الرد على الموضوع

أضف مشاركة إلى الموضوع: الأساطير ..؟!

رسائلك

اضغط هنا للدخول

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

 

يمكنك إختيار أيقونة لرسالتك من هذه القائمة

الخيارات الإضافية

  • سيتم تحويلها www.example.com إلى [URL]http://www.example.com[/URL].

عرض العنوان (الأحدث أولاً)

  • 24/11/2006, 06:01 AM
    أبو شامة المغربي

    رد : الأساطير ..؟!

    الأسطورة
    الأسطورة في العصر الجاهلي
    بقلم الكاتبة
    ندى الدانا
    مقدمة:
    الأسطورة هي الجزء الكلامي المصاحب للطقوس البدائية حسب رأي كثير من الباحثين، وبعضهم يؤكدون أن الطقس أسبق من الأسطورة، وقد احتفظ التراث الشعبي بكثير من العناصر الأسطورية والطقوسية، والحكاية الخرافية والشعبية صيغة متطورة عن الأسطورة تحت تأثير صنعة القاص، وتعتبر الأساطير أقدم مصدر لجميع المعارف الإنسانية.
    المعنى العربي لكلمة أسطورة:
    الأساطير هي الأحاديث التي تفتقر إلى النظام ، وهي جمع الجمع للسطر الذي كتبه الأولون من الأباطيل والأحاديث العجيبة ، وسطر تسطيرا تعني أنه ألف وأتى بالأساطير.

    والأسطورة هي الأقوال المزخرفة المنمقة، واستخدمت كلمة الأساطير في القرآن الكريم لتعني الأحاديث المتعلقة بالقدماء "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين" أي مما سطروا من أعاجيب الأحاديث وكذبها.

    وفي القرآن الكريم "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ".

    أما الخرافة فهي من خرف أي فسد عقله، والخرافة هي الموضوعة من حديث الليل المستملح، و(خرافة) اسم رجل من قبيلة عذرة، استهوته الجن، فكان يحكي ما رآه، فكذبوه، وقالوا: (حديث خرافة)، أو(حديث مستملح كذب)، ولم تذكر هذه الكلمة في القرآن الكريم ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: حدثيني. قالت: ما أحدثك حديث خرافة.

    أما الشاعر العربي الجاهلي فربط بين المدلول الغيبي للكلمة، ومعناها اللغوي، قال:

    حياة ثم موت ثم نشر * حديث خرافة يا أم عمرو
    الأساطير عند عرب الجاهلية:
    من الصعب دراسة الأساطير العربية القديمة بشكل علمي، لأن مصادر التاريخ قليلة وغير موضوعية، والأدب العربي القديم ضاع بسبب عدم وجود الكتابة عند العرب، ومعظم ما كتب عن تاريخ الجاهلية كان بين 500 و 622م أي مئة سنة قبل الإسلام، وقد وصلتنا عن طريق النقوش والرواة أخبار متقطعة مبعثرة مثل الأساطير البابلية التي اكتشفت في الألواح السبعة، ونقوش الساميين الشماليين، والأدب العربي الذي نعرفه يتعلق بالجاهلية قبل الإسلام بفترة قصيرة، حيث دونه الكتاب ووصلنا عن طريقهم مثل سيرة ابن هشام، وأخبار عبيد بن شرية، والإكليل، وحياة ا لحيوان للدميري، وفي كتب المتأخرين مثل الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومروج الذهب للمسعودي، والأزرقي، والبلخي، والقز ويني، والثعالبي، والألو سي.
    كانت الأسطورة عند عرب الجاهلية تمثل علاقتهم بالكائنات، وآراءهم في الحياة، ومشاهداتهم، وكانت مصدر أفكارهم ، ألهمتهم الشعر والأدب، وكانت الدين والفلسفة معا.
    لم يستطع العربي الجاهلي أن يتصور ما وراء الطبيعة، ولم يتخيل حياة بعد الممات، وطبيعة بلاده الصحراوية جعلته يؤمن بالدهرية، ويقدس الحجر، والحيوان، والأشجار.
    تأثر العربي الجاهلي بالوثنية البابلية ، وحين اشتهرت الأديان في شبه الجزيرة العربية ، تأثر بالأديان اليهودية والمسيحية ، وتأثر بآراء الصابئة خاصة في عبادة النجوم.
    وحسب آراء المؤرخين المهتمين بأنساب العرب ، يشترك العرب مع الفينيقيين والآشوريين والبابليين في أصولهم لأنهم يتشابهون في أجسادهم وعاداتهم ، ثم افترق العرب عنهم وصار لهم مميزات خاصة بسبب بيئة البادية . فالعرب هم بقايا الشعوب السالفة المبعثرة ، وحسب رأي الباحث رابرتسن سميث " إن الأمم التي تشعبت من أصل واحد قد تشترك في اتخاذ العقائد والشعائرالوراثية دينية أو غير دينية ".
    أثرت البيئة الصحراوية في الحجاز ونجد على طبيعة العرب ، فالأشجار نادرة، والآبار والعيون قليلة، مما جعل العربي الجاهلي يصبح اتكاليا، يعتمد على القضاء والقدر، وينتظر المطر، ولا يميل إلى الأمور المعقدة، وكان صافي الذهن يحب الكلمة الصريحة والبيان الواضح، وقد وصف العربي القديم المرئيات بدقة، ومالت غرائزه إلى المادة أكثر من المعاني والروح، وعرف العرب بالعرافة التي تمثل طورا من تطور أوهام العرب بدأ من الطيرة والتفاؤل والتشاؤم ، وتطور حتى وصل إلى عبادة وتقديس الأصنام، وصار العربي يستقسم بالأزلام ، والعرافة عند العرب نظرية مادية بحتة مبنية على الاستنباط من المحسوسات والعلامات، وعرف العرب أيضا بالفراسة والقيافة ومعرفة الأثر.
    خلط الجاهليون معنى الدهر بالقضاء والقدر وتطورت هذه العقيدة حتى خضعوا لسلطان (مناة وعوض)، وهي أصنام تعني الدهر، فصار الدهر إلها من آلهة العرب، وكانت غايتهم الخلود.

    وفي الأساطير العربية أن الملك ذو القرنين طمح إلى الخلود، ووصل مع الخضر إلى عين االدهر، يشرب منها الماء الذي يعطيه حياة أبدية، لكنه منع من ذلك، وطمح لقمان بن عاد إلى الخلود، وارتبط خلوده ببقاء سبعة نسور على قيد الحياة آخر نسر اسمه (لبد) ويعني الدهر، لكن النسور ماتت واحدا تلو الآخر حتى جاء دور لبد الذي مات وانتهت حياة لقمان بموته.

    كان خيال الجاهليين قادرا على توليد الأسطورة والخرافة بشكل تصوري، فقد تصوروا الأشياء، واسترجعوا التجارب وركبوا صورهم الشعرية المادية المحسوسة، وتصورهم السمعي هام يظهر في الأساطير العربية، وفكرتهم عن الأشياء الروحية تأخذ تصورا ماديا، فقد تصوروا الروح في شكل الهامة، والعمر الطويل في شكل النسر، والشجاعة في شكل الأسد، والأمانة في الكلب، والصبر في الحمار، والمكر والدهاء في الثعلب.
    عرفت بعض مظاهر الطوطمية عند الجاهليين، وهي تقديس الحيوان ويكون هو الطوطم، وهناك قبائل تسمت بأسماء الحيوان ، مثل بني كلب، وبني نعامة، وظنوا أن الحيوان يحميهم كما يحمي الطوطم أهله، وكانوا يكفنون الحيوان ويدفنونه مثل الإنسان ، ويحزنون عليه، وتفاءلوا بالطير، ونباح الكلاب على مجيء الضيوف، وتشاءموا من الثور مكسور القرن، والغراب ، فقيل: "أشأم من غراب البين"، وعبدوا الشاة ، وغيرها من الحيوانات، ولم يكن هناك حيوان مخصص لقبيلة بعينها.

    وتظهر الفكرة الطوطمية في تصور الجن حيث اعتقدوا أنهم خلقوا من بيضة، وأنهم من نسل الحيوان، وكذلك الغيلان والسعالى والهوام ، حسب قول المسعودي في "مروج الذهب"، وتطورت فكرة الجن بحيث إذا تحولت السعلاة إلى صورة امرأة تبقى رجلاها مثل رجلي الحمار أو العنزة.

    ونسبوا الأفراد والقبائل إلى نسل الجن ، وقيل إن بلقيس ملكة سبأ وذي القرنين من أولاد الجن ، وكان الجن يمثلون قوة الشر التي يقاومها شجعان القبيلة مثل تأبط شرا ، ولم تكن الجن طوطما ولا أبا للعرب لأنهم خافوا منها .

    وفي الأساطير العربية يمسخ الإنسان حجرا أو شجرا أو حيوانا ، جاء في (عجائب المخلوقات) للقز ويني أن الصفا والمروة كانتا رجلا وامرأة ثم مسخا صخرتين ، وفي (حياة الحيوان) للدميري ورد أن أساف ونائلة كانا رجلا وامرأة فصارا صنمين ، وجاء في (أخبار مكة) للأزرقي أن العربي لم يأكل الضب لأنه كان بظنه شخصا إسرائيليا مسخ ، وقال المقريزي في (أخبار وادي حضرموت العجيبة) إنه كان بوادي حضرموت على مسيرة يومين من نجد قوم يقال لهم الصيعر يسكنون القفر في أودية، وفرقة منهم تنقلب ذئابا ضارية أيام القحط ، وإذا أراد أحدهم أن يخرج إلى هيئة الإنسان تمرغ بالأرض، وإذا به يرجع إنسانا سويا.

    واختلفوا في رؤيتهم للمسخ، بعضهم زعم أن المسخ لا يتناسل، ولا يبقى، وبعضهم زعم إنه يبقى ويتناسل، حتى جعلوا الضب والأرانب والكلاب من أولاد تلك الأمم التي مسخت في تلك الصور كما جاء في كتاب (الحيوان) للجاحظ.

    ومن معتقدات الجاهليين أن الجبال تؤثر في الإنسان ، فجبل أبي قبيس يزيل وجع الرأس، وجبل خودقور يعلم السحر، واعتبروا شجرة النخيل من أقربائهم، وتصوروا أنها تشبه الإنسان، وكان الجاهلي يجعل شجرة (الرتم) حارسا على زوجته أثناء غيابه، وقد قدسوا الأشجار وعبدوها ، فكانت طوطما، ورأوا روح الشر في بعضها مثل (الحماطة) وهي شجرة تشبه شجرة التين، وعبد العرب كل ما يتعلق بالأشجار من أغصان وجذور وقشور، وعبدوا العظم والريش والناب والمخلب والحافر والسن والظفر والحجر، وقدموا لها القرابين ، واتخذوها تميمة تحميهم، وكانوا يعلقون على الصبي سن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطف والنظرة، وعبدوا النار وكانوا يرونها في الأشجار، وبطون الأحجار، والجبال.
    عبد الجاهليون الأصنام التي تحولت حسب العصر ، لكنها لم تصل إلى مرتبة الآلهة حتى القرن السادس قبل الميلاد ، لأن الجاهلي لم يكن يعتقد أن الصنم خلقه أو خلق الكائنات ، فكان تارة يقدسه ، وتارة يسبه ويشتمه ، وقد يصنع صنما من التمر ، وحين يجوع يأكله ، وتأثر الجاهليون بالوثنية البابلية والرومانية واليمنية ، فعبدوا الزهرة ، ومردوخ ، أو بعل إله الشمس والمطر والخصب مثل البابليين.

    وكلمة صنم أصلها آرامي ، فقد ورد عن أصنام تهامة أن لوح تهامة يذكر أسماء الأصنام الآرامية الثلاثة صلم وسنكال وعشرة ، وصلم هو بعل نفسه ، ولم ينحت العرب الأصنام بل جلبوها من الخارج، وأشهرها (هبل) وهو إله الخصب، وهو نفسه مردوخ في بابل ، ويسمى تموز أيضا في بابل ، وهو من أعظم الأصنام التي نصبتها قريش في جوف الكعبة ، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، جعلت له قريش يدا من ذهب، وكان إله مكة والكعبة.

    و(مناة) ويعني المنا أي القدر، وكان هذا الصنم منصوبا على ساحل البحر بين المدينة ومكة، وعبده الهذليون وعظمه كل العرب خاصة الأوس والخزرج.

    و(اللات) وهي اسم للشمس وقد أخذها العرب عن النبطيين وكانت صخرة مريعة بيضاء في الطائف، ونسبوا لها فصل الصيف.

    و(العزى)، وهي نفسها عشتار عند البابليين، إلهة فصل الربيع والحب، وكان لها تمثال أو رمز تحمله قريش في حروبها، وسميت الزهرة، ونجمة الصبح.

    و(ود) ويعني شجرة الحب في البابلية، وقيل إنه صنم إغريقي الأصل لأنه يشبه الصنم (إيروس) إله الحب عند اليونان ، فكان تمثاله على شكل رجل يرتدي حلتين ، وقد تقلد السيف ، وتنكب القوس، وبين يديه حربة وجعبة فيها نبل، وقد استمرت عبادته من عصر النبي نوح عليه السلام حتى العصر الإسلامي، وكان يمثل الحب عند الجاهليين، وهناك أصنام أخرى لا يتسع المجال لذكرها ، ثم تأثر الجاهليون باليهود والنصارى، ومزجوا وثنيتهم باليهودية، فكان لكل قبيلة صنم يعبدونه ويحلفون به، ويعتبرونه إلههم، وهكذا نرى أن الجاهليين لم يعرفوا معنى التوحيد، عدا بعض الأشخاص مثل ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، الذين اعتنقا المسيحية، وغيرهم من الحنفاء، حتى جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام والتوحيد، وعبادة الله الواحد.

    * ندى الدانا: أديبة وباحثة سورية، صدر لها:
    - عند النافذة، قصص قصيرة 1994
    - أوراق اللعب أوراق الأشجار، قصص قصيرة 1996
    - مطر يطرق بابي، شعر 1999
    - كوكب السلام، رواية خيال علمي للفتيان 2000











    د. أبو شامة المغربي
  • 24/11/2006, 05:07 AM
    أبو شامة المغربي
  • 24/11/2006, 05:00 AM
    أبو شامة المغربي

    رد : الأساطير ..؟!



    الأسطورة

    الأسطورة هي قصة خيالية أو مختلقة، وكانت ترتبط بالظواهر والكوارث الطبيعية وتفسيرها، فلقد تصور الأولون المطر إله يصب الماء من إناء بالسماء والريح له إله ينفخها بمراوح والشمس إله لأنها تضيء الدنيا ويشعل النيران.
    وكان الإنسان الأول يؤدي طقوسا للحصول علي هذه الأشياء وكان يعيش مع أساطيره كما إنشغلت كل الحضارات القديمة بسبب الخلق والخليقة.
    وتعتبر الأساطير حكايات مقدسة لشعب أو قبيلة بدائية وتراثا متوارثا ويطلق علي هذه الأساطير أحلام اليقظة ولها صلة بالإيمان والعقائد الدينية.
    كما تعبر عن واقع ثقافي لمعتقدات الشعوب البدائية عن الموت والحياة الأخروية، وهذه نظرة ميتافيزيقية، ومازالت القبائل البدائية تمارس الطقوس وتتبع أساطيرها التي تعتبر نوعا من تاريخها الشفاهي الذي لم يدون.
    ومن خلال الملاحم تروي الشعوب روايات عن أجدادها وحروبهم وإنتصاراتهم ورواية السير الشعبية الملحمية، لهذا لا تعتبر الأساطير تاريخا يعتمد عليه لأنها مرويات خرافية خيالية. فالإنسان البدائي لم يكن يشغل عقله لتفسير الظواهر الطبيعية، وكان يعتبر من منظوره الشمس، والقمر، والرياح، والبحر، والنهر بشر مثله، لهذا ظهرت أساطير الأولين لدي البابليينوالفراعنةوالرومانوالأغريقوالمايا.
    المصدر


    د. أبو شامة المغربي
    kalimates@maktoob.com
  • 23/11/2006, 09:18 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!



    "مولع بيسوع"

    قراءة في كتاب

    الوجه الآخر للمسيح


    للمرَّة الأولى في كتبه جميعًا يُعَنْوِنُ فراس السواح فاتحةَ كتابه الأحدث الوجه الآخر للمسيح[*] – فهو عادةً ما يكتفي بكلمة "فاتحة". أما هذه المرة فقد عَنْوَنَ فاتحتَه بعبارة "مولع بيسوع"؛ وهو بذلك يعطي كتابَه الجديد بُعدًا ذاتيًّا، إضافةً إلى بُعده الموضوعي والجهد الكبير الذي بذله السوَّاح في هذا العمل.


    يقول السواح في "فاتحته" إنه طالما فُتِنَ بشخصية يسوع التي رأى فيها "نموذجًا للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم وتأسيس عالم جديد، يتحقق المثالي فيه باعتباره واقعًا". وانطلاقًا من هذا الفهم الخاص للمسيح، بدأ السواح مشروعه الجديد بتقشير الطبقات المتراكمة التي تغطي الصورة الحقيقية للمسيح وللمسيحية من أجل إبراز الوجه الأصلي للمسيح الجليلي الكنعاني الذي نادى برسالة إنسانية شمولية، لا المسيح "اليهودي" الذي أحدث انقلابًا داخل المؤسَّسة الدينية اليهودية من خلال تعاليم ومواقف وأفعال عبَّرتْ عن تجاوُز الموروث وقادت إلى تشكيل كنيسة مستقلة، على الرغم من بقائها على ارتباط روحي بالتركة التوراتية.

    حتى يصل فراس السواح إلى هذه النتيجة، بدأ بدراسة الأناجيل الأربعة التي تعترف بها الكنيسة رسميًّا، فابتدأ بملاحقة الفرق بين الأناجيل الإزائية (وهي أناجيل متى ومرقص ولوقا) وبين الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، الذي هو نسيج وحده بين الأناجيل الرسمية الأربعة، "يمتلك رؤية خاصة به وبنية عامة وتحقيبًا زمنيًّا ونسيجًا لاهوتيًّا ليس له مثيل بين الأناجيل الإزائية الثلاثة"؛ والأهم من ذلك أن رسالة يسوع فيه مختلفة عن رسالته في الأناجيل الأخرى. ولقد تبيَّن للسواح أن أية محاولة للتسوية بين الأناجيل الأربعة لن تعدو أن تكون توفيقًا غير ناجح: إذا كان يوحنا على حق، كان الإزائيون على خطأ؛ إذ يستحيل أن يكون كلا الفريقين على صواب.

    للبحث في أسباب هذا الاختلاف، رجع الباحثُ إلى تاريخ كاد أن يصير نسيًّا منسيًّا بفعل السطوة التي مارستْها المداخلات اليهودية على العهد الجديد والتي لا بدَّ أن تبدو للمحقِّق غريبة كلَّ الغرابة وشاذة عن السياق العام للنصِّ المسيحي وأقوال يسوع ومواقفه العملية. هذا التاريخ هو التاريخ غير الرسمي للمسيحية الذي انتهى مع تبنِّي كنيسة روما الأناجيل الأربعة الرسمية.

    غير أننا بالعودة إلى القرن الأول والثاني الميلاديين نكتشف حركةً مسيحيةً راديكالية عارضت كنيستَي روما وأورشليم، متخذةً في القرن الثاني شكل كنيسة غير منمَّطة عقائديًّا وغير منظَّمة تراتبيًّا. وقد عدَّت هذه المسيحية الغنوصية نفسَها "الممثل الحقيقي للدين العالمي الجديد". وهي لم تكتفِ بإعلان "استقلالها التام عن اليهودية، بل أظهرت العداء لكلِّ الميراث التوراتي وتصوراته عن الألوهية والإنسان والعالم". وقد أنتج المسيحيون الغنوصيون أناجيلهم التي استمدوها من فهمهم "الأصيل لتعاليم يسوع المبثوثة في الأناجيل القديمة، ومن تعاليم أخرى له سرِّية بثَّها في تلاميذه"، وكذلك من تعاليم بولس "التي بثَّها في رسائله المعروفة أو التي قالها سرًّا لأتباعه المخلصين".

    ويرى المسيحيون الغنوصيون أن في إمكان "كل مَن تلقَّى الروح [...] أن يتواصل مع الإلهي دون واسطة". كما أنهم يعبِّرون عن معارضتهم للهرمية الكنسية ولدور رجال الدين في الكنيسة. ويرى بعضهم أن "طاعة رجال الدين تسلِّم المؤمنين إلى قيادة عمياء تستمد سلطتها من إله العهد القديم، لا من الله الحق".

    ويقودنا هذا إلى جوهر المسيحية الغنوصية الحقيقي: ترى المسيحية الغنوصية أن الله الحق ليس هو إله العهد القديم، صانع هذا العالم المادي الناقص المليء بالشرور، بل هو "الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصفٌ أو يحيط به اسم، الذي بشَّر به يسوع، وبالآب دعاه، وليس بأيٍّ من أسماء الألوهة التوراتية". وهي بذلك تربأ بالإله الآب عن أن يكون هو مَن خلق عالم المادة المليء بالشر.

    فمَن هو خالق هذا العالم إذن؟ إنه إله التوراة الذي "يوازي آنجرامانيو، شيطان الزرادشتية". والمسيحيون الغنوصيون يتصورونه "على شكل مسخ مزيج من هيئة الأفعى والأسد". وقد أطلقوا عليه أسماء، منها يهوه ويلضباعوث و"أمير هذا العالم". وهو لذلك جاء عالمًا ناقصًا سِمَتُه الألم والمرض والموت. وينجم عن هذه العقيدة رفض الغنوصيين لهذا العالم ومتطلباته التي تعرقل سعي الروح إلى الانعتاق واستعادة حالة السقوط إلى حالة الكمال.

    إذا كانت المسيحية على ما ذكرنا أعلاه، فكيف تغيرت هذا التغير الجذري واتخذت الشكل الذي نراه اليوم؟ يجيب فراس السوَّاح عن هذا التساؤل بردِّ هذا التحول إلى المداخلات اليهودية التي "أفلحت في خلق شوكة في خاصرة المسيحية عندما تم في القرن الرابع الميلادي الجمع بين العهد القديم وأسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس". ولقد لعبت المداخلات اليهودية، كما يرى السوَّاح، دورًا محوريًّا في عدد من القضايا، أهمها مكان الميلاد والشريعة ونَسَب يسوع وعالميَّة رسالته.

    ويرى الباحث أن قصة الميلاد في إنجيل متى هي أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد؛ إذ هي التي رسَّخت فكرة أصل يسوع اليهودي. فلقد ولد يسوع، بحسب متى، في مدينة بيت لحم اليهودية الواقعة قرب أورشليم من أسرة يهودية. ثم لكي يبرِّر رسالة يسوع وحياته التي قضاها في الجليل، يدبِّج متى قصة مذبحة بيت لحم وفرار العائلة المقدسة إلى مصر، ثم عودتها إلى ناصرة الجليل. على أننا، إذا ما نحَّينا هذه المداخلة جانبًا، لا نجد أيَّ شيء يربط يسوع ببيت لحم ومقاطعة اليهودية. فهو جليلي، ولد وترعرع وبشَّر في الجليل، أبواه جليليان، وكذلك تلامذته وأتباعه كلهم. ولا يكل الإنجيل أبدًا من الإشارة إلى "جليلية" المسيح: فهو يسوع "الناصري"؛ وكلما جرى حديثٌ بين اليهود عنه ذُكِرَ اسمُ الناصرة أو الجليل.

    وفي ذلك كلِّه اعتمد الكاتب في منهجه على مقاربة نقد–نصية، قرأ من خلالها نصوص الإنجيل بعيدًا عن التفسيرات الرسمية؛ كما اعتمد مقاربةً تاريخية، بحث من خلالها تاريخ الجليل، موطن يسوع وتركيبه الثقافي والإثني. ثم أعطى بعد ذلك حيزًا للبحث في المسيحية الغنوصية التي أسَّست لكنيسة واسعة الانتشار طرحت نفسها بديلاً عن كنيسة روما، مُحدِثةً قطيعةً تامة مع التاريخ الديني اليهودي ومطابِقةً بين إله اليهود والشيطان.

    كتاب من الصعب الإحاطة به في عرض موجز. فهي، إذن، دعوة إلى قراءة الكتاب بعين ناقدة، منفتحة، جديدة، وتكوين وجهة نظر عذراء في هذا الموضوع الشائك.

    *** *** ***


    [*]فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دار علاء الدين، دمشق 2004، 258 ص من القطع الكبير.
  • 23/11/2006, 09:17 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!



    عملي أقرب إلى تاريخ الأديان

    منه إلى الميثولوجيا


    أفينيون: يُعتبَر المفكر السوري فراس السواح أحد الباحثين الذين اهتموا بتاريخ الحضارات والأديان، وكذلك بالمفاهيم الميثولوجية في سورية وبلاد الرافدين. وقد أصدر عددًا من الكتب التي أصبحت علامةً فارقةً على درب البحث العربي في هذا المجال.


    السواح كان موجودًا في أفينيون خلال عرض جلجامش الذي عمل طويلاً على نصوصه. الشرق الأوسط التقت به هناك، وتحدثت معه عن رأيه في المسرحية وعن أبحاثه الخاصة.

    ***


    بينك وبين جلجامش «قصة حب» طويلة، إذا صحَّ التعبير. هل لك أن تروي لنا بداية هذه القصة والمراحل التي عبرتْها؟

    فراس السواح: قصَّتي مع «جلجامش» تعود إلى أكثر من 25 سنة على وجه التقريب. تعرفتُ إلى النصِّ أولاً من خلال ترجمات عربية مبكرة، مثل ترجمة طه باقر، الباحث العراقي المعروف، فلفت نظري النص – وكنت وقتذاك بدأت الانكباب على دراسة نصوص الشرق الأدنى القديم. كان نص جلجامش نصًّا متميزًا، على جانب كبير من الأهمية؛ فتابعت البحث فيه، وبدأت أطلع على الترجمات العالمية له باللغات الأجنبية. نص جلجامش نص عالمي، تُرجِمَ إلى لغات العالم الحية كلِّها تقريبًا: إلى الإنكليزية أكثر من عشر مرات، إذ صدرت الترجمة الأخيرة للباحث أندرو جورج العام الماضي [1999] في بريطانيا.

    ولأن النص قديم جدًّا وبلغة ميتة فهناك دائمًا اجتهادات في اللغة والمعنى. ومن هنا تتنوع الدراسات والأبحاث، وكذلك وجهات النظر في ما يتعلق بالترجمة والترجمة التفسيرية. وبعدما زاد اطلاعي على الترجمات العالمية، بدأت بإعداد نصي الخاص، فصدر كتابي الأول في العام 1981 تحت عنوان جلجامش، ترجمةً وتقديمًا؛ وكان كتابًا صغيرًا يحتوي على النص فقط وعلى مقدمة صغيرة. ثم وسَّعتُ الدراسة في العام 1987. وبعد ظهور ترجمات عربية وأجنبية جديدة، أعدتُ كتابةَ الكتاب من جديد، فصدر في 350 صفحة في العام 1996.


    شاهدنا جلجامش، الإنسان الذي لم يكن يريد أن يموت في عرض مسرحي خلال مهرجان أفينيون. كيف تنظر إلى العرض المسرحي الذي قدَّمه المخرج الفرنسي ?اسكال رامبير؟ هل خَدَمَ المخرجُ الملحمةَ في الشكل الذي اعتمده؟ وهل خَدَمَ الشكلَ الذي اعتمدتْه الملحمة؟

    ف.س.: الحقيقة أن رامبير قدَّم ساعة من العرض في دمشق [المعهد العالي للفنون المسرحية، ربيع 1998]. أما في أفينيون، فكان العرض مختلفًا إلى حدٍّ كبير. هناك حركة، استعراض، موسيقى... في دمشق، العمل كان هادئًا جدًّا، والحركة كانت بطيئة ومكثفة جدًّا، دون ديكور، دون ملابس، دون إضاءة – عمل عارٍ تمامًا من الناحية المسرحية. ذلك الأسلوب خَدَمَ النصَّ أكثر، في رأيي، وكان المفهوم المسرحي مختلفًا. أحببت العمل الذي قُدِّمَ في دمشق أكثر. قُدِّمَ هذا العمل نفسه في نيويورك [كانون الثاني 1998]؛ وقد تحدثت مع مسرحيين أمريكيين شاهدوا العرض في نيويورك وشاهدوه هنا [أفينيون، 2000]، فأيدوا وجهة نظري. المفهوم الذي قُدِّمَ في نيويورك ودمشق كان أعمق وأكثر جدية بالنسبة للملحمة. ولكن يبقى هذا العرض عرضًا متميزًا، عرضًا من الدرجة الأولى، ينتمي إلى مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة في المسرح. وهذا ما لم يعجب معظم المسرحيين في سورية عندما شاهدوا العرض، بينما أعجب كثيرًا من المثقفين والمطلعين والتنويريين الذين يتعاطون مع المسرح في مفهومه المعاصر.

    لغات ثلاث
    المخرج اختار أن يستخدم لغاتٍ ثلاث، الإنكليزية والفرنسية والعربية، للكلام على «جلجامش». هل تعتبر هذا المزيج مزيجًا لغويًّا موفقًا؟

    ف.س.: إن نصًّا عالميًّا مثل نص ملحمة «جلجامش» يحتمل اللغات الثلاث، ويحتمل هذا النوع من التطعيم بين عدد من اللغات، الذي هدفه إظهار الأصل الشرقي للملحمة. فاستخدامه للُّغة العربية هو من قبيل الإيحاء باللغة الأكادية القديمة، واستخدامه للُّغة الإنكليزية هو للإيحاء بعالمية النص وشموليته وشيوعه في مختلف أنحاء العالم. العمل كان موفقًا فعلاً. وأعتقد أن استخدام نصٍّ عادي حديث باللغات الثلاث لن يكون على الدرجة نفسها من التوفيق.

    لاحظنا أن هناك نوعًا من الالتزام السياسي: إشارات سياسية اخترقت العرض، يمكن للمُشاهد أن يُسقِطَها على النص الذي وُجِدَ في مدينة نينوى قبل خمسة آلاف سنة...

    ف.س.: رامبير من المثقفين الغربيين النادرين الملتزمين التزامًا كليًّا بالإنسان وبقضايا الإنسان. كان في القاهرة عندما بدأت الحرب العراقية؛ وخلال إقامته هناك اكتشف نصَّ «جلجامش»، فراح يبحث عن نصٍّ عربي في المنطقة يتفق ومفهومه عن العمل الذي كان يتكون في ذهنه في ذلك الوقت. وكان أن جاء إلى دمشق، فاجتمع بي، وأبلغني أنه اختار نصي من بين النصوص العربية للملحمة. اختياره للنص تعبير عن التزامه بقضية الإنسان بالدرجة الأولى، وبقضية العرب بالدرجة الثانية.

    اجتماعك برامبير في دمشق جاء بناءً على طلبه. ما هي الأفكار التي تبادلتموها حول الملحمة؟

    ف.س.: رامبير من المخرجين الكبار، وهو من أصحاب الرؤى. رؤيته كانت نهائية ومتبلورة حين جاءني، وبالتالي لم أُضِفْ الكثير. أنا لست بمسرحي، وإنْ أكن مغرمًا بالمسرح، وأتابع النشاطات المسرحية في سورية وخارجها. حوارنا كان حوارًا ثقافيًّا وفكريًّا حول النص، حول مفهوم النص ومعناه، وما شابه ذلك. سألته لماذا اختار نصي أنا ولم يخترْ غيره، فقال إنه، أولاً، وجده أقرب النصوص العربية إلى النصِّ الفرنسي والإنكليزي إلى درجة تبلغ حدَّ التطابق الكامل؛ فكان هذا أحد العوامل التي رجَّحتْ اختيارَه لنصي. العامل الثاني كان من خلال استشاراته التي قام بها في المنطقة (فهو يقرأ العربية، لكن ليس جيدًا)؛ وقد وجد النص قويًّا من الناحية اللغوية وقابلاً للتقديم.

    ما هي مآخذك، من موقعك كعارف بمسالك النص، على هذا العرض؟ وما هي النقاط التي أحببتها؟

    ف.س.: يمكن لنا أن نطرح السؤال بشكل آخر؛ فنحن لا نستطيع الحديث عن إيجابيات وسلبيات أو عن «مآخذ». يجب أن ننظر إلى هذا العمل ل?اسكال رامبير من خلال مفاهيمه الخاصة، وكعمل ينطلق من الحداثة وما بعد الحداثة. المخرج كان أمينًا لأسلوبه وتقنياته، من خلال مفاهيم مسرحه ومن لفَّ لفَّه. هذا العمل، برأيي، عمل متكامل وعظيم. أنا شخصيًّا أفضل العمل الذي قُدِّمَ في دمشق، ولكن هذه وجهة نظر شخصية جدًّا. لكن من وجهة نظر مفاهيم ?اسكال رامبير عن المسرح، من وجهة نظر مفاهيم المسرح الحديث، العرض ممتاز.


    النص قُدِّمَ في البرية، كما وَرَدَ في الملحمة، في حقل لعباد الشمس مساحته حوالى ثمانية هكتارات. كيف تفاعلت مع الإخراج الفرنسي للملحمة؟

    ف.س.: تقديمه في الهواء الطلق كان فكرة قديمة عندي. أنا عملت إعدادًا مسرحيًّا لـ«جلجامش». ففي آخر كتاب صدر لي عن الملحمة (وهو كتابي الثالث)، أفردت الجزء الأخير منه، الملحق بالكتاب، لإعداد درامي للملحمة، والتزمت فيه النصَّ بأكمله، لكني غيرت في اللغة. حاولت العمل على النص مع المخرج العراقي جواد الأسدي، لكن تصوُّرنا عن النص كان طموحًا جدًّا ويحتاج إلى تمويل كبير لم نستطع العثور عليه حتى الآن. خيارنا كان اعتماد النص الطموح جدًّا، وحتى الآن لم نجد منطقة طبيعية مناسبة، قد تكون سفح جبل وقد تكون شبيهة بالمنطقة التي اختارها ?اسكال. لكني اندهشت أول ما وصلت إلى الحقل؛ أدهشني هذا الاختيار، ولم أكن أعرف أننا نستطيع اختيار مكان بهذا القدر من الجمال!

    النص يعاني من ثغرات كثيرة اعترت ألواح الملحمة؛ وهذه قُدِّمَتْ كما هي في المسرحية. كيف تعاطى السواح مع هذه «الثغرات» في إعداده المسرحي للملحمة؟

    ف.س.: أنا لست مع هذه الطريقة في التعاطي مع الثغرات وفي التقديم. ?اسكال رامبير قدَّم العمل كاملاً، مع ثغراته كاملة. المُشاهد لا يهمه إذا كان في النص ثغرة أو لا. المهم أن نعمل في الإعداد المسرحي على ردم هذه الثغرات. رامبير كان ملتزمًا إلى حدٍّ كبير بالنص بشكله الأكاديمي. أما أنا، فلكي أتجاوز هذه الثغرات في النصِّ الأكاديمي الذي عملت عليه في ثلاثة كتب، عملت على ملء الفراغات بما يتلاءم مع المعنى، من دون إسقاطات أو آراء شخصية. فالمُشاهد يحتاج إلى نصٍّ متسلسل، وهو ليس طالبًا جالسًا في قاعة بحث وتقدَّم له مادةٌ أكاديمية علمية.

    عملتَ على أفكار ميثولوجية تعود إلى حضارات قديمة، بينها حضارات ما بين النهرين. وبين كتبك كتاب أثار ضجة كبيرة، هو لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. هل يمكن القول أيضًا إن هناك قصة حبٍّ طويلة بينك وبين عشتار؟ وكيف تلخِّص لنا رؤيتك لهذه الميثولوجيا وتأثيرها في عالمنا الحالي؟

    ف.س.: كتابي هذا قديم في نظري. كتبته بعد كتابي الأول مغامرة العقل الأولى الذي كان دراسة في الميثولوجيا السورية والرافدينية. من هذا الكتاب انطلقتُ إلى كتابة لغز عشتار، وتحدثت فيه عن ثيمة معينة هي ثيمة الإلهة الأم، صورها وتجلِّياتها في الثقافات المشرقية. ثم انطلقتُ من الثقافات المشرقية إلى متوازياتها في الثقافات العالمية، فتتبَّعت تجلِّيات مفهوم الإلهة الأم وتَمَظْهُراته في مختلف ديانات العالم وثقافاته، وقمت بمقارنة شاملة.

    بعد لغز عشتار، أضحى مجال البحث في نظري أوسع بكثير؛ لم يعد وقفًا على ثيمة ميثولوجية معينة أو على منطقة ثقافية بعينها، بل صار معنيًّا بالفكر الإنساني عمومًا. وقد تجسَّد ذلك في كتابي دين الإنسان، وهو بحث في مفهوم الدين وأصل الدافع الديني في الثقافات العالمية بأكملها. والكتاب محاولة للإجابة عن سؤال: ما هو الدين؟ لماذا يتدين الإنسان؟ ما هي القاعدة الأساسية التي تلتقي عندها جميع أديان العالم، منذ العصر الحجري إلى يومنا هذا؟ هذا ما تابعته فيما بعد. عملي صار أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى الميثولوجيا بمعناها المحدَّد والضيق. وأفضل اليوم أن أسمِّي هذا المصطلح، أي «تاريخ الأديان»، بـ«تاريخ الأفكار» (وهو مصطلح موفق جدًّا ومستعمَل في جامعات العالم اليوم)، لأنني لا أبحث عن الدين في سياقه الشعائري الطقسي، بل أبحث عن الفكر الذي يقدِّمه دين أو معتقد معين، عن رؤيته لما وراء العالم المنظور، لعلاقة الإنسان بالميتافيزياء، وفلسفة الإنسان عن معنى الوجود ومعنى الحياة، وما إلى ذلك. هذا ما أعنيه بتاريخ الأفكار. أنا أنتمي اليوم إلى مجال بات يُطلَق عليه مصطلحٌ جديد في بلدان العالم، هو مصطلح «تاريخ الأفكار».

    على أيِّ مشروع تعمل اليوم؟

    ف.س.: غالبًا ما يقال إنني صاحب «مشروع»! والواقع أنني لست صاحب مشروع على هذه الدرجة من الوضوح والتتابع. أعمالي تتوالد دائمًا بعضها من بعض. هناك بعض الكتَّاب يقولون: لدي مشروع للبحث في موضوع معين، سأخصص له مجلدًا، أو أعمل عليه طوال عدد معيَّن من السنين. هذا الشيء غير موجود عندي. الكتابة عندي تعبير عن مشروعي المعرفي الخاص. فكلما تعمقت في موضوع معين، وقرأت فيه، وتولدت عندي أفكار حوله، أعمد إلى كتابة كتاب لإشراك الآخرين في مشروعي المعرفي الخاص. فإذا كان عندي «مشروع» فهو مشروع معرفي؛ وهو خاص جدًّا، وأحب أن أشرك الآخرين فيه.

    *** *** ***
    عن الشرق الأوسط، صيف 2000
  • 23/11/2006, 09:16 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!



    الترجمات الخمس ليسوع

    رؤية نقديَّة


    فراس السوَّاح



    كأيَّة ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، تخضع الظاهرة الدينية لقوانين التبدل والتغير، نشوءًا وارتقاءً أم تبدلاً في الأشكال والمضامين. فكل دين يتكون في سياق تاريخي معيَّن، وفي بيئة ثقافية معيَّنة تطبعه بطابعها. ولكن هذه الصيغة الأصلية ما تلبث طويلاً حتى تأخذ في التغير، وذلك تبعًا لإيقاع تطور الجماعة، من جهة، وتبعًا لاحتكاكها بالجماعات المجاورة لها ومدى تأثرها بها، من جهة ثانية. ونحن نستطيع متابعة هذه السمة الحركية للدين منذ تعبيراته الأقدم في العصور الحجرية القديمة، وصولاً إلى أديان العالم الكبرى، البائدة منها والسائدة. ولا تشذ عن هذه القاعدة تلك الأديان التي تقوم على مفهوم الوحي والتي وضعتْ لها الأساسَ شخصياتٌ روحيةٌ متميزة قالت إنها تلقت وحيًا من السماء.

    هذه السمة التطورية للأديان تدعونا إلى القول بأنه سواء قام الدين على وحي أصلي أم على كدح روحي إنساني، فإن الإنسان في النتيجة هو صانع دينه. والتاريخ الروحي للإنسان ليس تبيانًا عن مقاصد الإرادة الإلهية في عالم البشر بقدر ما هو تبيان عن سعي الإنسان الحثيث إلى تلمُّس مقاصد الإرادة الإلهية والانسجام معها. بتعبير آخر، فإن الدين ليس كشفًا من الخارج بقدر ما هو كشف من الداخل.

    على أن قولنا بالأصل الإنساني للدين ليس دعوة إلى تقويض الدين، بل إلى فهمه فهمًا أفضل. وهذا الفهم الأفضل هو الذي يُبقي على الدين قوةً تحريرية كبرى في حياة البشر. الحس الديني عند الإنسان هو معطى قبْلي، لا يمكن إخضاعه لمختبرات العلم؛ وسيبقى عنصرًا فاعلاً في حياة الأفراد والمجتمعات، سواء آمنَّا بالوحي النازل من السماء أم بالروح الإنسانية التي تتوق إلى السماء. ففي لحظات الكشف الصافية، عندما يتواصل الإلهي بالإنساني، مَن يستطيع إجابتنا عن مَن اقتحم على الآخر عزلتَه: أهو الله أم الإنسان؟

    أسوق هذه المقدمة الموجزة لأقول بأني أتفق مع مؤلِّف كتاب الترجمات الخمس ليسوع[*] (صدر في العام 1940) في الأطروحتين الرئيسيتين اللتين يقوم عليهما كتابُه: أولاهما السمة التطورية للعقيدة المسيحية، والثانية قوله بأن الدين هو نتاج فعاليات الإنسان الروحية والفكرية، وليس كشفًا يأتي من عالم الغيب. لكني، مع ذلك، أختلف معه جذريًّا في النتائج التي بناها على هاتين المقدمتين كافة. ولسوف أبدأ بعرض سريع لأفكار المؤلِّف قبل أن أعمد إلى نقدها.

    يقول المؤلِّف في فصله الأخير المُعَنْوَن "يسوع والعقل المعاصر" ما يلي:

    كثيرًا ما سُئلت خلال سني خدمتي الطويلة، كما سُئل غيري من رجال الدين المتحررين: "ما الذي تركه لنا النقد العالي من الإنجيل سوى الغلاف؟" والحقيقة أنه تركه كلَّه من الغلاف إلى الغلاف. لم يأخذ النقد من الإنجيل أيَّ كتاب أو فصل أو آية أو كلمة. إن هذا العلم يهدف إلى إعلامنا كيف وصل الإنجيل إلينا، ومساعدتنا على فهمه بشكل أفضل وتقديره بشكل أكثر. ما دمَّره النقدُ العالي هو نظرية قديمة وخاطئة عن الإنجيل. [...] لقد ورثنا، ولم نقرِّر لأنفسنا، الاعتقادَ بأن الإنجيل هو كلمة الله. من أين أخذنا هذا الاعتقاد؟ ليس من الإنجيل نفسه بل من الكنيسة.

    ويقول أيضًا:

    ليس الهدف من النقد إذًا تدمير الإنجيل بل كشفه من جديد لأذهاننا. وإن إحدى أهم نتائجه هو اكتشاف أن الإنجيل، كغيره من الكتب المقدسة، سجل حي لمحاولة الإنسان أن يجد ما يعتقد أنه الحقيقة المقدسة والأبدية، ويتحد بها، وليس هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق.

    ويقول أيضًا:

    استنادًا إلى كلِّ ما سبق، ليس ثمة حقيقة أنصع من كون الإنجيل كتابًا إنسانيًّا. إنه كلمة الإنسان عن الله.

    ويقول أيضًا:

    لقد نجمت مشاكل يسوع عن كونه نبيًّا وقع بين أيدي كهنة. مفكر خلاق، ومصلح، ظهر في وسط الكتبة واللاهوتيين.

    ويقول:

    إننا ملتزمون بقبول النتائج التي يكشف عنها العلمُ الحديث عن إنسانية يسوع الأساسية. من هنا، فإن يسوع بالنسبة إلينا كان إنسانًا ارتقت فيه العبقريةُ الروحية للإنسانية إلى أسمى مراتبها.

    انطلاقًا من هذا الاعتقاد بإنسانية يسوع، يعمد المؤلِّف في القسم الأول من كتابه إلى رسم صورة حيوية لمراحل تطور العقيدة المسيحية، من يسوع الناصري، النبيِّ والمعلم الأخلاقي الذي ظهر في الجليل، إلى الإله الابن الذي أُعلِنَ كذلك في مجمع نيقيا في العام 325 م بإرادة إمبراطور روماني.

    فتَحْتَ الصورة اللاهوتية الشديدة التركيب التي رسمتْها المجامع المسكونية، يرى المؤلِّف الصورةَ الأصليةَ ليسوع، النبي الناصري، الذي لم يزعم في أيٍّ من مواعظه العامة ولا في حياته كلِّها أنه المسيح، وأنذر تلامذته أكثر من مرة قائلاً: "لا تقولوا البتة إنني هو." كما أن يسوع لم يكن على بيِّنة من أن له طبيعةً أو أصلاً خارقين. لقد ظهر كنبيٍّ كما ظهر يوحنا المعمدان قبله، وشعر أنه ابن لله مثل سائر الناس الذين دعاهم إلى التشبُّه بأبيهم الذي في السماوات. لم يزعم يسوع أنه ولد ولادةً خارقة ولا أنه ابن الله الوحيد. لقد عرَّف بنفسه كنبيٍّ حامل رسالة إلى شعبه، ولكنه لم يدع أية خاصية له. عمل معلمًا وشافيًا بين أبناء شعبه مثل الذين سبقوه أو عاصروه.

    وقف يسوع إلى جانب المنبوذين والفقراء وجميع الذين كان الفريسيون ينعتونهم بالملاعين، ودعا الصيادين والفلاحين الجاهلين بـ"نور العالم" و"ملح الأرض"، هؤلاء الذين احتقرهم الفريسيون لأنهم لا يعرفون الشريعة. لم يتكلم يسوع قط عن الإنسان كوارث لخطيئة آدم ولعنة الخطيئة الأصلية. وفي جميع تعاليمه لا يعطي أية إشارة إلى مجموعة العقائد التي شيدتْها الكنيسة باسمه في العصور اللاحقة. والخلاص الذي دعا إليه لا يتم عِبْر السيد الفادي المخلِّص، ولكن عِبْر تحقيق هدف الإنسان من الحياة، ألا وهو تحقيق الإرادة الإلهية.

    كان ذهاب يسوع إلى أورشليم مغامرةً غير محمودة العواقب. والمؤلِّف، في وصفه لهذه المرحلة التي انتهت بصلبه، يقول إن الزعم القائل بأن يسوع توجَّه إلى أورشليم ليموت على الصليب فداءً عن البشر هو زعم خاطئ. فعشية القبض عليه في جبل الزيتون قال لتلامذته: "نفسي حزينة حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا معي." ثم انفصل عنهم مسافة رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلَّى ثلاث مرات لكي تَعبُر عنه هذه الساعة قائلاً: "يا أبَّا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجِزْ عني هذه الكأس." وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. لكن صلاته لم تُستَجَبْ، وجاء يهوذا مع الجند وسلَّمه إلى أعدائه. وقبل أن يسلم الروح على الصليب صرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" الأمر الذي يدل، في رأي المؤلِّف، على أنه لم يطلب الموت على الصليب، ولم يكن كليَّ المعرفة أو القدرة.

    في نهاية هذا الفصل الأول، الذي يرسم فيه المؤلِّف صورةَ يسوع التاريخي كما يراها، يقول لنا:

    هناك انتهى عمل النبي الناصري. [...] وما سنشهده في الأقسام التالية من هذا الكتاب أنه بعد موته سعتْ عقولٌ غير عقله لإعطائه موقعًا معينًا في التاريخ. فلقد توجَّه أتباعُه اللاحقين، وجلُّهم من اليهود الهيلينيين، إلى الأمم وأخذوا أساسيات عقائدهم اللاهوتية من تلك المصادر الوثنية، وجعلوا من الناصري البسيط إلهًا خارقًا. لقد صبوا فكرهم في عقل يسوع، وألقى لاهوتُهم القائم على الأسطورة بظلاله على أقوال يسوع التاريخية، وأخفى طبيعتَه الإنسانية الأساسية.

    في الفصول التالية، يستعرض المؤلِّف الصور التالية المتراكبة ليسوع التي ابتكرتْها عقول من يسمِّيهم "الهيلينيين" ويرفضها جميعًا، باعتبارها صورًا منحرفة عن الصورة التاريخية الأصلية. وهذه الصور هي: صورة يسوع بيت لحم الذي ارتقى إلى مرتبة المسيح، وصورة يسوع أنطاكية الذي صار الكلمة، وصورة يسوع مجمع نيقيا الذي صار إلهًا من خلال التصويت في المجمع وتدخُّل الإمبراطور قسطنطين المتحول حديثًا إلى المسيحية.

    هذه خلاصة سريعة للأفكار الرئيسية في الكتاب الذي يحتوي على الكثير مما يمكن مناقشته والرد عليه. ولكن نقدي سوف يقتصر على مسألتين أساسيتين اثنتين: الأولى تتعلق بالصورة التي دعاها وحدها بالتاريخية والصادقة، وهي صورة النبي الناصري؛ والثانية تتعلق بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف والنتائج التي بناها على هذه المقدمات.

    فيما يتعلق بصورة يسوع التاريخي، يقول المؤلِّف إنه استند في رَسْمِها إلى الأناجيل الثلاثة المتشابهة، وهي إنجيل متى ومرقس ولوقا، في استبعاد كامل لإنجيل يوحنا الذي يعتبره إنجيلاً لاهوتيًّا بامتياز وسجلاًّ لأقوال مختلَقة لم يَفُهْ بها يسوع قط، وإنما هي إنشاء من قبل مؤلِّف الإنجيل. كما يستبعد أيضًا كلَّ رسائل بولس لأن تفاسيره قد تأثَّرتْ بالعقائد اليونانية والرومانية؛ وكذلك الأمر في بقية أسفار العهد الجديد.

    هذا الموقف التعسفي الانتقائي، الذي ينطلق من قبول بعض الأناجيل ورفض غيرها، يترسَّخ تدريجيًّا عندما نكتشف أن المؤلِّف كان انتقائيًّا أيضًا في اعتماده على الأناجيل المتشابهة الأولى، ولم يأخذ منها إلا ما وافق عقيدتَه وآراءه المسبقة. ولسوف أتوقف عند نقطتين فقط تُظهِران مدى انتقائية المؤلِّف: الأولى قوله بأن يسوع لم يُلمِّح إلى أنه سيذهب إلى أورشليم ليموت فداءً عن البشرية، ولم يكن عارفًا بما ينتظره هناك؛ والثانية قوله بأن يسوع لم يزعم عِبْرَ حياته التبشيرية أنه المسيح، وأنه حذَّر تلامذته من أن يُشِيعوا ذلك بين الناس.

    وللردِّ على النقطة الأولى أورِدُ هذه المقاطع من الأناجيل الثلاثة. فقد وَرَدَ في إنجيل مرقس، الإصحاح 10 (حيث ينبئ يسوع للمرة الثالثة على التوالي بموته) ما يلي:

    وكانوا سائرين في الطريق صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدَّمهم، وقد أخذهم الدهش. [...] فمضى بالاثني عشر مرة أخرى، وأخذ ينبئهم بما سيحدث له، قال: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فابن الإنسان يُسلَم إلى الأحبار والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلِمونه إلى الوثنيين، فيسخرون منه، ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم.

    ووَرَدَ في إنجيل لوقا، الإصحاح 9:

    وقال: "يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذلَه الشيوخُ والأحبارُ والكتبة، وأن يُقتَل ويقوم في اليوم الثالث."

    ووَرَدَ في إنجيل متى، الإصحاح 16:

    وبدأ يسوع من ذلك الحين يُظهِر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني آلامًا شديدة من الشيوخ والأحبار والكتبة، ويُقتَل ويقوم في اليوم الثالث. [...]

    فقال لهم يسوع: "إن ابن الإنسان سيُسلَم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم."

    هذا ما وَرَدَ في الأناجيل الثلاثة حول معرفة يسوع المسبقة بمصيره وقبوله له، بل وسعيه إليه. فما هي المصادر التي اعتمدها المؤلِّف إن لم تكن عقيدته وآراءه المسبقة التي اكتسبها من المذهب "التوحيدي" Unitarian الذي تحول إليه في أمريكا بعد هَجْرِه المذهب الأرثوذكسي؟

    أما قول المؤلِّف بأن يسوع لم يزعم طوال حياته أنه المسيح، فقول لا تؤيِّده الشواهد من الأناجيل الثلاثة التي يدَّعي الاعتماد عليها وحدها. صحيح أن يسوع قد أمر تلامذته ألا يقولوا لأحد إنه المسيح، – والسبب في ذلك، على الأرجح، رغبته في عدم الارتباط بمفهوم المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه، – ولكنه ارتضى لنفسه هذا اللقب من قبل تلامذته عن طيب خاطر، وأثنى على بطرس الذي كان أول مَن أطلق هذا اللقب عليه. نقرأ في إنجيل متَّى، الإصحاح 16-17:

    فقال لهم: "ومَن أنا في قولكم أنتم؟" فأجاب سمعان بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي." فأجابه يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات." [...] ثم أوصى تلاميذه بألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح.

    وفي مشهد المحاكمة، كما قدَّمه إنجيل مرقس (وهو أكثر الأناجيل بساطةً وبُعدًا عن التأملات اللاهوتية)، أعلن يسوع بكلِّ صراحة ووضوح أنه المسيح. نقرأ في الإصحاح 14:

    فسأله عظيم الأحبار ثانية قال له: "أأنت المسيح ابن المبارك؟" فقال يسوع: "أنا هو. وسوف ترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير، وآتيًا في غمام السماء."

    أنتقل الآن إلى المسألة الثانية التي يدور حولها نقدي لأفكار المؤلِّف، والتي تتعلق، كما أسلفت، بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف ونتائجه. فإذا كان الإنجيل "سجلاًّ حقيقيًّا لتطلعات الإنسان" و"بحثًا عن الحقيقة الدينية"، وليس "هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق" (على ما يقوله المؤلِّف في الصفحة 129 والصفحة 134)، وإذا كان الإنجيل "كتابًا إنسانيًّا" وكان "كلمة الإنسان عن الله" (كما يقول في الصفحة 134)، فلماذا يجب علينا أن نقبل بالصورة الانتقائية ليسوع الناصري كما رسمها المؤلِّف، ونرفض معه بقية الصور التي هي من صنع الإنسان أيضًا؟ ولماذا يجب علينا أن نتجاوز كلَّ تأملات الإنسان اللاهوتية التي رسمت صورة يسوع المسيح ويسوع الكلمة ويسوع الأقنوم الثاني في الثالوث؟ ألا تشكِّل هذه التأملات اللاهوتية، بدورها، سجلاًّ لتطلعات الإنسان وبحثًا عن الحقيقة الدينية؟ لماذا لم تتوقف تطلعات المسيحيين وبحثهم عن الحقيقة عند صورة يسوع الناصري، المعلم الأخلاقي، بل تجاوزتْها إلى يسوع المسيح المخلِّص؟ أليس لأن صورة المسيح المخلِّص الذي مات على الصليب طواعيةً فداءً للبشرية هي الصورة الأقرب إلى النفس الإنسانية في بحثها عن الخلاص؟ لقد اعترف المؤلِّف بهذه الحقيقة اعترافًا غير مباشر عندما قال في الصفحة 116:

    إن الطبقات الفقيرة في الإمبراطورية الرومانية لم تكن تكترث لرسالة اجتماعية، وإنما كانت تطلب خلاصًا شخصيًّا عبر سيد مخلِّص، في عصر غير آمن روحيًّا. وهذا ما قاد الإنسان الاعتيادي إلى اعتبار المسيح المعبود صديقَه ومساعدَه الإلهي. لم يعد الله كائنًا بعيدًا، بل ها هو يرافق الناس في طريق حياتهم الصعبة في شخص ابنه الذي كان بشكل غامض هو الآب نفسه أيضًا. لقد تعذب يسوع ولكنه انتصر أخيرًا. لهذا كان الصليب، رمز عذاب المسيح ومحبته، يمنح المجاهد روحيًّا دعمًا إلهيًّا ويحفظه ويهوِّن عليه في ساعات المرض والألم، ومعزيًا كلِّي القدرة في ساعة الموت.

    كلمات المؤلِّف هذه تقودنا إلى القول بأن المسيحيين قد صنعوا مسيحهم عبر القرون الثلاثة أو الأربعة التي تلت حياة يسوع، ولم يتلقوه "هدية معلَّبة" من الأعلى. فلماذا يجب علينا أن نرفض هذا المسيح اليوم لصالح هدية معلَّبة فعلية يقدِّمها لنا المؤلِّف هي صورة يسوع الناصري، المعلِّم الأخلاقي البسيط، التي يضفي عليها وحدها صفةَ الواقعية والتاريخية، بينما لا تعدو أن تكون صورة انتقائية تمَّ رسمُها رسمًا تعسفيًّا اعتمادًا على قراءة متحيزة للأناجيل الثلاثة – صورة لا تصلح لأن يُبنى عليها أيُّ دين حقيقي.

    وفي الحق أن الإبقاء على هذه الصورة وحدها، وشطب كلِّ تأملات المسيحيين اللاهوتية اللاحقة، من شأنه أن يخلق "مسيحية بلا مسيح"، ويجعل من يسوع مجرد نبيٍّ يهودي حاول إصلاح اليهودية من داخلها. وهذا بالضبط ما سعى إليه الفكر اليهودي على الدوام، ممتطيًا ظهر طوائف مسيحية جديدة، بينها طائفة "الموحدين" التي ينتمي إليها المؤلِّف. وهي طوائف نشأت في تربة ال?روتستانتية الأمريكية، تسعى جاهدةً للاستيلاء على روحها، لأن في ذلك استيلاءً على الروح الأمريكية – والاستيلاء على الروح الأمريكية هو عنصر هام من عناصر التحكم في عالم اليوم.

    *** *** ***
  • 23/11/2006, 09:14 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!

    لا دين يحتكر الحقيقة

    علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء

    إعلامنا غير موثَّق، مناهجنا التعليمية هابطة، والتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا إلا مُفَلْتَرًا



    حوار مع فراس السوَّاح



    ينفتح بك على غابة من الأسئلة... أسئلة تتعلق بتاريخك، بمعتقداتك، بحقيقة وجودك. ومن ثم يضعك وجهًا لوجه أمام باحثٍ آثَر البحث التاريخي، فكرس جلَّ جهده للبحث في الأسطورة وتاريخ الأديان، لتأتي كتبُه مغامرة العقل الأولى (1978)، لغز عشتار (1985)، دين الإنسان (1994)، الرحمن والشيطان (2000)، الحدث التوراتي (1989)، آرام دمشق وإسرائيل (1995)، تاريخ أورشليم (2001)، الوجه الآخر للمسيح (2004)، إلخ، ثمارًا لهذا المشروع، ولتطرح اسمَه كباحث عالميٍّ يتصف بالموضوعية والحياد، غدت مؤلفاتُه المؤسِّس الأساسي لتفكير أجيال أتت بعده.



    دُعِيَ واثنا عشر باحثًا عالميًّا للمشاركة في مؤتمر دولي حول أورشليم العصور القديمة. وعلى الرغم من هذه المكانة العالمية التي حقَّقها إلا أن مؤلَّفاته ما تزال بعيدة عن جامعاتنا، وما يزال أمرُ اعتمادها كمراجع خاضعًا لـ"مزاج" كلِّ أستاذ!

    في الحوار التالي، يوضح فراس السواح علاقته بكتابه دين الإنسان، الذي يعترف صراحةً أنه لم يستطع تجاوُزه حتى الآن؛ كما يوضح رأيه باقتصار ظهور "الأديان السماوية" على منطقتنا العربية؛ إلى رأيه بإعلامنا المحلِّي ومناهجنا التعليمية، وغيرها من المواضيع "الحساسة" التي ندعوكم إلى متابعة تفاصيلها عِبْر الحوار.

    ر.ج.

    ***



    روزالين الجندي: ما الذي يؤرق فراس السواح؟

    فراس السواح: هذه الهوة الكبيرة بين العلم والإعلام... فهذا الأخير دائمًا ما يتناقل أية مسألة في مستوى تناقُل الإنسان العادي جدًّا لها! للأسف، إعلامنا غير موثَّق، ولا يستند إلى ركيزة موضوعية.

    ر.ج.: هلا وضَّحت رأيك هذا؟

    ف.س.: للأسف، ليس لدينا ما يسمَّى صحفيًّا "متخصصًّا" في مجال معيَّن، بل هناك صحفي "شامل" يعمل في المجالات كلِّها – سياسية، اجتماعية، تاريخية، إلخ. وهذا يستتبع، بالتالي، ظهور أخبار في الصحف كثيرًا ما أطَّلع عليها فتضحكني؛ كأن تكون، مثلاً، خبرًا حول اكتشاف آثاريٍّ مكتوبًا بطريقة مغلوطة تمامًا. للأسف، الإعلام في بلدنا ما يزال مؤدلَجًا في كثير من نواحيه، لا يبحث عن الحقيقة بمقدار ما يبحث عن "الخبطة الإعلامية"! وللأسف أيضًا، فمعظم العاملين في التلفزيون والسينما والصحافة يعانون من هوة حقيقية بينهم وبين العلم.

    سأذكر لك حادثة مضحكة: منذ فترة، كان بعضهم يفكر في عمل مسلسل تلفزيوني حول أوغاريت؛ ولاستكمال جوانب تلك الفترة كاملة، لجؤوا إليَّ من أجل الأمور المتعلقة بالتاريخ. وفوجئت بأكثر من عامل في هذا المشروع يسألني: "هل كان اليهود حثيين؟" فكيف يكون اليهود حثيين؟! هذا إن دلَّ على شيء فعلى أن العاملين في المجالات الثقافية ليست لديهم معرفةٌ بألف باء التاريخ! هذه الأمور، إن كانت تجهلها الشرائح الوسطى، يجب ألا يكون الأمر كذلك عند هذه الفئة بالذات.

    ر.ج.: ما دور المناهج التعليمية في ذلك؟ هل أنت راضٍ عنها؟

    ف.س.: للأسف، أيضًا وأيضًا، مناهجنا التعليمية "هابطة" المستوى على الأصعدة كلِّها، وخاصة المتعلق منها بتدريس التاريخ. فالتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا نقلاً صحيحًا، بل يُنقَل مُفَلْتَرًا...

    ر.ج.: إذا كانت معرفة التاريخ الصحيح يُستمَد بعضُها من البحث الأرخيولوجي [الآثاري]، فبرأيك، هل نحن نولي أهمية لبحوث كهذه؟ – أقصد كمؤسسات ثقافية.

    ف.س.: طبعًا لا! فمؤخرًا فقط صارت لدينا بعثاتُ تنقيب وطنية. ولكن هذه البعثات تعاني من نقص في الكوادر المؤهلة لأن عدد الذين نوفِدهم لدراسة علم الآثار في الخارج قليل جدًّا مقارنةً بعدد مَن نوفِدهم لدراسة الطب أو الفيزياء إلخ. نحن – فعليًّا – لا نقدم شيئًا يُذكَر لعلم الآثار؛ ولا أعرف السبب، على الرغم من كون سورية منطقة غنية بالآثار: لدينا، مثلاً، أكثر من 200 "تل" حاليًّا من الممكن التنقيب فيها.

    جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا

    ر.ج.: في كتاب أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ – وهو مجموعة أوراق العمل التي قُدِّمَتْ إلى المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم – يقول محرِّر الكتاب توماس توم?سون في مقدمته إن العديد من المشاركين في المؤتمر أعادوا كتابة أوراق عملهم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. ألا يؤثر هذا، برأيك، على مصداقية هذه الأبحاث، فيترك لدينا الانطباع بأن مؤلِّفيها ينظرون إلى التاريخ من خلال ما يحدث عالميًّا؟ هل في إمكاننا فعلاً – والحالة هذه – أن نتحدث عن باحث "حيادي"؟



    أورشليم في التاريخ والتراث القديمين بتحرير توم?سون


    أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ بترجمة السواح


    ف.س.: في المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم الذي انعقد في عمان في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2001، كنت الباحث العربي الوحيد المدعو، بعد أن اعتذر الدكتور محمد محفِّل عن المشاركة لظروف عائلية. كان مخطَّطًا للمؤتمر أن يُعقَد في لندن، ثم تغيرت الخطة وتقرَّر انعقادُه في عمان؛ وهذا يعني أن معظم المستمعين إلى محاضرات المؤتمر سيكونون من العرب. وإذا أضفنا إلى ذلك الجوَّ المشحون الذي ساد المنطقة العربية والعالم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فقد أُخِذَتْ بعين الاعتبار رغبةُ بعض الباحثين في إعادة صياغة أوراق عملهم، لا من حيث المضمون والوقائع التاريخية والآثارية، بل من حيث اختيار العبارات والمصطلحات الملائمة المراعية للحساسيات. جميع المشاركين في المؤتمر هم من أصحاب الاتجاه "الراديكالي"، المتحرر من المنظور التوراتي؛ وقد كانوا، في الوقت نفسه، على درجة عالية من الحساسية لإمكانية سوء فهم جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا.

    ر.ج.: وماذا عن "الموضوعية" في البحث التاريخي؟

    ف.س.: بصراحة، علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء الشخصية وللإيديولوجيات القومية والدينية. غير أن ما وصلتْ إليه مناهجُ البحث التاريخي وتقنياتُ التنقيب الآثاري من تطور وتقدم إبان القرن العشرين قد ضيَّق، إلى حدٍّ كبير، الهامش المتاح أمام الباحث المغرِض، المتلون بالأهواء والإيديولوجيات.



    ر.ج.: في ظلِّ ما نواجهه من محاولات إلغاء وجودنا، وفي ظلِّ وجود "آخر" غير حيادي، هل على الباحث العربي أن يكون حياديًّا؟

    ف.س.: قطعًا، لأنني أرى أن على الباحث العلمي لا أن يكون حياديًّا فحسب، بل وأن يلتزم الموضوعية أيضًا، بحيث لا يؤجر نفسه لخدمة إيديولوجية معينة، لأنه، إن فعل ذلك، تجرَّد من ضميره كباحث وتخلَّى عن هدفه في تبيان الحقيقة.

    مشكلتنا – نحن العرب – أننا، منذ عصر النهضة، نحاول تزييف تاريخنا نفسه وإظهار الجزء "المشرق" منه فقط على حساب الجوانب "المعتمة"، في الوقت الذي طلع فيه في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية – بل وفي إسرائيل نفسه – جيلٌ من الباحثين الموضوعيين الذين يقولون الحقيقة كما هي. فإذا كانت في إسرائيل نفسه مجموعةٌ من الباحثين المعاصرين الذين يقفون ضد التيار الإعلامي التاريخي الإسرائيلي برمته، متوخين الحياد، فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟! برأيي، بمقدار ما نعرف حقيقة وضعنا نكون قادرين على استلام زمام المستقبل. وأقول لكِ إنه لا ينفعنا في هذا الوضع العصيب غير البحث الموضوعي وغير قول الحقيقة!

    ر.ج.: إذا عدنا إلى مساهمتك في كتاب أورشليم العصور القديمة، التي تناولتْ الجانب التاريخي لهذه المدينة بعرض متميز وشامل، ما هو الجديد الذي قدَّمتَه في هذه المداخلة على ما أوردتَه في كتابك تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود؟



    ف.س.: في الكتابة هنالك أمران على الكاتب مراعاتهما، هما: ماذا يقول؟ وكيف يقوله؟ وهذا يعتمد على الشريحة التي يتوجَّه إليها الكاتب، على اهتماماتها العامة وخلفياتها. في كتابي تاريخ أورشليم، توجهتُ إلى أوسع شريحة ممكنة من القراء، عربًا كانوا أم غير عرب، لأنني أضع في الحسبان دومًا أن مؤلفاتي سوف تُترجَم يومًا ما إلى لغة أجنبية.

    أما في ورقة العمل التي قدمتها إلى المؤتمر، فقد أعددت نفسي للتحدث أمام ثلاثة عشر باحثًا غربيًّا متمرِّسًا، ألِفوا اللغة والمصطلحات الأكاديمية؛ وكان عليَّ أن أتوجَّه إليهم بطريقة تلائم منهجيتهم ومصطلحاتهم، طريقة تفكيرهم وكتابتهم. ناهيكِ أن الكتابة باللغة الإنكليزية، التي كانت لغة المؤتمر، من شأنها أيضًا دفع تفكير الكاتب في مسارات تختلف عن تلك المسارات التي تدفع إليها الكتابةُ باللغة العربية. وكان من نتيجة هذا الوعي للمسألة أن توماس توم?سون وصف ورقة عملي، خلال ما تلا من مناقشات، بأنها "واحدة من أفضل الدراسات المختصرة التي كُتِبَتْ حتى الآن في تاريخ فلسطين".

    ر.ج.: ولكن المقارنة بين ما قدمتَه أنت في ورقة عملك وما قدمتْه عالمةُ الآثار مارغريت شتاينر تُظهِر خلافًا في تفسير نقص الوثائق الآثارية المستقاة من موقع أورشليم خلال فترة القرن العاشر قبل الميلاد (وهي الفترة المفترَضة لنشوء مملكة داود وسليمان). كيف تفسر لي هذا الخلاف؟ – على الرغم من أن استقصاء كلٍّ منكما اعتمد على تنقيبات كاثلين كينيون.

    ف.س.: مارغريت شتاينر أستاذة من جامعة ليدن في هولندا، آثارية متميزة وصديقة مقربة. ابتدأتُ بمراسلتها بعد أن قرأتُ لها عدة أبحاث في الدوريات المتخصصة؛ وفي آخر زيارة لي إلى هولندا حاولت الاجتماع بها، ولكنها كانت مسافرة. ثم التقينا أخيرًا في مؤتمر تاريخ أورشليم؛ وكانت لدينا ساعات طويلة قضيناها على مائدة الإفطار كلَّ صباح في مناقشة معضلات أرخيولوجيا أورشليم. وفي الحقيقة، لم يكن هنالك من خلاف جذريٍّ بيننا: فنحن متفقان على أن موقع أورشليم كان خاليًا من السكان؛ وهذه الواقعة لم نستمدها من تنقيبات كاثلين كينيون، بل ممَّن جاء بعدها.

    لقد قامت شتاينر نفسها بتنقيبات محدودة في الموقع؛ وقد ركزت على وجود حصن صغير في الموقع، على الرغم من خلوِّه من السكان، بينما كان جل تركيزي على خلوِّ منطقة يهوذا برمَّتها من السكان خلال القرن العاشر، وعلى انعدام القاعدة السكانية والاقتصادية التي تجيز افتراض قيام "دويلة" في يهوذا، – ناهيكِ عن مملكة كبيرة، – سواء وُجِدَ ذلك الحصن في الموقع أم لم يوجد. وقد استندتُ في تفسيري إلى نتائج المسح الأرخيولوجي الشامل الذي قام به المنقِّبون الإسرائيليون أنفسهم، والذي بدأت تقاريرُه الآثارية تُنشَر ابتداءً من العام 1988.

    معظم النظريات قابل للنقض

    ر.ج.: في كتابك تاريخ أورشليم، في حديثك عن مدينة "بيت لحم"، تتراجع عما أوردتَه في كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم من أن مدينة بيت لحم كانت قائمة في عصر تل العمارنة، أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتقول إنك تبنيت قراءة الباحث أولبرايت لأحد نصوص مراسلات تل العمارنة، وأن قراءته قد ثبت الآن عدمُ صحتُها[1]. ونحن، إذ نقدِّر عاليًا هذا التواضع العلمي والنقد الذاتي، فإننا نخشى، في الوقت نفسه، أن تكون معظم النظريات التي تفسر شتات اللُّقى الأثرية قابلةً للنقض استنادًا إلى مكتشفات جديدة...





    ف.س.: في أيِّ فرع من فروع المعرفة، هناك كمٌّ من شتات المعلومات الميدانية التي يجب على العقل الإنساني أن يجمعها، ينسِّق فيما بينها، ويحاول فهمها من خلال صياغته للنظريات. وبعض النظريات يصمد أمام الزمن، فيما البعض الآخر يتبدل ويتعدل أو يعفو عليه الزمن، وذلك تبعًا للمعطيات الجديدة. ولكننا لا نستطيع التوقف عن صياغة النظريات المفسِّرة في انتظار الانتهاء التام من جمع المعلومات لأن مثل هذه المرحلة لن تأتي أبدًا، والعلم في حركة دائبة. إن نظريات الفيزياء في عصر نيوتن هي غيرها في عصر أينشتاين، ونظريات أينشتاين هي غيرها في عصر الميكانيكا الكوانتية.

    ر.ج.: إذًا هل في إمكاننا القول إن النظرية هي تلخيص لمساحة المعرفة المتاحة لنا حتى زمن معيَّن، وإنه كلما ازدادت مساحةُ المعرفة توسَّعتْ النظريةُ أو حلَّت محلَّها نظريةٌ أخرى؟

    ف.س.: هذا صحيح... وهنا تحضرني دعابةٌ قالها عالم الآثار اللامع بريدوود، بعد أن كشفت التنقيباتُ الآثارية عن عدم صحة نظريته في أن القرى الزراعية الأولى نشأت عند سفوح المنطقة الجبلية المحيطة بالهلال الخصيب، – قال بريدوود: "إننا كعلماء آثار غير مهددين بالبطالة لأننا كلما صغنا نظرية كان علينا تعديلها بعد مدة؛ وهكذا فنحن في شغل دائم."

    ر.ج.: على فكرة، أستاذ فراس، المدقِّق في كتبك التاريخية الثلاثة، المكرَّسة حصرًا لتاريخ فلسطين القديم، يلحظ تركيزك على عنصر الخرافة الذي يحيط بالشخصيات التوراتية، مثل إبراهيم ونسله، ومثل موسى وداود وسليمان وغيرهم، علمًا بأن هذه الشخصيات قد وَرَدَ ذكرُها في القرآن الكريم. ألا يستتبع ذلك قولَك، غير المعلَن، بأن في القرآن عناصر "خرافية" أيضًا؟



    ف.س.: انظري... المشكلة في كتاب التوراة هي أنه يضع قصصه وشخصياتها ضمن إطار زمني وجغرافي محدد: فإبراهيم قد خرج من أور الكلدان، فاستقر مدة في حرَّان، في الشمال السوري، ثم هبط إلى أرض كنعان في فلسطين، وتنقَّل بين عدة مدن فلسطينية معروفة، ثم سافر إلى مصر وعاد منها؛ وداود أسَّس مملكة كبرى في فلسطين اشتملت على منطقة سورية الجنوبية بكاملها، حتى وصل نفوذُه إلى الفرات؛ وسليمان كان أعظم ملوك الأرض وأغناهم، حتى إن الفضة في عاصمته أورشليم صارت مثل الحجارة؛ إلخ. ثم جاء الباحثون المحدثون، وطابقوا بين الإطار الزمني التوراتي وبين التاريخ الميلادي، فصار من المرجَّح أن خروج إبراهيم من أور الكلدان قد حصل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومملكة داود وسليمان في أورشليم قامت خلال القرن العاشر قبل الميلاد، إلخ.

    إن ما أحاول إثباتَه، من خلال نتائج البحث التاريخي والآثاري الحديث، هو عدم توافق الإطار الزمني والجغرافي لتاريخ فلسطين التوراة مع تاريخ الشرق القديم عامة...

    ر.ج.: في ضوء ما سبق، هل نفهم أن النقد التاريخي للقصص القرآني وارد أيضًا؟

    ف.س.: لا، لأن القصص القرآني لم يرسم إطارًا زمنيًّا وجغرافيًّا للشخصيات؛ فهم في القرآن لا يتحركون في زمان معيَّن أو مكان معيَّن، وبالتالي، فإن النقد التاريخي هنا غير وارد بتاتًا. أنا لا أريد القول إن شخصيات القصص التوراتي لم توجد بالإطلاق، وإنما نفيت وجودها في إطارها الزماني والجغرافي التوراتي. ولو أن القرآن الكريم وضع شخصياتِه في إطار تاريخي وجغرافي يتعارض وما صرنا نعرفه عن تاريخ المنطقة وآثارها، لما ترددتُ في الإشارة إلى ذلك، تاركًا للاهوتيين والمفسِّرين التعامل مع هذه المسألة.

    كل دين هو طريق للوصول إلى الله

    ر.ج.: إلامَ يرجع، برأيك، ظهور جميع الأديان السماوية في منطقتنا العربية؟

    ف.س.: يرتبط مفهوم "الأديان السماوية"، غالبًا، بحكم قيمة: فهذه الأديان "أرقى" أو "أسمى" من الأديان السابقة عليها لأنها "أديان وحي"، جاء بها أنبياءٌ تلقوا رسالة من السماء وكُلِّفوا إيصالها إلى البشر.

    وفي الحقيقة، إذا آمنَّا بأن الله يتصل بالبشر عن طريق أشخاص مختارين، لاستتبع ذلك إيمانُنا بأن الله على اتصال دائم بالبشر منذ ظهور الإنسان على الأرض – وهذا يذيب الفواصل بين ما يُدعى ديانات "سماوية" وديانات "وضعية": فإما أن الأديان كلها سماوية، وإما أنها وضعية كلها!

    ر.ج.: وماذا تعتقد أنت؟

    ف.س.: أعتقد أن كلَّ دين هو طريق للوصول إلى الله، وله، بالتالي، من المشروعية ما لكلِّ دين آخر. ما من دين يحتكر الحقيقة وآخر زاغ عنها؛ وما الاختلاف بين الأديان سوى أمر يقتضيه التباين الثقافي بين الجماعات والأمم والشعوب.

    كتاب دين الإنسان وحده يقدِّم نظرية السواح متكاملةً

    ر.ج.: هذا الكلام عن الديانات ذكَّرني بكتابك دين الإنسان. لماذا قلت لي، عندما اتصلت بك أشكو صعوبته، إنه أهم مؤلفاتك وإنك، إلى الآن، لم تستطع تجاوُزه؟



    ف.س.: في حياة كلِّ مفكر خطٌّ بياني يسير صعودًا حتى الوصول إلى ذروة، يليها ثباتٌ على خطٍّ واحد. فديوان سقط الزند وما تلاه من شعر المعري كان علامات على طريق صاعد انتهى بـاللزوميات التي تشكل جوهر فكر هذا الشاعر والحكيم المتميز؛ كذلك مؤلفات إدوارد سعيد السابقة على كتابه الاستشراق، ومؤلفات محمد عابد الجابري السابقة على تكوين العقل العربي. وهكذا فإن دين الإنسان هو ذروة خطي البياني: إنه الكتاب الوحيد بين مؤلفاتي الذي يقدم "نظرية فراس السواح" متكاملةً؛ إنه رؤية شمولية، وليس بحثًا في موضوع محدد، كما هي الحال في لغز عشتار أو الرحمن والشيطان. ولكن تحقيق هذه الذروة بنظر الكاتب لا يعني التوقف عن الكتابة، لأن ما ورد في "كتاب الذروة" يتطلب مزيدًا من التفسير والتطوير والبحث في مواضيع محددة.



    ر.ج.: توحي مقدمات كتبك بأنك كنت في البداية مشروع فيلسوف؛ ثم انحرفت باتجاه البحث في الأساطير وتاريخ الأديان. ما رأيك في ما أقول؟

    ف.س.: هذه ملاحظة صائبة! لقد اجتذبتْني الفلسفة منذ سنوات الدراسة الثانوية، فقرأت الفلسفة الوجودية؛ ثم انطلقت إلى الفلسفة الغربية عامة والفلسفة الإسلامية، حتى توصلت في، عشرينيات العمر، إلى أن الفلسفة هي خلاصة الحضارة الإنسانية.

    ومع دراستي للفلسفة درست التاريخ أيضًا؛ واجتذبني بشكل خاص تاريخُ الشرق القديم الذي كلما تعمقت فيه لمستُ الأصول الأولى للتحضر الإنساني. ودراسة التاريخ قادتني إلى الأسطورة وتاريخ الأديان. وفي هذه المحطة الأخيرة، توصلت إلى نتيجة مفادها أن حكمة البشر وثقافاتهم لا تجسدها الفلسفة، بل الأسطورة والدين. فالفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيغل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية.

    ر.ج.: بدا لكثير من القراء بأن كتابك التاو: إنجيل الحكمة التاوية في الصين يشكل حالة شاذة بين مؤلفاتك الأخرى... هل هو حنين إلى مشروعك الفلسفي القديم؟



    ف.س.: على العكس، كتاب التاو الذي قدمت فيه شروحًا وتعليقات على كتاب تاو ته تشنغ المنسوب إلى الحكيم الصيني لاو تسو هو أقرب إلى فكري ومؤلفاتي مما يظن الكثيرون. فبعد أن تفرغت لدراسة التاوية، اكتشفت أنني قدمت في بعض مؤلفاتي مقاطع كاملة متلوِّنة بالفكر التاوي، وخصوصًا في لغز عشتار، فعرفت السبب الذي دفعني إلى التعمق في هذا الأثر الإنساني الخالد. لقد كنت "تاويًّا" منذ البدء، ولم أعرف ذلك إلا في مرحلة لاحقة!

    لا أسعى للترويج لفكر معيَّن

    ر.ج.: في كتابك الرحمن والشيطان يتضح منهجُه الظاهراتي الوصفي، الذي يكتفي بتقديم مادته دون التعليق عليها أو إبداء موقفه الشخصي من الموضوع. أستغرب اختيارك هذا المنهج دون سواه...



    ف.س.: في دراسة أية ظاهرة ثقافية هنالك نوعان من المحاكمة: الأولى تُدعى محاكمة وجود، والثانية تُدعى محاكمة قيمة. في المحاكمة الأولى يقوم الدارس بتقصِّي طبيعة موضوعه وتقديمها وفقًا لما تبدتْ له ظواهرُها، من غير تقييمها وإصدار الأحكام عليها؛ أما في المحاكمة الثانية فيبحث في أهميتها وجدواها ويصدر حكم قيمة عليها.

    وأنا أحاول، ما استطعت، تبني محاكمة الوجود لا محاكمة القيمة، لأنني لا أنطلق من موقف إيديولوجي معيَّن، ولا أسعى إلى الترويج لفكر معين. ما يهمني، بالدرجة الأولى، هو إرجاع القارئ إلى نفسه، وقد صار مسلَّحًا بزاد يساعده على التفكير الحرِّ المستقل وتشكيل مواقفه الخاصة. أنا لست مهتمًّا بإقناع القارئ، بل بتحريره من كلِّ ما يعطِّل ملَكات المحاكمة الحرة لديه. إن خلاصات أيِّ مؤلَّف من مؤلفاتي ونتائجه ليست وقفًا عليَّ، بل على القراء الذين يتلقونه ويناقشونه، يختلفون معه أو يتفقون. فالكتاب، برأيي، محرِّض، لا ملِّقن؛ والكاتب هنا أشبه بمعلِّم السباحة، لا بالنوتي الذي يعبر بالناس إلى الضفة الأخرى.

    ر.ج.: في الوقت الذي تتهم فيه بعض المؤرخين العرب بأنهم يأخذون بأفكار المستشرقين دون تروٍّ، اتهمك أحدُ المعلقين على كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم بأنك ما تزال تعاني من إشكاليات القراءات الغربية ذات النهج التوراتي في فهم تاريخنا القديم. كيف ترد على هذا الكلام الآن؟

    ف.س.: يا عزيزتي، أنا كاتب يعمل في صمت، بعيدًا عن الجدل الإعلامي، ونادرًا ما أدلي بتصريح أو أوافق على إجراء مقابلة. أولاً، أنا لم أتهم أحدًا من المؤرخين العرب – ولا أدري من أين جئتِ بهذه المقولة! فأنا أحترم كلَّ باحث جاد. في مناقشتي لكتاب التوراة جاءت من جزيرة العرب، التزمتُ جانب الحياد والموضوعية، وطرحتُ مقولاتي بكلِّ تواضع علمي وبكلِّ احترام للدكتور كمال الصليبي، الذي أكن له تقديرًا كبيرًا.



    وثانيًا، أنا لو أردت الردَّ على ما قاله كاتب تلك المقالة – وهو صديق عزيز لي! – لرددتُ قبل خمسة عشر عامًا. قال المسيح في إنجيل يوحنا: "مِن ثمارهم تعرفونهم." وأنا أقول: "مِن مؤلفاتي تعرفونني، لا مِن تصريحاتي." ومؤلفاتي تقول إن فراس السواح يقف على الخندق الأول في مواجهة الإعلام التاريخي التوراتي، في الوقت الذي يكتفي فيه الإعلامُ التاريخي العربي بمقولات بالية، مثل: "سورية مهد الحضارات"، "سورية أعطت أول أبجدية في التاريخ"، وما إلى ذلك من يافطات لا تصلح إلا للمهرجانات الإعلامية!

    ر.ج.: تذكرتُ شيئًا مهمًّا كنت أريد سؤالك عنه منذ البداية: هل صحيح أن كتبك غير معتمَدة كمراجع في جامعاتنا؟

    ف.س.: أولاً، لا توجد في جامعاتنا العربية أقسام متخصصة في تدريس موضوع تاريخ الأديان الذي أعمل في مجاله؛ من هنا لن تكون لمؤلفاتي فائدة مباشرة لطلاب أيِّ قسم من الأقسام الجامعية، بل فائدة عامة تدعم اختصاصاتهم الرئيسية. وثانيًا، إن الكتب الجامعية مخصصة أصلاً لعرض ألف باء المعرفة، لا للتعمق فيها؛ وكتبي ليست من هذا النوع الأكاديمي التعليمي. قد يحدث، في بعض أقسام الدراسات العليا، أن يوجِّه أساتذتُها أحيانًا طلابَهم لاستشارتي والاطلاع على بعض المراجع المفقودة لديهم. وبشكل عام، فإن المسألة خاضعة لمزاج كلِّ أستاذ: فهناك من الأساتذة مَن يوجِّه طلابَه للاستفادة من كتبي، وآخر لا يفعل. على كلِّ حال، كتبي معتمَدة جميعًا في الجامعة اللبنانية، وأربعة منها معتمَدة، على مدار سنوات الدراسة، في جامعة الزيتونة في تونس.

    ر.ج.: أخيرًا، – وأعدك أن هذا آخر سؤال، – بما أنه ليس في جامعاتنا قسم يهتم بتاريخ الأديان، كما قلت، لماذا تكرِّس جهدك كلَّه في هذا المجال إذن؟

    ف.س. [ضاحكًا]: مزاج! حدا إلو عندي شي[2]؟!

    *** *** ***

    حاوَرَتْه: روزالين الجندي

    تصوير: وائل خليفة





    [1] يمكن للقارئ الراغب في الاطلاع على تفاصيل هذه المسألة مراجعة كتاب السواح تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود، دار علاء الدين، دمشق 2001، ص 111، الهامش. (المحرِّر)

    [2] عبارة باللهجة الشامية تعني: "المسألة مسألة مزاج، ولن أقدم حسابًا عنها لأحد." (المحرِّر)
  • 23/11/2006, 09:11 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!



    لا دين يحتكر الحقيقة

    علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء

    إعلامنا غير موثَّق، مناهجنا التعليمية هابطة، والتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا إلا مُفَلْتَرًا


    ينفتح بك على غابة من الأسئلة... أسئلة تتعلق بتاريخك، بمعتقداتك، بحقيقة وجودك. ومن ثم يضعك وجهًا لوجه أمام باحثٍ آثَر البحث التاريخي، فكرس جلَّ جهده للبحث في الأسطورة وتاريخ الأديان، لتأتي كتبُه مغامرة العقل الأولى (1978)، لغز عشتار (1985)، دين الإنسان (1994)، الرحمن والشيطان (2000)، الحدث التوراتي (1989)، آرام دمشق وإسرائيل (1995)، تاريخ أورشليم (2001)، الوجه الآخر للمسيح (2004)، إلخ، ثمارًا لهذا المشروع، ولتطرح اسمَه كباحث عالميٍّ يتصف بالموضوعية والحياد، غدت مؤلفاتُه المؤسِّس الأساسي لتفكير أجيال أتت بعده.


    دُعِيَ واثنا عشر باحثًا عالميًّا للمشاركة في مؤتمر دولي حول أورشليم العصور القديمة. وعلى الرغم من هذه المكانة العالمية التي حقَّقها إلا أن مؤلَّفاته ما تزال بعيدة عن جامعاتنا، وما يزال أمرُ اعتمادها كمراجع خاضعًا لـ"مزاج" كلِّ أستاذ!

    في الحوار التالي، يوضح فراس السواح علاقته بكتابه دين الإنسان، الذي يعترف صراحةً أنه لم يستطع تجاوُزه حتى الآن؛ كما يوضح رأيه باقتصار ظهور "الأديان السماوية" على منطقتنا العربية؛ إلى رأيه بإعلامنا المحلِّي ومناهجنا التعليمية، وغيرها من المواضيع "الحساسة" التي ندعوكم إلى متابعة تفاصيلها عِبْر الحوار.

    ر.ج.
    ***


    روزالين الجندي: ما الذي يؤرق فراس السواح؟

    فراس السواح: هذه الهوة الكبيرة بين العلم والإعلام... فهذا الأخير دائمًا ما يتناقل أية مسألة في مستوى تناقُل الإنسان العادي جدًّا لها! للأسف، إعلامنا غير موثَّق، ولا يستند إلى ركيزة موضوعية.

    ر.ج.: هلا وضَّحت رأيك هذا؟

    ف.س.: للأسف، ليس لدينا ما يسمَّى صحفيًّا "متخصصًّا" في مجال معيَّن، بل هناك صحفي "شامل" يعمل في المجالات كلِّها – سياسية، اجتماعية، تاريخية، إلخ. وهذا يستتبع، بالتالي، ظهور أخبار في الصحف كثيرًا ما أطَّلع عليها فتضحكني؛ كأن تكون، مثلاً، خبرًا حول اكتشاف آثاريٍّ مكتوبًا بطريقة مغلوطة تمامًا. للأسف، الإعلام في بلدنا ما يزال مؤدلَجًا في كثير من نواحيه، لا يبحث عن الحقيقة بمقدار ما يبحث عن "الخبطة الإعلامية"! وللأسف أيضًا، فمعظم العاملين في التلفزيون والسينما والصحافة يعانون من هوة حقيقية بينهم وبين العلم.

    سأذكر لك حادثة مضحكة: منذ فترة، كان بعضهم يفكر في عمل مسلسل تلفزيوني حول أوغاريت؛ ولاستكمال جوانب تلك الفترة كاملة، لجؤوا إليَّ من أجل الأمور المتعلقة بالتاريخ. وفوجئت بأكثر من عامل في هذا المشروع يسألني: "هل كان اليهود حثيين؟" فكيف يكون اليهود حثيين؟! هذا إن دلَّ على شيء فعلى أن العاملين في المجالات الثقافية ليست لديهم معرفةٌ بألف باء التاريخ! هذه الأمور، إن كانت تجهلها الشرائح الوسطى، يجب ألا يكون الأمر كذلك عند هذه الفئة بالذات.

    ر.ج.: ما دور المناهج التعليمية في ذلك؟ هل أنت راضٍ عنها؟

    ف.س.: للأسف، أيضًا وأيضًا، مناهجنا التعليمية "هابطة" المستوى على الأصعدة كلِّها، وخاصة المتعلق منها بتدريس التاريخ. فالتاريخ لا يُنقَل لأبنائنا نقلاً صحيحًا، بل يُنقَل مُفَلْتَرًا...

    ر.ج.: إذا كانت معرفة التاريخ الصحيح يُستمَد بعضُها من البحث الأرخيولوجي [الآثاري]، فبرأيك، هل نحن نولي أهمية لبحوث كهذه؟ – أقصد كمؤسسات ثقافية.

    ف.س.: طبعًا لا! فمؤخرًا فقط صارت لدينا بعثاتُ تنقيب وطنية. ولكن هذه البعثات تعاني من نقص في الكوادر المؤهلة لأن عدد الذين نوفِدهم لدراسة علم الآثار في الخارج قليل جدًّا مقارنةً بعدد مَن نوفِدهم لدراسة الطب أو الفيزياء إلخ. نحن – فعليًّا – لا نقدم شيئًا يُذكَر لعلم الآثار؛ ولا أعرف السبب، على الرغم من كون سورية منطقة غنية بالآثار: لدينا، مثلاً، أكثر من 200 "تل" حاليًّا من الممكن التنقيب فيها.

    جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا
    ر.ج.: في كتاب أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ – وهو مجموعة أوراق العمل التي قُدِّمَتْ إلى المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم – يقول محرِّر الكتاب توماس توم?سون في مقدمته إن العديد من المشاركين في المؤتمر أعادوا كتابة أوراق عملهم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. ألا يؤثر هذا، برأيك، على مصداقية هذه الأبحاث، فيترك لدينا الانطباع بأن مؤلِّفيها ينظرون إلى التاريخ من خلال ما يحدث عالميًّا؟ هل في إمكاننا فعلاً – والحالة هذه – أن نتحدث عن باحث "حيادي"؟



    أورشليم في التاريخ والتراث القديمين بتحرير توم?سون



    أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ بترجمة السواح


    ف.س.: في المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم الذي انعقد في عمان في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2001، كنت الباحث العربي الوحيد المدعو، بعد أن اعتذر الدكتور محمد محفِّل عن المشاركة لظروف عائلية. كان مخطَّطًا للمؤتمر أن يُعقَد في لندن، ثم تغيرت الخطة وتقرَّر انعقادُه في عمان؛ وهذا يعني أن معظم المستمعين إلى محاضرات المؤتمر سيكونون من العرب. وإذا أضفنا إلى ذلك الجوَّ المشحون الذي ساد المنطقة العربية والعالم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فقد أُخِذَتْ بعين الاعتبار رغبةُ بعض الباحثين في إعادة صياغة أوراق عملهم، لا من حيث المضمون والوقائع التاريخية والآثارية، بل من حيث اختيار العبارات والمصطلحات الملائمة المراعية للحساسيات. جميع المشاركين في المؤتمر هم من أصحاب الاتجاه "الراديكالي"، المتحرر من المنظور التوراتي؛ وقد كانوا، في الوقت نفسه، على درجة عالية من الحساسية لإمكانية سوء فهم جمهور عربي مضطرب عاطفيًّا.

    ر.ج.: وماذا عن "الموضوعية" في البحث التاريخي؟

    ف.س.: بصراحة، علم التاريخ هو أكثر العلوم الإنسانية انقيادًا للأهواء الشخصية وللإيديولوجيات القومية والدينية. غير أن ما وصلتْ إليه مناهجُ البحث التاريخي وتقنياتُ التنقيب الآثاري من تطور وتقدم إبان القرن العشرين قد ضيَّق، إلى حدٍّ كبير، الهامش المتاح أمام الباحث المغرِض، المتلون بالأهواء والإيديولوجيات.


    ر.ج.: في ظلِّ ما نواجهه من محاولات إلغاء وجودنا، وفي ظلِّ وجود "آخر" غير حيادي، هل على الباحث العربي أن يكون حياديًّا؟

    ف.س.: قطعًا، لأنني أرى أن على الباحث العلمي لا أن يكون حياديًّا فحسب، بل وأن يلتزم الموضوعية أيضًا، بحيث لا يؤجر نفسه لخدمة إيديولوجية معينة، لأنه، إن فعل ذلك، تجرَّد من ضميره كباحث وتخلَّى عن هدفه في تبيان الحقيقة.

    مشكلتنا – نحن العرب – أننا، منذ عصر النهضة، نحاول تزييف تاريخنا نفسه وإظهار الجزء "المشرق" منه فقط على حساب الجوانب "المعتمة"، في الوقت الذي طلع فيه في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية – بل وفي إسرائيل نفسه – جيلٌ من الباحثين الموضوعيين الذين يقولون الحقيقة كما هي. فإذا كانت في إسرائيل نفسه مجموعةٌ من الباحثين المعاصرين الذين يقفون ضد التيار الإعلامي التاريخي الإسرائيلي برمته، متوخين الحياد، فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟! برأيي، بمقدار ما نعرف حقيقة وضعنا نكون قادرين على استلام زمام المستقبل. وأقول لكِ إنه لا ينفعنا في هذا الوضع العصيب غير البحث الموضوعي وغير قول الحقيقة!

    ر.ج.: إذا عدنا إلى مساهمتك في كتاب أورشليم العصور القديمة، التي تناولتْ الجانب التاريخي لهذه المدينة بعرض متميز وشامل، ما هو الجديد الذي قدَّمتَه في هذه المداخلة على ما أوردتَه في كتابك تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود؟


    ف.س.: في الكتابة هنالك أمران على الكاتب مراعاتهما، هما: ماذا يقول؟ وكيف يقوله؟ وهذا يعتمد على الشريحة التي يتوجَّه إليها الكاتب، على اهتماماتها العامة وخلفياتها. في كتابي تاريخ أورشليم، توجهتُ إلى أوسع شريحة ممكنة من القراء، عربًا كانوا أم غير عرب، لأنني أضع في الحسبان دومًا أن مؤلفاتي سوف تُترجَم يومًا ما إلى لغة أجنبية.

    أما في ورقة العمل التي قدمتها إلى المؤتمر، فقد أعددت نفسي للتحدث أمام ثلاثة عشر باحثًا غربيًّا متمرِّسًا، ألِفوا اللغة والمصطلحات الأكاديمية؛ وكان عليَّ أن أتوجَّه إليهم بطريقة تلائم منهجيتهم ومصطلحاتهم، طريقة تفكيرهم وكتابتهم. ناهيكِ أن الكتابة باللغة الإنكليزية، التي كانت لغة المؤتمر، من شأنها أيضًا دفع تفكير الكاتب في مسارات تختلف عن تلك المسارات التي تدفع إليها الكتابةُ باللغة العربية. وكان من نتيجة هذا الوعي للمسألة أن توماس توم?سون وصف ورقة عملي، خلال ما تلا من مناقشات، بأنها "واحدة من أفضل الدراسات المختصرة التي كُتِبَتْ حتى الآن في تاريخ فلسطين".

    ر.ج.: ولكن المقارنة بين ما قدمتَه أنت في ورقة عملك وما قدمتْه عالمةُ الآثار مارغريت شتاينر تُظهِر خلافًا في تفسير نقص الوثائق الآثارية المستقاة من موقع أورشليم خلال فترة القرن العاشر قبل الميلاد (وهي الفترة المفترَضة لنشوء مملكة داود وسليمان). كيف تفسر لي هذا الخلاف؟ – على الرغم من أن استقصاء كلٍّ منكما اعتمد على تنقيبات كاثلين كينيون.

    ف.س.: مارغريت شتاينر أستاذة من جامعة ليدن في هولندا، آثارية متميزة وصديقة مقربة. ابتدأتُ بمراسلتها بعد أن قرأتُ لها عدة أبحاث في الدوريات المتخصصة؛ وفي آخر زيارة لي إلى هولندا حاولت الاجتماع بها، ولكنها كانت مسافرة. ثم التقينا أخيرًا في مؤتمر تاريخ أورشليم؛ وكانت لدينا ساعات طويلة قضيناها على مائدة الإفطار كلَّ صباح في مناقشة معضلات أرخيولوجيا أورشليم. وفي الحقيقة، لم يكن هنالك من خلاف جذريٍّ بيننا: فنحن متفقان على أن موقع أورشليم كان خاليًا من السكان؛ وهذه الواقعة لم نستمدها من تنقيبات كاثلين كينيون، بل ممَّن جاء بعدها.

    لقد قامت شتاينر نفسها بتنقيبات محدودة في الموقع؛ وقد ركزت على وجود حصن صغير في الموقع، على الرغم من خلوِّه من السكان، بينما كان جل تركيزي على خلوِّ منطقة يهوذا برمَّتها من السكان خلال القرن العاشر، وعلى انعدام القاعدة السكانية والاقتصادية التي تجيز افتراض قيام "دويلة" في يهوذا، – ناهيكِ عن مملكة كبيرة، – سواء وُجِدَ ذلك الحصن في الموقع أم لم يوجد. وقد استندتُ في تفسيري إلى نتائج المسح الأرخيولوجي الشامل الذي قام به المنقِّبون الإسرائيليون أنفسهم، والذي بدأت تقاريرُه الآثارية تُنشَر ابتداءً من العام 1988.

    معظم النظريات قابل للنقض
    ر.ج.: في كتابك تاريخ أورشليم، في حديثك عن مدينة "بيت لحم"، تتراجع عما أوردتَه في كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم من أن مدينة بيت لحم كانت قائمة في عصر تل العمارنة، أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتقول إنك تبنيت قراءة الباحث أولبرايت لأحد نصوص مراسلات تل العمارنة، وأن قراءته قد ثبت الآن عدمُ صحتُها[1]. ونحن، إذ نقدِّر عاليًا هذا التواضع العلمي والنقد الذاتي، فإننا نخشى، في الوقت نفسه، أن تكون معظم النظريات التي تفسر شتات اللُّقى الأثرية قابلةً للنقض استنادًا إلى مكتشفات جديدة...




    ف.س.: في أيِّ فرع من فروع المعرفة، هناك كمٌّ من شتات المعلومات الميدانية التي يجب على العقل الإنساني أن يجمعها، ينسِّق فيما بينها، ويحاول فهمها من خلال صياغته للنظريات. وبعض النظريات يصمد أمام الزمن، فيما البعض الآخر يتبدل ويتعدل أو يعفو عليه الزمن، وذلك تبعًا للمعطيات الجديدة. ولكننا لا نستطيع التوقف عن صياغة النظريات المفسِّرة في انتظار الانتهاء التام من جمع المعلومات لأن مثل هذه المرحلة لن تأتي أبدًا، والعلم في حركة دائبة. إن نظريات الفيزياء في عصر نيوتن هي غيرها في عصر أينشتاين، ونظريات أينشتاين هي غيرها في عصر الميكانيكا الكوانتية.

    ر.ج.: إذًا هل في إمكاننا القول إن النظرية هي تلخيص لمساحة المعرفة المتاحة لنا حتى زمن معيَّن، وإنه كلما ازدادت مساحةُ المعرفة توسَّعتْ النظريةُ أو حلَّت محلَّها نظريةٌ أخرى؟

    ف.س.: هذا صحيح... وهنا تحضرني دعابةٌ قالها عالم الآثار اللامع بريدوود، بعد أن كشفت التنقيباتُ الآثارية عن عدم صحة نظريته في أن القرى الزراعية الأولى نشأت عند سفوح المنطقة الجبلية المحيطة بالهلال الخصيب، – قال بريدوود: "إننا كعلماء آثار غير مهددين بالبطالة لأننا كلما صغنا نظرية كان علينا تعديلها بعد مدة؛ وهكذا فنحن في شغل دائم."

    ر.ج.: على فكرة، أستاذ فراس، المدقِّق في كتبك التاريخية الثلاثة، المكرَّسة حصرًا لتاريخ فلسطين القديم، يلحظ تركيزك على عنصر الخرافة الذي يحيط بالشخصيات التوراتية، مثل إبراهيم ونسله، ومثل موسى وداود وسليمان وغيرهم، علمًا بأن هذه الشخصيات قد وَرَدَ ذكرُها في القرآن الكريم. ألا يستتبع ذلك قولَك، غير المعلَن، بأن في القرآن عناصر "خرافية" أيضًا؟


    ف.س.: انظري... المشكلة في كتاب التوراة هي أنه يضع قصصه وشخصياتها ضمن إطار زمني وجغرافي محدد: فإبراهيم قد خرج من أور الكلدان، فاستقر مدة في حرَّان، في الشمال السوري، ثم هبط إلى أرض كنعان في فلسطين، وتنقَّل بين عدة مدن فلسطينية معروفة، ثم سافر إلى مصر وعاد منها؛ وداود أسَّس مملكة كبرى في فلسطين اشتملت على منطقة سورية الجنوبية بكاملها، حتى وصل نفوذُه إلى الفرات؛ وسليمان كان أعظم ملوك الأرض وأغناهم، حتى إن الفضة في عاصمته أورشليم صارت مثل الحجارة؛ إلخ. ثم جاء الباحثون المحدثون، وطابقوا بين الإطار الزمني التوراتي وبين التاريخ الميلادي، فصار من المرجَّح أن خروج إبراهيم من أور الكلدان قد حصل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومملكة داود وسليمان في أورشليم قامت خلال القرن العاشر قبل الميلاد، إلخ.

    إن ما أحاول إثباتَه، من خلال نتائج البحث التاريخي والآثاري الحديث، هو عدم توافق الإطار الزمني والجغرافي لتاريخ فلسطين التوراة مع تاريخ الشرق القديم عامة...

    ر.ج.: في ضوء ما سبق، هل نفهم أن النقد التاريخي للقصص القرآني وارد أيضًا؟

    ف.س.: لا، لأن القصص القرآني لم يرسم إطارًا زمنيًّا وجغرافيًّا للشخصيات؛ فهم في القرآن لا يتحركون في زمان معيَّن أو مكان معيَّن، وبالتالي، فإن النقد التاريخي هنا غير وارد بتاتًا. أنا لا أريد القول إن شخصيات القصص التوراتي لم توجد بالإطلاق، وإنما نفيت وجودها في إطارها الزماني والجغرافي التوراتي. ولو أن القرآن الكريم وضع شخصياتِه في إطار تاريخي وجغرافي يتعارض وما صرنا نعرفه عن تاريخ المنطقة وآثارها، لما ترددتُ في الإشارة إلى ذلك، تاركًا للاهوتيين والمفسِّرين التعامل مع هذه المسألة.

    كل دين هو طريق للوصول إلى الله
    ر.ج.: إلامَ يرجع، برأيك، ظهور جميع الأديان السماوية في منطقتنا العربية؟

    ف.س.: يرتبط مفهوم "الأديان السماوية"، غالبًا، بحكم قيمة: فهذه الأديان "أرقى" أو "أسمى" من الأديان السابقة عليها لأنها "أديان وحي"، جاء بها أنبياءٌ تلقوا رسالة من السماء وكُلِّفوا إيصالها إلى البشر.

    وفي الحقيقة، إذا آمنَّا بأن الله يتصل بالبشر عن طريق أشخاص مختارين، لاستتبع ذلك إيمانُنا بأن الله على اتصال دائم بالبشر منذ ظهور الإنسان على الأرض – وهذا يذيب الفواصل بين ما يُدعى ديانات "سماوية" وديانات "وضعية": فإما أن الأديان كلها سماوية، وإما أنها وضعية كلها!

    ر.ج.: وماذا تعتقد أنت؟

    ف.س.: أعتقد أن كلَّ دين هو طريق للوصول إلى الله، وله، بالتالي، من المشروعية ما لكلِّ دين آخر. ما من دين يحتكر الحقيقة وآخر زاغ عنها؛ وما الاختلاف بين الأديان سوى أمر يقتضيه التباين الثقافي بين الجماعات والأمم والشعوب.

    كتاب دين الإنسان وحده يقدِّم نظرية السواح متكاملةً
    ر.ج.: هذا الكلام عن الديانات ذكَّرني بكتابك دين الإنسان. لماذا قلت لي، عندما اتصلت بك أشكو صعوبته، إنه أهم مؤلفاتك وإنك، إلى الآن، لم تستطع تجاوُزه؟


    ف.س.: في حياة كلِّ مفكر خطٌّ بياني يسير صعودًا حتى الوصول إلى ذروة، يليها ثباتٌ على خطٍّ واحد. فديوان سقط الزند وما تلاه من شعر المعري كان علامات على طريق صاعد انتهى بـاللزوميات التي تشكل جوهر فكر هذا الشاعر والحكيم المتميز؛ كذلك مؤلفات إدوارد سعيد السابقة على كتابه الاستشراق، ومؤلفات محمد عابد الجابري السابقة على تكوين العقل العربي. وهكذا فإن دين الإنسان هو ذروة خطي البياني: إنه الكتاب الوحيد بين مؤلفاتي الذي يقدم "نظرية فراس السواح" متكاملةً؛ إنه رؤية شمولية، وليس بحثًا في موضوع محدد، كما هي الحال في لغز عشتار أو الرحمن والشيطان. ولكن تحقيق هذه الذروة بنظر الكاتب لا يعني التوقف عن الكتابة، لأن ما ورد في "كتاب الذروة" يتطلب مزيدًا من التفسير والتطوير والبحث في مواضيع محددة.


    ر.ج.: توحي مقدمات كتبك بأنك كنت في البداية مشروع فيلسوف؛ ثم انحرفت باتجاه البحث في الأساطير وتاريخ الأديان. ما رأيك في ما أقول؟

    ف.س.: هذه ملاحظة صائبة! لقد اجتذبتْني الفلسفة منذ سنوات الدراسة الثانوية، فقرأت الفلسفة الوجودية؛ ثم انطلقت إلى الفلسفة الغربية عامة والفلسفة الإسلامية، حتى توصلت في، عشرينيات العمر، إلى أن الفلسفة هي خلاصة الحضارة الإنسانية.

    ومع دراستي للفلسفة درست التاريخ أيضًا؛ واجتذبني بشكل خاص تاريخُ الشرق القديم الذي كلما تعمقت فيه لمستُ الأصول الأولى للتحضر الإنساني. ودراسة التاريخ قادتني إلى الأسطورة وتاريخ الأديان. وفي هذه المحطة الأخيرة، توصلت إلى نتيجة مفادها أن حكمة البشر وثقافاتهم لا تجسدها الفلسفة، بل الأسطورة والدين. فالفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيغل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية.

    ر.ج.: بدا لكثير من القراء بأن كتابك التاو: إنجيل الحكمة التاوية في الصين يشكل حالة شاذة بين مؤلفاتك الأخرى... هل هو حنين إلى مشروعك الفلسفي القديم؟


    ف.س.: على العكس، كتاب التاو الذي قدمت فيه شروحًا وتعليقات على كتاب تاو ته تشنغ المنسوب إلى الحكيم الصيني لاو تسو هو أقرب إلى فكري ومؤلفاتي مما يظن الكثيرون. فبعد أن تفرغت لدراسة التاوية، اكتشفت أنني قدمت في بعض مؤلفاتي مقاطع كاملة متلوِّنة بالفكر التاوي، وخصوصًا في لغز عشتار، فعرفت السبب الذي دفعني إلى التعمق في هذا الأثر الإنساني الخالد. لقد كنت "تاويًّا" منذ البدء، ولم أعرف ذلك إلا في مرحلة لاحقة!

    لا أسعى للترويج لفكر معيَّن
    ر.ج.: في كتابك الرحمن والشيطان يتضح منهجُه الظاهراتي الوصفي، الذي يكتفي بتقديم مادته دون التعليق عليها أو إبداء موقفه الشخصي من الموضوع. أستغرب اختيارك هذا المنهج دون سواه...


    ف.س.: في دراسة أية ظاهرة ثقافية هنالك نوعان من المحاكمة: الأولى تُدعى محاكمة وجود، والثانية تُدعى محاكمة قيمة. في المحاكمة الأولى يقوم الدارس بتقصِّي طبيعة موضوعه وتقديمها وفقًا لما تبدتْ له ظواهرُها، من غير تقييمها وإصدار الأحكام عليها؛ أما في المحاكمة الثانية فيبحث في أهميتها وجدواها ويصدر حكم قيمة عليها.

    وأنا أحاول، ما استطعت، تبني محاكمة الوجود لا محاكمة القيمة، لأنني لا أنطلق من موقف إيديولوجي معيَّن، ولا أسعى إلى الترويج لفكر معين. ما يهمني، بالدرجة الأولى، هو إرجاع القارئ إلى نفسه، وقد صار مسلَّحًا بزاد يساعده على التفكير الحرِّ المستقل وتشكيل مواقفه الخاصة. أنا لست مهتمًّا بإقناع القارئ، بل بتحريره من كلِّ ما يعطِّل ملَكات المحاكمة الحرة لديه. إن خلاصات أيِّ مؤلَّف من مؤلفاتي ونتائجه ليست وقفًا عليَّ، بل على القراء الذين يتلقونه ويناقشونه، يختلفون معه أو يتفقون. فالكتاب، برأيي، محرِّض، لا ملِّقن؛ والكاتب هنا أشبه بمعلِّم السباحة، لا بالنوتي الذي يعبر بالناس إلى الضفة الأخرى.

    ر.ج.: في الوقت الذي تتهم فيه بعض المؤرخين العرب بأنهم يأخذون بأفكار المستشرقين دون تروٍّ، اتهمك أحدُ المعلقين على كتابك الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم بأنك ما تزال تعاني من إشكاليات القراءات الغربية ذات النهج التوراتي في فهم تاريخنا القديم. كيف ترد على هذا الكلام الآن؟

    ف.س.: يا عزيزتي، أنا كاتب يعمل في صمت، بعيدًا عن الجدل الإعلامي، ونادرًا ما أدلي بتصريح أو أوافق على إجراء مقابلة. أولاً، أنا لم أتهم أحدًا من المؤرخين العرب – ولا أدري من أين جئتِ بهذه المقولة! فأنا أحترم كلَّ باحث جاد. في مناقشتي لكتاب التوراة جاءت من جزيرة العرب، التزمتُ جانب الحياد والموضوعية، وطرحتُ مقولاتي بكلِّ تواضع علمي وبكلِّ احترام للدكتور كمال الصليبي، الذي أكن له تقديرًا كبيرًا.


    وثانيًا، أنا لو أردت الردَّ على ما قاله كاتب تلك المقالة – وهو صديق عزيز لي! – لرددتُ قبل خمسة عشر عامًا. قال المسيح في إنجيل يوحنا: "مِن ثمارهم تعرفونهم." وأنا أقول: "مِن مؤلفاتي تعرفونني، لا مِن تصريحاتي." ومؤلفاتي تقول إن فراس السواح يقف على الخندق الأول في مواجهة الإعلام التاريخي التوراتي، في الوقت الذي يكتفي فيه الإعلامُ التاريخي العربي بمقولات بالية، مثل: "سورية مهد الحضارات"، "سورية أعطت أول أبجدية في التاريخ"، وما إلى ذلك من يافطات لا تصلح إلا للمهرجانات الإعلامية!

    ر.ج.: تذكرتُ شيئًا مهمًّا كنت أريد سؤالك عنه منذ البداية: هل صحيح أن كتبك غير معتمَدة كمراجع في جامعاتنا؟

    ف.س.: أولاً، لا توجد في جامعاتنا العربية أقسام متخصصة في تدريس موضوع تاريخ الأديان الذي أعمل في مجاله؛ من هنا لن تكون لمؤلفاتي فائدة مباشرة لطلاب أيِّ قسم من الأقسام الجامعية، بل فائدة عامة تدعم اختصاصاتهم الرئيسية. وثانيًا، إن الكتب الجامعية مخصصة أصلاً لعرض ألف باء المعرفة، لا للتعمق فيها؛ وكتبي ليست من هذا النوع الأكاديمي التعليمي. قد يحدث، في بعض أقسام الدراسات العليا، أن يوجِّه أساتذتُها أحيانًا طلابَهم لاستشارتي والاطلاع على بعض المراجع المفقودة لديهم. وبشكل عام، فإن المسألة خاضعة لمزاج كلِّ أستاذ: فهناك من الأساتذة مَن يوجِّه طلابَه للاستفادة من كتبي، وآخر لا يفعل. على كلِّ حال، كتبي معتمَدة جميعًا في الجامعة اللبنانية، وأربعة منها معتمَدة، على مدار سنوات الدراسة، في جامعة الزيتونة في تونس.

    ر.ج.: أخيرًا، – وأعدك أن هذا آخر سؤال، – بما أنه ليس في جامعاتنا قسم يهتم بتاريخ الأديان، كما قلت، لماذا تكرِّس جهدك كلَّه في هذا المجال إذن؟

    ف.س. [ضاحكًا]: مزاج! حدا إلو عندي شي[2]؟!

    *** *** ***
    حاوَرَتْه: روزالين الجندي

    تصوير: وائل خليفة


    [1] يمكن للقارئ الراغب في الاطلاع على تفاصيل هذه المسألة مراجعة كتاب السواح تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود، دار علاء الدين، دمشق 2001، ص 111، الهامش. (المحرِّر)


    [2] عبارة باللهجة الشامية تعني: "المسألة مسألة مزاج، ولن أقدم حسابًا عنها لأحد." (المحرِّر)





  • 23/11/2006, 09:10 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!

    الأسطورة مكوِّن أساسيٌّ من مكوِّنات الدِّين

    الدِّين محرِّر، لكنه من أكبر المقيِّدات إذا تحوَّل إلى إيديولوجيا ناجزة وضاغطة على الفرد

    الأمانةُ التي قَبِلَها الإنسانُ ورفضتْها الجبالُ هي الحرية



    حوار مع فراس السوَّاح



    منذ صغره، تبنَّى فراس السواح شعار "اعرف نفسك" – وهو شعار كان منقوشًا على واجهة هيكل دلفي في اليونان القديمة، وصار المقولة الرائسة لفلسفة سقراط. فكان عليه أن يعرف الإنسان حتى يعرف نفسه، خاصة أنه كان يستشعر في داخله قلقًا معرفيًّا. وهذا ما دَفَعَه إلى الخوض في ثلاثة مجالات معرفية: الفلسفة والتاريخ والأسطورة. وبعد إلمام بالفلسفة العربية والغربية، تبيَّن له أنها لا تعدو أن تكون لعبة ذهنية، – هي التي كان يظن أنها ستقدم له أجوبةً على الأسئلة التي كانت تدور في ذهنه، – فخرج منها ولسانُ حاله يقول: مَن يدخل الفلسفة لا يخرج بنتيجة إلا إذا أنتج فلسفته الخاصة، والدخول إليها أصعب من دخول الجمل في سَمِّ الخياط. هكذا، إذن، ودَّعها إلى الأبد، موليًا وجهه شطر التاريخ والأسطورة، حيث وجد فيهما محاولةً جادة لفهم ماضي الإنسان ولفهم الشرط القديم الذي أدى إلى الوضع الراهن.

    وجد فراس السواح في الأسطورة ضالَّته المعرفية، حيث أرشدتْه إلى إجابات واسعة على تساؤلات كثيرة نشأت في نفسه منذ الصغر. فكانت الأسطورةُ رفيقةَ دربه الأولى، كرَّس لها حياتَه، فباحت له بأسرارها العصيَّة أحيانًا على الأفهام.



    لكن فراس السواح، على الرغم من صعوبة الموضوعات وحساسيتها أحيانًا، يملك قدرة عالية على جذب القارئ بأسلوبه العلمي الشائق، فتغدو أعقدُ الأفكار وأصعبها واضحةً ويسيرةً على الفهم والإدراك. فكما يقول السواح نفسه: "لا توجد فكرة معقدة، وإنما هناك أسلوب معقد." لذلك فإن 50% من جهده الذهني ينصبُّ على الفكرة، بينما باقي المجهود ينصبُّ على أسلوب التوصيل إلى القارئ، في أبسط شكل ممكن وفي أوضح صيغة متاحة. وهذا ما يتطلَّب منه كتابة المؤلَّف عدة مرات. لذلك لا عجب في أن يُعاد، مثلاً، طبعُ كتابه الأول والأشهَر، مغامرة العقل الأولى، 13 مرة. أضف إلى ذلك أن قراءة أيِّ كتاب لهذا المفكر السوري الفذ يحفز القارئ على البحث عن باقي أعماله، ولو كانت مختفية في إحدى مكتبات مدينة حمص، مسقط رأسه.



    جامع خالد بن الوليد، حمص، حيث عاش فراس السواح أول اختباراته الروحية الحاسمة



    نوار: أهلاً وسهلاً بالأستاذ فراس السواح!

    فراس السواح: أهلاً، يا نوار! أشكرك على هذا البرنامج المتميز جدًّا الذي تابعناه باستمرار. ولنا الشرف أن نكون الآن ضيوفًا عندك وعند هذا البرنامج المتميز الذي نأمل له الاستمرار.

    ن.: الشرف لي، يا أستاذ فراس.

    ف.س.: شكرًا.

    ن.: أستاذي، درست الفلسفة في شبابك، ولم تجد فيها سوى تدريبًا للذهن والعقل، ففضَّلت عليها الأسطورة. ماذا وجدتَ فيها؟

    ف.س.: عمليًّا، الأسطورة تتجاوز المنطق الأرسطي. ولكن الإنسان ليس بكامله منطقًا وعقلاً. الإنسان كل. ومن خلال الأسطورة والحكمة والدين، يواجه الإنسانُ العالمَ بكلِّيته، وليس بعقله فقط. الفلسفة تتوقف عند حدود العقل؛ أما الأسطورة والحكمة والدين فتواجه العالم... يواجه فيها الإنسانُ العالمَ بكلِّيته: بعواطفه، بأحاسيسه، بملَكاته الحدسية والانفعالية. الإنسان بكلِّيته حاضر في الأسطورة وفي الحكمة وفي الدين.

    ن.: إذا كانت الأسطورة مختلفة عن "الخرافة"، فما الفارق بينهما؟

    ف.س.: قبل أن ألجأ إلى الدراسة المنهجية للأسطورة، فلا أكتفي بمجرَّد القراءة، كان عليَّ أن ألتفت، منذ البداية، إلى مسألة المصطلح. لأنك إذا لم تعرِّف حدودَ المجال المعرفي الذي تعمل على دراسته تعريفًا دقيقًا فإنك سوف تضيع...

    ن. [مُقاطِعة]: تتوه...

    ف.س.: ... تظن أنك تدرس الأسطورة، لتجد أنك تدرس الخرافة، أو الحكاية البطولية، أو الحكاية الشعبية، أو ما شابه ذلك من الأجناس الأدبية التي تتصل بالأسطورة، على هذه...

    ن. [مُقاطِعة]: أو تتقاطع معها...

    ف.س.: ... أو تتقاطع معها، على هذه الدرجة أو تلك. وفي النتيجة، خرجتُ – بكلِّ تواضع – بنظرية تخالِف غالبية النظريات الغربية. لقد درست الأسطورة مجددًا، وغربلت جزءًا كبيرًا مما يُدعى بالأسطورة الإغريقية. إذ تبيَّن لي أن معظم أساطير الإغريق – تلك الحكايات التي يدعونها "أساطير" myths، ويدرِّسونها في المدارس على أنها أساطير، ويصدِّرونها إلينا على أنها أساطير – ليست أساطير في الواقع، وإنما هي خرافات، وذلك اعتمادًا على معيار أساسي واحد.

    الأسطورة في نظري هي، من حيث الشكل، حكاية أدبية يلعب الآلهةُ الأدوارَ الرئيسية فيها؛ ولكن ما يميِّزها عن الخرافة هو أنها حكاية مقدسة. القدسية هي التي تميِّز جنس الأسطورة عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها.



    ن.: ولكن هي حكاية مقدسة أبدعها الإنسان؟

    ف.س.: لم يبدعها فردٌ معيَّن، بل أبدعها الإنسان... طبعًا، كلُّ شيء أبدعه الإنسان! لم يأتِ للإنسان شيءٌ من الفضاء الخارجي!

    ن.: يعني هي بمثابة النص المقدس الأول؟

    ف.س.: نص مقدس، نعم، بالضبط... يمكن لك أن تقولي إنها النص المقدس الأول. أما الخرافة، عندما تُروى، فإن راويها والمستمع إليها يعرفان، منذ البداية، أنهما ليسا مكلَّفين تصديقها. قد تكون حدثت أو لا؛ لكن عنصر القداسة منتفٍ منها. لذلك فإن الأسطورة مرتبطة بالدين، بينما الخرافة ليست مرتبطة بالدين بالضرورة. ولكلِّ دين أساطيرُه الخاصة. الأسطورة تلعب دورًا مهمًّا في توضيح المعتقد الديني لهذا الدين أو ذاك؛ فهي دومًا جزء من الدين...

    ن. [مُقاطِعة]: إذن فهي وسيط بين الدين والإنسان؟

    ف.س.: ... هي مكوِّن أساسي من مكوِّنات الدين. فإن أردتُ أن أحلِّل الدين إلى مكوِّناته الرئيسية لقلتُ إنه يتكون من معتقد، ومن أسطورة، ومن طقس. فإذا غاب أحد هذه العناصر الثلاثة صرنا في شك: هل هذه الظاهرة التي ندرسها هي دين أم لا؟ يعني: لا يوجد دين من دون معتقد؛ دين من دون أسطورة يوجد أحيانًا؛ دين من دون طقس يستحيل أن يوجد: لا يوجد دين من دون طقس، وإلا تحوَّل من دين إلى فلسفة.

    ن.: هل الكهنة هم الذين تكفَّلوا بصياغة الأسطورة؟

    ف.س.: لا شك...

    ن. [مُقاطِعة]: بما أنها مرتبطة بالطقوس...

    ف.س.: طبعًا، الكهنة هم الذين تكفَّلوا بصياغة الأسطورة، ولكن على أرضية عامة شعبية. أي أن هناك أفكارًا أسطورية شائعة، ويقوم الكهنة تدريجيًّا، عبر أجيال وأجيال، بتحرير هذه الأساطير وبصَقْلها...

    ن.: أي يتفاعلون مع الاحتياجات النفسية والاجتماعية...

    ف.س.: ... الاحتياجات النفسية والروحية لأناس ذلك العصر.

    ن.: ويدوِّنون الأسطورة؟

    ف.س.: طبعًا. الأسطورة كانت متداوَلة شفاهًا، وكانت تُكتَب في صيغة شعرية، تزوِّدها بسلطان على المشاعر وعلى القلوب، وتساعد على تداوُلها الشفهي. وعندما ظهرت الكتابة، بدأ تدوين الأساطير وغير الأساطير كتابةً.

    ن.: سؤال تلقائي الآن: أيهما أسبق، الأسطورة أم الدين؟

    ف.س.: هما صنوان. فعندما نفكر أو نقول أسطورة مقدسة، أبطالُها الرئيسيون من الآلهة، تحكي عن عالم ماورائي، عن صلات العالم الماورائي بالعالم المنظور، عن صلة المعاين بالغائب، إلخ، إذن فنحن في مجال الدين.

    ن.: إذن متى ما كانت هناك أسطورة كان هناك دين؟

    ف.س.: طبعًا.

    ن.: أيًّا كان نوع هذا الدين؟

    ف.س.: طبعًا، لكلِّ دين أساطيرُه. الدين يفرز الأسطورة، والأسطورة تساعد الدين وتسنده بأن تزوِّده بظلال وتعطيه حيوية، ترسم شخصيات الآلهة، ترسم سيرة حياة الآلهة: متى ولد هذا الإله، وكيف عاش، وما علاقته ببقية الآلهة...

    ن.: هي سيرة ذاتية للآلهة، لِمَن هم في السماء؟

    ف.س.: هي سيرة ذاتية للآلهة وللكون وللإنسانية أيضًا.

    ن.: مرآة للإنسانية وللسماء أيضًا؟



    ف.س.: بالضبط.



    "من غير أن تسافر بعيدًا تستطيع أن تعرف العالم كلَّه، من غير أن تنظر من النافذة تستطيع أن ترى طريق السماء."

    لاو تسو



    ن.: كيف تفسِّر لنا وجود أساطير سومرية مشابهة في المضمون لحكايات واردة في التوراة وفي القرآن؟

    ف.س.: لا يوجد دين نشأ في فراغ. فالدين لا ينشأ في فراغ: الدين ينشأ في بيئة ثقافية معيَّنة، ينشأ في وسط ثقافي معيَّن. مثال على ذلك: إذا تأمَّلنا البوذية، بكلِّ مفاهيمها ومصطلحاتها إلخ، نجد أنه لا يمكن للبوذية في القرن السادس قبل الميلاد أن تكون قد نشأت في أحد أقطار الشرق الأدنى القديم؛ فالبيئة ليست بيئتها. أين نشأت البوذية؟ نشأت البوذية في الهند، على أرضية هندوسية. فكل المفاهيم الأساسية للبوذية، من تقمص الأرواح، من الدورة السببية الكبرى samsāra، الـنرفانا nirvāna، مفهوم كرْما karma، إلى ما هنالك – هذه المفاهيم كلُّها مفاهيم هندية. فكان من المستحيل على الديانة البوذية، بهذه المفاهيم، أن تكون قد نشأت في أوروبا أو في الشرق الأدنى القديم. والهندوسية تخضع للأمر ذاته: فالهندوسية، التي نشأت عنها البوذية، لا يمكن لها أن تنشأ إلا على الأرضية السنسكريتية السابقة لها.

    المسيحية نشأت على أرضية مكوَّنة من وثنية محلِّية، من فلسفة أفلاطونية حديثة، من أفكار وثنية يونانية، من غنوصية، إلخ؛ هناك مصادر كثيرة للمسيحية. كذلك الإسلام، عندما ظهر، ظهر في بيئة ثقافية كانت تضج بالمعتقدات والأفكار؛ كان ظهور الإسلام في فترة من أخصب فترات الفكر الإنساني: كانت الحضارات تتمازج، تتلاقح، تتفاعل، وتتحاور. فلولا المسيحية واليهودية ووثنية الجزيرة العربية، مثلاً، وكذلك الزرادشتية والمانوية، لما ظهرت تعاليم الإسلام على الشكل الذي ظهرت عليه.

    ن.: الآن، لو أخذنا مثال قصة هابيل وقابيل في التوراة وفي القرآن، نجد لها أصلاً، أو ما يشابهها، في الأسطورة السومرية. يضعنا هذا أمام افتراضين اثنين: إما أن هذه الكتب السماوية استلهمت بعض القصص من الأساطير، أو أن الأساطير ذاتها بدأت من بذرة وحي سماوية.



    ف.س.: كما قلت، لنحاول أخذ الموضوع من وجهة نظر ظاهرة الوحي. لنفترض، جدلاً، بأن الدين – الدين اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي – هو نتاج وحي. وهنا أقول لك بأن مدارس الكلام الإسلامي اختلفت في مفهوم الوحي. فما هو الوحي؟ وهل يأتي الوحي بكلمات دقيقة مفصَّلة، أم يأتي بمعانٍ؟ حتى الآن، هناك بعض الناس، أو بعض الفِرَق الإسلامية، تقول بأن الوحي يأتي في معنى، وبأن متلقِّي الوحي قادر على صياغته بما تيسَّر لديه من أدوات لغوية متوفرة له. وهنا أقول – وقد كرَّرت هذا القول عدة مرات، وفي أكثر من كتاب – أن خمر الأديان القديمة يُصَبُّ في جِرار حديثة، بما معناه أن الوعاء جديد لكن الخمر قديم، ويزداد قِدَمًا وتعتقًا ولذةً للشاربين في هذا الوعاء الجديد. كل رسالة لديها الجديد الذي جاءت به...

    ن.: ... أو الاختلاف؟

    ف.س.: ... الاختلاف، التميُّز... لكلِّ رسالة من الرسالات السماوية خصوصيتُها؛ ولكنها، كظاهرة ثقافية، لا يمكن لها إلا أن تتأثر بما سَبَقَها – حتى في حال افترضْنا وآمنَّا بأن هناك وحيًا سماويًّا.

    هل من علاقة بين "دين الإنسان" و"دين السماء"؟

    ما هي أول خطوة لتحرير العقل؟

    كيف نفهم الإلحاد؟

    ربما يختلف فراس السواح عن فريق من المفكرين والباحثين يذهبون، في مشروعهم الفكري، وفق خطة مسبقة لتأليف عدد من الكتب في موضوعات معينة ومحددة سلفًا. على العكس تمامًا، فإن مؤلَّفاته يتوالد بعضُها من بعض من دون مخطَّط سابق، وهي نتاج لمشروعه المعرفي الشخصي. وما يقوله في كلِّ كتاب هو ما تحصَّل لديه من معارف وأفكار حول موضوع معيَّن. فهو قد يكف عن الكتابة غدًا – كما يقول – إذا لم يجد عنده همًّا معرفيًّا ودافعًا قويًّا لمتابعة هذا الهمِّ حتى آخِره.

    كما لا يكتب السواح في موضوع إلا إذا أجَّج فيه حريقًا لا يخمد حتى يشبعه بحثًا ودراسة. وربما لهذا السبب يعترف السواح بأنه أول المتعلِّمين من كتبه، لأنه أيضًا لا ينطلق من أيِّ موقع إيديولوجي يكبِّل أفكاره. ولعل حيوية أفكار فراس السواح وتحريضها على تحرير العقل هي التي تجعل بعض القراء والمعجبين به يعترفون له بأن رؤيتهم للعالم أو طريقة تفكيرهم قد تغيرتْ بفضل مؤلَّفاته. وهذا بالتأكيد ما يُطمئِن السواح، الذي لا يعترف بالفكر إلا إذا غيَّر قارئَه ودَفَعَه إلى التأمل والتفكير الإيجابي، وإلى نقد مخزونه المعرفي وإعادة النظر فيه، من أجل إفساح المكان لأفكار جديدة، ومواقف جديدة من العالم، ومن الحياة، تحضُّ على سلوكيات جديدة أيضًا: "المعرفة التي لا ترتبط بالسلوك تبقى مجرَّد ألعاب ذهنية لا قيمة لها"، كما يقول السواح أيضًا.



    ن.: أستاذ فراس، منذ كتابك الأول، مغامرة العقل الأولى، وأنت تقتحم موضوعاتٍ كادت أن تكون وقفًا على العقل الأوروبي الغربي. فما الذي حرَّضك على هذه "المغامرة"؟



    ف.س.: سؤالكِ، نوار، ذو شقين: إن الموضوعات في الثقافة العالمية الآن هي وقْف على العقل الغربي، في معظمها. أي أن ما يُدعى بـ"فكر العالم الثالث" لا يقدِّم مساهمة إلا في الحدِّ الأدنى. هذه الموضوعات كلُّها – علم التاريخ، العلوم الإنسانية، وكذلك الأسطورة – هذا كلُّه وقْف، ولا يزال وقْفًا، على العقل العالمي.

    ن.: ولكن البحث في الأسطورة يُعتبَر نوعًا من الترف يليق به العقل الأوروبي، وليس العربي؟

    ف.س.: لا أعتقد أن البحث في الأسطورة ترفٌ على الإطلاق – إلا إذا اعتبرنا الحياة الروحية للإنسان بكاملها من قبيل "الترف"!

    ن.: لا، أبدًا.

    ف.س.: طبعًا لا. لكني أعتقد أنني قدَّمت مساهمةً مؤثرة في هذا المجال. وعبر حوالى ثلاثين سنة من التفرغ لدراسة الأسطورة وتاريخ الدين وفينومينولوجيا الدين، قدَّمتُ مساهمتي الخاصة في هذا العلم.

    ن.: ما هي الأهداف المحددة التي وضعتَها نصب عينيك خلال هذه السنوات الثلاثين؟

    ف.س.: لقد حرَّرتُ عقلي، حرَّضتُ عقلي على التفكير الحر؛ ومن خلال العمل، أردت أن أحرِّر عقول الآخرين أيضًا. يعني إذا سئلتِني: "لماذا تكتب؟" أقول: "من أجل تحرير العقل، أكتب من أجل تحرير العقل." لا يوجد لي هدفٌ آخر. فعندما يتحرَّر العقل، ويثق العقل بنفسه وبمقدرته – هو العقل الفردي – على التعامل مع أعقد الأسئلة وأعقد المشكلات، عند ذلك نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في...

    ن. [مُقاطِعة]: إذن، أستاذ فراس سواح ثائر، يحرِّض الناس على تحرير عقولهم من القيود!

    ف.س.: بطريقة ما.

    ن.: بالتالي، أنت قادر على التفكير في كلِّ شيء؟!

    ف.س.: يجب على الإنسان أن يكون قادرًا على التفكير في كلِّ شيء، مستعدًا دائمًا للتفكير. أنا مستعد للتفكير في كلِّ شيء، مستعد لأن أخوض غمار كلِّ شيء. ليس لديَّ خوف. ويشجِّعني على ذلك أنني لم أعتنق إيديولوجيا يومًا في حياتي. الإيديولوجيا، سواء كانت إيديولوجيا دينية أم إيديولوجيا سياسية، تكبِّل العقل، تكبِّل الروح، تكبِّل الإنسان، تمنع الإنسان...

    ن.: تؤطِّره...

    ف.س.: تؤطِّره... فكثيرون من زملائنا في سنِّ المراهقة ارتموا في حضن هذه الإيديولوجيا أو تلك. أنا كنت أرتعب من الإيديولوجيا، أخاف منها. ففي بعض الفترات من المراهقة، كانت عندي مشاعر دينية شديدة، فحاولت الاقتراب من جماعة دينية، لكني أُصِبْتُ بالهلع من التحجُّر العقائدي والفكري، من تلك الأُطُر التي يحاولون أن يقيِّدوك فيها، فهربت. وعبر حياتي تعرضت أيضًا لإيديولوجيا أخرى وإيديولوجيا ثالثة، اقتربت منهما طورًا، ولكنني هربت، نفدت بجلدي!

    ن.: الحمد لله على السلامة!

    ف.س.: إذن، لكي تتابع التفكير الحرَّ يجب أن تبتعد عن الإيديولوجيات الجامدة. الآن، بعد مسيرة فكرية طويلة، إذا أردتَ، بعد سنِّ الثلاثين أو بعد سنِّ الأربعين، – في أية سن، بعد رحلة معرفية طويلة، – أن تلتزم بإيديولوجيا معينة، فليكن.

    ن.: الآن، لنتأمل بعض ما وَرَدَ في كتابك دين الإنسان. فمثلاً: وجدتَ أن الإنسان، منذ أن وُجِدَ، أفلح في اختراع أمرين اثنين لا ثالث لهما: الدين والأدوات.



    ف.س.: الدين والأدوات هما أولى النواتج الثقافية للجنس البشري. الثقافة هي الشيء الوحيد الذي يميِّز الإنسان عن المملكة الحيوانية. فإذا أخذنا فصيلة الأسود، مثلاً، فمنذ ملايين السنوات إلى الآن، لم تترك لنا الأسود سوى العظام. القرد قد يستطيع أن يستخدم أداةً ما ليصل إلى موزة، لكن هذا القرد، منذ ثلاث أو أربع أو خمس ملايين سنة، هو هو، لم يتغير، لم يترك لنا نتاجًا معينًا. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ثقافة؛ أي أنه يوسِّط بينه وبين الطبيعة أفكارًا وأدوات. هاتان السِّمَتان الثقافيتان لا أجد ثالثة لهما. فمن الدين نشأت الأفكارُ كلُّها، ونشأت العلوم الإنسانية كلُّها؛ ومن الأدوات نشأت التكنولوجيا، ونشأ العلم.

    ن.: عمَّ يمكن للإنسان الاستغناء، عن الدين أم عن الأدوات؟

    ف.س.: لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الأدوات. ربما أمكن له أن يستغني عن الدين، ولكنه سوف يغدو تائهًا في صحراء قاحلة لا معنى لها؛ من دون الدين تغدو الحياة بكاملها بلا معنى.



    "إن الديانات السماوية الباقية الآن هي نتاج لإبانة القدرة الإلهية عن مقاصدها. ولكن، هل نَسِمُ بالزيف كلَّ تجربة دينية لثقافة كَدَحَتْ للتعرف على مقاصد القدرة الإلهية دون عونٍ من وحي؟ إن أكثر الملتزمين بحرفية النصوص المقدسة لا يقدر على الإجابة بنعمٍ مطمئنةٍ عن هذا السؤال."

    فراس السواح



    ن.: ابن عربي يرى أن الآلهة الوثنية كانت مقدمة ضرورية – بل لا غنى عنها – للدين الحق، لأن الإنسان يتوصل، من خلال الآلهة الوثنية، في شكل تدريجي، إلى معرفة الألوهية الحق.

    ف.س.: هذا ما حصل في التاريخ فعلاً. ابن عربي يقول، في أكثر من صيغة، بأنه ما عُبِد إلا الله في كلِّ ما عُبِد!

    ن.: حتى في الأصنام؟!

    ف.س.: مهما عَبَدَ الإنسان... إذا كان أصلاً لا موجود إلا الله، فمعنى ذلك أنه مهما عَبَدَ الإنسان، فهو يعبد الله في صورة ما. وسواء عَبَدَه في شجر أم في حجر، في هذا الإله أم في ذاك، فهذه العبادة موجَّهة نحو الله تعالى. ومن هنا لا فرق، عند ابن عربي، بين دين توحيدي ودين وثني. حتى إنه يقول بأن معرفة الأديان الوثنية تعطي لعابديها وجهًا من وجوه الله. فهناك، في كلِّ معبود، وجهٌ من وجوه الله تعالى. عند هذه النقطة من التفكير تزول الفواصل بين ما هو وثني وما هو توحيدي.

    ن.: هل تعتقد أن الدين يحرِّر الإنسان فعلاً؟

    ف.س.: الدين يحرِّر الإنسان؟ طبعًا، من حيث المبدأ، الدين يحرِّر الإنسان. ولنقل إن الحياة الروحية تحرِّر الإنسان. الدين، بهذا المعنى الروحي، يحرِّر الإنسان، لأن الدين يُخرِج الإنسان من فرديته، يجعل مطابقة بينه وبين الكون، يُخرِجه من عزلته. في الدين هناك صلة بين العالم المادي والعالم الماورائي. يستطيع الإنسان، من خلال معتقده ومن خلال أسطورته ومن خلال طقوسه، أن يعقد هذه الصلة بين العالم المادي والعالم القدسي. لكن الإنسان المادي، الذي لا يرى في الوجود إلا المادة، هو إنسان وحيد ومعزول: يعتقد أنه ذات مستقلة، تعيش هذه الفسحة على الأرض، ثم تتلاشى.

    الدين محرِّر قطعًا. لكنه يغدو أيضًا من أكبر المقيِّدات إذا تحوَّل إلى إيديولوجيا ناجزة وجاهزة وضاغطة على الفرد.

    ن.: أحيانًا هناك شعور، ربما، بتقصير، مثلاً، في أداء الواجبات الدينية أو الطقوسية إلخ – هذا ممَّا يسبِّب حرجًا أو إحساسًا بالتقصير والذنب، وبالتالي لا يصبح الدين...

    ف.س. [مُقاطِعًا]: هذا الإحساس بالتقصير والذنب نابع من تحوُّل الدين من طاقة روحية كبرى إلى مجموعة من الشكلانيات، بمعنى التركيز على الطقوس وعلى الشريعة في مقابل غياب التواصل الروحي مع الماورائي. إن دقيقة واحدة من الصلاة الذهنية أكثر فائدة من خمسين صلاة!

    ن.: ولكن هل كلُّ إنسان قادر على أن يتواصل بروحه مع الماورائي؟

    ف.س.: كل إنسان قادر...

    ن. [مُقاطِعة]: ولكن هل يفعل؟

    ف.س.: ... ولكننا قيَّدناه، منذ البداية، بصيغة معيَّنة للعبادة، قيَّدناه بمجموعة من الأفكار، كانت محرِّرة في السابق، لكنها تحجَّرتْ وتحوَّلتْ إلى أدوات تقييد. كلُّ رسالة دينية تبدأ رسالة روحية، شاملة، محرِّرة؛ ثم تدريجيًّا تتقوقع عندما يسيطر عليها الفقهاءُ والمشرِّعون.

    ن.: والمؤسَّسة الدينية؟

    ف.س.: والمؤسَّسة الدينية... الفقهاء والمشرِّعون والمؤسَّسة الدينية. الرسالة المحمدية، مثلاً، رسالة محرِّرة: محرِّرة للإنسانية، محرِّرة للفرد. لكن ما قام به الفقهاء والمشرِّعون ومَن إليهم قد جعل منها إيديولوجيا شاملة، تتجمَّد شيئًا فشيئًا وتتحجَّر – حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن.

    ن.: أحيانًا يمكن للفرد أن يصل حتى إلى فكرة الإله الغاضب أو الإله "المنتقم"، أي هذا الإله الذي تريد أن تلجأ إليه، يعني تخافه...

    ف.س.: ... يعني تحلُّ صورٌ محلَّ صور أخرى، ويتم التركيز على أفكار دينية على حساب الأفكار الدينية الأخرى. كلما تحجَّرنا ركَّزنا أكثر على ما هو إشكالي في الدين. النص الديني هو، من حيث المبدأ، نصٌّ إشكالي؛ هو ليس نصًّا واضحًا، بل نصٌّ مصبوب في قالب أدبي، عاطفي، انفعالي، يتوجَّه إلى النفس أكثر مما يتوجَّه إلى العقل. وبالتالي، كلُّ نصٍّ ديني هو نصٌّ إشكالي، بمعنى أن فيه إشكاليات يمكن لك أن تفسِّرها على هذا الوجه أو على ذاك. النص الديني أشبه بالنص الشعري – النص الديني والأسطورة أيضًا؛ فالأسطورة ضمن النصوص الدينية – فالنص الديني إما أن يكون أسطورة أو أن يكون كتابًا مقدسًا. وكلما تحجَّر الدين تمَّ التركيز على جوانب إشكالية من المقدَّس على حساب الجوانب الأخرى.



    "أثق بمن هو أهل للثقة، كما أثق بمن هو غير أهل لها، وبذلك أعمل على تعميم الثقة."

    لاو تسو



    ن.: المعروف عنك، أستاذ فراس، أنك ضد الدين وأنك ضد...

    ف.س.: هناك بعض المبالغة... البعض يقول ذلك.

    ن.: أي أن هذا الكلام يتعلَّق بالبعض فقط؟

    ف.س.: بعضهم يقول ذلك، وبعضهم الآخر يقول العكس. منذ بضعة أيام، كنت في أحد الأماكن العامة، فجاء شاب ألقى التحية عليَّ، وقال إنه، بعد أن قرأ كتاب لغز عشتار، تحوَّل من الإيمان إلى الإلحاد!



    ن.: أي أنه ألحد بعد قراءته الكتاب؟!

    ف.س.: ... بعد قراءة لغز عشتار. فقلت له: "عجيب! هناك أشخاص كُثُر آمنوا، أو ازدادوا إيمانًا، بعد قراءتهم لـلغز عشتار." الحقيقة أن ما فَقَدَه هذا الشخص وأمثالُه ليس الإيمان بالله. لا يمكن لأيِّ إنسان أن يفقد إيمانه بالله! وفي الحقيقة، أنا دائمًا أقول: لا يوجد إنسان ملحد، إنما يوجد إنسان قد فَقَدَ إيمانه بهذا الطقس أو ذاك، من هذا الدين أو ذاك، أو فقد إيمانه بهذه المؤسَّسة الدينية أو تلك، أو أنه لم يقتنع، عقليًّا، بهذه العقيدة أو تلك – والدين ليس عقلاً...

    ن. [مُقاطِعة]: هل كان مهيأ لذلك؟

    ف.س.: لا شك أنه كان مهيأ. قد يكون أن فكرة التثليث المسيحية لم تَرُقْ لهذا الشاب، أو وجدها بعيدة عن المنطق، ربما لأن الكنيسة قد جعلت من مفهوم التثليث إيديولوجيا ثابتة وركنًا أساسيًّا، إذا تزعزع تزعزعتْ معه الديانةُ بأكملها...

    ن. [مُقاطِعة]: أو تزعزع إيمانُه...

    ف.س.: ... أو تزعزع إيمانُه. فهذا الرجل يعتقد بأنه قد ألحد، وهو في الواقع لم يلحد. أي أن هذا الجمود في العقيدة هو الذي يجعل الكثيرين يخرجون عن هذه العقيدة: إما أن تؤمن بهذه العقيدة كما هي، وكما صاغها الكهنوت...

    ن. [مُقاطِعة]: والفقهاء كذلك...

    ف.س.: ... والفقهاء، إلخ، أو أن تصبح خارج هذه العقيدة. عندئذٍ يظن أنه قد ألحد.

    ن.: ولكن ما قولك، مثلاً، في الذين يقولون إنهم يخشون الدخول في مناظرات أو مناقشات أو سجالات فكرية خوفًا على إيمانهم من أن يتزعزع؟

    ف.س.: أقول لهم إن الإيمان لا علاقة له بالعقل. لا توجد ضرورة للدخول في مناقشات عقلية فيما يتعلق بالإيمان الديني. الإيمان الديني لا علاقة له بالبرهان، غير خاضع للبرهان. وفي الأصل، الرسالة الدينية تُصاغ بطريقة تتجاوز العقل، لتصل إلى القلب، وتُصاغ بطريقة لا يمكن لها أن تخضع للدحض: لا يمكن البرهان لا على صحتها ولا على خطئها. لذا فإن موضوع المناقشة العقلية للإيمان بعقيدة ما هي مسألة غير مجدية.

    متى ظهر مفهوم الشيطان؟

    ما هي "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان؟

    مَن أوجد الأخلاق: الأديان أم الإنسان؟

    في كتاب الرحمن والشيطان يبحث السواح في مسألة من أخطر المسائل في الفكر الفلسفي وأكثرها حساسية في الفكر الديني، ألا وهي مسألة وجود الشر في العالم وفي النفس الإنسانية، وفي الكيفية التي عالجتْ بها معتقداتُ التوحيد بشكل خاص هذه المسألة، من خلال تركيزها على مفهوم جديد على الفكر الديني، ألا وهو مفهوم "الشيطان"، الذي يُعَدُّ المبدأ الكوني للشر والمصدر الأصلي الذي ينشأ عنه كلُّ شر.

    وظهور الشيطان في الفكر الديني تَرافَق مع اتصال الأخلاق بالدين. يعتقد الكثيرون، كما يذهب فراس السواح، أن الأخلاق هي جزء لا غنى عنه في الدين. لكن، في الحقيقة، إن اتصال الأخلاق بالدين جاء في مرحلة متأخرة من مراحل تاريخ الدين. فالأصل في الدين والأخلاق هو استقلال واحدهما عن الآخر، وليس ارتباطهما. فالدين، من جهة، ينظم صلة الإنسان مع العوالم الماورائية، بينما الأخلاق تنظم صلة الإنسان مع أخيه الإنسان، وصِلَة الأفراد مع الجماعة. وحتى وقت متأخر من تاريخ الدين، كانت إدارةُ الأخلاق وقفًا على التجمعات البشرية، تديرها وفق أعرافها وعاداتها؛ إذ لم تكن الأخلاق آنذاك مزوَّدة برادع ديني، بل كانت شأنًا دنيويًّا مستقلاً عن السماء. كما كانت الآلهة موزَّعة بين الشر والخير، ولم يكن الشر قد تجسَّد بعدُ في كائن ماورائي معيَّن. ولكن، في ظلِّ ظروف اجتماعية وتاريخية معينة، بدأت الأخلاق ترتبط بالدين؛ مما أنتج عن ذلك تدريجيًّا ظهورُ إله الخير، وخاصة كلما اقتربنا أكثر فأكثر من مفهوم التوحيد، حيث أصبح وجهُ الإله الواحد يجمع كلَّ الفضائل، بل صار هو الخير المحض. فكان لا بدَّ من تفسيرٍ لوجود الشرِّ في العالم: إذا كان الله خيرًا محضًا فمن أين يأتي الشر؟ هذا هو السؤال الجوهري، وتلك هي المعضلة التي طَرَحَها فراس السواح في كتابه الرحمن والشيطان؛ وهي معضلة فلسفية وروحية وفكرية كبرى، حيث تحوَّل الفكر الإنساني مباشرة إلى فكرة الشيطان. ولقد ظهرت شخصية الشيطان في الديانات التوحيدية خصوصًا.



    ن.: قبل أن نسأل عن فكرة الشرِّ أو الشيطان في ديانات أو معتقدات التوحيد، أنت، أستاذ فراس السواح، تعتبر أن الزرادشتية والمانوية هي أيضًا من "الأديان السماوية"...

    ف.س. [مُقاطِعًا]: ديانات وحي.

    ن.: ديانات وحي؟!

    ف.س.: أفضِّل استخدام مصطلح "ديانات وحي". فعندما ننظر إلى الزرادشتية أو المانوية أو غيرهما من الأديان، نستطيع في سهولة أن نميِّز دين الوحي عن غيره من الأديان. مُؤسِّس الديانة يقول لنا إنه تلقَّى وحيًا من السماء. وهذه الروايات متشابهة في أديان الوحي كافة: في سنٍّ معينة، في ظرف معيَّن، يأتي ملاك من السماء، يهبط إلى هذا الرجل، ويكلِّمه، ويدعوه إلى التبشير بهذا الدين الجديد. هذا الشيء حصل مع زرادشت، وحصل مع ماني. وشهادة زرادشت نفسه وشهادة ماني تؤكدان ذلك؛ شهادات أتباع هاتين الشخصيتين الروحيتين العظيمتين تؤكد ذلك؛ الديانة نفسها تؤكد ذلك.

    الديانة، بقدر ما تقدِّم نفسها كديانة مخلِّصة ومحرِّرة، تكون قادرة على الاستمرار والبقاء. الزرادشتية استمرت 1500 سنة؛ المانوية استمرت حوالى 700 سنة، ولم تكن بدعة من البدع. كما أنه لا يوجد لدينا سببٌ مقنِع يدعونا إلى القول بأن ماني أو زرادشت لم...

    ن. [مُقاطِعة]: ولكنها قابلة للتشكيك فيها!

    ف.س.: أي ديانة قابلة للنقد!

    ن.: أقول: الديانات قابلة للتشكيك فيها.

    ف.س.: ماذا تعنين بالـ"تشكيك"؟

    ن.: التشكيك بأن "النبي" لم يتلقَّ وحيًا، وأنه...

    ف.س.: أي نبي يمكن أن يُشكَّك في تلقِّيه وحيًا! نحن نأخذ شهادته الخاصة، وشهادة أتباعه، ونفتش في فحوى هذه الديانة: هل هي دافعة؟ هل هي ديانة مخلِّصة؟ هل هي ديانة محرِّرة؟ إلخ. لا يوجد لدينا معيار آخر. لا يوجد لدينا معيار أو جهاز لكشف الكذب نختبر به صدقَ هذه الشخصية أو تلك. نحن نأخذ ما قاله النبي، وكيف وصف خبرته، فنجد أن هذه التوصيفات تكاد أن تكون متطابقة عند جميع الأنبياء: زرادشت، ماني، موسى، الرسول الأعظم، إلخ.

    ن.: طبعًا هناك احتمال وجود أنبياء لا نعرفهم جميعًا.

    ف.س.: أجل، كما قال القرآن الكريم: "ومنهم مَن قَصَصْنا عليك ومنهم مَن لم نَقْصُص عليك" [سورة غافر 78]. وفي الحقيقة، أنا أعتقد أنه إما أن تكون كلُّ الديانات سماوية أو تكون وضعية كلها.

    ن.: فكرة الشيطان، بما أنها لم تكن من جذور وثنية، فهي من جذور سماوية... ديانات سماوية؟

    ف.س.: لها جذور وثنية، ولا شك.

    ن.: والشيطان، كشخصية مستقلة بذاتها...

    ف.س.: ... تعمل في استقلال عن الفضاء الإلهي، لها كذلك جذور. زرادشت هو أول من قال بها. الشيطان هو شيطان كوني، بمعنى أنه إله؛ وإبان تاريخ الإنسانية، تكاد قوته أن تعادل قوة إله الخير. كلما كانت الأخلاق متصلة بالدين، ويشدِّد عليها الدين، كان الشيطان أقوى!

    ن.: ما الحكمة من وجود الشيطان أساسًا؟

    ف.س.: الحكمة عند الله! لكني أقول إن الشيطان هو رمز لحرية الإنسان. لولا الشيطان لما كان الإنسان حرًّا. عندما خُلِقَ الإنسانُ أُعطِيَ الحرية. إن ما يميِّز الكائن الإنساني عن بقية أشكال الحياة على الأرض، وعن بقية الموجودات في الكون، هو الحرية. وما يعطي للحرية معناها هو الشيطان. إذا لم يكن بمقدورك أن تختار بين هذا السلوك أو ذاك، بين هذا الفعل أو ذاك، بين هذه الفكرة أو تلك، لن تكون حرًّا.

    ن.: إذًا الله، حين لم يمحق الشيطان عند عصيانه، أعطاه الحرية... هل هذا هو قصدك؟

    ف.س.: لا نريد الدخول في قضايا فلسفية لاهوتية. كل ما يمكن لي قوله هو أن عصيان الشيطان كان نتاجًا لحريته و...

    ن. [مُقاطِعة]: وَهَبَه الله...

    ف.س.: ... وعصيان الإنسان أيضًا كان ناتجًا من نواتج حريته. وعندما ابتكر الله مفهوم الحرية أعطاه للإنسان. لم يُرِدْ أن يتخلَّى عن هذه العطيَّة النبيلة والسامية، فكان الشيطان رمزًا للحرية في هذا الإنسان: من دون الشيطان أنت لست حرًّا!

    ن.: إذًا الحرية هي عصيان، أو العصيان هو حرية؟

    ف.س.: أنت مخيَّر: الحرية هي أن تعصى أو أن لا تعصى.

    ن.: إذا عصيتَ ستكون حرًّا؟

    ف.س.: إذا عصيتَ ستكون حرًّا، وإن لم تعصَ ستكون حرًّا أيضًا!

    ن.: إذًا كان لا بدَّ من امتحان للإنسان في الدنيا قبل الآخرة. ألا يكفي شعور النفس البشرية بوجود الشيطان، شرِّ الشيطان، وملاحقة الشيطان للإنسان؟

    ف.س.: الشيطان، كما قلت منذ قليل، هو رمز: رمز للشرور. عندما تقولين شيطان وشرور بشرية فهما وجهان لعملة واحدة. الشيطان ليس كائنًا. لا يمكن لي أن أستوعب أن الشيطان ذو كيان معيَّن، وأنه يأتي خلسة، ويوسوس، ويدفع الإنسان إلى ارتكاب الخطيئة، إلخ. الشيطان رمز للنوازع الشريرة الكامنة في النفس البشرية، لا أكثر ولا أقل.

    ن.: والخلاصة هي أن الله غير مسؤول عن الشرِّ في الأرض؟

    ف.س.: هذا هو المفروض. فبوجود الشيطان يصبح هو مسؤولاً عن الشر. والإنسان حر. هذه هي خلاصة إيديولوجيا الشيطان. أنا لا أعطي رأيًا في هذه المسألة.

    ن.: نعم، نعم... والعدالة في الأرض، مَن الذي يحقِّقها؟

    ف.س.: العدالة في الأرض مَن الذي يحقِّقها؟ يبدو أن كلَّ الأديان تقول بأنْ لا عدالة في الأرض!

    ن.: "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان، هل هي أن يحقِّق العدالة؟ هل تدخل العدالة ضمن هذه "الأمانة"؟

    ف.س.: الحرية... الحرية هي "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان، فيما أبَتْ أن تحملها السماوات والأرض والجبال، كما جاء في القرآن [سورة الأحزاب 72]! لا أرى شيئًا آخر.



    "قد يخطئ الإنسان، ولكن خطأه لا يتحوَّل إلى خيار نهائي وانحياز إلى معسكر الشيطان. ومن خلال جدلية هذه الحرية المفتوحة على الاحتمالات كلِّها عليه أن يصل في النهاية إلى خيار وحيد ومطلق بمعونة الله ونعمته."

    فراس السواح



    ن.: في مقدمة الرحمن والشيطان قلتَ إن هناك "دوافع شخصية" جعلتْك تكتب أو تبحث في موضوع الشر أو الشيطان. فهل لك أن تُطْلِع المُشاهِد عليها؟



    ف.س.: في الحقيقة إن هذه الدوافع قديمة جدًّا. فبدايات التفكير في هذا الكتاب كانت حوالى العام 1990، أي منذ أكثر من عشر سنوات، حين أصبح لديَّ الدافع والقوة على معالجة مثل هذا الموضوع الشائك. لكني لا أقصد أن الدوافع أساسية. لقد تحدثتُ عن كيف نرى أن العالم اليوم يبدو وكأنه يحكمه الشيطان فعلاً، وأن الشيطان، لا الرحمن، هو حاكم هذه الفترة من التاريخ. هذا الأمر يجعل الإنسان يتساءل: أين الرحمن؟ ماذا فعل الشيطان فيَّ؟ في لاهوت بولس الرسول، الشيطان هو "إله هذه الدنيا" [الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 4: 4]، هو سيد هذا العالم و"أميره". ويسوع المسيح، في أحد أقواله، وَصَفَه بـ"رئيس هذا العالم" [إنجيل يوحنا 12: 31]. حاولت أن أتعمق في هذه المسألة: هل الشيطان هو إله هذا العالم؟ هل هو "رئيس هذا العالم" فعلاً؟ ما طبيعة هذا الرمز؟ وكيف نشأ؟ إلخ.

    ن.: والنتيجة: هل من جواب؟

    ف.س.: لا، لا جواب. كما هو شأني في مؤلَّفاتي كلِّها، لا جواب! فأنا أكتفي إذا أفلحت في تحريض العقل على التفكير.

    ن.: أستاذ فراس، شكرًا.

    ف.س.: شكرًا لك، نوار.

    ن.: لقاؤنا لم ينتهِ مع المفكر والباحث فراس السواح. نرجو أن تتابعوا الجزء الثاني والأخير في الأسبوع المقبل. شكرًا على متابعتكم، ونلقاكم على خير الله.

    *** *** ***

    عن برنامج مبدعون، تلفزيون أبو ظبي، 22/05/2003

    تنضيد: دارين أحمد



    مؤلَّفات فراس السواح في الأسطورة والدين (عن دار علاء الدين)

    - مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة، طب 12، دمشق، 2000 (طب 1، 1978).

    - لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، طب 7، دمشق، 2000 (طب 1، 1985).

    - جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة (دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي)، طب 1، دمشق، 1996 (طب 1 بعنوان: كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجامش، 1987).

    - دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، طب 3، دمشق، 1998 (طب 1، 1994).

    - الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، طب 1، دمشق، 1997.

    - كتاب التاو: إنجيل الحكمة التاوية في الصين، تقديم وترجمة وشرح، طب 2، دمشق، 2000 (طب 1، 1998).

    - الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1، دمشق، 2000.

    - الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دمشق، 2
  • 23/11/2006, 09:09 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!

    مفهوم "المسيح"

    بين التوراة والإنجيل والقرآن



    فراس السوَّاح



    "المسيح" مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها.

    ولسوف نبتدئ ببسط المفهوم التوراتي للمسيح، أولاً، ثم ننتقل إلى المفهوم الإنجيلي، فالقرآني، معتمدين اعتمادًا أساسيًّا على ما تقدِّمه لنا الكتبُ المقدسة الثلاثة، ومبتعدين، قدر المستطاع، عن مقولات اللاهوت والتفسير.

    "المسيح" (أو المشيح) كلمة آرامية–عبرية، مشتقة من الفعل الثلاثي مشح الذي يعني، كما في العربية، اللمس والتمسيد الرفيق بالكف. وبالمعنى الطقوسي التوراتي فإن المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت يُحضَّر من زيت الزيتون النقي، ممزوجًا بأطياب معينة، وفق مقادير خاصة، ويدعى زيت المسحة، ولا يجوز استخدامُه في الأغراض الدنيوية. فالمسح الطقوسي، والحالة هذه، هو نوع من شعائر التَّعْدية والعبور rites de passage أو المُسارَرة Initiation، التي تنقل الشخص أو الشيء الممسوح بالزيت من مجال ما للناس إلى مجال ما لله.

    أول مسح طقوسي بالزيت يصادفنا في كتاب التوراة هو ما قام به يعقوب في سِفر التكوين (الإصحاح 35) عندما نَصَبَ عمودًا (مذبحًا) وسَكَبَ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له الربُّ فيه، ودعا المكان "بيت إيل". وفي سفر الخروج (الإصحاح 30)، يبيِّن الربُّ لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد وبقية الأدوات الطقسية، ويحرِّم عليه استخدامَه إلا للأغراض الشعائرية. بعد ذلك، في سفر الخروج (الإصحاح 40)، يأمره أن يمسح أخاه هرون وبنيه كهنةً على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متَّبعًا حتى نهاية القصة التوراتية. ولدينا مثال واحد عن مسح الأنبياء، وهو ما وَرَدَ في سفر الملوك الأول 19: 16، عندما أمر الربُّ النبيَّ إيليا أن يمسح تلميذه أليشاع نبيًّا بعده قبل صعوده حيًّا إلى السماء. وعندما ابتدأ عصر الملوك في إسرائيل، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيب رسمي للشخص الذي اختاره الربُّ لحكم إسرائيل، وتكريسه للرسالة المنوطة به تجاه شعب يهوه.

    كان شاؤل أول من مُسِحَ ملكًا على إسرائيل بأمر من الرب، ودُعي بـ"مسيح الرب". وهنا نفهم من سفر صموئيل الأول، الذي نَقَلَ قصة اختيار شاؤل ومَسْحِه، كيف أن طقسَ المسح يُحوِّل الشخص الممسوح إلى شخص جديد يحلُّ عليه روحُ الرب، حيث نقرأ: «[...] فيكون من هناك، أنك تلقى زمرة من الأنبياء النازلين من المَشْرَف، [...] فينقضُّ عليك روحُ الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلاً آخر. وإذا وَرَدَتْ عليك هذه الآيات، فاصنع ما تجده يدُك، لأن الربَّ معك.» (10: 5-7)

    وعندما غضب الربُّ على شاؤل لأنه لم ينفِّذ أمره كاملاً بقتل شعب العماليق عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع بقرهم وغنمهم وكلِّ مواشيهم، غادَرَه روحُ الرب وحلَّ به روحٌ رديء يسبِّب له نوباتٍ من الجنون. بعد ذلك أمَرَ الربُّ النبيَّ صموئيل أن يمسح الفتى داود ملكًا بدلاً عن شاؤل، الذي قضى نحبه بعد فترة قصيرة في معركة مع الفلسطينيين. وبعد أن غادر روحُ الربِّ شاؤل حلَّ على داود، الذي يصف علاقتَهُ بإلهه بالكلمات التالية: «هذه كلمات داود الأخيرة: وحيُ داودَ بنِ يُسِّي، وحيُ الرجل القائم في العُلا، مسيح إله يعقوب ومرنِّم مزامير إسرائيل: "روحُ الربِّ تكلَّم بي وكَلِمَتُه على لساني. قال إله إسرائيل: إلخ."» (صموئيل الثاني 23: 1–3). نلاحظ في هذا النص كيف يجمع مسيحُ الربِّ بين المُلك الدنيوي وبين النبوة والكهنوت: فهو يكلِّم الربَّ ويكلِّمه الربُّ، ولسانُه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بامتياز بين عالم الألوهة وعالم البشر.

    عندما شاخ داود واستلقى على سرير الاحتضار، أوصى بالمُلْك لابنه سليمان بمباركة من الرب، وأمر صادوق الكاهن وناثان النبي أن يمسحا سليمان ملكًا بعده. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الربِّ ومسيحه؛ وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول 3: 5-12: «وفي جبعون تراءى الربُّ لسليمان في الحلم ليلاً وقال: "اسأل ما تريد أن أعطيك." فقال سليمان: "[...] فهَبْ عبدَك قلبًا فهيمًا ليحكم شعبك ويميِّزَ بين الخير والشر [...]." فَحَسُنَ في عيني الربِّ أن يكون سليمان قد سأل هذا الأمر. فقال له: "[...] فهاءنذا قد فعلتُ بحسب كلامك. هاءنذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهيمًا، حتى إنه لم يكن قبلك مثلُك ولا يقوم بعدك مثلُك.»

    بعد وفاة سليمان، في القصة التوراتية، وزوال ما يُدعى بالمملكة الموحدة، التي انقسمت إلى مملكة السامرة ومملكة يهوذا، تحوَّل طقسُ المسح بالزيت إلى إجراء روتيني يقوم به كبيرُ الكهنة من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصبُ بالوراثة أو بالاغتصاب. وكانت مراسم التنصيب تجري في أجواء اعتيادية؛ وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي شيئًا عنها، بل يكتفي بالقول إن فلانًا قد مَلَكَ على أورشليم أو على السامرة، وأن مُلْكه قد دام كذا سنة. ولكن جميع ملوك السامرة، منذ يربعام بن ناباط، مؤسِّس مملكة إسرائيل، قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية؛ وكذلك فعل معظم ملوك يهوذا. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يعنِّفون ملوكهم بشدة على عدم إخلاصهم ليهوه، رجاءً في مَلِك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا، أخذ مفهوم المسيحانية messianic المَلَكية بالتغير: فبدلاً من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم تتطلَّع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجدَه وكفاحَه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذه الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة في العام 721 ق م وتحوُّلها إلى ولاية آشورية، وزوال مملكة يهوذا في العام 578 ق م وتحوُّلها إلى ولاية بابلية، وانتهاء ما يُدعى بعصر الملوك. فمسيح الربِّ لم يعد مَلِكًا يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، بل تحوَّل إلى شخصية رؤيوية نبوية، سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وتُرجِعَهم إلى أورشليم، وتحاربَ أعداء شعب يهوه في كلِّ مكان، لتجعل أممَ الأرض قاطبة في النهاية عبيدًا لبني إسرائيل.

    وبما أن سلالة داود هي التي حكمت أورشليم حتى دمارها وسَبْي أهلها على يد البابليين، فإن المسيح القادم سيكون من نسل داود الذي وَعَدَه الربُّ بأن نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد، على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها ما وَرَدَ في المزمور 89: «لا أنقض عهدي، ولا أغيِّر ما خرج من شفتي. مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي.» فالمسيح القادم هو غصنٌ ينبت من شجرة نسب داود التي لم تنقطع، على ما نقرأ في سفر إرميا 23: 5-8: « [...] وأقيم لداود غُصنَ بِرٍّ، فيملك وينجحُ، ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. في أيامه يُخلَّصُ يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا [...]: "حي هو الربُّ الذي أصْعَدَ وأتى بنسل بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طَردتُهم إليها، فيسكنون في أرضهم."» ونقرأ في سفر إشعيا أيضًا عن الغصن الذي ينبت من شجرة داود بن يُسِّي: «ويخرج قضيبٌ من جذع يُسِّي وينبت غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه روحُ الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة.»

    وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية عقب استيلاء قورش على بابل في العام 539 ق م ووراثة فارس للإمبراطورية البابلية، قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. عند ذاك يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوَّث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده، ليغدو فردوسًا خالصًا يعيش فيه الأخيارُ الصالحون في زمن مفتوح على الأبدية. وفيما بعد، أدخلتْ التطويراتُ اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةً على فكرة المخلِّص الزرادشتي. فهذا المخلِّص المدعو ساوشنياط سوف يأتي من نسل زرادشت نفسه، عندما تحمل به عذراءٌ تنزل للاستحمام في بحيرة كاناسافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود.

    لقد أثَّرتْ فكرة نهاية الزمن هذه بقوة على فكرة ملكوت الربِّ القادم على الأرض في التوراة، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشرِّ في العالم واستعادته نقيًّا طاهرًا، كما كان في لحظة الخلق الأول، ليعيش فيه الصالحون، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض، بعد أن يرسل مسيحَه قُدَّامه، ليمهِّد له الطريق ويكسرَ شوكة أعداء إسرائيل ويعيدَ أمجاد أورشليم الضائعة. أما مراحل التاريخ السابقة فلا يوجِّهها صراعٌ بين الخير والشر، كما هي الحال في المذهب الزرادشتي، بل صراعُ يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولتُه تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب في حرب ضروس ضد بقية الأمم والشعوب، لإخضاعها وتحويلها إلى خدم وعبيد لدى بني إسرائيل. عند ذاك ينتهي التاريخ، ويحلُّ ملكوت الربِّ على الأرض: ملكوت يديره يهوه بنفسه.

    يبتدئ ملكوت الربِّ بما تدعوه أسفار الأنبياء بـ"يوم الرب". في ذلك اليوم يرسل يهوه، ربُّ القوات، على الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية تمهِّد لهجومه الكاسح على الأمم: فالسماوات «تُطوى كسِفْرٍ وتذوي قواتُها كافة» (إشعيا 34: 4)؛ والشمس تنقلب ظلامًا والقمر دمًا (يوئيل 3: 4)؛ وأرض أدوم تكون «زفتًا مشتعلاً، لا تنطفئ ليلاً ولا نهارًا، ودخانها يصعد مدى الدهر» (إشعيا 34: 9-10)؛ يعمُّ الظلام والسحاب والضباب، فيمشي الناس كالعُمْي، وبنار غيرة يهوه تُلتهَم الأرض، لأنه يصنع فناءً مباغتًا لسكانها (صفنيا 1: 14-18)؛ «فتُطرَح قتلاهم وينبعث النتن من جيفهم وتسيل الجبال من دمائهم» (إشعيا 34: 3). ثم يتدخل يهوه بشخصه لإفناء الأمم: فهو يستيقظ مثل جبار تَعْتَعَه السُّكْرُ ويضرب أعداءه في أدبارهم (مزمور 78: 65-66)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا 13: 3-4)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا 1: 14).

    بعد هذه الأحداث الجِّسام تدخل الأرض في حالة فردوسية مهيأة لسعادة بني إسرائيل الذين يتسلَّطون على من بقي حيًّا من الأمم الأخرى. نقرأ في سفر إشعيا 11 و14: «وفي ذلك اليوم يعود الربُّ فيمد يده ثانية ليفتدي بقية شعبه [...]. يجمع المنفيين من إسرائيل ويضم المشتَّتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض» (11: 11-12)، «[...] فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب [...]. ويمتلكهم بيتُ إسرائيل في أرض الربِّ عبيدًا وإماءً، ويسبون الذين سَبَوْهم ويتسلَّطون على ظالميهم» (14: 1-2).

    نعود إلى مسيح آخر الأزمنة لنضيء أهمَّ معالم شخصيته: فهو يولد كطفل خارق، تجتمع فيه صفاتُ الآلهة والبشر معًا. نقرأ في سفر إشعيا 9: 2-6: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور [...]. لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفيه، ويُدعى اسمُه عجيبًا، مشيرًا إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيسَ السلام. لنموِّ رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، من الآن إلى الأبد.» وهنالك إشارة واحدة في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء. نقرأ في سفر إشعيا 7: 14: «ويعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل.» والاسم عمانوئيل في العبرية يعني "الرب معنا". وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة. نقرأ في المزمور 110 على لسان داود، فيما يُفهَم منه إشارة إلى مسيح آخر الأزمنة، الذي سيظهر ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قال الرب لسيِّدي: "اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك." [...] يَدين الأمم، ويملأها جُثثًا ويحطم الرؤوس في الأرض الواسعة.»

    هذه الصلة الحميمة بين الربِّ ومسيحه يُعبَّر عنها مجازًا بصلة الأبوة والبنوة. نقرأ في المزمور 2: «أعلن حكم الربِّ. "قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتُك. سلْني فأعطيك الأمم ميراثًا، وأقاصي الأرض ملكًا. بعصا من حديد تكسِّرهم، وكإناء خزَّاف تحطِّمهم."» إن ما نفهمه من قول الربِّ لمسيحه في هذا المزمور «أنا اليوم ولدتك» هو أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقة قديمة، بل حادثة، وأنها قد تأسَّستْ بعد مسحه واختياره، دون أية صلة ميتافيزيائية، أي من نوع يجعل مسيح الربِّ مشاركًا له في الطبيعة أو القِدَم.

    ومن الجدير ذكرُه هنا أن صلة الأبوة والنبوة هذه ليست وقفًا على مسيح آخر الأزمنة. فلقد دعا الكتاب قبل ذلك ملوك إسرائيل الأوائل بـ"أبناء الرب". نقرأ على لسان يهوه في المزمور 89: «وجَدْتُ داود عبدي، ومسحتُه بزيت قداستي. [...] يدعوني قائلاً: "أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي." وأنا أجعله بكرًا، فوق ملوك الأرض عَلِيًّا.» وفي سفر صموئيل الثاني 7: 13-14، يقول يهوه بخصوص أبوَّته للملك سليمان: «هو يبني لي بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.» هذه الأبوة المجازية هي نوع من التبنِّي لشخصية مميَّزة، حلَّ عليها روحُ الرب، وتكلَّم من خلالها وكلَّمتْه، وجعلها وسيطًا بينه وبين شعبه. فإذا كان شعبُ إسرائيل جملةً ابنًا ليهوه (على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها الخروج 4: 22: «إسرائيل ابني البكر»، وهوشع 11: 1: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببتُه، ومن مصر دعوتُ ابني»)، فإن ذلك المختارَ من إسرائيل هو الأجدر بهذا اللقب، وبنوَّته للربِّ إنما تعكس نوع العلاقة التي أسَّسها يهوه مع شعبه منذ البداية.

    على أن نوعًا من الحقيقة المسيحانية، القائمة في عالم المُثُل قبل تجسُّدها الواقعي في عالم الظواهر، يمكن عزوُها إلى مسيح آخر الأزمنة، من خلال مفهوم "ابن الإنسان" الذي نصادفه في سفر دانيال 7: 9-14. ففي مقطع شديد السرَّانية والغموض من رؤيا دانيال نواجه شخصية ضبابية يدعوها النص بـ"ابن الإنسان"، تُدعى للمثول في حضرة الربِّ، الذي يلقِّبه النص هنا بـ"قديم الأيام"، فيعطيه سلطانًا أبديًّا على الأرض: «وبينما كنت أنظر إذ نُصِبَتْ عروش، فجلس قديم الأيام، وكان لباسُه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي [...]. وكنت أنظر في رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام، وقُرِّب إلى أمامه. فأُوتِيَ سلطانًا ومجدًا ومُلكًا. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانُه سلطانٌ أبدي لا يزول، وملكوته لا ينقرض.»

    هذه هي الإشارة الوحيدة إلى "ابن الإنسان" في الأسفار التوراتية القانونية. إلا أن هذه الشخصية قد بقيت موضع تأمل لاهوتي في الأسفار غير القانونية التي كُتِبَ معظمُها فيما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، والتي جرى استبعادُها من التوراة العبرية في نصِّها النهائي الذي اعتمده مجمع يمنيا حوالى سنة 90 م. ولعل المقطع التالي، الذي أنقله عن سفر أخنوخ الأول، يعطي صورة عن التأملات اللاهوتية المتأخرة بخصوص "ابن الإنسان" المحجوب. فأخنوخ، الذي صعد إلى السماء في رؤى الليل وقادتْه الملائكةُ في جولة كشفتْ له فيها أسرارَها، يصف لنا مواجهته مع ابن الإنسان بالكلمات التالية: «هناك رأيت الذي رأسُه مبدأُ الأيام. كان رأسُه مشتعلاً بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان، ووجهُه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قدوس. فسألت الملاك أن يكشف لي سرَّ ابن الإنسان: مَن هو، ومن أين أتى، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: "هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير، الذي به يحيا الخير، وتنكشف الكنوز الخبيئة، لأن ربَّ الأرواح قد اختاره. قَدَرُه خيرٌ كلُّه أمام ربِّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت سيخلع الملوكَ والجبابرةَ والأقوياءَ عن عروشهم لأنهم لم يُسبِّحوا بحمده، ولم يمجِّدوه، ولم يعترفوا بمصدرِ مُلْكِهِم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة، ويخفض وجوه العُتاة، فيمرِّغها بالعار، ليجعل الظلمةَ مسكنَهم والديدانَ سريرَهُم، هناك يضطجعون ولا يقومون."»[1]

    ***

    لقد جاءت هذه التأملات في فترة شهدت ازدهار الأفكار المسيحانية المهدية، حيث راح الناسُ يترقبون ظهور المخلِّص، وفي هوس جمعي يرصدون علامات اليوم الأخير، خصوصًا في فلسطين التي تغذَّتْ أكثر من غيرها بفكرة "المسيح المنتظَر"، وذلك بتأثير الأفكار الزرادشتية، من جهة، والأفكار التوراتية، من جهة أخرى، على الرغم من أن أهلها لم يكونوا يهودًا في معظمهم. في هذا المناخ النفسي والفكري جاءت ولادةُ يسوع وحياتُه القصيرةُ العاصفة بين العام 6 ق م وحوالى العام 30 بعد الميلاد.



    "يسوع ابن الإنسان"، رسم غير مؤرَّخ لجبران خليل جبران

    (متحف تلفير للفن، سافانا)

    من المهم، فيما يتعلَّق بفهمنا لسيرة يسوع وتعاليمه، أن نميِّز في النصِّ الإنجيلي بين ما قاله يسوع نفسُه وما قاله الآخرون عنه. فمؤلِّف إنجيل لوقا يروي لنا في قصة الميلاد أن الله قد أرسل الملاك جبرائيل ليبشِّر السيدة مريم بمولد يسوع. فلما رأتْه مريم خافت واضطربت، فقال لها جبرائيل: «"لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العليِّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لمُلْكه نهاية." فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟" فأجابها الملاك وقال لها: "الروح القدس يحلُّ عليك وقوة العليِّ تُظِلُّك. فلذلك، القدوسُ المولودُ منك يُدعى ابن الله."» (لوقا 1: 26-35) في هذا المقطع عددٌ من الألقاب المعزوَّة إلى يسوع، التي تتطابق مع ما وَرَدَ في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص القادم: فهو "ابن داود"، وهو "ملك إسرائيل"، وهو "ابن الله"، وهو المسيح الذي يحكم إلى آخر الدهر.

    ولكن يسوع قد تفادى، إبان فترة دعوته، الإشارةَ إلى نفسه بأيٍّ من هذه الألقاب، بينما أطلقها عليه الآخرون، على الرغم من ممانعته الواضحة لها وتهرُّبه منها. فعندما رأى الناس معجزاتِه تداعوا إلى تنصيبه ملكًا، ولكنه توارى عن الأنظار وانصرف إلى الجبل وحده (يوحنا 6: 15). وعندما قال له أحد تلامذته، وهو نثنائيل: «رابِّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل»، لم يجبْه بما يوحي بقبوله للَّقب، وإنما صرف أذهان تلامذته إلى اللقب الذي كان يفضِّله – وهو "ابن الإنسان" – حين أجاب: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان.» (يوحنا 1: 49-51) وعند شفائه للممسوسين كانت الشياطين تخرج منهم وهي تصرخ وتقول: «"أنت المسيح ابن الله!"، فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم» (لوقا 4: 41). وعندما قال له بطرس: «أنت المسيح ابن الله الحي»، أوصى تلامذته ألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح، ثم راح يحدثهم عن ابن الإنسان وعن مهمته في هذا العالم وعن قدومه الثاني في آخر الزمان، قائلاً: «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كلَّ واحد حسب عمله.» (متى 16: 13-28) وفي رواية لوقا للحادثة نفسها نجد يسوع أكثر حدة فيما يتعلق بتفاديه لقبَ المسيح وتحويل أنظار تلامذته إلى مفهوم "ابن الإنسان": «فقال لهم: "وأنتم مَن تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس وقال له: "مسيح الله." فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه»، وابتدأ يعلِّمهم أن «ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام يقوم.» (لوقا 9: 20-22)

    وفيما يتعلق بلقب "ابن داود"، فقد أعلن يسوع صراحة أن المسيح ليس من سلالة داود عندما قال لجماعة من الصادوقيين: «كيف يقولون إن المسيح هو ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال الرب لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك"؟ فإذا كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟» (لوقا 20: 41-44)

    لقد كان تفادي يسوع لهذه الألقاب نابعًا من تداعياتها السياسية لدى أهل مقاطعة اليهودية والجماعات اليهودية القليلة الموزعة في فلسطين. وبدلاً منها فقد فضَّل يسوع أن يطلق على نفسه لقب "ابن الإنسان"، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزعات القومية. وقد أعلن في أول تبشير علني له عن فحوى رسالته، عندما دخل المجمع في مدينة الناصرة. نقرأ في إنجيل لوقا 4: 18: «وجاء إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدُفِعَ إليه سِفْرُ إشعيا النبي. ولما فتح السِّفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: "روح الربِّ عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرُز بسَنَة الربِّ المقبولة." ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم: "اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم."»

    كما أوضح يسوع لتلامذته تدريجيًّا مفهومَه الخاص عن ملكوت الله، وميَّزه بحدَّة عن ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلَّعون إليه. فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، يشمل الأمم والشعوب قاطبة، ورابطةٌ تجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدتْ فيما بينهم. إنه عصر تتم فيه معرفةُ الآب، أبي البشر أجمعين الذي لم يعرفه اليهود قط. قال يسوع لليهود: «"أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني." فقالوا له: "أين هو أبوك؟" أجاب يسوع: "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا."» (يوحنا 8: 18-19) وقال لهم أيضًا: «"أنا أتكلَّم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون بما سمعتم عند أبيكم [...]." فقالوا له: "[...] لنا أب واحد وهو الله." فقال لهم يسوع: "[...] أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا [...]. الذي من الله يسمع كلام الله. لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."» (يوحنا 8: 38-47)

    مع ظهور يسوع الذي افتتح ملكوت السماوات يَعقِد الله صلحًا مع البشرية ويمدُّ لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان إبليس، أمير الظلام، الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدًا جديدًا هو عهد الله مع الإنسانية، يحلُّ محلَّ العهد القديم الذي كان عهد يهوه مع بني إسرائيل. فالملكوت حاضر، هنا والآن، بعد ظهور المخلِّص وموته الطوعي فداءً عن البشرية الخاطئة؛ ولسوف يستمر بعد ذلك ردحًا من الزمن يكفي لتنقية العالم من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة. عند ذاك سيعود ابن الإنسان، في قدومه الثاني، على غمام المجد في اليوم الأخير الذي يشهد دمار العالم القديم، فيجلس على عرش مجده ليميز الأشرار من الصالحين، فيفتح بوابة النعيم لأهل اليمين ويفتح بوابة الجحيم لأهل اليسار. نقرأ في متى 24: 29-30: «بعد ضيق تلك الأيام، تُظلِم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، والنجوم تتساقط من السماوات، وقوات السماوات تتزعزع. حينئذٍ تظهر علامةُ ابن الإنسان في السماء [...]. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الرياح الأربعة [...].» وفي متى 25: 31-34: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميعُ الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بينهم كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا، يا مباركي أبي، لترثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم [...]." ثم يقول للذين عن اليسار: "اذهبوا عني، يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته [...]."»

    ويسوع، بإعلانه لإنجيل الملكوت، قد افتتح نظامًا دينيًّا جديدًا. فالشريعة التوراتية تنتهي ويبطل مفعولُها مع البشارة الجديدة، وسلسلة أنبياء العهد القديم تتوقف عند يوحنا المعمدان. ففي قول يسوع المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى 9: 13) تقويضٌ لمؤسَّسة القربان التوراتي، وإعلانٌ لبطلان الطقوس التوراتية، وتأسيسٌ لطقوس تقوم على القلب، لا على الدم. لقد حمل اليهود نير الشريعة بسبب غلاظة قلوبهم؛ أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو هيِّن وخفيف، على ما يقوله يسوع في إنجيل متى 11: 28-30: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني [...]، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.» وهو يصف شريعة العهد الجديد بالخمرة الجديدة التي لا يجوز أن تُصَبَّ في جرار قديمة هي شريعة العهد القديم، لئلا تفسد الخمر وتتشقق الجرار (متى 9: 17). هذه الشريعة الجديدة قوامها المحبة. قال يسوع في جوابه لفريسي سأله عن الوصية العظمى في الناموس: «"تحبُ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك." هذه الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلُها: "تحب قريبك كحبِّك لنفسك."» (متى 22: 35). وقال أيضًا: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا.» (يوحنا 13: 34)

    هذا الرَّجَحان للأخلاق على الطقوس يتجلَّى، في أوضح صوره، في هزئه من طقوس الطهارة الشكلية التي تشكِّل لباب الشريعة القديمة. فعندما ثار الفريسيون لأنهم رأوا تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير نظيفة قال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجِّسه. لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان [...]. لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة [...].» (مرقس 7: 15-23)

    ومع هذه الشريعة الجديدة، يتجاوز يسوع موسى، ولا يبقى للهيكل اليهودي ما يسوِّغ استمرارَه. وهذا ما أعلنه صراحة عندما سألتْه المرأة السامرية، وقد اعتقدت أنه نبي يهودي: «"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضعَ الذي يجب أن يُسجَدَ فيه." فقال لها يسوع: "يا امرأة، صدِّقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم."» ثم أوضح لها أن الخلاص لا يتم قبل التخلُّص من اليهود، عندما أردف قائلاً: «لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ – وهي حاضرة الآن – حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق [...].» (يوحنا 4: 19-23)

    في مشهد المحاكمة التي قادت إلى موت يسوع، أعلن يسوع عن نفسه كملك ومسيح وابن لله. فهو الملك، ولكن مملكته ليست أرضية، بل روحانية، على ما وَرَدَ في إنجيل يوحنا، عندما سأله الوالي الروماني بيلاطس: «هل أنت ملك اليهود؟»، فأجابه يسوع: «"مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدَّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَمَ إلى اليهود." فقال له بيلاطس: "أفأنت إذن ملك؟" أجاب يسوع: "أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق."» (يوحنا 18: 33-37)

    وهو المسيح، ولكنه ليس المسيح اليهودي، بل "ابن الإنسان" الذي افتتح ملكوت الخلاص والغفران، الذي سيظهر مرة أخرى في نهاية الأزمان، لا لتخليص شعب إسرائيل، بل للفصل النهائي بين الخير والشر. ففي إنجيل متى سأله رئيس الكهنة: «"أستحلفك بالله الحي لتقولنَّ لنا هل أنت المسيح ابن الله؟" فقال له يسوع: "هو ما تقول. وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء."» (26: 63-64) نلاحظ في هذا المقطع من إنجيل متى كيف أكد يسوع، لآخر مرة، على الصلة الوثيقة بين لقب المسيح "ابن الله" ولقب "ابن الإنسان" بمعانيه التي أفصح عنها سِفْرُ دانيال وعددٌ من الأسفار التوراتية غير القانونية. فالمسيح ليس "ابنًا لله" بالمعنى التوالدي للكلمة، وليس من طبيعته ذاتها، ولا معادلاً له في القِدَم، بل هو تجسيد في الزمن والتاريخ لحقيقة سالفة ونموذج قائم في عالم المُثُل. لقد كان عند الله كفكرة تنتظر التحقق. وعندما حملت العذراء بيسوع من غير أب بشري، تجسَّدت الفكرةُ في إنسان هو "ابنٌ لله"، مثل سائر البشر، ولكنه ابنٌ مميز لأنه لم يولد من روح إنسانية، بل من روح الله مباشرة، على حدِّ قول الآية الكريمة: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفحنا فيه من روحنا» (التحريم 12). وعلى حدِّ تعبير إنجيل متى 1: 18: «لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجِدَتْ حُبلى من الروح القدس.»

    ولكي أقرِّب مفهومَ "ابن الله" كما استخدمتْه الأناجيل إلى الذهنية الإسلامية، فإني ألجأ إلى مقارنة مفهوم ابن الإنسان بمفهوم "الحقيقة المحمدية" في الفكر الصوفي الإسلامي، ومرادفه الآخر: "الإنسان الكامل". فالنبي محمد (ص) هو تحقُّق في الزمن والتاريخ لحقيقة سابقة على وجود الإنسانية، وتجسيد في التاريخ لشخصية تقع في مركز الوسط بين عالم المثال وعالم الواقع. مثل هذه الأفكار يجد سندًا قويًّا له في عدد من الأحاديث التي يشير النبي فيها بوضوح إلى أن وجوده التاريخي لم يكن إلا بَلْوَرَةً لفكرة قديمة؛ ومنها قوله لأحد الصحابة: «أولُ ما خَلَقَ الله نور نبيِّك يا جابر»، وقولُه أيضًا: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين.» والحديث الثاني يذكِّرنا بقول يسوع: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يوحنا 8: 58). وهذا ما يقودنا إلى مفهوم المسيح في القرآن الكريم.

    ***

    يُدعى يسوع في القرآن الكريم بالاسم عيسى. والكلمة، على ما نرجِّح، قد جاءت من الاسم التوراتي يِشو–وا، المختصرة عن يهو–شوا، وتعني "خلاص الرب". وقد جرى لفظ الاسم بالآرامية، التي كانت لغة فلسطين، بصيغة يشوع، التي تحوَّلت في الأناجيل اليونانية إلى إيسوس Iisous أو إيسو، بحذف حرف السين الذي يلحق أسماء العَلَم الإغريقية. ومنها جاء الاسم "عيسى" في العربية والاسم Jesus في اللغات الأوروبية، الذي يضاف إليه عادة لقبُ المسيح Christ، فيقولون: Jesus Christ، أي "يسوع المسيح". وكلمة Christ في اللغات الأوروبية مأخوذة من الكلمة اليونانية Χριστος، خريستوس؛ وهي التي استخدمتْها الترجمة اليونانية للتوراة، المعروفة باسم "الترجمة السبعينية" Septuagint، كمقابل للكلمة العبرية مشيح.

    يتصل لقبُ المسيح بعيسى عليه السلام في آيات الكتاب الكريم. فقد وَرَدَ الاسم عيسى مقرونًا بالمسيح إحدى عشرة مرة، وذلك كقوله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه» (النساء 171). كما وردت الإشارة إلى عيسى باسمه المجرَّد، كقوله تعالى: «يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا» (آل عمران 55)، أو مضافًا إلى "ابن مريم"، كقوله تعالى: «وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). أو بـ"ابن مريم" فقط، كقوله: «ولما ضُرِبَ ابنُ مريم مثلاً إذا قومُك منه يصدُّون» (الزخرف 57). وقد ناب لقبُ "المسيح" مرة واحدة عن الاسم، وذلك في الآية 172 من سورة النساء: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون».

    لا تفيدنا آياتُ الكتاب في معرفة معنى كلمة "المسيح". وبما أننا لا نجد في العربية جذرًا للكلمة سوى الفعل الثلاثي مسح الذي يفيد، كما في الآرامية والعبرية، معنى اللمس والتمسيد الرفيق بالكف، فقد ذَهَبَ معظم المفسِّرين إلى القول بأن لقب المسيح قد جاء من قيام عيسى بشفاء المرضى بلمسة يده. ولكننا نرجِّح أن يكون اللقب القرآني ذا صلة بالمعنى التوراتي والإنجيلي. فإذا كان المَسْحُ بالزيت دلالةً رمزيةً على مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة التي يقول عيسى فيها: «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مبارَكًا» (مريم 30-31). وإذا كان المسْح بالزيت دلالة رمزية على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرا، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة: «إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» (آل عمران 33). وإذا كان المسح أيضًا يدل على حلول روح الربِّ على الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر مراحل حياته، فإن هذا المعنى متضمَّن في قوله: «وآتينا عيسى البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). وأيضًا: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيَّدتُك بروح القدس» (المائدة 110).

    وكما كان ليسوع المسيح في الرواية الإنجيلية ظهوران: ظهور في التاريخ، وظهورٌ ثانٍ في آخر الأزمان، يُفتتَح معه اليومُ الآخر ونهايةُ التاريخ، كذلك هو الأمر بالنسبة لعيسى في الرواية القرآنية. فقد ظهر عيسى أولاً كرسول ونبي، ثم نجَّاه ربُّه من الصلب وأجاز عنه كأسَ الموت، فرَفَعَه إليه في انتظار اليوم الأخير الذي يُفتتَح بعودة عيسى كعلامة أساسية من علامات الساعة. نقرأ في سورة النساء 156-158: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم [...] وما قتلوه يقينًا بل رَفَعَه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا». ونقرأ في سورة الزخرف 57-61: «ولما ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدُّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. [...] وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم».

    هذه الإشارات الموجزة عن دور عيسى في آخر الزمن لا تقترن في الكتاب بمزيد من التفاصيل. ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى؛ ومنه نورد نتفًا هي غيض من فيض. فقد روى مسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشرَ آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابَّة التي تكلِّم الناس، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه السلام، إلخ.» وعلى ما نفهم من عدد آخر من الأحاديث فإن القدوم الثاني للمسيح عيسى ابن مريم يسبقه ظهور "المسيح الدجال" الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح، ثم يدَّعي النبوة، ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية، ويُجري معجزات عظيمة، منها إحياء الموتى وإسقاط المطر بإشارته، فيتبعه المنافقون والمرتابون، وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق، واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين. إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤ كالجمان، فينفخ على الكفار فيبيدهم. ونفختُه النارية هذه تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسية ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتضع الحرب أوزارها، وتتحول السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرس الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسدُ البقرَ فلا يضرُّها، ويلعب الصبيُّ بالثعبان فلا يضرُّه. بعد ذلك يموت عيسى، ويصلِّي عليه المسلمون، ثم تموت كلُّ نفس حية وتعود إلى بارئها. هذا الوصف للحالة الفردوسية التي تسود في نهاية التاريخ يشبه وصف ملكوت الربِّ في المصادر الكتابية. نقرأ في سفر إشعيا عن مسيح آخر الأزمنة وافتتاحه للملكوت ما يلي: «ويحلُّ عليه روحُ الرب [...]. ولذته تكون في مخافة الربِّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكمُ بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكمُ بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضربُ الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه [...]. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربضُ النمر مع الجدي، والعجلُ والشبل والمُسَمَّن معًا، وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدابة ترعيان، تربض أولادُهما معًا، والأسد يأكل تبنًا كالبقر، ويلعب الرضيع على سَرَب الصِّلِّ ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان.» (إشعيا 11: 1-8)

    ***

    في ضوء ما تقدَّم ذكُره، نخلص إلى النتائج التالية بخصوص النقاط المشتركة بين المصادر الثلاثة حول مفهوم المسيح:

    1. المسيح شخصية إنسانية ذات طبيعة فائقة، يحلُّ عليها روحُ الله، ويرفعها إلى مرتبة وسطى بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.

    2. يلعب المسيح دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في نهاية الزمن وأحداث اليوم الأخير.

    3. يطلق النصُّ التوراتي والنصُّ الإنجيلي على المسيح مجازًا لقبَ "ابن الله" للتعبير عن مكانته الفذة والمميزة. وبشكل خاص، فإن القراءة المباشرة للنصِّ الإنجيلي، بعيدًا عن التأويلات اللاهوتية،[2] تضعنا أمام صورة شعرية، لا أمام دوغما دينية فيما يتعلق بلقب "ابن الله". لقد استعملت الأناجيلُ اللقبَ كوسيلة للإفصاح عن أهمية يسوع بالنسبة للعالم. فهو المثال الأعلى للعلاقة الأكمل بين الإنسان والله، وهو الذي وجد أتباعُه أنفسَهم من خلاله في حضرة الله، ووجدوا معنى الله في حياتهم، لأنه أكثر البشر إحساسًا بوجود الآب، وأكثرهم إخلاصًا في طاعته والاستسلام لمشيئته. أما النص القرآني فيعبِّر، من ناحيته، عن مكانة عيسى الفذة والفريدة عند الله من خلال ألقاب وأوصاف متعددة. فهو "كلمة الله"، وهو "من روح الله"، وهو "قول الحق"، و"رحمة"، و"شاهد"، و"وجيه"، و"آية"، و"مبارك"، وما إلى ذلك من الألقاب التي تجعله أكثر الجميع قربًا من الله، وتستدعي استدعاءً خفيًّا مضامينَ لقب "ابن الله" في الأناجيل، بعيدًا عن شكل هذا اللقب الذي تفاداه النصُّ القرآني في غمار مكافحة العقيدة القرآنية التوحيدية للعقائد التعددية لأهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

    أخيرًا، إن خير ما اخترتُ أن أختتم به هذه الدراسة العاجلة كلماتٌ عبَّر فيها المهاتما غاندي عن موقفه من يسوع، أقتطف لكم بعضها:

    - «لقد أعطتْني الأناجيلُ الراحةَ والفرحَ غير المحدود.»

    - «إن مثال يسوع يشكِّل عاملاً أساسيًّا في إيماني الذي لا يموت بمبدأ اللاعنف.»

    - «إن يسوع عندي هو واحد من كبار المعلِّمين الذين عرفتْهم الإنسانية. وعلى الرغم من أن أتباعه يرون فيه ابنًا لله، إلا أن قبولي بهذه العقيدة أو رفضها لا يجعل ليسوع تأثيرًا أكثر أو أقلَّ على حياتي، ولا يقرِّبني من رؤية العظمة في تعاليمه ومذهبه أو يمنعها عنِّي. إني أرى في حياة يسوع مفتاحَ قُربه من الله. لقد عبَّر، كما لم يستطع أحدٌ غيره، عن روح الله وإرادته. بهذا المعنى، ومن هذا المنظور، أراه وأتعرَّف إليه كابنٍ لله.»

    *** *** ***





    [1] J.H. Charlesworth, ed., The Old Testament Pseudoepigrapha, p. 13 ff.

    [2] أنا هنا لا أقلِّل من قيمة التأويلات اللاهوتية بالنسبة للإيمان المسيحي، لأن لها من المشروعية ما لا يمكن للقراءة المباشرة أن تفصح عنه؛ وكلاهما يجد له سندًا قويًّا من النص.
  • 23/11/2006, 09:07 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!

    مفهوم "المسيح"

    بين التوراة والإنجيل والقرآن



    فراس السوَّاح



    "المسيح" مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها.

    ولسوف نبتدئ ببسط المفهوم التوراتي للمسيح، أولاً، ثم ننتقل إلى المفهوم الإنجيلي، فالقرآني، معتمدين اعتمادًا أساسيًّا على ما تقدِّمه لنا الكتبُ المقدسة الثلاثة، ومبتعدين، قدر المستطاع، عن مقولات اللاهوت والتفسير.

    "المسيح" (أو المشيح) كلمة آرامية–عبرية، مشتقة من الفعل الثلاثي مشح الذي يعني، كما في العربية، اللمس والتمسيد الرفيق بالكف. وبالمعنى الطقوسي التوراتي فإن المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت يُحضَّر من زيت الزيتون النقي، ممزوجًا بأطياب معينة، وفق مقادير خاصة، ويدعى زيت المسحة، ولا يجوز استخدامُه في الأغراض الدنيوية. فالمسح الطقوسي، والحالة هذه، هو نوع من شعائر التَّعْدية والعبور rites de passage أو المُسارَرة Initiation، التي تنقل الشخص أو الشيء الممسوح بالزيت من مجال ما للناس إلى مجال ما لله.

    أول مسح طقوسي بالزيت يصادفنا في كتاب التوراة هو ما قام به يعقوب في سِفر التكوين (الإصحاح 35) عندما نَصَبَ عمودًا (مذبحًا) وسَكَبَ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له الربُّ فيه، ودعا المكان "بيت إيل". وفي سفر الخروج (الإصحاح 30)، يبيِّن الربُّ لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد وبقية الأدوات الطقسية، ويحرِّم عليه استخدامَه إلا للأغراض الشعائرية. بعد ذلك، في سفر الخروج (الإصحاح 40)، يأمره أن يمسح أخاه هرون وبنيه كهنةً على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متَّبعًا حتى نهاية القصة التوراتية. ولدينا مثال واحد عن مسح الأنبياء، وهو ما وَرَدَ في سفر الملوك الأول 19: 16، عندما أمر الربُّ النبيَّ إيليا أن يمسح تلميذه أليشاع نبيًّا بعده قبل صعوده حيًّا إلى السماء. وعندما ابتدأ عصر الملوك في إسرائيل، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيب رسمي للشخص الذي اختاره الربُّ لحكم إسرائيل، وتكريسه للرسالة المنوطة به تجاه شعب يهوه.

    كان شاؤل أول من مُسِحَ ملكًا على إسرائيل بأمر من الرب، ودُعي بـ"مسيح الرب". وهنا نفهم من سفر صموئيل الأول، الذي نَقَلَ قصة اختيار شاؤل ومَسْحِه، كيف أن طقسَ المسح يُحوِّل الشخص الممسوح إلى شخص جديد يحلُّ عليه روحُ الرب، حيث نقرأ: «[...] فيكون من هناك، أنك تلقى زمرة من الأنبياء النازلين من المَشْرَف، [...] فينقضُّ عليك روحُ الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلاً آخر. وإذا وَرَدَتْ عليك هذه الآيات، فاصنع ما تجده يدُك، لأن الربَّ معك.» (10: 5-7)

    وعندما غضب الربُّ على شاؤل لأنه لم ينفِّذ أمره كاملاً بقتل شعب العماليق عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع بقرهم وغنمهم وكلِّ مواشيهم، غادَرَه روحُ الرب وحلَّ به روحٌ رديء يسبِّب له نوباتٍ من الجنون. بعد ذلك أمَرَ الربُّ النبيَّ صموئيل أن يمسح الفتى داود ملكًا بدلاً عن شاؤل، الذي قضى نحبه بعد فترة قصيرة في معركة مع الفلسطينيين. وبعد أن غادر روحُ الربِّ شاؤل حلَّ على داود، الذي يصف علاقتَهُ بإلهه بالكلمات التالية: «هذه كلمات داود الأخيرة: وحيُ داودَ بنِ يُسِّي، وحيُ الرجل القائم في العُلا، مسيح إله يعقوب ومرنِّم مزامير إسرائيل: "روحُ الربِّ تكلَّم بي وكَلِمَتُه على لساني. قال إله إسرائيل: إلخ."» (صموئيل الثاني 23: 1–3). نلاحظ في هذا النص كيف يجمع مسيحُ الربِّ بين المُلك الدنيوي وبين النبوة والكهنوت: فهو يكلِّم الربَّ ويكلِّمه الربُّ، ولسانُه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بامتياز بين عالم الألوهة وعالم البشر.

    عندما شاخ داود واستلقى على سرير الاحتضار، أوصى بالمُلْك لابنه سليمان بمباركة من الرب، وأمر صادوق الكاهن وناثان النبي أن يمسحا سليمان ملكًا بعده. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الربِّ ومسيحه؛ وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول 3: 5-12: «وفي جبعون تراءى الربُّ لسليمان في الحلم ليلاً وقال: "اسأل ما تريد أن أعطيك." فقال سليمان: "[...] فهَبْ عبدَك قلبًا فهيمًا ليحكم شعبك ويميِّزَ بين الخير والشر [...]." فَحَسُنَ في عيني الربِّ أن يكون سليمان قد سأل هذا الأمر. فقال له: "[...] فهاءنذا قد فعلتُ بحسب كلامك. هاءنذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهيمًا، حتى إنه لم يكن قبلك مثلُك ولا يقوم بعدك مثلُك.»

    بعد وفاة سليمان، في القصة التوراتية، وزوال ما يُدعى بالمملكة الموحدة، التي انقسمت إلى مملكة السامرة ومملكة يهوذا، تحوَّل طقسُ المسح بالزيت إلى إجراء روتيني يقوم به كبيرُ الكهنة من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصبُ بالوراثة أو بالاغتصاب. وكانت مراسم التنصيب تجري في أجواء اعتيادية؛ وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي شيئًا عنها، بل يكتفي بالقول إن فلانًا قد مَلَكَ على أورشليم أو على السامرة، وأن مُلْكه قد دام كذا سنة. ولكن جميع ملوك السامرة، منذ يربعام بن ناباط، مؤسِّس مملكة إسرائيل، قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية؛ وكذلك فعل معظم ملوك يهوذا. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يعنِّفون ملوكهم بشدة على عدم إخلاصهم ليهوه، رجاءً في مَلِك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا، أخذ مفهوم المسيحانية messianic المَلَكية بالتغير: فبدلاً من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم تتطلَّع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجدَه وكفاحَه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذه الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة في العام 721 ق م وتحوُّلها إلى ولاية آشورية، وزوال مملكة يهوذا في العام 578 ق م وتحوُّلها إلى ولاية بابلية، وانتهاء ما يُدعى بعصر الملوك. فمسيح الربِّ لم يعد مَلِكًا يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، بل تحوَّل إلى شخصية رؤيوية نبوية، سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وتُرجِعَهم إلى أورشليم، وتحاربَ أعداء شعب يهوه في كلِّ مكان، لتجعل أممَ الأرض قاطبة في النهاية عبيدًا لبني إسرائيل.

    وبما أن سلالة داود هي التي حكمت أورشليم حتى دمارها وسَبْي أهلها على يد البابليين، فإن المسيح القادم سيكون من نسل داود الذي وَعَدَه الربُّ بأن نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد، على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها ما وَرَدَ في المزمور 89: «لا أنقض عهدي، ولا أغيِّر ما خرج من شفتي. مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي.» فالمسيح القادم هو غصنٌ ينبت من شجرة نسب داود التي لم تنقطع، على ما نقرأ في سفر إرميا 23: 5-8: « [...] وأقيم لداود غُصنَ بِرٍّ، فيملك وينجحُ، ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. في أيامه يُخلَّصُ يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا [...]: "حي هو الربُّ الذي أصْعَدَ وأتى بنسل بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طَردتُهم إليها، فيسكنون في أرضهم."» ونقرأ في سفر إشعيا أيضًا عن الغصن الذي ينبت من شجرة داود بن يُسِّي: «ويخرج قضيبٌ من جذع يُسِّي وينبت غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه روحُ الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة.»

    وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية عقب استيلاء قورش على بابل في العام 539 ق م ووراثة فارس للإمبراطورية البابلية، قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. عند ذاك يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوَّث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده، ليغدو فردوسًا خالصًا يعيش فيه الأخيارُ الصالحون في زمن مفتوح على الأبدية. وفيما بعد، أدخلتْ التطويراتُ اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةً على فكرة المخلِّص الزرادشتي. فهذا المخلِّص المدعو ساوشنياط سوف يأتي من نسل زرادشت نفسه، عندما تحمل به عذراءٌ تنزل للاستحمام في بحيرة كاناسافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود.

    لقد أثَّرتْ فكرة نهاية الزمن هذه بقوة على فكرة ملكوت الربِّ القادم على الأرض في التوراة، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشرِّ في العالم واستعادته نقيًّا طاهرًا، كما كان في لحظة الخلق الأول، ليعيش فيه الصالحون، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض، بعد أن يرسل مسيحَه قُدَّامه، ليمهِّد له الطريق ويكسرَ شوكة أعداء إسرائيل ويعيدَ أمجاد أورشليم الضائعة. أما مراحل التاريخ السابقة فلا يوجِّهها صراعٌ بين الخير والشر، كما هي الحال في المذهب الزرادشتي، بل صراعُ يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولتُه تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب في حرب ضروس ضد بقية الأمم والشعوب، لإخضاعها وتحويلها إلى خدم وعبيد لدى بني إسرائيل. عند ذاك ينتهي التاريخ، ويحلُّ ملكوت الربِّ على الأرض: ملكوت يديره يهوه بنفسه.

    يبتدئ ملكوت الربِّ بما تدعوه أسفار الأنبياء بـ"يوم الرب". في ذلك اليوم يرسل يهوه، ربُّ القوات، على الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية تمهِّد لهجومه الكاسح على الأمم: فالسماوات «تُطوى كسِفْرٍ وتذوي قواتُها كافة» (إشعيا 34: 4)؛ والشمس تنقلب ظلامًا والقمر دمًا (يوئيل 3: 4)؛ وأرض أدوم تكون «زفتًا مشتعلاً، لا تنطفئ ليلاً ولا نهارًا، ودخانها يصعد مدى الدهر» (إشعيا 34: 9-10)؛ يعمُّ الظلام والسحاب والضباب، فيمشي الناس كالعُمْي، وبنار غيرة يهوه تُلتهَم الأرض، لأنه يصنع فناءً مباغتًا لسكانها (صفنيا 1: 14-18)؛ «فتُطرَح قتلاهم وينبعث النتن من جيفهم وتسيل الجبال من دمائهم» (إشعيا 34: 3). ثم يتدخل يهوه بشخصه لإفناء الأمم: فهو يستيقظ مثل جبار تَعْتَعَه السُّكْرُ ويضرب أعداءه في أدبارهم (مزمور 78: 65-66)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا 13: 3-4)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا 1: 14).

    بعد هذه الأحداث الجِّسام تدخل الأرض في حالة فردوسية مهيأة لسعادة بني إسرائيل الذين يتسلَّطون على من بقي حيًّا من الأمم الأخرى. نقرأ في سفر إشعيا 11 و14: «وفي ذلك اليوم يعود الربُّ فيمد يده ثانية ليفتدي بقية شعبه [...]. يجمع المنفيين من إسرائيل ويضم المشتَّتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض» (11: 11-12)، «[...] فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب [...]. ويمتلكهم بيتُ إسرائيل في أرض الربِّ عبيدًا وإماءً، ويسبون الذين سَبَوْهم ويتسلَّطون على ظالميهم» (14: 1-2).

    نعود إلى مسيح آخر الأزمنة لنضيء أهمَّ معالم شخصيته: فهو يولد كطفل خارق، تجتمع فيه صفاتُ الآلهة والبشر معًا. نقرأ في سفر إشعيا 9: 2-6: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور [...]. لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفيه، ويُدعى اسمُه عجيبًا، مشيرًا إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيسَ السلام. لنموِّ رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، من الآن إلى الأبد.» وهنالك إشارة واحدة في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء. نقرأ في سفر إشعيا 7: 14: «ويعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل.» والاسم عمانوئيل في العبرية يعني "الرب معنا". وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة. نقرأ في المزمور 110 على لسان داود، فيما يُفهَم منه إشارة إلى مسيح آخر الأزمنة، الذي سيظهر ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قال الرب لسيِّدي: "اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك." [...] يَدين الأمم، ويملأها جُثثًا ويحطم الرؤوس في الأرض الواسعة.»

    هذه الصلة الحميمة بين الربِّ ومسيحه يُعبَّر عنها مجازًا بصلة الأبوة والبنوة. نقرأ في المزمور 2: «أعلن حكم الربِّ. "قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتُك. سلْني فأعطيك الأمم ميراثًا، وأقاصي الأرض ملكًا. بعصا من حديد تكسِّرهم، وكإناء خزَّاف تحطِّمهم."» إن ما نفهمه من قول الربِّ لمسيحه في هذا المزمور «أنا اليوم ولدتك» هو أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقة قديمة، بل حادثة، وأنها قد تأسَّستْ بعد مسحه واختياره، دون أية صلة ميتافيزيائية، أي من نوع يجعل مسيح الربِّ مشاركًا له في الطبيعة أو القِدَم.

    ومن الجدير ذكرُه هنا أن صلة الأبوة والنبوة هذه ليست وقفًا على مسيح آخر الأزمنة. فلقد دعا الكتاب قبل ذلك ملوك إسرائيل الأوائل بـ"أبناء الرب". نقرأ على لسان يهوه في المزمور 89: «وجَدْتُ داود عبدي، ومسحتُه بزيت قداستي. [...] يدعوني قائلاً: "أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي." وأنا أجعله بكرًا، فوق ملوك الأرض عَلِيًّا.» وفي سفر صموئيل الثاني 7: 13-14، يقول يهوه بخصوص أبوَّته للملك سليمان: «هو يبني لي بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.» هذه الأبوة المجازية هي نوع من التبنِّي لشخصية مميَّزة، حلَّ عليها روحُ الرب، وتكلَّم من خلالها وكلَّمتْه، وجعلها وسيطًا بينه وبين شعبه. فإذا كان شعبُ إسرائيل جملةً ابنًا ليهوه (على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها الخروج 4: 22: «إسرائيل ابني البكر»، وهوشع 11: 1: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببتُه، ومن مصر دعوتُ ابني»)، فإن ذلك المختارَ من إسرائيل هو الأجدر بهذا اللقب، وبنوَّته للربِّ إنما تعكس نوع العلاقة التي أسَّسها يهوه مع شعبه منذ البداية.

    على أن نوعًا من الحقيقة المسيحانية، القائمة في عالم المُثُل قبل تجسُّدها الواقعي في عالم الظواهر، يمكن عزوُها إلى مسيح آخر الأزمنة، من خلال مفهوم "ابن الإنسان" الذي نصادفه في سفر دانيال 7: 9-14. ففي مقطع شديد السرَّانية والغموض من رؤيا دانيال نواجه شخصية ضبابية يدعوها النص بـ"ابن الإنسان"، تُدعى للمثول في حضرة الربِّ، الذي يلقِّبه النص هنا بـ"قديم الأيام"، فيعطيه سلطانًا أبديًّا على الأرض: «وبينما كنت أنظر إذ نُصِبَتْ عروش، فجلس قديم الأيام، وكان لباسُه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي [...]. وكنت أنظر في رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام، وقُرِّب إلى أمامه. فأُوتِيَ سلطانًا ومجدًا ومُلكًا. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانُه سلطانٌ أبدي لا يزول، وملكوته لا ينقرض.»

    هذه هي الإشارة الوحيدة إلى "ابن الإنسان" في الأسفار التوراتية القانونية. إلا أن هذه الشخصية قد بقيت موضع تأمل لاهوتي في الأسفار غير القانونية التي كُتِبَ معظمُها فيما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، والتي جرى استبعادُها من التوراة العبرية في نصِّها النهائي الذي اعتمده مجمع يمنيا حوالى سنة 90 م. ولعل المقطع التالي، الذي أنقله عن سفر أخنوخ الأول، يعطي صورة عن التأملات اللاهوتية المتأخرة بخصوص "ابن الإنسان" المحجوب. فأخنوخ، الذي صعد إلى السماء في رؤى الليل وقادتْه الملائكةُ في جولة كشفتْ له فيها أسرارَها، يصف لنا مواجهته مع ابن الإنسان بالكلمات التالية: «هناك رأيت الذي رأسُه مبدأُ الأيام. كان رأسُه مشتعلاً بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان، ووجهُه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قدوس. فسألت الملاك أن يكشف لي سرَّ ابن الإنسان: مَن هو، ومن أين أتى، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: "هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير، الذي به يحيا الخير، وتنكشف الكنوز الخبيئة، لأن ربَّ الأرواح قد اختاره. قَدَرُه خيرٌ كلُّه أمام ربِّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت سيخلع الملوكَ والجبابرةَ والأقوياءَ عن عروشهم لأنهم لم يُسبِّحوا بحمده، ولم يمجِّدوه، ولم يعترفوا بمصدرِ مُلْكِهِم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة، ويخفض وجوه العُتاة، فيمرِّغها بالعار، ليجعل الظلمةَ مسكنَهم والديدانَ سريرَهُم، هناك يضطجعون ولا يقومون."»[1]

    ***

    لقد جاءت هذه التأملات في فترة شهدت ازدهار الأفكار المسيحانية المهدية، حيث راح الناسُ يترقبون ظهور المخلِّص، وفي هوس جمعي يرصدون علامات اليوم الأخير، خصوصًا في فلسطين التي تغذَّتْ أكثر من غيرها بفكرة "المسيح المنتظَر"، وذلك بتأثير الأفكار الزرادشتية، من جهة، والأفكار التوراتية، من جهة أخرى، على الرغم من أن أهلها لم يكونوا يهودًا في معظمهم. في هذا المناخ النفسي والفكري جاءت ولادةُ يسوع وحياتُه القصيرةُ العاصفة بين العام 6 ق م وحوالى العام 30 بعد الميلاد.



    "يسوع ابن الإنسان"، رسم غير مؤرَّخ لجبران خليل جبران

    (متحف تلفير للفن، سافانا)

    من المهم، فيما يتعلَّق بفهمنا لسيرة يسوع وتعاليمه، أن نميِّز في النصِّ الإنجيلي بين ما قاله يسوع نفسُه وما قاله الآخرون عنه. فمؤلِّف إنجيل لوقا يروي لنا في قصة الميلاد أن الله قد أرسل الملاك جبرائيل ليبشِّر السيدة مريم بمولد يسوع. فلما رأتْه مريم خافت واضطربت، فقال لها جبرائيل: «"لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العليِّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لمُلْكه نهاية." فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟" فأجابها الملاك وقال لها: "الروح القدس يحلُّ عليك وقوة العليِّ تُظِلُّك. فلذلك، القدوسُ المولودُ منك يُدعى ابن الله."» (لوقا 1: 26-35) في هذا المقطع عددٌ من الألقاب المعزوَّة إلى يسوع، التي تتطابق مع ما وَرَدَ في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص القادم: فهو "ابن داود"، وهو "ملك إسرائيل"، وهو "ابن الله"، وهو المسيح الذي يحكم إلى آخر الدهر.

    ولكن يسوع قد تفادى، إبان فترة دعوته، الإشارةَ إلى نفسه بأيٍّ من هذه الألقاب، بينما أطلقها عليه الآخرون، على الرغم من ممانعته الواضحة لها وتهرُّبه منها. فعندما رأى الناس معجزاتِه تداعوا إلى تنصيبه ملكًا، ولكنه توارى عن الأنظار وانصرف إلى الجبل وحده (يوحنا 6: 15). وعندما قال له أحد تلامذته، وهو نثنائيل: «رابِّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل»، لم يجبْه بما يوحي بقبوله للَّقب، وإنما صرف أذهان تلامذته إلى اللقب الذي كان يفضِّله – وهو "ابن الإنسان" – حين أجاب: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان.» (يوحنا 1: 49-51) وعند شفائه للممسوسين كانت الشياطين تخرج منهم وهي تصرخ وتقول: «"أنت المسيح ابن الله!"، فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم» (لوقا 4: 41). وعندما قال له بطرس: «أنت المسيح ابن الله الحي»، أوصى تلامذته ألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح، ثم راح يحدثهم عن ابن الإنسان وعن مهمته في هذا العالم وعن قدومه الثاني في آخر الزمان، قائلاً: «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كلَّ واحد حسب عمله.» (متى 16: 13-28) وفي رواية لوقا للحادثة نفسها نجد يسوع أكثر حدة فيما يتعلق بتفاديه لقبَ المسيح وتحويل أنظار تلامذته إلى مفهوم "ابن الإنسان": «فقال لهم: "وأنتم مَن تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس وقال له: "مسيح الله." فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه»، وابتدأ يعلِّمهم أن «ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام يقوم.» (لوقا 9: 20-22)

    وفيما يتعلق بلقب "ابن داود"، فقد أعلن يسوع صراحة أن المسيح ليس من سلالة داود عندما قال لجماعة من الصادوقيين: «كيف يقولون إن المسيح هو ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال الرب لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك"؟ فإذا كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟» (لوقا 20: 41-44)

    لقد كان تفادي يسوع لهذه الألقاب نابعًا من تداعياتها السياسية لدى أهل مقاطعة اليهودية والجماعات اليهودية القليلة الموزعة في فلسطين. وبدلاً منها فقد فضَّل يسوع أن يطلق على نفسه لقب "ابن الإنسان"، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزعات القومية. وقد أعلن في أول تبشير علني له عن فحوى رسالته، عندما دخل المجمع في مدينة الناصرة. نقرأ في إنجيل لوقا 4: 18: «وجاء إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدُفِعَ إليه سِفْرُ إشعيا النبي. ولما فتح السِّفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: "روح الربِّ عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرُز بسَنَة الربِّ المقبولة." ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم: "اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم."»

    كما أوضح يسوع لتلامذته تدريجيًّا مفهومَه الخاص عن ملكوت الله، وميَّزه بحدَّة عن ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلَّعون إليه. فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، يشمل الأمم والشعوب قاطبة، ورابطةٌ تجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدتْ فيما بينهم. إنه عصر تتم فيه معرفةُ الآب، أبي البشر أجمعين الذي لم يعرفه اليهود قط. قال يسوع لليهود: «"أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني." فقالوا له: "أين هو أبوك؟" أجاب يسوع: "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا."» (يوحنا 8: 18-19) وقال لهم أيضًا: «"أنا أتكلَّم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون بما سمعتم عند أبيكم [...]." فقالوا له: "[...] لنا أب واحد وهو الله." فقال لهم يسوع: "[...] أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا [...]. الذي من الله يسمع كلام الله. لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."» (يوحنا 8: 38-47)

    مع ظهور يسوع الذي افتتح ملكوت السماوات يَعقِد الله صلحًا مع البشرية ويمدُّ لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان إبليس، أمير الظلام، الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدًا جديدًا هو عهد الله مع الإنسانية، يحلُّ محلَّ العهد القديم الذي كان عهد يهوه مع بني إسرائيل. فالملكوت حاضر، هنا والآن، بعد ظهور المخلِّص وموته الطوعي فداءً عن البشرية الخاطئة؛ ولسوف يستمر بعد ذلك ردحًا من الزمن يكفي لتنقية العالم من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة. عند ذاك سيعود ابن الإنسان، في قدومه الثاني، على غمام المجد في اليوم الأخير الذي يشهد دمار العالم القديم، فيجلس على عرش مجده ليميز الأشرار من الصالحين، فيفتح بوابة النعيم لأهل اليمين ويفتح بوابة الجحيم لأهل اليسار. نقرأ في متى 24: 29-30: «بعد ضيق تلك الأيام، تُظلِم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، والنجوم تتساقط من السماوات، وقوات السماوات تتزعزع. حينئذٍ تظهر علامةُ ابن الإنسان في السماء [...]. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الرياح الأربعة [...].» وفي متى 25: 31-34: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميعُ الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بينهم كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا، يا مباركي أبي، لترثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم [...]." ثم يقول للذين عن اليسار: "اذهبوا عني، يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته [...]."»

    ويسوع، بإعلانه لإنجيل الملكوت، قد افتتح نظامًا دينيًّا جديدًا. فالشريعة التوراتية تنتهي ويبطل مفعولُها مع البشارة الجديدة، وسلسلة أنبياء العهد القديم تتوقف عند يوحنا المعمدان. ففي قول يسوع المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى 9: 13) تقويضٌ لمؤسَّسة القربان التوراتي، وإعلانٌ لبطلان الطقوس التوراتية، وتأسيسٌ لطقوس تقوم على القلب، لا على الدم. لقد حمل اليهود نير الشريعة بسبب غلاظة قلوبهم؛ أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو هيِّن وخفيف، على ما يقوله يسوع في إنجيل متى 11: 28-30: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني [...]، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.» وهو يصف شريعة العهد الجديد بالخمرة الجديدة التي لا يجوز أن تُصَبَّ في جرار قديمة هي شريعة العهد القديم، لئلا تفسد الخمر وتتشقق الجرار (متى 9: 17). هذه الشريعة الجديدة قوامها المحبة. قال يسوع في جوابه لفريسي سأله عن الوصية العظمى في الناموس: «"تحبُ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك." هذه الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلُها: "تحب قريبك كحبِّك لنفسك."» (متى 22: 35). وقال أيضًا: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا.» (يوحنا 13: 34)

    هذا الرَّجَحان للأخلاق على الطقوس يتجلَّى، في أوضح صوره، في هزئه من طقوس الطهارة الشكلية التي تشكِّل لباب الشريعة القديمة. فعندما ثار الفريسيون لأنهم رأوا تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير نظيفة قال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجِّسه. لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان [...]. لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة [...].» (مرقس 7: 15-23)

    ومع هذه الشريعة الجديدة، يتجاوز يسوع موسى، ولا يبقى للهيكل اليهودي ما يسوِّغ استمرارَه. وهذا ما أعلنه صراحة عندما سألتْه المرأة السامرية، وقد اعتقدت أنه نبي يهودي: «"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضعَ الذي يجب أن يُسجَدَ فيه." فقال لها يسوع: "يا امرأة، صدِّقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم."» ثم أوضح لها أن الخلاص لا يتم قبل التخلُّص من اليهود، عندما أردف قائلاً: «لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ – وهي حاضرة الآن – حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق [...].» (يوحنا 4: 19-23)

    في مشهد المحاكمة التي قادت إلى موت يسوع، أعلن يسوع عن نفسه كملك ومسيح وابن لله. فهو الملك، ولكن مملكته ليست أرضية، بل روحانية، على ما وَرَدَ في إنجيل يوحنا، عندما سأله الوالي الروماني بيلاطس: «هل أنت ملك اليهود؟»، فأجابه يسوع: «"مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدَّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَمَ إلى اليهود." فقال له بيلاطس: "أفأنت إذن ملك؟" أجاب يسوع: "أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق."» (يوحنا 18: 33-37)

    وهو المسيح، ولكنه ليس المسيح اليهودي، بل "ابن الإنسان" الذي افتتح ملكوت الخلاص والغفران، الذي سيظهر مرة أخرى في نهاية الأزمان، لا لتخليص شعب إسرائيل، بل للفصل النهائي بين الخير والشر. ففي إنجيل متى سأله رئيس الكهنة: «"أستحلفك بالله الحي لتقولنَّ لنا هل أنت المسيح ابن الله؟" فقال له يسوع: "هو ما تقول. وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء."» (26: 63-64) نلاحظ في هذا المقطع من إنجيل متى كيف أكد يسوع، لآخر مرة، على الصلة الوثيقة بين لقب المسيح "ابن الله" ولقب "ابن الإنسان" بمعانيه التي أفصح عنها سِفْرُ دانيال وعددٌ من الأسفار التوراتية غير القانونية. فالمسيح ليس "ابنًا لله" بالمعنى التوالدي للكلمة، وليس من طبيعته ذاتها، ولا معادلاً له في القِدَم، بل هو تجسيد في الزمن والتاريخ لحقيقة سالفة ونموذج قائم في عالم المُثُل. لقد كان عند الله كفكرة تنتظر التحقق. وعندما حملت العذراء بيسوع من غير أب بشري، تجسَّدت الفكرةُ في إنسان هو "ابنٌ لله"، مثل سائر البشر، ولكنه ابنٌ مميز لأنه لم يولد من روح إنسانية، بل من روح الله مباشرة، على حدِّ قول الآية الكريمة: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفحنا فيه من روحنا» (التحريم 12). وعلى حدِّ تعبير إنجيل متى 1: 18: «لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجِدَتْ حُبلى من الروح القدس.»

    ولكي أقرِّب مفهومَ "ابن الله" كما استخدمتْه الأناجيل إلى الذهنية الإسلامية، فإني ألجأ إلى مقارنة مفهوم ابن الإنسان بمفهوم "الحقيقة المحمدية" في الفكر الصوفي الإسلامي، ومرادفه الآخر: "الإنسان الكامل". فالنبي محمد (ص) هو تحقُّق في الزمن والتاريخ لحقيقة سابقة على وجود الإنسانية، وتجسيد في التاريخ لشخصية تقع في مركز الوسط بين عالم المثال وعالم الواقع. مثل هذه الأفكار يجد سندًا قويًّا له في عدد من الأحاديث التي يشير النبي فيها بوضوح إلى أن وجوده التاريخي لم يكن إلا بَلْوَرَةً لفكرة قديمة؛ ومنها قوله لأحد الصحابة: «أولُ ما خَلَقَ الله نور نبيِّك يا جابر»، وقولُه أيضًا: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين.» والحديث الثاني يذكِّرنا بقول يسوع: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يوحنا 8: 58). وهذا ما يقودنا إلى مفهوم المسيح في القرآن الكريم.

    ***

    يُدعى يسوع في القرآن الكريم بالاسم عيسى. والكلمة، على ما نرجِّح، قد جاءت من الاسم التوراتي يِشو–وا، المختصرة عن يهو–شوا، وتعني "خلاص الرب". وقد جرى لفظ الاسم بالآرامية، التي كانت لغة فلسطين، بصيغة يشوع، التي تحوَّلت في الأناجيل اليونانية إلى إيسوس Iisous أو إيسو، بحذف حرف السين الذي يلحق أسماء العَلَم الإغريقية. ومنها جاء الاسم "عيسى" في العربية والاسم Jesus في اللغات الأوروبية، الذي يضاف إليه عادة لقبُ المسيح Christ، فيقولون: Jesus Christ، أي "يسوع المسيح". وكلمة Christ في اللغات الأوروبية مأخوذة من الكلمة اليونانية Χριστος، خريستوس؛ وهي التي استخدمتْها الترجمة اليونانية للتوراة، المعروفة باسم "الترجمة السبعينية" Septuagint، كمقابل للكلمة العبرية مشيح.

    يتصل لقبُ المسيح بعيسى عليه السلام في آيات الكتاب الكريم. فقد وَرَدَ الاسم عيسى مقرونًا بالمسيح إحدى عشرة مرة، وذلك كقوله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه» (النساء 171). كما وردت الإشارة إلى عيسى باسمه المجرَّد، كقوله تعالى: «يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا» (آل عمران 55)، أو مضافًا إلى "ابن مريم"، كقوله تعالى: «وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). أو بـ"ابن مريم" فقط، كقوله: «ولما ضُرِبَ ابنُ مريم مثلاً إذا قومُك منه يصدُّون» (الزخرف 57). وقد ناب لقبُ "المسيح" مرة واحدة عن الاسم، وذلك في الآية 172 من سورة النساء: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون».

    لا تفيدنا آياتُ الكتاب في معرفة معنى كلمة "المسيح". وبما أننا لا نجد في العربية جذرًا للكلمة سوى الفعل الثلاثي مسح الذي يفيد، كما في الآرامية والعبرية، معنى اللمس والتمسيد الرفيق بالكف، فقد ذَهَبَ معظم المفسِّرين إلى القول بأن لقب المسيح قد جاء من قيام عيسى بشفاء المرضى بلمسة يده. ولكننا نرجِّح أن يكون اللقب القرآني ذا صلة بالمعنى التوراتي والإنجيلي. فإذا كان المَسْحُ بالزيت دلالةً رمزيةً على مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة التي يقول عيسى فيها: «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مبارَكًا» (مريم 30-31). وإذا كان المسْح بالزيت دلالة رمزية على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرا، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة: «إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» (آل عمران 33). وإذا كان المسح أيضًا يدل على حلول روح الربِّ على الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر مراحل حياته، فإن هذا المعنى متضمَّن في قوله: «وآتينا عيسى البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). وأيضًا: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيَّدتُك بروح القدس» (المائدة 110).

    وكما كان ليسوع المسيح في الرواية الإنجيلية ظهوران: ظهور في التاريخ، وظهورٌ ثانٍ في آخر الأزمان، يُفتتَح معه اليومُ الآخر ونهايةُ التاريخ، كذلك هو الأمر بالنسبة لعيسى في الرواية القرآنية. فقد ظهر عيسى أولاً كرسول ونبي، ثم نجَّاه ربُّه من الصلب وأجاز عنه كأسَ الموت، فرَفَعَه إليه في انتظار اليوم الأخير الذي يُفتتَح بعودة عيسى كعلامة أساسية من علامات الساعة. نقرأ في سورة النساء 156-158: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم [...] وما قتلوه يقينًا بل رَفَعَه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا». ونقرأ في سورة الزخرف 57-61: «ولما ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدُّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. [...] وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم».

    هذه الإشارات الموجزة عن دور عيسى في آخر الزمن لا تقترن في الكتاب بمزيد من التفاصيل. ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى؛ ومنه نورد نتفًا هي غيض من فيض. فقد روى مسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشرَ آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابَّة التي تكلِّم الناس، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه السلام، إلخ.» وعلى ما نفهم من عدد آخر من الأحاديث فإن القدوم الثاني للمسيح عيسى ابن مريم يسبقه ظهور "المسيح الدجال" الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح، ثم يدَّعي النبوة، ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية، ويُجري معجزات عظيمة، منها إحياء الموتى وإسقاط المطر بإشارته، فيتبعه المنافقون والمرتابون، وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق، واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين. إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤ كالجمان، فينفخ على الكفار فيبيدهم. ونفختُه النارية هذه تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسية ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتضع الحرب أوزارها، وتتحول السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرس الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسدُ البقرَ فلا يضرُّها، ويلعب الصبيُّ بالثعبان فلا يضرُّه. بعد ذلك يموت عيسى، ويصلِّي عليه المسلمون، ثم تموت كلُّ نفس حية وتعود إلى بارئها. هذا الوصف للحالة الفردوسية التي تسود في نهاية التاريخ يشبه وصف ملكوت الربِّ في المصادر الكتابية. نقرأ في سفر إشعيا عن مسيح آخر الأزمنة وافتتاحه للملكوت ما يلي: «ويحلُّ عليه روحُ الرب [...]. ولذته تكون في مخافة الربِّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكمُ بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكمُ بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضربُ الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه [...]. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربضُ النمر مع الجدي، والعجلُ والشبل والمُسَمَّن معًا، وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدابة ترعيان، تربض أولادُهما معًا، والأسد يأكل تبنًا كالبقر، ويلعب الرضيع على سَرَب الصِّلِّ ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان.» (إشعيا 11: 1-8)

    ***

    في ضوء ما تقدَّم ذكُره، نخلص إلى النتائج التالية بخصوص النقاط المشتركة بين المصادر الثلاثة حول مفهوم المسيح:

    1. المسيح شخصية إنسانية ذات طبيعة فائقة، يحلُّ عليها روحُ الله، ويرفعها إلى مرتبة وسطى بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.

    2. يلعب المسيح دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في نهاية الزمن وأحداث اليوم الأخير.

    3. يطلق النصُّ التوراتي والنصُّ الإنجيلي على المسيح مجازًا لقبَ "ابن الله" للتعبير عن مكانته الفذة والمميزة. وبشكل خاص، فإن القراءة المباشرة للنصِّ الإنجيلي، بعيدًا عن التأويلات اللاهوتية،[2] تضعنا أمام صورة شعرية، لا أمام دوغما دينية فيما يتعلق بلقب "ابن الله". لقد استعملت الأناجيلُ اللقبَ كوسيلة للإفصاح عن أهمية يسوع بالنسبة للعالم. فهو المثال الأعلى للعلاقة الأكمل بين الإنسان والله، وهو الذي وجد أتباعُه أنفسَهم من خلاله في حضرة الله، ووجدوا معنى الله في حياتهم، لأنه أكثر البشر إحساسًا بوجود الآب، وأكثرهم إخلاصًا في طاعته والاستسلام لمشيئته. أما النص القرآني فيعبِّر، من ناحيته، عن مكانة عيسى الفذة والفريدة عند الله من خلال ألقاب وأوصاف متعددة. فهو "كلمة الله"، وهو "من روح الله"، وهو "قول الحق"، و"رحمة"، و"شاهد"، و"وجيه"، و"آية"، و"مبارك"، وما إلى ذلك من الألقاب التي تجعله أكثر الجميع قربًا من الله، وتستدعي استدعاءً خفيًّا مضامينَ لقب "ابن الله" في الأناجيل، بعيدًا عن شكل هذا اللقب الذي تفاداه النصُّ القرآني في غمار مكافحة العقيدة القرآنية التوحيدية للعقائد التعددية لأهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

    أخيرًا، إن خير ما اخترتُ أن أختتم به هذه الدراسة العاجلة كلماتٌ عبَّر فيها المهاتما غاندي عن موقفه من يسوع، أقتطف لكم بعضها:

    - «لقد أعطتْني الأناجيلُ الراحةَ والفرحَ غير المحدود.»

    - «إن مثال يسوع يشكِّل عاملاً أساسيًّا في إيماني الذي لا يموت بمبدأ اللاعنف.»

    - «إن يسوع عندي هو واحد من كبار المعلِّمين الذين عرفتْهم الإنسانية. وعلى الرغم من أن أتباعه يرون فيه ابنًا لله، إلا أن قبولي بهذه العقيدة أو رفضها لا يجعل ليسوع تأثيرًا أكثر أو أقلَّ على حياتي، ولا يقرِّبني من رؤية العظمة في تعاليمه ومذهبه أو يمنعها عنِّي. إني أرى في حياة يسوع مفتاحَ قُربه من الله. لقد عبَّر، كما لم يستطع أحدٌ غيره، عن روح الله وإرادته. بهذا المعنى، ومن هذا المنظور، أراه وأتعرَّف إليه كابنٍ لله.»

    *** *** ***





    [1] J.H. Charlesworth, ed., The Old Testament Pseudoepigrapha, p. 13 ff.

    [2] أنا هنا لا أقلِّل من قيمة التأويلات اللاهوتية بالنسبة للإيمان المسيحي، لأن لها من المشروعية ما لا يمكن للقراءة المباشرة أن تفصح عنه؛ وكلاهما يجد له سندًا قويًّا من النص.

  • 23/11/2006, 09:04 PM
    طارق شفيق حقي

    رد : الأساطير ..؟!

    التمُّوزية

    ومعتقد الخلود السومري



    فراس السواح



    تَكْشِفُ لنا النصوصُ والأناشيدُ التموزية عن جانب طقسي واعتقادي ذي أهمية بالغة في الحياة الدينية لثقافات الشرق القديم. فإلى جانب الاعتقاد بوجود قوى إلهية تعمل على حفظ بناء الإنسان ورعاية مصادر عيشه، اعتقد الإنسان القديم بقدرته على عَوْنِ هذه القوى في مهمتها، من خلال الطقس الذي يعمل على تحيين actualizing الأسطورة وجَعْلِ النشاطات الخلاَّقة للزمن البدئي فاعلةً في الزمن الجاري. فإذا كانت القوى الإلهية قد عملت على تجديد الطبيعة في الزمن الميثولوجي فإن الطقس وحده هو الكفيل باستنهاضها من جديد، لتكرِّر أفعالها النموذجية الأولى، وتجدِّد حياة الطبيعة، سنة بعد أخرى.

    بتعبير آخر، فإن الإله تموز لم يكن يموت كلَّ سنة، ثم يُبعَث إلى الحياة من جديد، كما تعوَّد الباحثون قوله وتكراره بتأثير ملاحظتهم للطقس الدوري، ومزجهم بين الطقس والأسطورة، ولكنه مات، وبُعِثَ إلى الحياة، وتزوج الإلهة إنانا، في دورة حياة واحدة، حَصَلَتْ في أزمان الأصول والتأسيس، من أجل إعطاء النموذج البدئي لصيرورة عمليات الطبيعة. وليس موتُه وبعثُه كلَّ عام إلا دورة حياة طقسية يجري تكرارُها دراميًّا لغرض تحيين الأسطورة واستحضار زمنها الميثولوجي الخلاَّق.[1]

    رغم أن هذا الجانب من المعتقدات والطقوس المشرقية يصنَّف عادة تحت اسم عبادات الخصب، التي يرى فيها معظمُ الباحثين نزوعًا براغماتيًّا نحو حفظ بقاء الإنسان وتأمين موارد عيشه، إلا أن وجهًا آخر لهذه العبادات الخصبوية ما يلبث أن يطفو من تحت المظاهر الخارجية والأغراض المباشرة للطقوس التموزية. ذلك أن دوموزي–آبسو، ابن الماء الخلاق، مجدِّد طاقة الحياة وحافِظ قوى الخصوبة والنماء، هو، في الوقت نفسه، قاهر الموت الذي حرَّر نفسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملاً في تحقيق الخلود، والأخذ بيده، عِبْر برزخ الموت، نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي.

    تلعب الطقوس التموزية هنا دورًا مزدوجًا؛ والعِباد الذين يحتفلون بعودة الإله الميت من باطن الأرض، حاملاً معه حزم القمح غذاءً للجسد، إنما يستحضرون، في الوقت ذاته، تلك القوة القادرة على دحْر الموت وتحقيق الخلاص من بؤس الحياة الأرضية ومن ظلمات العالم الأسفل. ومن ناحية أخرى، فإن ارتباط فكرة بعث الروح وتجديدها بعبادة الخصب نابعٌ من نظرة الإنسان القديم إلى نموِّ الزرع، باعتباره معجزة غير مفهومة: فالبذور الصلدة الصمَّاء تودَع في الأرض بضعة شهور، لتدبَّ فيها الحياة وتعطي ورقًا وحَبًّا جديدًا. فإذا كانت هذه المعجزة ممكنة في عالم النبات فإنها ممكنة أيضًا بالنسبة للإنسان. وعودة الحياة إلى العظام الصلبة الميتة ليس أكثر استحالةً من عودة الحياة إلى البذور، لأن القوة الفاعلة في كلا البعثين واحدة.

    ومع هذا الإدراك لإمكانية الخلاص بواسطة الإله الذي مات وقام من بين الأموات، يتحول الموت من مصير فردي مظلم إلى مرحلة تطهير وتجديد، يبلى معها الجسم الدنيوي ويُستبدَل به جسمٌ نوراني قادر على البقاء والاستمرار في عالم الآلهة الخالدين. من هنا تأتي تلك الصلة الغامضة في عالم الميثولوجيا بين آلهة الخصب وآلهة الموت – صلة تبدو من القرب أحيانًا حتى درجة التطابق التام بينها، كما في الميثولوجيا المصرية مثلاً.

    لقد انتصر تموز على قوى الظلام، وصعد ظافرًا إلى حياة جديدة. ومعه يصعد الأمل في قلوب المشاركين في الطقس بقدرتهم على قهر الموت، كما قَهَرَه إلههُم الذي يحضر بينهم، ويستشعرون وجوده حقًّا وصدقًا. وها هو يعطي لكلِّ مؤمن وعدًا بأنه سيكون حاضرًا لديه عندما تأتي ساعة المنية، ليقوده في طريق النشور إلى العالم الثاني. لقد دخل المحتفلون إلى الأسطورة؛ والأسطورة هنا لم تعد قصةً وقعت في زمن ماضٍ، بل واقعٌ حيٌّ، هنا والآن. ذلك أن صيغة الماضي (التي تُروى بها الأسطورة عادة) تتحول، من خلال الطقس، إلى صيغة الحاضر، وتفصح عن جوهرها القائم أبدًا، حيث تتحول مقولة: "عندما في البدء" إلى مقولة: "عندما في الآن". ويأتي الطقس بالقوى الإلهية، فيجعلها حاضرةً بين المحتفلين، مثلما كانت حاضرةً بين الجيل الأول من الأسلاف، لا باعتبارها كائنات عُلوية تتطلَّب الصلوات، ولكن باعتبارها تمثيلاً للحقائق الفائقة لصيرورة الوجود ولهذا الآن المُعايَن والمعيش؛ باعتبارها قوى ممتزجة بألم هذه اللحظة التي تنبض بالحياة، وفي الوقت نفسه تغمس جذورها في قرار الموت.

    الأسطورة الحق هي الأسطورة التي تفصح عن وجهيها هذين: وجه القِدَم، ووجه الآن المزروع في السرمدية.

    إن الوجه الآخر للمعتقَد التموزي، باعتباره معتقدًا للخلاص، لا تُظهِره لنا الوثائق الكتابية. والسببُ في ذلك راجعٌ إلى أن عقيدة الموت والخلود التموزية لم تكن العقيدة الرسمية في سومر خلال عصر التدوين السومري (فترة حكم أسرة أور الثالثة 2100-2000 ق م) الذي تمَّتْ في أثنائه عملية تحرير واستنساخ معظم ما نعرفه من النصوص الأدبية والميثولوجية السومرية. فلقد نضجتْ التصوراتُ اللاهوتية لعقيدة الخلود التموزية منذ عصر ما قبل الأسرات؛ ولدينا شواهد فنية على وجودها منذ عصر جمدت نصر (3100-2900 ق م). ولكن هذه العقيدة تعرَّضَتْ، خلال العصر الصارغوني السامي (2300-2160 ق م)، إلى مقاومة رسمية من جانب اللاهوت الجديد للحكام الساميين، وهو لاهوت يدور حول الآلهة الكوكبية ولا يعير كبير اهتمام لآلهة الدورة الطبيعية التي كانت في بؤرة الحياة الدينية السومرية – ناهيك عن معتقد الخلود الذي تخلو منه الديانة السامية الرافدية خلوًّا تامًا. وعندما عادت مقاليد السلطة السياسية إلى يد السومريين لفترة قصيرة، خلال حكم أسرة أور الثالثة، يبدو أن الاتجاه الرسمي للحكام السومريين في ذلك الوقت قد فضَّل إحياء العبادات التموزية في جانبها الخصبوي وطَمْسَ جانبها الآخر، بتأثير الانقلاب العميق الذي أحْدَثَه الحكمُ السامي في الحياة الدينية لكلٍّ من سومر وأكاد.

    لقد كان اكتشاف المقابر الملكية لملوك عصر فجر السلالات، في كلٍّ من مدينتي كيش وأور، أول ما لَفَتَ النظر إلى عقيدة الموت والخلود السومرية. ففي موقع مدينة كيش تمَّ اكتشاف عدة مقابر ملكية احتوتْ، إلى جانب المدفون الرئيسي، على جثث عدد من حيوانات الجر، وعلى جثث عدد من الخدم والأتباع الذين رافقوا سيدهم إلى العالم الآخر. كما وُجِدَتْ بين المدفونات الجنائزية مناشير من النحاس وأزاميل.[2] ويخدم وجود هذه الأدوات غايةً رمزية تتصل بالاعتقاد بأن الملك، الذي لعب في حياته دور الإله تموز، سوف يحرِّر نفسه من القبر ويُبعَث من جديد، كما فعل تموز قبله. ولسوف تتضح هذه الأفكار والممارسات المتعلقة بالبعث والنشور بشكل أكبر في مكتشفات المقابر الملكية لأسرة أور الأولى.

    ففي موقع مدينة أور، على مقربة من المعبد الرئيسي لإله القمر نانا، اكتشفتْ بعثةُ التنقيب البريطانية برئاسة السيد ليونارد وولي، في العام 1953، أرض مقبرة سومرية واسعة، احتوتْ في سويتها العليا على حوالى 1850 قبرًا سطحيًّا من النوع العادي البسيط، المخصَّص لدفن عامة الناس. أما في سويتها السفلى فقد تمَّ اكتشاف ست عشرة مقبرة نفقية على عمق عشرة أمتار من سطح الأرض؛ وتبيَّن من نقوش الأختام الأسطوانية التي كانت بين الهدايا الجنائزية أنها كانت مقابر لملوك أور الأولى وزوجاتهم. ورغم الاختلافات البسيطة في طريقة تنفيذ هذه المقابر، إلا أنها تنتظم وفق مخطَّط معماري واحد، وجرى الدفن فيها وفق طقوس جنائزية متشابهة. تتألف المقبرة الواحدة من ردهة رئيسية مخصَّصة لدفن الملك، ومن غرفة أخرى أو أكثر لدفن الأتباع الذين رافقوا ملكهم طوعًا إلى مثواه الأخير. وسنقدِّم، فيما يلي، وصفًا لأهم هذه المدافن، وهو مدفن مزدوج مخصَّص للملك أبارجي وزوجته المدعوة شبعد.

    في الردهة المخصَّصة لمدفن الملك كانت الحجرة مثقوبة من الأعلى، وجثة المدفون الرئيسي مفقودة؛ وهذه واقعة تتكرَّر في بقية المدافن الملكية. وقد عُثِرَ قرب المكان المخصَّص لدفن الملك على قارب صغير من الفضة، وآخر من النحاس مع مجاذيفهما. وبما أن طول الواحد منهما لا يتجاوز المتر فإن وجودهما يخدم غاية رمزية، مثلهما في ذلك مثل الإناء الحجري الذي وُجِدَ على مقربة منهما، ويحتوي على أدوات نحاسية، بينها مثقب ومنشار وإزميل، وأيضًا منشار ذهبي وإزميل ذهبي. كما عُثِرَ على لوحة من الفضة ذات شكل شطرنجي، مقسمة إلى مربعات، في كلِّ مربع مناظر وأشكال منفَّذة بأسلوب الترصيع بالفضة واللازورد. ومن أوضح المَشاهد المصورة في هذه المربعات هناك زهرة ثُمانية الوريقات وشجرة بين حيوانين أهليين يشبَّان على قوائمهما الخلفية ويقضمان من أوراقها، وصراع بين ثور وأسد (الشكل 1).



    الشكل 1: بعض المَشاهد المصورة على لوحة المربعات من مقبرة الملك السومري أبارجي

    وكما سنرى بعد قليل فإن جميع هذه المَشاهد من الفن المصوَّر ذات صلة بعقيدة تموز–إنانا. أما في المكان المخصَّص لدفن الأتباع فقد عُثِرَ على 57 جثة ممددة قرب بعضها بعضًا، إضافة إلى ستة محاربين، بخُوَذِهم النحاسية ورماحهم. وخلف هؤلاء تقف عربتان بأربع عجلات، مع جثث حيوانات الجر من الثيران والسائقين وخدم العربات. كما رافقتْ الملك أيضًا تسعة نسوة بكامل زينتهن، من حلي ذهبية ومشابك شعر فضية وأكاليل من اللازورد والعقيق وغيرها. ويتضح من وجود الأدوات الموسيقية قرب هؤلاء النسوة أن هذه المجموعة كانت تؤلف جوقة الملك الموسيقية.

    بين الأدوات الموسيقية تلفت نظرنا، بشكل خاص، قيثارةٌ كبيرة، رُصِّعَ وجهُها الأمامي بعدد من المَشاهد، موزعة على أربعة حقول متوضعة فوق بعضها بعضًا. في الحقل العلوي الرئيسي نجد صورةً لرجل عارٍ متمنطق بحزام، ذي شعر أجعد ولحية مضفورة، وهو يقبض بكلتا ذراعيه على ثورين لهما رأس آدمي ولحية. وهذه هي إحدى التمثيلات الرئيسية للإله تموز من ذلك العصر، كما سنرى بعد قليل (الشكل 2). وفي الحقول الثلاثة الأخرى لدينا مَشاهد لحيوانات منتصبة على قوائمها في أوضاع شتى، بعضها يحمل في يديه جرار شراب وبعضها يعزف الموسيقى. ويوحي أسلوب تنفيذ رسوم هذه الحيوانات بأنها تمثِّل آدميين متنكِّرين بلباس حيوانات؛ الأمر الذي يستحضر إلى الذهن كرنفالات الربيع المرتبطة بأعياد تموز.



    الشكل 2: الحقل الأعلى من قيثارة جوقة الملك

    وبملاصقة مقبرة الملك أبارجي، تمَّ العثور على مقبرة أخرى مخصَّصة لزوجته الملكة شبعد. وقد وُجِدَتْ جثة الملكة في مكانها، في كامل زينتها الملكية الباهرة، إضافة إلى جثث أربعة حراس متمنطقين بخناجر، وتسعة نسوة، تبيَّن من زينتهن أنهن من الكاهنات. وكانت يد إحداهن ما تزال على أوتار آلة موسيقية حتى وقت الاكتشاف؛ الأمر الذي يدل على أنها بقيت تعزف حتى آخر لحظة من حياتها. وقد زُيِّنَتْ واجهةُ هذه الآلة الوترية أيضًا بعدد من المَشاهد المرصعة والمتوضِّعة بعضها فوق بعض. في الحقل الأول نجد نسرًا برأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين؛ وفي الحقل الثاني شجرةً يشبُّ عن يمينها ويسارها ثوران؛ وفي الثالث بطلاً في هيئة هي مزيج من إنسان وثور يقهر نمرين؛ وفي الرابع صراعًا بين أسد وثور. وجميع هذه المَشاهد تنتمي إلى دائرة الفن المصور لعقيدة تموز وإنانا.[3]

    ويعلق السير ليونارد دولي على هذه المقابر النفقية التي اكتشفها بقوله:[4]

    إن الملك السومري المتوفى كان يصطحب معه جميع أفراد بلاطه وحاشيته. فهؤلاء المدفونين مع الملك لم يكونوا من العبيد الذين أُجبِروا على الموت، بل من الأتباع ذوي المكانة في القصر. وقد جاؤوا بكامل لباسهم الرسمي إلى المقبرة لتأدية طقس طوعي من شأنه، في اعتقادهم، أن يعبُر بهم من عالم إلى عالم آخر، ومن خدمة إله على الأرض إلى خدمة نفس الإله في عالم ثانٍ. إن كلَّ الدلائل تشير إلى أن هؤلاء المتطوعين قد وصلوا أحياء إلى المقبرة. ومن الجائز أنهم قد تناولوا هناك شرابًا قاتلاً، وبعد مفارقتهم الحياة تمَّ ترتيب جثثهم في وضعيتها الأخيرة قبل إغلاق القبر.

    إن افتقادنا للوثائق الكتابية التي يمكن أن توضِّح الجوانب المختلفة لعقيدة الخلود السومرية لا يقلِّل من شأن هذه العقيدة ولا يشكِّك في وجودها. وما علينا، من أجل تعويض البيِّنة الكتابية، سوى الالتفات إلى أعمال الفن التشكيلي منذ عصر ما قبل الأسرات في سومر، لنجد أنها تخدم، في معظمها، عقيدة تموز–إنانا، في وجهيها الخصبوي والخلاصي. فالأشكال التي وجدناها مصوَّرةً على الأدوات الموسيقية من مقبرة الملك أبارجي وزوجته (والتي لم تخزَّن هناك لأغراض جمالية بل لأغراض طقسية) تتكرر، بشكل لافت للنظر، على الأختام الأسطوانية وغيرها من وسائل التعبير الفني، وتشير إلى وجود عقيدة دينية تحاول التعبير عن نفسها بشتى الوسائل التصويرية. فرغم أن الديانة السومرية لم تقمْ على معتقد أحادي هو معتقد تموز–إنانا، ورغم وجود آلهة أخرى تمسك بزمام المظاهر الرئيسية للكون، وعلى رأسها آنو السماء وإنليل الهواء وإنكي الماء، إلا أن الحقيقة الواضحة لدارس الأديان في هذه المنطقة هي وجود إلهة أكثر قِدَمًا من هؤلاء، لا تنتمي إلى القوى الكونية الكبرى، بل تجسِّد قوة الحياة الخالدة. وهذه الإلهة قد دخلت، عند أعتاب التاريخ، في علاقة مع تموز الذي يجدِّد، بدورة حياته الطقسية، قوة الحياة.[5] وقد بقي الاعتقاد بهذين الإلهين يؤجِّج الحياة الروحية السومرية لأكثر من ألف عام، ثم تحول بعد ذلك إلى عبادة سِرَّانية بتأثير اللاهوت الرسمي الأكادي السامي، المعادي للتموزية.

    إن استعراض حصيلة الإنجازات الفنية لمنطقة بلاد الرافدين يضعنا أمام نوعين من الآثار الفنية: الأول عبارة عن أعمال تنتمي مَشاهدها إلى فترة محددة، ويمكن تفسيرها استنادًا إلى الكتابات المنقوشة عليها، مثل مسلَّة العقبان للملك إيا ناتوم، ومسلَّة النصر للملك نارام سن؛ والثاني عبارة عن عدد ضخم من الأعمال الفنية، متنوع في الحجم وفي أساليب التنفيذ (نحت بارز، أختام، رسوم ملونة، أشكال مرصعة)، ولكنه يدور حول عدد محدود من الأفكار المصوَّرة التي تتكرر مَشاهدها عبر العصور، على مدى قرون متوالية، دون انقطاع ودون أن تكون مرتبطة بفترة معينة. ومما يلفت النظر في هذا النوع الثاني والأهم من الأعمال الفنية هو عدم وجود كلمة واحدة منقوشة عليها يمكن أن تساعد في الكشف عن معناها الحقيقي. ولكن ديمومة الأفكار المصوَّرة لهذه الأعمال، وقدرتها على الاستمرار، وقفزها فوق العصور التاريخية المتعاقبة، يدل على أننا بصدد أفكار هي فوق الزمن؛ وبالتالي فإنها تشكِّل أساسًا خالدًا للفكر المشرقي القديم.[6]

    والمثال النموذجي لفكرة مصوَّرة عاشت عِبْر جميع الحقب هو الشكل الذي يدعوه الدارسون المُحدَثون بـشجرة الحياة. والشكل عبارة عن شجيرة أو نبتة منفَّذة بأسلوب نمطي أو طبيعي؛ وعن يمينها ويسارها حيوانان أهليان مصوَّران إما في وضعية الوقوف على أربع، أو في وضعية القفز على القوائم الخلفية، يقضمان من أوراق الشجر. يبدأ ظهور هذه الفكرة في الأعمال التشكيلية منذ فجر التاريخ في سومر، ويستمر عبر جميع مراحل التاريخ الرافدي، وصولاً إلى نهايات العصر الآشوري الحديث. كما نلاحظ تكرار هذه الفكرة في الأعمال الفنية الآرامية والفينيقية (انظر أعلاه الشكل 1). ورغم التبدلات الخارجية التي طرأت على أسلوب التنفيذ، إلا أن الفكرة الجوهرية وراءها كانت واحدة.[7] فشجرة الحياة كانت تمثل الإلهة إنانا، المعبود الرئيسي لعصور ما قبل الأسرات في سومر.[8] وعندما دخل الإله تموز مسرح الحدث الأسطوري، مع التبدلات اللاهوتية التي رافقتْ ظهور حضارة المدينة ورسوخها، من الممكن أن تكون شجرة الحياة قد صارت رمزًا لتموز، مجدِّد قوى الحياة على المستوى الطبيعاني وواهب الخلود في عالم آخر. ولهذا السبب وُجِدَتْ مَشاهد شجرة الحياة محفورةً على الهدايا الجنائزية في مقابر أور الملكية.

    وإلى جانب فكرة شجرة الحياة، يتكرَّر عددٌ آخر من الأفكار ذات الصلة الداخلية بهذه الفكرة الأساسية، وهي: الراعي الملكي، والبطل قاهر الكواسر، وصراع الأسد والثور، ومجلس الشراب، وجوقة الحيوانات. وتشكِّل هذه الأفكار محور المَشاهد المصوَّرة على الهدايا الجنائزية في مقابر أور الملكية؛ الأمر الذي يدل على صلتها الوطيدة بمعتقد الخلود التموزي.

    في مَشاهد الراعي الملكي نجد تشابهًا في التكوين الفني مع مَشاهد شجرة الحياة. فهنا، عوضًا عن الشجرة، نجد في بؤرة المشهد رجلاً يرتدي مئزرًا شبكيًّا شفافًا، ويضع على رأسه عُصابة تحيط بشعر ذي تسريحة خاصة؛ وهو يمد بكلِّ يد غصنًا مورِقًا إلى شاتين تشبَّان على القوائم الخلفية لتقضما منه. وقد تظهر خلف الحيوانين المتناظرين حزمتان رفيعتان من القصب ملفوفتان في أعلاهما بشكل حلزوني وتتدلى منهما راية (انظر الشكل 3). وحزمة القصب هذه، على ما نعرفه بشكل مؤكد، هي رمز الإلهة إنانا. وقد بقي هذا الرمز، في صيغته نفسها، في الكتابة المسمارية للدلالة على الإلهة إنانا. وبما أن عُصابة الرأس وتسريحة الشعر الخاصة هنا هما علامتان مؤكدتان للملك في عصر فجر السلالات فإن المضمون هنا لا يدور حول مَشاهد يومية من حياة الرعاة، بل حول راعٍ ملكي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعالم النبات – خصوصًا أننا نسمع في الأناشيد السومرية عن راعٍ هو سيد بيت الرعاة وسيد قطعان الماشية. وهذا الراعي الملكي، الذي يرعى مواشي الأمِّ الكبرى ويعلفها، هو الإله–الإنسان دوموزي، النموذج الأولي لجميع آلهة النبات في الشرق القديم، الذي يمثِّل في شخصه حياة الطبيعة. إنه الشخص الثاني في دراما الخصب؛ ويشكِّل مع إنانا، الإلهة الأكثر عراقة منه في التاريخ الديني، مبدأ الحياة بشكل عام – فهما المجسِّدان الرئيسيان للعقيدة السومرية التي تتركز حول دورة الحياة والموت – كما يشكِّل المحور الذي تدور حوله الأعمال التشكيلية خلال الحقبة الحاسمة من فجر التاريخ السومري.[9]



    الشكل 3: الراعي الملكي ذو التنورة الشبكية

    هذا الراعي ذو التنورة الشبكية يظهر، في العديد من المَشاهد المتكررة الأخرى، وهو يدافع عن الحيوانات الأهلية ضد حيوان كاسر، هو الأسد في غالب الأحيان (انظر الشكلين 4 و5). وقد نجده في الوسط بين أسدين، ممسكًا بذيليهما، وكلٌّ منهما يقفز في اتجاه، أو في حالة صراع منفرد مع أسد وهو يطعنه برمح أو خنجر. ونلاحظ في الشكلين 5 و6 أن البطل هنا هو نفس البطل الذي رأيناه في مشهد الحقل الأعلى من قيثارة الملك أبارجي (انظر أعلاه الشكل 2). ورغم أنه يظهر هنا عاريًا، إلا من حزام في وسطه، فإن لدينا من الدلائل ما يشير إلى أننا نتعامل مع الشخصية نفسها، سواء في مَشاهد الراعي ذي التنورة الشبكية أم في مَشاهد البطل قاهر الكواسر، لأن الإلهة إنانا تظهر في بعض مَشاهد الصراع الكواسر مثلما ظهرت في مَشاهد الراعي الملكي. فعلى خاتم أسطواني محفوظ في متحف برلين نرى البطل العاري ذا الشعر الكثيف واللحية المضفورة يصرع أسدًا بفأس حربية، ومن ورائه الإلهة إنانا وهي تهبُّ لمساعدة حبيبها، فتمسك بذيل الأسد لتمكِّن الراعي من قتله. ومما يؤكد لنا شخصية الإلهة إنانا هنا هو السنابل أو الأغصان التي تنبعث من كتفيها. وهذا الختم لا يدع مجالاً للشك في تطابق الهوية بين الراعي وقاهر الكواسر، وفي أننا نتعامل مع وجهين للبطل الأسطوري نفسه: الإله–الإنسان تموز، عشيق الأمِّ الكبرى إنانا.

    أما مضمون مَشاهد صراع البطل مع الكواسر فإنه يدور حول صراع الحياة والموت: صراع تموز، الذي يمثل الحياة، مع الحيوان الكاسر، الذي يمثل الموت؛ وكذلك الأمر في مَشاهد صراع الأسد والثور. وبما أن هذه المَشاهد تُظهِر حالة توازن في الصراع بين الحيوانين فإن الفكرة القائمة وراءها هي حالة التوازن بين النقيضين اللذين يمثِّلان جوهر الوجود.[10]


    الشكل 4


    الشكل 5


    الشكل 6


    لقد تحدثنا في دراستنا عن "الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية"، في شيء من التفصيل، عن مشهد الزواج المقدس، الذي وجدناه على الأختام وعلى الألواح الحجرية المربعة ذات الثقب، ورأينا كيف عبَّرتْ هذه الأعمال الفنية عن فكرة الزواج المقدس من خلال مشهدين: مشهد قدوم دوموزي إلى بوابة إنانا، حاملاً معه مجموعة من هدايا الزواج؛ ومشهد مجلس الشراب. وما علينا الآن، لكي نستكمل دائرة الأفكار المصوِّرة لعقيدة الموت والخلود التموزية، إلا أن نعقد الصلة بين مَشاهد الزواج وبقية مَشاهد الأفكار الخالدة المصوَّرة.

    على فازة أوروك، التي تمثِّل مشهد قدوم تموز إلى بوابة إنانا حاملاً هداياه،[11] رأينا تموز في هيئة الراعي الملكي ذي التنورة الشبكية (وهي ذات الهيئة التي يبدو فيها على الأختام التي تمثِّله)، وهو يمد بكلِّ يد غصنًا مورِقًا إلى شاتين تشبَّان على القوائم الخلفية لتقضما الأوراق. وعلى عكس فازة أوروك، التي نال منها الحتُّ ولم يُبقِ لنا فيها من شكل تموز سوى طرف تنورته الشبكية، فإن بعض الأختام من مطلع عصر الأسرات تكرِّر المشهد ذاته. فعلى ختم أسطواني (محفوظ الآن بمدينة دريسدن بألمانيا) نجد تموز في هيئة الراعي الملكي، بشعره المجدول والمشدود إلى الخلف بواسطة عُصابة رأس وبتنورته الشبكية الكاملة، يخطو نحو بوابة إنانا، وبيديه الاثنتين يرفع حيوانًا أهليًّا صغيرًا، وأمامه على الأرض اصطفتْ أوانٍ وسلالٌ مليئة بالهدايا وبثمار الأرض. ورغم أن الإلهة هنا لا تظهر على البوابة في شخصها، إلا أن حضورها معبَّرٌ عنه بواسطة حزمتي القصب المعروفتين كشارة لها (انظر الشكل 7).



    الشكل 7: تموز على بوابة إنانا

    وفي الزمرة الثانية من مَشاهد الزواج المقدس، التي تتخذ من مشهد الشراب موضوعًا لها، لدينا من الدلائل أيضًا ما يجمع هذه المَشاهد إلى بقية المَشاهد المصوِّرة للأفكار الخالدة، حيث نجد مشهد الشراب الرئيسي في الأعلى، وقد أُلحِقَ به مشهدُ شجرة الحياة في أحد الأشرطة السفلى، أو مشهد صراع البطل العاري حامي القطعان مع الوحش المفترس الذي ينقضُّ على بقرة، على ما هو موضَّح في الشكلين 8 و9.




    الشكل 9: ختم يمثل مشهد الشراب في الأعلى وصراع البطل حامي القطعان مع الأسد في الأسفل[12]
    الشكل 8: ختم يمثل مشهد الشراب في الأعلى وشجرة الحياة في الأسفل


    لقد شغلت هذه الأفكار المصوَّرة كلَّ أعمال الفنِّ التشكيلي تقريبًا، منذ أفجر التاريخ حتى نهاية فترة حكم سلالة أور الأولى، أي خلال الحقبة التأسيسية للإبداعية السومرية، بحيث لا نعثر إلا على القليل من الإنجازات الفنية لا يخدم عقيدة إنانا–تموز. إلا أن توطيد أسُس السلطة الزمنية في المدن الكبرى، على حساب السلطة الروحية للمعبد والكهنوت، قد دفع تدريجيًّا بالثالوث الإلهي: آنو وإنليل وإيا إلى المقدمة، وأخذ اللاهوت الرسمي يتحول تدريجيًّا عن الأمِّ الكبرى، المجسِّدة لطاقة الحياة في الطبيعة، وعشيقها تموز، مجدِّد الحياة وقاهر الموت. وعندما انتقلت السلطةُ في وادي الرافدين الجنوبي إلى العناصر السامية كان الوضع الفكري مهيئًا تمامًا لتقبُّل الانقلاب الكبير الذي أحْدَثَه الأكاديون في الحياة الدينية للمنطقة.

    ومع ذلك فإن الطاقة الروحية الهائلة لعقيدة إنانا–تموز لم تفقد زخمها الأصلي، وإنما استمرت تعبِّر عن نفسها، في أشكال شتى، حتى نهايات تاريخ الشرق الأدنى القديم في أواخر الألف الأول ق م. فعلى النطاق الشعبي، استمرت عبادات الخصب قائمةً بعد أن تم إنزال آلهتها إلى المرتبة الثانية؛ وعلى النطاق الرسمي، عمد اللاهوتيون الساميون إلى إجراء تسوية بين معتقد الآلهة المتعالية الكلِّية القدرة وبين معتقد الألوهة الطبيعانية التي تمثِّل خصب الأرض ودورة الفصول، بأن جعلوا من الإله الأعلى مردوخ إلهًا يموت هو الآخر، ثم يُبعَثُ في عيد رأس السنة البابلية، الذي حلَّ رسميًّا محلَّ الأعياد التموزية. فبعد تلاوة أسطورة التكوين البابلية وتمثيلها دراميًّا، يخرج المنادي ليعلن أن مردوخ–بِلْ قد مات وأُلقِيَتْ جثتُه في الجبل. وينتهي هذا الجزء من السيناريو الطقسي ببعث مردوخ وصعوده من العالم الأسفل. ونحن نعرف، بكلِّ تأكيد، أن هذه الفقرة الطقسية من احتفالات رأس السنة البابلية لا تتمتع بِسَنَدٍ ميثولوجي، سواء في الإينوما إيليش (أسطورة التكوين البابلية) أم في غيرها من الأساطير البابلية؛ الأمر الذي يدل، بكلِّ وضوح، على أنها بقية من الطقس التموزي، تمَّ إدماجُها في طقوس مردوخ من أجل امتصاص المعتقدات والطقوس التموزية.

    ومما يدل على استمرار عقيدة إنانا–تموز فاعلةً في الوسط الفكري لإنسان المنطقة استمرارُ ظهور المَشاهد التي تنتمي إلى دائرة الأفكار المصوِّرة لهذه العقيدة في الفن الأكادي، ومن بعدُ البابلي فالآشوري، سواء على الأختام الأسطوانية أم على غيرها من وسائل التعبير الفني، ولكن على نطاق أضيق بكثير، ومع بعض التعديلات التي تنمُّ عن تراجع عقيدة إنانا–تموز إلى المرتبة الثانية. فلقد استمرتْ طقوسُ الخصب على النطاق الشعبي تحتفل بموت وقيامة تموز كإله لدورة الطبيعة. أما الوجه الآخر لهذه الطقوس والأفكار القائمة وراءه، أي معتقد الموت والخلود، فقد تحولت إلى عبادة سِرَّانية باطنية مقتصرة على من يمرُّ في طقوس المُسارَرة ويعبر إلى حلقة المريدين.[13]

    ونظرًا لقلة المعلومات، أو انعدامها، حول هذا الطور الباطني السِّراني لعبادة إنانا–تموز فإننا لا نستطيع متابعتها في أشكالها المشرقية، بل في أشكالها المعروفة في الثقافة الإغريقية، تحت اسم "عبادات الأسرار" Mystery Cults. فهذه العبادات الإغريقية الموثَّقة لنا تاريخيًّا قد وَرَدَتْ إلى بلاد اليونان من المشرق، كما يؤكد لنا أهلُها والذين أرَّخوا لها من القدماء. ومن هنا تأتي أهميتُها في إلقاء الضوء على أصولها المنسية في ثقافات المشرق القديم.

    وبما أننا قد حدَّدنا مجال بحثنا، في هذا المقام، بالميثولوجيا والمعتقدات المشرقية فإن عبادات الأسرار الإغريقية تقع خارجه، وقد يقودنا الخوضُ فيها خارج الدرب الذي نمشي عليه الآن. ولكني أقترح على القارئ المهتم بمتابعة الموضوع واحدًا من أهم المراجع الحديثة في عبادات الأسرار، وهو كتاب الأسرار، من تحرير جوزِف كامبل ومساهمة عدد من البحَّاثة المرموقين.[14]

    *** *** ***

    تنضيد: نبيل سلامة





    [1] إن ما أطرحه هنا من أفكار جديدة حول دورة حياة تموز يثير إشكاليات لا أريد في الوقت الحاضر الدخول في تفاصيلها.

    [2] أنطون مورتكات، تموز، بترجمة د. توفيق سليمان، دمشق 1985، ص 139-140.

    [3] من أجل التوسع في وصف المقابر النفقية، انظر المرجع السابق، وخصوصًا الصفحات 139-154، وانظر أيضًا ص 66، الشكل 5 واللوحة رقم 39.

    [4] Joseph Campbell, The Masks of God, Penguin, London, 1978, vol. I, pp. 409-410.

    [5] من أجل تاريخ مفهوم الإله تموز وصلته بالأم الكبرى القديمة، راجع مؤلَّفي لغز عشتار، فصل "تموز الخضر".

    [6] أنطون مورتكات، المرجع السابق، ص 59-60.

    [7] نفس المرجع، ص 63 وص 70.

    [8] للتوسع في موضوع شجرة الحياة، انظر مؤلَّفي لغز عشتار، فصل "عشتار الخضراء".

    [9] نفس المرجع، ص 97-105، واللوحة رقم 2/ب.

    [10] نفس المرجع ص 71-82، 108-110، والأشكال 12، ص 71، 24، ص 78، 21، ص 76.

    [11] راجع: "الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية"، الشكل 1، معابر.

    [12] من أجل الأشكال 7-9، انظر المرجع السابق، اللوحات 4 و19 و27.

    [13] من أجل معالجة أكثر شمولاً لهذه الفكرة، انظر أنطون مورتكات، المرجع نفسه، وخصوصًا الفصل الثالث.

    [14] Joseph Campbell, ed., The Mysteries, Princeton, New York, 1978.
هذا الموضوع لدية أكثر من 12 ردود. اضغط هنا لعرض الموضوع بأكمله.

ضوابط المشاركة

  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •