف إليها ما بداخلى من مشاعر الأسى والطمأنينة والخوف والراحة والحزن والألم والتوقع . أستعيد حكايات عشتها طيلة أيامى السابقة . أصلها بما أتوقع أو أريده . أستعيد ملامح أعرفها . أتخيل ما لا أعرفه . أتذكر ما كنت قد نسيته تماماً .
    أهمل النظرات المتسائلة . أظل صامتاً ، وإن أومأت برأسى لقول جار الطابق الأول :
    ـ جاءوا أكثر من مرة ..
    يضيف بلهجة مشفقة :
    ـ ابتعد حتى يزهقوا !
    أومئ بهزة الرأس . أصعد درجات السلم . أتأكد من إحكام رتاج الباب الخارجى ، وإغلاق الحجرة فى طرف السطح . أوارب النافذة الوحيدة المطلة على الشارع الخلفى .
    أعيد النظر إلى الحائط . أعيد التأمل . أحور فى التكوينات . أصلها بأحداث اليوم . أتصور قسمات مغايرة لم أرها من قبل . لكن الصورة تظل ثابتة : المسدس فى اليد التى بلا ذراع ، يتجه ناحية باب الحجرة المغلق .

    ـ 5 ـ
    اتسع النشع فملأ مساحة الجدار . أخذ شكل الدائرة ، أو البيضة الهائلة . حاولت أن أتبين ما لم أره من قبل : تكوينات تختلف عن التى صنعت حكايات الليالى السابقة . ما يشبه السحاب ، يهمى نثار النقط الصغيرة ، كأنه تساقط الأمطار .
    تلاقت الخيوط المتباعدة ، تشابكت ، صارت خيطاًَ واحداً ، نهايته تكوين غير متناسق الحواف ، أشبه بطائرة ورقية انطلقت فى مساحات لا نهائية .
    بدأ التكوين فى التغيّر . تحول إلى ما يشبه سمكة القرش ، هى سمكة القرش بانسيابية الجسد ، والفكين المفتوحين .
    بدا أن الصور فى الزاوية اليمنى ، تتجه إلى خارج الجدار ، تريد الخلاص من الحصار داخل المستطيل ، تطلب الحركة والانطلاق .
    ـ 6 ـ
    تحورت تكوينات الجدار . أخذت أشكالاً جديدة . اختفى ما يبدو كلباً له ذيل ، وما يبدو مسدساً ، والطائرة الورقية التى طارت بعيداً . تحركت التكوينات ، استطالت إلى خارج الجدار . اختلطت ، وتشابكت ، بتكوينات لم أكن التفت إليها فى الجدار الجانبى . أحس كأنها قد اصطدمت ، وثارت رياح وزوابع وأعاصير .
    قال جار الطابق الأول فى لهجة ذات مغزى :
    ـ لا تستهن بالشمعة التى فى يدك ، هى ضوء قد لا يبدد الظلمة ، لكنه يخفف منها ..
    ـ 7 ـ
    أعاود النظر .
    تطالعنى التكوينات بتغير . يغيب ما كنت اطمأننت إلى قسماته . وجدت فى التكوينات الجديدة ما لم يكن قد خطر لى من قبل .
    بدت المساحة ـ بالكاد ـ كقطعة الشطرنج .
    لاعبت نفسى . حركت العساكر والوزير والطابية والفيلان . نقلت الأجسام الصغيرة على المربعات ، لأواجه الملك بالهزيمة . لا يشغلنى سقوط العساكر ولا الوزير . الملك هو الهدف الذى أناور كى أصل بحصارى إليه . أجده فى موضع العزلة ..
    تعالت دقات الأحذية الضخمة فوق السلالم ، ترافقها همسات ونداءات وعبارات محذرة وقرقعة سلاح . انتهت عند البسطة ، أمام الشقة . ارتفع ـ بعدها ـ صوت آمر :
    ـ افتح !
    لفتنى ارتجافة حين ارتسم ـ فى جانب الجدار ـ ما يشبه المشنقة . تدلى حبل ، فى نهايته أنشوطة .
    أعدت النظر . تماوج الحبل ، وتقطعت الأنشوطة إلى نثارات ..
    أرجعت تصورات الأشكال والتكوينات إلى ما بداخلى ، ما أعانيه .
    لم أزايل موضعى . ظللت ممدداً ، نظراتى محدقة إلى الجدار ، أتأمل اختلاط التكوينات بما لم أتوقعه . اختفت الأشكال المتداخلة . حلت ـ بدلاً منها ـ أشكال أشبه بالمسدسات والقنابل اليدوية . اعتدلت فى موضعى بحيث واجهت الباب المغلق . حركت إصبعى كأنى أضغط على زناد . علا صوت انطلاق رصاصة . توالى تحريك إصبعى . تعالت أصوات الرصاص والصيحات ..
    فى داخلى إصرار على المواجهة ..
    يظل إصبعى فى وضع الضغط على الزناد .
  • 25/01/2008, 08:16 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (12)
    *فتــــــــوى*
    ..................

    عاد العلماء والفقهاء وأصحاب الرأى إلى الجوامع والمعاهد والمدن والقرى . أغلقوا على أنفسهم أبواب صوامعهم . انشغلوا بقراءة ما على الأرفف من مجلدات ومخطوطات وحجج ووثائق . يحاولون التوصل إلى ما طلبه السلطان من معنى ، يدير به أمور السلطنة ..
    كان السلطان قد دعا العلماء والفقهاء وأهل المشورة من العاصمة ومدن الأقاليم . امتلأت بهم القاعة الكبرى فى القصر . من لم يجدوا مقاعد اكتفوا بالوقوف ، وإن وقف الجميع ـ احتراماً ـ لما أعلن الحاجب دخول السلطان ..
    جلس السلطان فى موضع الصدارة ، عن يمينه ويساره قادة الجند والأمراء وكبار الموظفين ..
    تأمل الحضور الذين شكلوا ما يشبه الحدوة ..
    قال :
    ـ دعوتكم لأمر خطير ..
    أضاف لنظرات الخوف المتسائلة :
    ـ هو أمر لا يخص فرداً ولا مجموعة أفراد ، لكنه يخص كل الناس ..
    وقال للصمت السادر ، والتوقعات التى بلا حد :
    ـ الشائعات تملأ الأسواق أننا اغتصبنا الحكم بقوة السلاح ..
    أردف فى لهجة فاهمة :
    ـ أعرف أن هناك أحكاماً فقهية تعترف بشرعية الحاكم عندما يغتصب الحكم بقوة السلاح ..
    وعلا صوته فى كلمات باترة :
    ـ عودوا إلى الكتب ، واستنبطوا الأحكام الفقهية التى تناصرنا ..
    رجع العلماء إلى المجلدات والمخطوطات وأحكام الدين ، وروايات التاريخ . طالت مراجعاتهم لأنفسهم ، ومناقشاتهم لبعضهم البعض ..
    طالت المراجعات والمناقشات ، والأخذ والرد ، وتكومت مئات الفتاوى فى ديوان السلطان .
    طالب السلطان موظفيه أن يطيلوا قراءة الآراء والاجتهادات ، ويختصروها فى كلمات محددة ..
    وصل الموظفون الليل بالنهار فى تقليب ما بين أيديهم من فتاوى ..
    فى يوم تاريخى ، حضره كل من دعوا فى البداية ، وحُشِدت جموع الناس ـ فى حراسة الشرطة ـ خارج القصر ، أعلن كبير الياوران أن خلاصة الاجتهادات تقول : " هذه إمامة المتغلب . الناس فيها راضون ، والسلطان وعد الناس بالعدل .. فلم لا نثق فى صدق وعده ؟ " .
  • 25/01/2008, 08:15 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (11)
    *القاضي ولسعة الكرباج*
    .....................................

    فاجأ السلطان قاضى المدينة والحضور ، حين أمر المشاعلى أن ينزع عن القاضى ثيابه ..
    نطق الفزع فى عينى القاضى . حدس أن نفس السلطان تغيرت عليه لسبب لا يعرفه ، فهو سيأمر المشاعلى أن يطيح برأسه ..
    أدرك السلطان ما يعانيه القاضى . لزم الصمت حتى يزيد فى قلقه وخوفه ..
    كانت رقاع كثيرة قد رفعت إلى مقام السلطان ، تعيب على القاضى أنه يأخذ بالشدة فى كل أحكامه ، لا يستثنى حتى المخالفات البسيطة التى لا تستدعى المؤاخذة ..
    قالت الرقاع إن القاضى يحكم على من يقفون بين يديه بالجلد ، وأنه ينفذ الأحكام بنفسه ، لا يلقى الكرباج ـ أحياناً ـ إلا بعد أن يلفظ المتهم أنفاسه ..
    قال السلطان :
    ـ أنت تصدر الأحكام منذ عشرات السنين . لا بأس من أن نصدر عليك حكماً لمرة وحيدة ..
    قبل أن يعلو صوت القاضى بالسؤال ، أو بالتذلل ، أشار السلطان إلى المشاعلى بإصبع متجهة إلى أسفل ، دلالة أن يضرب ظهر القاضى العارى ضربة واحدة ..
    هوى المشاعلى بالكرباج على ظهر القاضى الذى تواصل نحيبه وصراخه ، لا يوقفه حتى أمر السلطان له بأن يصمت ..
    قال السلطان :
    ـ هاأنت تتألم من لسعة كرباج واحدة .. ألم تفكر فى تأثير ضربات كرباجك على ظهور الناس ؟!
  • 25/01/2008, 08:13 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (10)
    *لقــــــــــاء*
    ...................

    طرق باب السلطان ليخلصه مما يعانيه ..
    كانت البيانات قد ألصقت على الجدران والأعمدة وأبواب المساجد والزوايا وأشجار الطريق . تدعو إلى العدل والمساواة بين الناس . تعد بالنصفة من يطرق باب السلطان ..
    أعد فى نفسه ما ينبغى قوله . تعددت زيارات جابى الضرائب إلى كوخه الخشبى المطل على النهر . أخذ أعوانه كل ما فى الكوخ . حتى الثوب الوحيد أجبروه على نزعه ، والحياة شبه عار . حتى الأرض التى كان يقتات من زراعتها ، نسبها الجابى إلى رجل له سحنة تشبه سحنته . ذلك ما أزمع أن يحدث به السلطان . كل السحن متشابهة . لا فرق فى الملامح ، ولا فى التصرفات ، بين الجابى والمحتسب وقائد الشرطة وسواهم من أعوان السلطان ..
    أذن له الحارس بالدخول . اجتذبته الرهبة ، فشرد عن الأبهة التى تنطق بها القاعة الفسيحة ..
    تنبه إلى صيحة الحاجب بأنه يقف بين يدى السلطان ..
    غالب ارتباكه ، ورفع رأسه ..
    ندت عنه صرخة ، لم يقدر على كتمها . طالعته السحنة نفسها التى قدم بها إليه فى كوخه الخشبى ، زواره من أعوان السلطان .
  • 25/01/2008, 08:12 AM
    د. حسين علي محمد

    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (9)
    *السلطــان*
    ..................

    عاد إلى بلاده من المدينة البعيدة . أنصت إلى أحاديث الناس عن ضيقهم بتصرفات حاشية السلطان ، وقسوة جنده ، والأسوار التى عزلت قصوره ، فلا يتاح لأحد بالمثول بين يديه ، أو رفع رقاع التظلم ..
    تحدث عما رآه ـ فى المدن البعيدة ـ من حرية الناس فى إبداء الرأى والاختلاف والقراءة والسماع والمشاهدة والسهر والغناء والنوم والتنقل وإطلاق الضحكات ..
    لما تحدث الناس عن زوار الليل ، يأمرهم السلطان بأن يداهموا البيت فى أوقات الليل المتأخر ، يلقون القبض على من همس بشائعة ، أو التقى بالآخرين فى أماكن مظلمة ، أو رسم الحزن على ملامحه ، طالب الناس أن يختاروه سلطاناً عليهم ..
    بدا حل المشكلات فى اختياره سلطاناً ، ليقضى على ما فى حياة الناس من مشكلات . يكرر القول ـ كلما رأى ما يضيق به الناس ـ إن اختياره سلطاناً سيقضى على هذه المشكلات تماماً ..
    كان إلغاء منصب السلطان أول ما أصدره السلطان الجديد من مراسيم!
هذا الموضوع لدية أكثر من 12 ردود. اضغط هنا لعرض الموضوع بأكمله.

ضوابط المشاركة

  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •