الرد على الموضوع

أضف مشاركة إلى الموضوع: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

رسائلك

اضغط هنا للدخول

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

 

يمكنك إختيار أيقونة لرسالتك من هذه القائمة

الخيارات الإضافية

  • سيتم تحويلها www.example.com إلى [URL]http://www.example.com[/URL].

عرض العنوان (الأحدث أولاً)

  • 24/07/2007, 04:28 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم


    في التكنيــك الفني للرواية:

    تعتبر رواية "الأخوة كارامازوف" رواية ذات مضمون اجتماعي نفسي وفلسفي في الوقت ذاته، وذلك رغم ما قد تبدو عليها من سمات شكلية تربط بينها وبين الروايات البوليسية. فرغم أن الموضوع الرئيسي الذي يقود الأحداث في الرواية-كما أشرنا آنفا- هو جريمة القتل التي تتكشف في عناصرها الجوهرية تبعا لنظام الرواية البوليسية، إلا أن الرواية-كما وضح-قد مزجت بين التصوير الواقعي المحدد للواقع والطباع والأحداث وبين الجدل الفكري العميق حول أهم مشاكل العصر، وهو المزج الذي يبدو عاديا ومتجانسا مع نسيج الرواية ويخلو من أي تنافر، وذلك لأن أبطال الرواية وهم يتجادلون حول المسائل والموضوعات التي قد تبدو مجردة، هم بذلك أيضا كانوا يتطرقون إلى الموضوعات والمشاكل الحيوية التي تؤرق وجودهم.

    كتب الناقد جروسمان عن خاصية رواية دستويفسكي هذه يقول:
    "تعتبر الفكرة نقطة للانطلاق في رواية دستويفسكي. أما الفكرة المجردة ذات الطابع الفلسفي فهي بمثابة ذلك المحور الذي تنتظم عليه الأحداث المتعددة والمعقدة والمختلطة للمضمون. أما المغامرة المختلطة فهي تضفي على سير الرواية قوة وحركة واهتمام خارجي، هي ضرورية هنا بوجه خاص نتيجة للوضع المجرد الذي يسود في كل القصة. إن السر الرئيسي في كل تركيب رواية دستويفسكي يكمن في السعي إلى تعويض القارئ من التوتر الممل الناتج عن اهتمامه بالصفحات الفلسفية مغامرة شكلية مسلية."

    ونظرا لأن "الفكرة" هي نقطة الانطلاق في رواية دستويفسكي،فإننا نجد الرواية تمتلئ بالديالوج ذي الطابع الفلسفي والذي تنبسط من خلاله لوحة ضخمة ومعقدة لحرب الأفكار المتصارعة. والديالوج في الرواية يتسم بالطابع الدرامي ويتحلى بقوة التأثير العاطفية، وهو يمتزج بطريقة عضوية بالموضوع ويعتبر عنصرا ضروريا له.

    وتنبسط أحداث رواية "الأخوة كارامازوف" على امتداد فترة زمنية قصيرة ومضغوطة وذلك رغم العدد الكبير من الشخصيات التي تمتلئ بها الرواية ورغم تشعب الموضوعات التي تتطرق إليها، وهذه السمة تعتبر قاسما مشتركا بين روايات دستويفسكي كما أشرنا من قبل. والأحداث في الرواية مقسمة زمنيا على ثلاث فترات زمنية تنفصل عن بعضها البعض بزمن قصير جدا، وكل من هذه الفترات تمتلئ بأحداث شديدة التوتر.

    وتصور شخصيات رواية "الأخوة كارامازوف" وهي في مرحلة الحركة الداخلية والتطور العقلي والنفسي ( بعض الأشخاص-مثل ايفان والراهب زوسيما-يظهرون في الرواية كأناس مكتملي الفكر والعقيدة). ودستويفسكي في وصفه للشخصية يولي اهتماما كبيرا بتصوير عملية التطور والانعطاف التي تحدث في فكر ووعي الشخصية بتأثير الظروف الخارجية أو العوامل الداخلية مثلما حدث مع ديمتري كارامازوف واليوشا كارامازوف. بيد أن التطور والانعطاف اللذين يحدثان عند شخصيات الرواية لا يصوران في بطء، بل يبرزان في شكل انكسار حاد وسريع.

    وبجانب الوصف المستقل للشخصيات من طرق الكاتب، نجد أن الشخصية في الرواية تنكشف أيضا من خلال حديثها عن نفسها وعن معاناتها وآلامها، ولهذا نجد نسيج الرواية يمتلئ بالاعترافات الذاتية والديالوج.

    ودستويفسكي يحضر في الرواية بنفسه، فهو يقوم بدور الراوي، وهو ما يشير إليه في مقدمة الرواية التي يعرف فيها بآل كارامازوف كأشخاص يعرفهم تمام المعرفة، وكذلك الحال مع الكثير من شخصيات الرواية الأخرى التي يحكي الكاتب عن دقائق من حياتها كما لو كان يعيش بالقرب منها.
    ومع ذلك فدستويفسكي أحيانا مل يترك دور الراوي لأحد الشخصيات كي تروي بنفسها الأحداث التي شاهدتها أو خبرتها بنفسها، لكن دور الكاتب "الراوي" أعمق، فهو يزن كل شيء بميزانه الأخلاقي، وهو أحيانا ما يتدخل بنصائحه وإرشاداته التي قد تبتعد أحيانا عن الموضوع الأساسي. وموقف دستويفسكي تجاه الشخصيات والآراء المختلفة يبدو واضحا، وليس كما أشار بعض النقاد الذي اعتبروا شخصيات الرواية تتسم بالاستقلالية في تحركاتها وأقوالها، وأن الكاتب لا يتدخل ليظهر موقفه تجاهها. فمثلا الناقد "باختين" أحد باحثي إنتاج دستويفسكي يشير إلى أن خاصة تركيب رواية "الأخوة كارامازوف" تكمن في وجود العديد من الأصوات المستقلة التي تمتلك استقلالية فريدة في تركيب المؤلف، وكلمتها كما لو كانت تسمع على جانب كلمة الكاتب".

    من السمات المميزة لتركيب رواية "الأخوة كارامازوف" وجود نغمة تكرار في تناول الموضوع أو الفكرة الواحدة في أجزاء مختلفة من الرواية وبأشكال ومغاز ومعان جديدة، وهو ما يتيح فرصة مقارنة الآراء الفلسفية المختلفة والتفسيرات المتنوعة تجاه الموضوع أو الفكرة، كما يضفي في ذات الوقت على تركيب الرواية بعض الرمزية ونستشهد على ذلك بأحد الأمثلة.

    يعتبر موضوع "وجود الله" أحد أهم الموضوعات التي تتطرق غليها الرواية. وكما أوضحنا آنفا فإن دستويفسكي قد أبرز اتجاهين متعارضين تجاه هذا الموضوع. اتجاه رافض للدين ولوجود الله ويتزعمه ايفان كارامازوف، واتجاه آخر يؤكد وجود مملكة الله ويتزعمه الراهب زوسيما. ودستويفسكي يتناول بالشرح والجدال هذا الموضوع في أجزاء متفرقة من الرواية ومن زوايا مختلفة. ففي أحد الأجزاء نجد الكاتب يرود تأملات ايفان حول عذاب ودموع الأطفال وهو العذاب الذي لا يجد له تبريرا مع وجود العدالة السماوية، وهو لهذا يرفع شعار الانتقام من الظلم. ولكن دستويفسكي يجادل هذا الرأي في موضوع آخر تماما وبشكل مستتر وذلك من خلال إحدى القصص التي يرويها الراهب زوسيما والتي يستند فيها على نصوص الإنجيل، وهي القصة التي تحكي عن أن الله ذات مرة يختبر قوة إيمان عبده المخلص أيوب فأرسل إليه إبليس ومكنه منه، فضرب إبليس قطعان أيوب، وأهلك أولاده ودمر ثرواته، وأرسل إليه جميع المصائب دفعة واحدة. فما كان من أيوب إلا أن ارتمى على الأرض ساجدا لله ومسبحا باسمه.
    فرد الرب السعادة إلى أيوب ووهبه ثروات جديدة وأولادا آخرين. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يعيش في الشقاء ثم يسعد بعد ذلك؟ إن دستويفسكي يطرح هذا السؤال في معرض رواية الراهب حين يتساءل وهل استطاع نوح أن يحب أولاده الجدد في غياب أبنائه الأول إلى غير رجعة؟
    فيرد الشيخ مؤكدا بأن ذلك "ممكن" لأن العدالة السماوية تظلل الجميع. والناس جميعهم مذنبون أمام الله
    وأمام الجميع، ولذا فإنه لا يهم من من الناس يقع عليه العذاب، وهل كان يستحقه أم لا، لأن العذاب ضروري لكل إنسان كي يطهر نفسه ويكفر عن أخطائه وأخطاء الآخرين، وبهذا العذاب يختبر الله إيمان الإنسان ومن ثم فالانتقام والاحتجاج ضد اللا عدالة ليس من حق الإنسان على الأرض لأن الحقيقة الإلهية فوق الجميع...



    .
    .
    .
    (إنتهى أخيرا الجزء المخصص لدستويفسكي في الكتاب ولي عودة مع مقالات أو كتاب آخر )
  • 24/07/2007, 04:24 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم


    إيفان كارامازوف الابن الأوسط لآل كارامازوف:

    تربى ونشأ هو الآخر بعد وفاة أمه ( الزوجة الثانية للأب فيودر كارامازوف) في أسرة غريبة، وعانى منذ الطفولة المبكرة من قسوة الأب وجفائه. نشأ إيفان لذلك متجهما منطويا، لكنه كان ميالا للعلم والدراسة، وحين التحق بالجامعة اضطر للعمل والدراسة في ذات الوقت وذلك لأنه كان يلاقي صعوبات مادية في سد احتياجاته الدراسية، كان إيفان يعطي بعض الدروس في المنازل لقاء أجر زهيد، كما كان يكتب بعض المقالات السيارة للصحف والجرائد اليومية. وتعتبر شخصية إيفان أحد أهم الشخصيات في الرواية، رغم أنه لا يقوم بالاشتراك مباشر في الأحداث، وذلك لأن إيفان وكما ذكرنا معلم وموجه سمرد ياكوف القاتل.

    وعلى عكس الابن الأكبر ديمتري ذي الطبيعة الفطرية الجياشة، فإن إيفان ذو طبيعة شاكة باردة وعقل تحليلي يتأمل الواقع في عمق. وإيفان ملحد يرفض وجود الله، ووجود الخلود..لكنه ينادي بشعارات الحب للإنسانية، ويبدي استنكاره واحتجاجه على وجود اللا عدالة والظلم والاضطهاد، وهو يخص بالتأمل عالم الأطفال، وهو ما نلمسه من حديثه مع أخيه أليوشا الذي يقول له: " لقد كان في نيتي أن أحدثك عن آلام الإنسانية عامة، ولكنني أحسب أنه من الأفضل أن نقصر الحديث على آلام الأطفال وحدهم. ولئن كان ذلك سيضعف حجتي بتسعة أعشار دلالتها، فإنني أظل أرى أن هذا أفضل. لسوف تكون المناقشة أقل مواتاة لي بطبيعة الحال ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرء يستطيع أن يحبهم من قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم".
    ولكن هل كان إيفان صادقا في دعاويه وأفكاره الإنسانية؟ أم كانت مجرد أفكار نظرية لا تنبع عن إيمان وعقيدة وما هو الدور الحقيقي لإيفان في مقتل الأب كارامازوف؟

    كان إيفان شاهد عيان للمشادة التي حدثت بين الأب والابن ديمتري وهي المشادة التي اعتدى فيها ديمتري على أبيه وهدده بالقتل، وكان إيفان يشعر بإمكانية حدوث الجريمة،، وهو لهذا نجده يقطع على نفسه وعدا لأخيه الصغير أليوشا بأنه لن يسمح بحدوث هذه الجريمة، لكن في اليوم التالي رحل إيفان عن البيت، وكما لو كان نسى تماما ما قاله لأخيه في هذا الشأن، وكما لو كان "يتمنى" حدوث الجريمة..
    وبعد الجريمة، ورغم أن إيفان يظن أن القاتل ليس أخاه المعتقل بل الخادم سمرد ياكوف الطليق، إلا أنه يصمت عن الشهادة بذلك، وعن الإدلاء بمعلومات تظهر القاتل الفعلي، وكما لو يريد أن يظل القاتل أمام العدالة أخيه ديمتري، ولكن ما سبب موقف إيفان هذا من أخيه ديمتري؟
    إن الكاتب يشير على كراهية وحقد إيفان على أخيه حين يعلق على مشاعر إيفان تجاه أخيه إذ يقول:"إنه كان يكرهه كرها حقيقيا ولا يشعر نحوه بنوع من شفقة غامضة إلا في القليل النادر، وهي شفقة ترتبط باحتقار عميق يبلغ حد الاشمئزاز. لقد كان إيفان يشعر دائما بنفور نحو ميتيا ( تصغير ديمتري) وكان ينفر حتى من شكله ويسوءه ما تحمله كاترينا إيفانوفنا لهذا الشاب من حب".
    لم يكن إيفان يكره أخاه فقط بل كان يكره والده أيضا، وهو لهذا تركه عمدا بلا حراسه، وحرض سمردياكوف بطريق غير مباشر على قتله، وهذا ما أكده سمرد ياكوف نفسه في حديثه مع إيفان بعد الجريمة. وهذا الكره من جانب إيفان لأبيه وأخيه يبدو طبيعيا إذا ما أمعنا النظر في كلماته عن حب الأقربين، والتي يقول فيها: " إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أفهم أن يحب المرء الناس القريبين منه. ففي رأيي أن أقرب الناس إلينا يصعب علينا أن نحبهم أكثر مما يصعب علينا أن نحب غيرهم. إن الإنسان لا يحب إلا من بعد".

    إن مشاعر إيفان تجاه أقرب الناس غليه وتصريحه هذا تبدو في تناقض مع أفكاره عن الحب العام للإنسانية فكيف يستطيع الإنسان أن يحب الناس عامة إذا كان لا يستطيع ولا يقوى على حب الأقربين؟! وعليه فإن أفكار وكلمات إيفان عن الحب العام تبدو مجردة ولا تنم عن إيمان.
    وهنا يلمح الكاتب إلى أن جذور الكراهية والأنانية والكبرياء في نفس إيفان ترتبط بفقدان الإيمان بوجود "الله والخلود". فمادام الإنسان قد سمح لنفسه بالاعتقاد بعدم وجود الله فإنه سيسمح لنفسه بأي شيء آخر، ومن هنا تنبع نظرية " كل شيء مباح" كما أوضحها دستويفسكي. إن دستويفسكي يخصص فصولا كاملة من ورايته ( بالذات الفصلان اللذان يحملان العنوانين "التمرد" و "المفتش العظيم" ) لرسم أبعاد رفض إيفان للدين والتي يبرزها في ارتباط وثيق مع افكاره الفوضوية التي ترفض النظم الاجتماعية والحكومية والكنسية، والتي تسخر من عادة الناس الذين لا يملكون توجيه مصيرهم.

    إن فكر إيفان لا يؤدي إلا إلى الشر والكوارث....، ولكن الشر في روح الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، أما الخير فهو أكثر أصالة وأكثر بقاء، والغلبة له دائما.

    ولهذا السبب فإن إيفان بعد أن يسمع بتصريح سمرد ياكوف، ويتأكد من دوره في الجريمة وتبعاتها، تنتابه آلام نفسية رهيبة، وتتملكه حمى وهذيا ويدخل إيفان "الخير" في صراع مع إيفان "الشر"، مع ذلك الشيطان الذي كان يتفق معه في "فلسفة واحدة" والذي كان يحاول جاهدا أن يخمد به كل ما هو طيب ومضيء، لأن "الشيطان" هو تجسيد لكل ما هو قذر وعفن وكريه بداخل نفس الإنسان، إن إيفان بعد أن اكتشف شر " الشيطان" بداخله يحاول الخلاص منه والتحرر من سلطانه، والكاتب يصور لنا هذا الصراع في فصل كامل في روايته أسماه "الشيطان، كابوس إيفان فيودرفيتش".

    إن إيفان يحاول أن يكفر عن بعض إثمه بالإدلاء بشهادة تحول من سير المحاكمة، لكن حالة الهذيان والهزال التي كان عليها جعلت المحكمة تعتقد أنه يهذي، وهو يحاول أيضا أن يرتب الأمور لهرب أخيه على أمريكا، لكن عذاب الضمير كان أقوى من قدرة احتمال إيفان مما يؤدي به على الجنون.

    أليوشا كارامازوف:

    الابن الأصغر لآل كارامازوف، إنه تجسيد للصورة المشرقة التي شاهد فيها الكاتب جيل المستقبل،فقلبه "يفيض بحب البشر" منذ الطفولة المبكرة، وهو قادر على بعث حب ومودة كل من يقابله. نشأ أليوشا شابا منعزلا، كتوما كثير التأمل، لكنه كان صافي النفس عذب الروح كثير العطاء. كان اليوشا ينفق كل ما يقع في يديه من أموال على أعمال الخير، فقد كان زاهدا في الحياة الدنيا، عزوفا عن المسرات. تميز اليوشا هو الآخر بالروح الباحثة عن "الحقيقة" لكن اليوشا-على عكس أخيه ايفان الملحد- كان يؤمن بوجود الله، وبوجود "الخلود". قدم اليوشا هو الآخر فجأة وبعد انقطاع طويل لزيارة أبيه الذي تربى بعيدا عنه كبقية إخوته، وفجأة قرر اليوشا أن يتوجه إلى الدير، لأنه أحس بأنه تنتظره "غاية سامية" ولأنه كان " لا يعرف آنذاك، ولم يكن يستطيع بأي حال أن يشرح تلك القوى التي دبت فجأة في كيانه ثم صعدت إلى سطح نفسه فدفعته دفها لا سبيل على مقامته في هذا الطريق الجديد الذي كان يجهله ولكنه لا يملك أن يتجنبه".

    تعرف اليوشا في الدير على الراهب العجوز زوسيما، الذي أحبه حبا جما وتأثر بشدة بأفكاره، لكن الراهب العجوز بعد أن يختبر اليوشا ينصحه بمغادرة الدير قائلا له:"اعلم يا بني العزيز جدا بأن مكانك ليس هنا بعد اليوم.. اترك أنت هذا الدير، واذهب، اذهب تماما..إن مكانك ليس هنا بعد، إنني أبارك بدايتك العظيمة ف هذا العالم. إذ سيتحتم عليك بعدُ التجوال كثيرا".

    لقد أدرك الراهب العجوز المحنك أن حب اليوشا للدير وللحياة به هو حب "رومانسي" حالم، تنقصه التجربة والخبرة بالحياة، والإيمان بالله يصبح مقنعا وحقيقيا حين يكون نتيجة "لتجربة الحب العملية"، الحب القائم على النشاط والعمل، وهي التجربة التي يبدو أن اليوشا غير مستعد لها بعد، والراهب لذلك ينصح اليوشا قائلا:" ابحث عن الفرح والحزن، اعمل، اعمل بلا هوادة".

    إن كلمات الراهب العجوز هذه تثير "حيرة" اليوشا "وخجله" وأيضا "رعبه" فقد كان اليوشا يحب الراهب العجوز حبا جما، ولا يتصور أن يعيش "دون أن يراه ويسمعه". ومن ذلك فإن اليوشا يطيع أمر معلمه ويخرج إلى الحياة.

    ويبدأ عذاب اليوشا مع خروجه من الدير واحتكاكه بالناس. وتتبدل أمام اليوشا صور وقصص من هذا العالم تملأ قلبه بالحزن والألم والعذاب وتبعث الشك في إمكانية الحب الإلهي "اللانهائي"، فالعالم مملوء "بالظلام والإثم" والآثمين. واليوشا يقع فريسة للأغراء والتضليل.

    بيد أن " شك" اليوشا، كان في الجوهر، يرتبط بظرفين؟ أولهما مناقشات وجدال اليوشا مع أخيه ايفان الملحد، وثانيهما الحادث "الغريب" الذي حدث بعد موت الراهب العجوز زوسيما إذ سرعان ما تعفنت جثة الراهب بعد موته وصدرت منها رائحة كريهة، فاعتبر هذا الحادث بمثابة إهانة سماوية للشيخ القديس، فالقديسون لا تعفن جثثهم على هذا النحو وبدا لأليوشا أن ما حدث مع الراهب العجوز هو انعكاس "للعدالة السماوية"، وخذلان للقديس.

    لكن "شك" و "إغراء" اليوشا ليس مرجعهما هذان الظرفان فقط. بل- وكما ألمح الكاتب-هناك كذلك عامل الوراثة، فأليوشا هو أيضا كارامازوف، "ولا بد أن نؤمن بأن للعرق والوراثة أثرا رغم كل شيء".، ويعبر اليوشا طريقا طويلا ومضنيا وراء "الحقيقة" التي يجدها أخيرا في العذاب والمعاناة وفي تقبل عذاب وآلام الآخرين، وفي الوحدة والالتحام مع الجميع بما في ذلك " الآثمين" أنفسهم، ومن خلال هذا التآلف يمكن التغلي على التناقض بين حب الله وحب الناس.

    الراهب العجوز زوسيمــا:

    تبرز تعاليم الراهب العجوز زوسيما الأب الروحي والمعلم للابن الأصغر لآل كارامازوف اليوشا في تناقض وتضاد مع شخصية وفكر ايفان كارامازوف الذي يخلط الكاتب بينه وبين ممثلي الفكر الاشتراكي الثوري.
    ودعاوى الراهب زوسيما هي في الواقع تفسيرات ومفاهيم عن الحياة والواقع مناقضة لتلك التي قدمها ايفان. ودستويفسكي كي لا يخلع على صورة الراهب وتعاليمه شكلا تجريديا نجده يبسط حياة الراهب الشخصية أمام القارئ مثلها مثل بقية شخصيات الرواية، فنحن نتعرف على ملامح الطفولة وصبا وشباب الراهب، وأهم ذكريات حياته التي سبقت انضمامه إلى الدير وذلك من خلال ما يرويه الراهب نفسه لتلاميذه في الدير عن نفسه، بيد أنه من الواضح أن أكثر ما يعني الكاتب في شخص الراهب هي تعاليمه التي يخصص لها فصولا من روايته والتي كان أهمها الفصل الذي حمل العنوان " بعض التعاليم التي عبر عنها الأب زوسيما في أحاديثه". وسنحاول هنا أن نلخص بعض هذه التعاليم والأفكار:

    وتعاليم الراهب زوسيما، وبشكل عام تبرز كظاهرة جديدة في حياة الدير، وهي لهذا السبب لا تثير تعاطف ورضاء أنصار الكنيسة التقليدية القديمة، ولهذا السبب فإن الكاتب يصور الراهب محاطا بالأتباع والمحيطين وأيضا بالراضين والأعداء. إن أكثر ما يلفت النظر في تعاليم الراهب هو رفضه ومهاجمته للفكر الثوري الجديد في روسيا الذي لا يرى فيه سوى جانبه المادي الرافض للروح والأديان، وهو لهذا السبب يستنكر أن يكون لهذا الفكر دور الريادة في المجتمع فهو يقول:" انظروا إلى العلمانيين هؤلاء الذين يعيشون في المجتمع ويعدون أنفسهم أعلى من رجال الدين، ألم يدنسوا نفوسهم ويخونوا الحقيقة الإلهية، هم الذين خلقوا على صورة الرب، إنهم يملكون العلم، ولكن العلم لا يعرف إلا ما تدركه الحواس أما الكون الروحي، أما العنصر الأسمى في الطبيعة الإنسانية، فقد رضوه ونبذوه".
    ومن هذا المنطلق فإن الراهب زوسيما يعتبر كل دعاوى الفكر الجديد عن الحرية مجرد "إباحية".

    إن قدرة الإنسان على التعرف على الكون ووعي أسراره، في رأي الراهب هي قدرة محدودة، ولذا فإنه يرفض ويستنكر رأي العلمانيين الماديين الذين يرون بأن معرفة الإنسان بالكون لا نهاية لها: "هناك أشياء كثيرة تبقى خافية عنا في هذا العالم، ولكننا في مقابل ذلك قد أوتينا معرفة الحياة الأخرى والصلات التي تربطنا بعالم أعلى وأفضل، والجذور العميقة لعواطفنا وأفكارنا إنما تمتد في السماء لا في الأرض على كل حال. لذلك ليعلم الفلاسفة أن ماهية الأشياء لا يمكن إدراكها في هذه الحياة الدنيا".

    إن الإنسان -في رأي الراهب- لا يحق له أن ينتقم أو حتى ضد ظلم أخيه الإنسان، فالعنف لا يؤدي إلا إلى العنف، ولهذا فإن الراهب يهاجم شعارات الثورة التي ينادي بها الفكر الجديد كسبيل لتغيير الظلم الاجتماعي: "إنهم يأملون أن يقيموا العدالة في هذا العالم، ولكنهم قد رفضوا المسيح فسوف ينتهي بهم الأمر إلى إشعال الحرائق وسفك الدم في كل مكان، لأن العنف يستدعي العنف، ومن يشهر السيف يهلك بالسيف".

    وكذلك يرفض الراهب أسلوب القصاص كوسيلة للانتقام من الخارجين على القانون والمذنبين، لأنه لا يجوز للإنسان أن يحكم على قرينه الإنسان، فما "من أحد يستطيع أن يجعل نفسه قاضيا على مجرم قبل أن يدرك أنه- وهو القاضي-لا يقل إجراما عن الجاني الماثل أمامه". وبديلا عن الفكر الاشتراكي الثوري الجديد فإن الراهب زوسيما يقدم تصوراته حول مشاكل الواقع وكيفية تغييره مستندا في ذلك على الفكر الديني المسيحي ودعاوي الاشتراكية الطوباوية:

    سيكون الخلاص من المشاكل والظلم الاجتماعي على يد رجال الدين المتحدين مع الشعب، وليس على يد الثوار،كما يدعون، "فروسيا المقدسة إنما سينقذها مرة أخرى في يوم من الأيام هؤلاء الرهبان المتواضعون الظامئون إلى العزلة والصلاة...لأن الخلاص سيكون بمشيئة الرب الذي سبق أن خلصها مرارا في الماضي،وسيأتي الخلاص من الشعب،سيأتي الخلاص بما يملكه الشعب من روح الإذعان لمشيئة الله ومن إيمان بوجود الله.".

    إن العنف والانتقام، في رأي الراهب لا يأتيان إلا بالشر،أما الصفح والتسامح فهما السبيل الحقيقي للقضاء على الشرور، ولذا فهو يدعوا إلى الصفح عن المذنبين، وإلى حب الجميع بما في ذلك "الآثمين". فأفضل سبيل إلى حماية الإنسان من الشر هو أن يعد نفسه مسئولا عن جميع خطايا البشر، وأن يحب "كل إنسان وكل شيء" ولهذا فهو يدعو الناس إلى أن يحبوا "خلق الله جملة، وأحبوا كل ذرة من الرمل على حدة، وكل ورقة شجرة، وكل شعاع ضوء، أحبوا الحيوانات، أحبوا النباتات، أحبوا كل موجود".

    ولحل تناقضات الواقع الاجتماعية فإن الراهب يعرض الحلول التالية:

    يمكن الوصول، في رأي الراهب، إلى العدالة الاجتماعية عندما يشعر الأغنياء "بالخجل والعار من ثرواتهم أمام الفقير، ويبرهن الفقير يومذاك بعد أن يرى ندم الغني ومذلته على حسن الفهم هو أيضا، فيترك له خيراته فرحا مستجيبا بالحب للتوبة النبيلة."

    فالمساواة الحقيقية في نظر الراهب زوسيما: هي مساواة الشعور والروح وليست المساواة المادية، ولهذا فهو يؤكد أنه " لن تكون هناك مساواة إلا في الشعور بكرامة الإنسان الروحية، وهذه حقيقة غير مفهومة إلا في بلادنا. لسوف تسود الأخوة متى اصبح الشر أخوة بالقلب، وبدون هذه الأخوة لا يمكن أن تكون هناك قسمة عادلة"

    كذلك يمكن تحقيق المساواة في المستقبل من خلال " الاتحاد العظيم" حين يصبح الإنسان بدون حاجة "إلى أن يكون له خدم، ويوم يحاول أن لا يرد أقرانه البشر على العبودية كما يفعل الآن، وإنما تطلع بكل نفسه إلى أن يصبح خادما لجميع الناس عملا بروح الإنجيل"

    وحتى ذاك "المستقبل" فإن الراهب زوسيما يدعو الناس على الإيمان والعمل والصبر والصفح والتسامح: "لا تقعد عن العمل ولا تدع لهمتك أن تفتر،... إذا رأيت نفسك محاطا بأناس أشرار لا يحسون، ويرضون أن يسمعوا لك، فارتم على أقدامهم واستغفرهم، لأنك أنت الذي تحمل ذنب عنادهم في الحقيقة. وإذا شعرت بأنك عاجز أن تخاطب الأشرار بالحسنى فاخدمهم صامتا متواضعا دون أن تيأس قط. إذا هجرك جميع الناس وطردوك شر طردة فاسجد على الأرض حين تصبح وحيدا واغمرها بقبلاتك. اسق الأرض بدموعك، فتحمل هذه الدموع ثمارا، ولو لم يرك في عزلتك أحد".

    هكذا كانت دعاوي الراهب زوسيما، أو دعاوي دوستويفسكي نفسه، وهكذا كانت نبوءتهم وتصورهم لمستقبل روسيا...
  • 09/07/2007, 08:09 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    أهــــم الشخصيــــات:

    تميزت رواية " الأخوة كارمازوف" بتعدد شخصياتها، فرغم أن الخطوط الرئيسية للمضمون تتركز حول تصوير مصير آل كارمازوف ، أي الأب الإقطاعي فيودر كارامازوف وأبناءه الثلاثة ديمتري وإيفان وأليوشا. إلا أن هذا التركيز لم يحل دون تصوير مصير العديد من الشخصيات الأخرى التي لعبت دورا هاما في إبراز الخط الفكري للرواية وذلك مثل شخصية الراهب العجوز زوسيما، وشخصية سمرد ياكوف الابن غير الشرعي لكارامازوف وخادمه في ذات الوقت، أو الشخصيات ذات المرتبة التالية مثل شخصيتي كاترينا إيفانوفنا خطيبة ديمتري، وجروشنكا المتنازع على حبها كل من الأب كارامازوف والابن ديمتري، وخلافهما من الشخصيات الأخرى.
    وقد اهتم دستويفسكي بتصوير طابع ومصير كل من هذه الشخصيات وغيرها على حده، وفي الوقت نفسه فقد كان لكل من هذه الشخصيات التي تتشابك بشكل أو بآخر مع آل كارامازوف دورها في كشف بعض ملامح شخصيات آل كارامازوف..

    وتأتي صورة الأب فيودر كارامازوف التي أكد الكاتب نمطيتها حين أشار من خلال كلمات وكيل النيابة التي قال فيها: "يجب أن لا ننسى أن هذا الأب من معاصرينا. أتقولون أنني أهين المجتمع إذا زعمت أنه واحد من عدد كبير من الآباء المعاصرين! واأسفاه ما أكثر الآباء الذين لا يمتازون عليه في عصرنا هذا!".
    تأتي صورته تجسيدا لأسوأ ما في الطبقة الإقطاعية من سمات، فهو غارق في الفسق والسكر والفجور، يعميه الجشع والشهوة عن كل ما هو إنساني، وتمتلئ نفسه بالكذب والخداع والأنانية العمياء، وهو لا يأبه بأحد، ولا يعنيه في الحياة سوى إشباع رغباته وملذاته المادية، إنه – كما يصفه الكاتب-إنسان "شاذ" "وعجيب" "وتافه".

    تزوج فيودر كارامازوف مرتين، تزوج في المرة الأولى من امرأة غنية، وكان يعيش معها حياة تعسة تمتلئ بالمشاكل والمشاحنات، واستولى على جزء كبير من ثروتها، وبعد أن أنجبا ابنهما ديمتري بثلاث سنوات فرت هاربة مع طالب فقير، وقد توفيت بعد فترة قليلة من هروبها. وبعد موتها حول الأب فيودر كارامازوف بيته إلى مكان للفسق والفجور، وأهمل أمر ابنه ديمتري، الذي انتقل بعد رحيل أمه إلى رعاية خادم وفي أمين يدعى جريجوري. وتزوج فيودر كارامازوف للمرة الثانية من شابة على درجة كبيرة من الجمال، إلا أنه لم يكف بعد زواجه الثاني من خلاعته وفجوره، ولم يراع أدنى درجات اللياقة في علاقته بزوجته الثانية، فكان يأتي بالنساء الساقطات على مرأى ومسمع منها إلى بيت الزوجية. أنجب الأب فيودر كارامازوف من زوجته الثانية ابنيه إيفان وأليوشا اللذين فقدا أمهما، ومازال أصغرهما يبلغ من العمر أربعة أعوام، بعد أن مرضت بمرض عصبي شديد، كانت تنتابها خلال هذا المرض نوبات من الهستريا والهذيان، وبعد موتها انتقل ابناها مثل أخيهما الأكبر على حضانة الخادم جريجوري.

    بيد أن الأب فيودر كارامازوف ورغم ما كان يعيشه من حياة كلها فسق وفجور، ورغم إهماله أمر أولاده الثلاثة، غلا أنه مع ذلك لم يهمل تنمية ثروته، التي تضاعفت مع السنين، فهو من هذه الزاوية إقطاعي حاذق ورجل أعمال "ماهر" لا يتورع عن استغلال ابنه وعن استخدام أساليب العنف في إدارة الفلاحين، وذلك لأنهم في رأيه: "أوغاد أوباش، لا يستحقون الشفقة".
    وبالإضافة على ذلك ففيودر كارامازوف يبرز كنصير ومؤيد لنظام القنانة فهو يقول: "إنه شيء رائع يشحذ العزيمة أن يعرف المرء أنه سيبقى إلى الأبد في هذا العالم سادة وخدم".

    أما ديمتري أكبر الأبناء، فبعد فترة من رعاية الخادم جريجوري له تنقل للعيش عند بعض أبناء عمومة أمه، وقضى فترة المراهقة والشباب المبكر على نحو مضطرب يعوزه الاستقرار، ولم يتمكن من إنها دراسته في المدرسة الثانوية، والتحق بعد ذلك بمدرسة عسكرية أرسل بعد تخرجه منها إلى القوقاز، غلا انه تورط هناك في مبارزة عوقب بعدها بالحرمان من رتبته، وبالطبع فقد كانت علاقة ديمتري بوالده شبه منقطعة، وكانت أول مرة يشاهد فيها ديمتري والده-وحسب وصف الكاتب- " بعد بلوغه سن الرشد، حين قدم عمدا إليه للتفاهم مع بخصوص ممتلكاته".
    وقّع ديمتري مع والده اتفاقا يقضي بأن يرسل له والده ريع أرضه التي ورثها عن أمه تباعا، ولكن الأب قد أضمر بينه وبين نفسه خداع ابنه والاستيلاء على ثروته باحتساب الريع الذي يرسله له كثمن لبيع أجزاء من ميراثه وجن عقله، وكان الموضوع-كما أشرنا آنفا-أحد اسباب خلافه مع والده.

    ورث ديمتري عن أبيه بعض "الطيش" وعدم القدرة على جمح الشهوات والاندفاع وراء الرغبات الحسية والملذات والمتع الدنيوية، لكن ديمتري-خلافا لوالده الذي كان يمتلئ قلبه بالشر والجبن- كان يتحلى بقلب طيب ويتمتع بكبرياء وعزة نفس. وديمتري أيضا إنسان متقلب المشاعر، سهل الاستثارة، فهو يهجر خطيبته الجميلة الرقيقة كاترين إيفانوفنا التي تحبه حبا صادقا، ويندفع وراء المرأة المجرية جروشنكا محبوبة أبيه، وديمتري-كما أشير آنفا-يتهم ظلما بقتل أبيه، ويحكم عليه بالأشغال الشاقة عشرين عاما بعد ثبات الأدلة الشكلية ضده وبعد أن قدمت خطيبته السابقة-التي كانت تأكلها الغيرة على حبه للمرأة الأخرى- على المحكمة خطابا، كان قد أرسله غليها بخصوص دين من المال يجب عليه سداده لها، وأخبرها في هذا الخطاب نفسه بأنه سيحصل على المال بأي ثمن، حتى لو كلفه ذلك قتل أبيه.

    بيد أن ديمتري وبتأثير المحنة التي يقع فيها، تحدث بروحه عملية "تحول كبيرة" تحرر الإنسان الذي كان "حبيسا" بداخله، وتجعله يتقبل عقوبة جريمة لم يقترفها، لأنه رأى في هذا تكفيرا عن ذنوب أخرى صغيرة ارتكبها طوال حياته، لذا فقد قرر أن " يعاقب نفسه بنفسه" كي يصبح "إنسانا آخر".

    ورغم ما كان ينتظر ديمتري من سنوات شاقة ومؤلمة في السجن، إلا أن ذلك لم يفقده التفاؤل والإيمان بالمستقبل، ذلك الإيمان الذي يثير دهشة أخيه الأصغر أليوشا الذي يقول عن ذلك مندهشا لكاترينا إيفانوفنا: "رجل محكوم عليه بالسجن عشرين عاما ويريد أن يكون سعيدا! أليس هذا مما ستحق الشفقة"
    إن الطريق الذي يعبر بديمتري إلى "الحقيقة" في الرواية هو طريق البعث الديني والكمال الروحي، حقيقة أن ديمتري قد رادته فكرة الهرب من العقوبة إلى أمريكا، ولكن ديمتري الذي يقدس ويحب وطنه حبا جنونيا أكد في ذات الوقت أنه في حالة ما إذا هرب فإنه مع ذلك سيدين نفسه، ويكفر عن الذنب طوال حياته في البلد الذي سيلجأ إليه، وأنه إذا ما هرب فهو يهرب وكما قال لأليوشا عن ذلك "لا لكي أفرح وأسعد، وإنما أهرب لألقي نفسي في سجن آخر مختلف عن السجن الذي كنت سأودع فيه هنا، ولكنه سجن على كل حال، سجن يعادل السجن هنا أو أسوا منه" ( يقصد العيش خارج الوطن).

    .
    .
    .
    ووووووووو يتبـــع :)
  • 09/07/2007, 08:07 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    " الأخوة كــــــارمازوف "


    ظهرت " الأخوة كارمازوف" آخر روايات دوستويفسكي عام 1880 في جو الأزمة الثورية التي كانت تكتنف حياة روسيا في تلك الفترة التي واكبت عمر غروب شمس الإقطاع في روسيا وزوال نظام القنانة وشهدت نهضة كبرى للحركة التحريرية الشعبية. وتكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" أهمية خاصة بين روايات دستويفسكي الأخرى لكونها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي الأخلاقي والفلسفي الديني.

    وينقسم عرضنا لهذه الرواية إلى ثلاثة أجزاء: نتناول في الجزء الأول عرضنا لأهم أفكار الرواية وأحداثها، أما الجزء الثاني فسنتناول فيه أهم الشخصيات في الرواية، وفي الجزء الأخير نعرض لأهم الخصائص الفنية "للأخوة كارمازوف".

    1- أهم الأحداث والأفكار:

    تركزت الأحداث الرئيسية لرواية "الأخوة كارمازوف" حول جريمة قتل الإقطاعي العجوز فيودر كارمازوف التي تثير جريمة قتله حيرة شخصيات الرواية وكذا القارئ. بيد أن دستويفسكي يضلل الجميع حين يجعل أصابع الاتهام تشير نحو الابن الأكبر للإقطاعي وهو ديمتري، فجميع الدلائل والقرائن كانت ضده وتؤكد أنه وحده القاتل: فديمتري يتنازع مع أبيه بخصوص ميراثه عن أمه، والأب والكهل وابنه يتنافسان على حب المرأة اللعوب جروشنكا، ويصل بهما الاصطدام إلى حد العراك واعتداء ديمتري على ابيه بالضرب وتهديده إياه بالقتل أمام الكثيرين، وخلاف ذلك من القرائن التي تجعل الشرطة تجزم بذنب ديمتري وتعتقله بتهمة قتل والده ويساق إلى المحكمة.

    بيد أن القاتل الحقيقي للأب كارمازوف والذي يظل مجهولا للشرطة حتى نهاية الرواية يظهر فجأة أنه الخادم والابن غير الشرعي للأب فيودر كارمازوف والمدعو في الرواية سمرد ياكوف، والذي ينتحر شنقا. لكن سمردياكوف قبل أن ينتحر نجده يعترف للابن الأوسط لآل كارمازوف وهو إيفان بجريمته، ولكنه يصرح له في اعترافه بجملة تقلب الأوضاع على أعقابها، حين يقول له: "إن القاتل الرئيسي هو أنت، أنت وحدك! أما أنا فلست إلا مساعد قاتل، معاونا ثانويا، رغم أنني قتلته. أما أنت فإنك القاتل الشرعي..."

    ويضيف سمردياكوف عند هذا القول مفسرا بأنه حين قتل الأب فيودر كارمازوف، فإنه قد فعل ذلك بوحي من أفكار إيفان القائلة بأن " كل شيء مباح، فمادام الإله الذي لا نهاية له غير موجود فالفضيلة إذن لا جدوى منها ولا داعي لها".

    وهذه الكلمات تذكر القارئ بكلمات شبيهة تردد ذكرها أكثر من مرة في الرواية، الشيء الذي يشجع القارئ على استعادة استيعاب ما قرأه بغية التوصل إلى ما وراء هذه الكلمات التي تبرز كمفتاح لبعض أفكار الرواية. لقد ترددت فكرة إيفان هذه في أكثر من موضع في الرواية، ولعلها ذكرت أول مرة في الجزء من الرواية الذي يحمل العنوان "اجتماع في غير محله"، حين تطرق الحديث في الدير بحضرة الابن الأصغر لآل كارمازوف وهو اليوشا إلى مقال منشور لإيفان يلخص فيه أفكاره التي ترفض وجود الله ووجود الخلود ويؤكد بأنه "لا فضائل بغير إيمان بخلود الروح، كل شيء مباح إذا لم نؤمن بخلود الروح"
    إن هذه "الفكرة" التي تذكرنا "بفكرة" رسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" تلعب هنا أيضا في رواية "الأخوة كارمازوف" وكما يبرزها الكاتب دور المحرك الرئيسي لجريمة سمرد ياكوف تلميذ وتابع إيفان. فالجريمة هنا بمثابة تجربة علمية في يدي إيفان لنظرية " كل شيء مباح"..

    وعليه فتصوير جريمة القتل هنا، ومثلما في رواية "الجريمة والعقاب" لا يعد هدفا للكاتب في حد ذاته، بل لا يتعدى كونه غلافا تتستر خلفه الأفكار الرئيسية للرواية، والتي سنحاول أن نلخص أهمها:

    أولا: جاء اختيار الكاتب لشخصية سمرد ياكوف بالذات كي يكون هو القاتل، جاء مرتبطا برغبة الكاتب في توضيح مفهومي: الإيمان ودوره في حياة الإنسان، والجريمة والظروف.. فمن جهة كانت الملابسات المتعلقة بجريمة قتل الأب تؤكد أن القاتل سيكون الابن الأكبر ديمتري الذي توجه فعلا- وكما روى في التحقيق- وفي نيته قتل أبيه، لكن فجأة حدثت "معجزة" أمسكت ديمتري عن الجريمة، أو كما قال هو نفسه: إن الله قد "حرسه" ويظهر بعد ذلك أن القاتل الحقيقي أي سمرد ياكوف هو شخص بعيد عن الشبهات، وكان هذا الشخص حر الإرادة في تنفيذه للجريمة، ولكن لم تحدث معه "معجزة" شبيهة بتلك التي حدثت مع ديمتري، لأن القاتل ملحد والله "لا يحرس" أمثاله، فالبعث الطيب للروح الإنسانية، كما أبرزه دستويفسكي ممكن فقط في وجود الإيمان وبهذه الفكرة نفسها عارض الكاتب شرطية الجريمة بالظروف المحيطة والبيئة، وأكد بوجود إرادة الإنسان الحرة وتدخل "المعجزات"، والقوى الغيبية عند حدوث الجريمة.

    ثانيا: هاجم دستويفسكي بشدة وذلك من خلال العرض التفصيلي للمحاكمات الخاصة بالجريمة والتي انتهت بالحكم ظلما على الابن الأكبر البريء ديمتري بالأشغال الشاقة لمدة عشرين عاما، هاجم الكاتب المحاكم القائمة التي تستند على الأدلة الشكلية، ولا تبحث عن الظروف الخاصة بالمتهم، ولا تأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية والنفسية الظاهرة والخفية التي تتعلق بالجريمة، ورفع الكاتب شعار المحكمة الدينية الكنائسية كبديل للمحاكم السائدة.

    ثالثا: أبرز الكاتب دراما مقتل الأب كانعكاس لدراما اجتماعية وفكرية أعمق يعيشها المجتمع الروسي في عصر زوال النظام الإقطاعي النبيل، فدستويفسكي في آخر رواياته لم يكن يهتم بتصوير الموضوعات الخاصة قدر اهتمامه بالظواهر العامة للحياة الاجتماعية المعاصرة وبمصير بلاده.
    فمن جهة أبرز الكاتب من خلال حياة آل كارمازوف صورة للحرب المكشوفة الدائرة بين أفراد العائلة النبيلة التي يسودها الكره والأنانية، ويتفاقم فيها العداء إلى حد قتل الأب الذي يرمز مصرعه في الرواية إلى سقوط الركائز القديمة داخل العائلة النبيلة. ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يشير الكاتب في أكثر من مكان في الرواية على نمطية آل كارمازوف، وإلى أن آل كارمازوف هم ظاهرة كاملة في الحياة الاجتماعية. فالكاتب على سبيل المثال يشير على ذلك على لسان وكيل النيابة أثناء التحقيق في الجريمة حين يقول: " ما الذي تمثله في الواقع أسرة كارمازوف هذه التي اكتسبت في روسيا كلها-بين عشية وضحاها-شهرة حزينة كهذه؟ قد تظنون أنني أبالغ كثيرا، ولكني أحسب أن صورة هذه الأسرة تعكس بعض العناصر الإنسانية العامة التي يتسم بها مجتمعنا المثقف المعاصر، صحيح أنها تعكسها مصغرة تصغيرا ميكروسكوبيا "كما تعكس الشمس قطرة ماء"، ولكننا نجد فيها قبسات ذات دلالة".

    ومن هذا الشمول تكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" قوة نقدية ضخمة وتبرز كاتهام صريح للواقع الذي أفرز ظاهرة "كارمازوف" وهو ما يشير إليه الكاتب أيضا على لسان الراهب راكيتين ( أهم الشهود في التحقيق )، فدستويفسكي يصف كيف أن راكيتين أثناء التحقيق، قد "صور الدراما التي أدت إلى الجريمة على أنها ثمرة عاداتنا وأخلاقنا المتخلفة، وثمرة نظام القنانة، وثمرة الفوضى التي تسيطر على بلادنا-روسيا- التي تعاني شقاء كبيرا وتفتقر إلى أنظمة لا غنى عنها".
    ومن جهة أخرى فقد عكس الكاتب- من خلال تصوير مأساة قتل الأب- دراما الفكر التي كان يعيشها جزء كبير من الشباب الروسي في تلك الآونة، جزء سقطت المقاييس الأخلاقية في نظره ومن وعيه نتيجة تأثره بأفكار شريرة فوضوية تعتقد بأن "كل شيء مباح" وإلى جانب الأفكار التي أشرنا إليها، فإن دوستويفسكي ومن خلال الجدل الفلسفي العنيف، الذي بسطه من خلال شخصيات رواياته قد تطرق للعديد من القضايا الدينية والأخلاقية والفلسفية القومية والعامة، فشخصيات روايته تتجادل حول وجود الله، وطبيعة النفس البشرية وصراع الخير والشر بالإنسان، ومسئولي الإنسان الأخلاقية تجاه آلام المحيطين، والقوى التي تستطيع أن تقود الحياة الاجتماعية وخلافه من الموضوعات، ودستويفسكي حين يتطرق في روايته لهذه الموضوعات فإنه يقابل في الرواية بين فكرين متعارضين ومتجادلين سائدين في غضون تلك الفترة: فكر ديني مسيحي يبشر بالاشتراكية الطوباوية ويرفع شعارات المعاناة الروحي كسبيل للتغيير، وهو الذي يتبناه في الرواية الراهب العجوز زوسيما وأتباعه وعلى رأسهم أليوشا كارمازوف، وفكر آخر مناقض يرفض الدين ويحض على الثورة واستخدام العنف لتغيير الواقع الاجتماعي، ويتبناه في الرواية إيفان كارمازوف والخادم القاتل سمرد ياكوف.
    ودستويفسكي حين يرسم سقوط وفشل فكر إيفان الذي انتهى بصاحبه في النهاية إلى الجنون، وأدى إلى انتحار سمرد ياكوف ومصرع الأب، فدستويفسكي بذلك إنما يعبر عن رفضه للفكر الاشتراكي الثوري الجديد الذي كان يتعارض مع وجهة نظر الكاتب الذي يعتقد بأن الطريق إلى التجديد، إنقاذ البشرية ممكن من خلال التصحيح لكل روح إنسانية على حده على شاكلة المسيح، وهو ما كان ينادي به الراهب زوسيما. لهذا السبب نجد دستويفسكي يجعل الفكر الديني المسيحي أساسا للنشاط العملي لأليوشا كارمازوف وكذلك أساس للبعث الروحي الأخلاقي لديمتري كارمازوف وحظيته جروشنكا، ومجموعة "الأولاد" الذي رمز الكاتب بهم على جيل المستقبل.


    .
    .
    .
    .
    يتبــــع.. (أهـم الشخصيـات)
  • 19/06/2007, 04:54 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    إضـــافة ليست من الكتاب!..
    " سفيدريكايلوف" __ الوجـه الآخـــر!


    بعد انتهيت من رواية دوستويفسكي الرائعة جدا "الجريمة والعقاب" سألت أخي الذي سبقني إليها عن أي الشخصيات أثارته فكان رأيه "بروفير بيتروفيتش"، قاضي التحقيق، مبهورا بكونه علم منذ البداية بأن رسكولينكوف هو القاتل الحقيقي للمرابية العجوز..

    ولما سألني قلت له بابتسامة من توقع ورغب بالسؤال " سفيدريكايلوف "، فقطب جبينه لثانية وكأنه يتساءل من هو لكنه أبقى تقطيبه ذاك حين عرف من أعني!

    يظهر "سفيدريكايلوف"- أو "سفيرديجالوف" بحسب الترجمة- مع الأحداث الأولى للرواية في رسالة موجهة من أم رسكولينكوف لولدها تحكي له عن محاولة إغوائه- "سفيدريكايلوف"- لـ"دونيا" أخت "رسكولينكوف" التي تعمل في منزل الأول، وكيف تحملت الأخت – الشريفة حتى النهاية- ما تحملته من تشهير من قبل الزوجة حتى اعترف لها زوجها بالحقيقة أخيرا، فاعتراها الذنب وراحت تعتذر بطريقة مبالغ فيها إذ لم تترك أحدا إلا وخبرته سواء بالإعلان العام أو بالطرق على الأبواب!.

    ثم يظهر بعد ذلك شخصيا مع بداية الجزء الثاني من الرواية*، حين يفيق "رسكولينكوف" من كابوس مرعب شاهد فيه المرابية العجوز فيجده أمامه.
    وتكون زوجته قد ماتت، وسبقته الشائعات -التي تصبح كشيء قابل للتصديق بسبب ماهيته، وأحيانا أخرى لا تهم!- بأنه قتلها كما تقول أنه تسبب في موت خادمة وفتاة صغيرة!

    باختصار "سفيدريكايلوف" ماجن يهوى النساء، مستغل ويعترف نفسه بفجوره في أحاديث تمت بينه وبين "رسكولينكوف"، بل وله فلسفته الخاصة عن وضعه فيقول: "إن للفجور شيء من الاستمرار يضفيه على الطبيعة، وليس عليه أن يتحمل نزعات خيالاتنا وأهوائنا، إن فيه شيئا دائما أشبه بالشعلة المتوقدة في الدم، على استعداد أبدا لمتابعة اللهيب الذي لا ينطفئ بمرور السنين"
    وحين يجيبه "رسكولينكوف" بأنه: " مرض، ومرض خطير"، يرد: " إنني أوافقك على أنه مرض ككل شيء يتجاوز حده، والحدود هنا لا يمكننا إلا أن تتجاوز، لكن الأمر الذي قد يكون على غرار هذا بالنسبة للبعض لا يكون كذلك بالنسبة للآخرين"....
    وذلك الحوار تحديدا يصل لنهاية أو استقراء من قبل "رسكولينكوف": " هل أنت على استعداد لقتل نفسك! إذا أخفقت في هذا المضمار؟".. فيشمئز "سفيدريكايلوف" قائلا بأنه يكره الحديث عن الموت!..

    ولعله في الحديث أعلاه يكمن الفرق الجوهري بين الاثنين "فرسكولينكوف" كان على طول السرد محتارا من الأسباب الحقيقية التي أدت به إلى القتل، هل هي فكرية كفكرة "الإنسان المتفوق / الغير عادي" المطروحة في إحدى مقالاته، أم اجتماعية للحصول على المال، أم لأنه ببساطة شرير كما يردد، لكنه وبضمير معذب يعترف بأنه قتل نفسه بفعلته تلك، ويشمئز منها وتطارده حد مقاربة الجنون!.
    في حين يعتبره سفيدريكايلوف كطبيعة فيه، وإن كانت شرا فهي شر لا بد منه!..

    لقد كان دوستويفسكي كريما في وصف الخلفية النفسية والفكرية لكافة الشخصيات وبلسانها، إما عن طريق الحوار أم بسرد حالتها النفسية بتمعن، كأوهام "رسكولينكوف" ومرضه، وكذلك الحال بالنسبة لـ"سفيدريكايلوف".
    ولعل القارئ سيلحظ التشابه بين "سفيدريكايلوف" و"رسكولينكوف" كما هو بين "دونيا" التي أحبها "سفيدريكايلوف" ورأى فيها خلاصه، و"سونيا"- العاهرة- التي كانت حب وخلاص "رسكولينكوف"..

    إن المفارقة تكاد تبدو ساخرة في الحب المربع أعلاه، تشابه آخر يجري بين الاثنين غير كونهم مثقفين، وهي من جهة مشاهدة الأشباح، أشباح ضحاياهم، خوف الاثنين من الموت، حبهم الكبير للأطفال ومساعدة المحتاجين ولو بكامل ما يملكون!..

    كما نقف عند تشابه دونيا من حيث مقاربتها على التضحية بنفسها بالزواج من "لوجين" ،الذي لا يناسبها إطلاقا، في محاولة لمساعدة أمها وأخيها مع إسقاط حساب نفسها لأجلهم، وهو كما يراه الكاتب أو بالأحرى "رسكولينكوف" لا يختلف أبدا عن بيع "سونيا" لجسدها لأجل أسرتها فقط، وإن كان في نواح يعذر للأخيرة فعلتها وأحيانا أخرى يتعمد إهانتها!
    و"سفيدريكايلوف" في أحاين يلوم دونيا على ما يظنه تودد له ولو بحسن نية!

    وكلا المرأتين تتفقان على رسكولينكوف قد أزهق روحا بشرية من غير حق ودفعتاه للاعتراف، إلا أن قرار المرأتين اختلف بخصوص هذين الرجلين، "فسونيا" بقيت حتى النهاية تدفع "رسكولينكوف" –بحب- للتوبة والاعتراف لإنقاذ نفسه وبقيت متفانية ومخلصة حتى بعد ذلك، في حين رفضت "دونيا" "سفيرديكالوف" رفضا قاطعا أدى به إلى نهايته هو!

    كلا المرأتين أحبهما رجلين خاطئين، الأول ،أو لعل كلاهما، قاتل، والثاني عربيد، والاثنان يريان في المرأتين باب أو متنفس للخروج من العفن الذي ولجا فيه لأسباب عديدة..

    ويرى الواحد الآخر صورة معكوسة لنفسه، فحين يتعمد "سفيدريكايلوف" على سرد مجونه "لرسكولينكوف" في آخر لقاء لهما يقول فرحا: " هل تصدق أنني أجد رغبة في الاستمرار في سرد هذه القصص لأصغي إلى استنكارك وصياحك. إنه سرور حقيقي!"
    يغمغم "رسكولينكوف" :" لست أشك في ذلك، أو لست أنا بنفسي شاذا بنظري في هذه اللحظة؟"

    ومن بعدها يفترقان، ليتجه "سفيدريكايلوف" إلى هدفه الوحيد لوجوده في بطرسبرج " دونيا " متسلحا بكونه يعرف حقيقة أخيها القاتل، المرأة التي لعله آمن بأنها ( ستنقذه )! وأنفق كل السبل في سبيل الحصول عليها نبيلة كانت أم غير شريفة!..أو أنه ببســاطة كانت هدف يرغب في الحصول عليه بشتى الوسائل، ولو أنني أميل للسبب الأول بالنظر للنهاية التي انتهى بها!

    يلتقي معها، يهددها ثم يغويها من جديد، لكنها ترفض فيقول: " إنك تعرفين بأنك تقتلينني"، لا يتوقف ويطلب حاجته بالقوة، تفاجئه بمسدسه، تنطلق الرصاصة، تخدشه، ومن ثم تلقي بالمسدس مستسلمة! وتلك اللحظة الرهيبة يصفها دوستويفسكي في "سفيدريكايلوف":
    " لم يكن قلقا بسبب الموت المرتقب إذ أنه كان من المشكوك فيه أن يكون شاعرا بمثل هذا الإحساس في تلك اللحظة. لقد كان مستغرقا في شعور قاتم متطير كان يحار في تفسيره ومعرفة بواعثه"...
    فيقترب من دونيا ويسألها للمرة الأخيرة" على ذلك فلن تحبيني"
    ثم بيأس يكرر " ولا... يمكنك أن تحبيني؟ أبدا؟"
    وحين يجد الرفض في المرتين يوليها ظهره ويتركها تنصرف وكأنه يتخلى أخيرا عن أمله الوحيد في الحياة، لتبدأ بعد ذلك صفحات مخصصة له في الرواية وربما إحدى أكثرها حراكا وسوداوية، يعرج على "سونيا" يقول لها: " أمام "روديون رومانوفيتش" طريقتين لا ثالث لهما: إما أن ينتحر ، وإما أن يمضي إلى سيبيريا". ويترك لها المال، قائلا بأنه كأنه يتركه "لرسكولينكوف" أساسا، يؤدي ما عليه وما يريد، تنتابه الهواجس والكوابيس، وأمام جندي لا ينفك أن يقول:" ليس هناك المكان الذي تريد" يستل مسدسه ويسدده على صدغه الأيمن ويضغط على الزناد منهيا بذلك دوره في دراما فعلا قوية .
    ويتفاجأ "رسكولينكوف"- وهو في قسم الشرطة- و(يرتعد) حين يعلم بمصير "سفيدريكايلوف" ، ويشعر "كأن حملا ثقيلا قد انهار فوقه وسحقه"، ليخرج ويعود في نفس اللحظة ويعترف بالجريمة..

    بالطبع ستختلف الآراء والقراءات حول "سفيدريكايلوف" كما حصل و"رسكولينكوف" ولو عمومها سيتجه لكون الأول صورة المجرم بطبيعته يستغل ماله وصلاته في الحصول على مراده وإشباع ميوله الشاذة، وأنه أمثولة لأشخاص كثيرين موجودون حتى الآن بيننا، وأيضا لكونه صورة للعدمية في الرواية..

    إن دوستويفسكي لم يقصر أسباب الانحراف على المجتمع والأفكار الثورية فحسب بل أيضا جعل للنفس والشر فيها دورا هاما ومؤثرا، وربما كان هذا السبب في كون "سفيرديكالوف" يمثل دور من يكون الشــر فيه أكثر منها ضغوط مجتمع وأفكار ومثل ثورية، والتي ممكن إصلاحها باعتبارها شيء دخيل على نفس نقية، لكن من يعتبره-شذوذه- طبيعيا فيقول مرة:" أعلنت لها استحالة بقائي مخلصا لها كل الإخلاص" ولعل نهايته الدموية هي رأي آخر للكاتب أن من كان الشر فيه فإصلاحه صعب أو حتى مستحيل، وأنه إما سينتهي للجنون أو الانتحار..

    فلم اختلف مصير الاثنين وهل قصد دستويفسكي بذلك كون أنه بذرة الشر هي التي تقضي على الإنسان وليست فقط الظروف الاجتماعية والفكرية وإن أورد لها حسابا هاما في معرض نقده الواضح للأفكار السائدة في ذلك العصر؟!

    صحيح أن الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، لكن دستويفسكي- المؤمن بالمسيح- لعله يؤكد هنا حيوية جوهر الإنسان وأنه هو فقط يمتلك الحق في اتخاذ قراراته، فدوستويفسكي- كما يوافق الكل- يقوم في نهاية رواياته بعملية تطهيرية لمعظم الشخصيات، فهل كان انتحار "سفيدريكايلوف" تطهير، أم أنها حالة أخرى لعدم جدوى إصلاح بعض النفوس؟!

    إلى جانب كون الإيمان يلعب دورا كبير في روايات دستويفسكي فهو وعلى الرغم من مقولة البعض أنه تكلم عن العدمية أو تجاوزوا للقول بأنه عدمي!، إلا أن دستويفسكي ينتهي دوما بأولئك غير المؤمنين في رواياته – "الجريمة والعقاب"، "الأخوة كارامازوف"- إلى الجنون كما حصل لـ"ايفان"، والانتحار كما "سمرد ياكوف" في "الأخوة كارامازوف"، و يمكن أيضا أن ندرج "سفيدريكايلوف" فهو مثل للإلحاد والعدمية وهي التي تقول بأنه "مادام الله غير موجود إذن كل شيء مباح"..وإن كنت لا أذكر إن تحدث "سفيدريكايلوف" عن إيمانه من عدمه أم لا حاليا! :)

    الخوض في نفسيات شخوص "الجريمة والعقاب" مغامرة لا تنتهي ولا ينضب معينها!.
    قال جوته مرة "أن تكون عظيما يعني أن لا تنتهي" وقد كسب دستويفسكي ذلك بتقدير عالٍ ومستحق ويثني النقاد على ذلك بقولهم أن روح الجريمة والعقاب ستحلق على روايات القرن الواحد والعشرين..


    جملة دوما تجتاحني في أمر كهذا ولا أدري هل أنسبها لبوارو بطل أغاثا كريتسي أم اختلفت عليّ الروايات الكثيرة في ذلك الوقت، المقولة هي كــ " الرجل يمكن أن تكون نهايته على يد امرأة (شريفة)"..
    ولعل هذه المقولة الآن تنطبق على كل من "رسكولينكوف" و "سفيرديكالوف" الذي اختار كل واحد منهما إحدى نهايتين أو خلاصين قادتهما أو ساعدتهما في ذلك المرأتين التي أحباهما!

    ومن ناحية أخرى قال بوارو أيضا لامرأة أو ذات المرأة فيما معناه " يمكن أن تحبي لصا لكن لا يمكن أن تحبي قاتلا"!



    * "الجريمة والعقاب" الترجمة الكاملة_ الجزء الثاني
    عن دار مكتبة الحياة

    المصدر: هنــــا! :)
  • 14/06/2007, 08:42 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة
    من أطل الغياب عاد بالغنائم

    آه ياريت :)

    أهلا بك
  • 14/06/2007, 08:28 PM
    طارق شفيق حقي

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    من أطل الغياب عاد بالغنائم
  • 14/06/2007, 03:37 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    4- في التكنيك الفني للرواية

    تعتبر "الجريمة" والعقاب أول رواية اجتماعية فلسفية لدوستويفسكي وذلك لأن تصوير واقع حياة الشخصيات في الرواية ينفصل عن وصف أبحاثها الفلسفية والأخلاقية.


    وتتصف "الجريمة والعقاب" بتلك السمة العامة المميزة لروايات دوستويفسكي ألا وهي الشكل الدرامي، فالرواية تتصف بديناميكية الأحداث وتوترها، وبالجو المحموم الذي تجري به الأحداث التي تحدث في زمن محدود ومكان محدود، فدستويفسكي عادة ما يتجنب في رواياته البسط الواسع للزمان والمكان.
    والكاتب لا يبدأ روايته بالحديث عن ماضي وحياة بطله السابقة للجريمة، بل يدخل سريعا بالقارئ إلى الأحداث الهامة في الرواية ويقترب للتو من نقطة حاسمة بالرواية، فنجده بعد سرد سريع لأحداث اليوم الذي سبق الجريمة ينتقل مباشرة بعد ذلك لوصف أحداث الجريمة نفسها التي تمثل حبكة الرواية.

    وكما سبق أن أشرنا "فالجريمة والعقاب" تنقسم إلى جزأين: جزء صغير يتناول وصف تنفيذ الجريمة، وجزء أكبر يصف عقاب البطل، وهو الجزء الذي يتسم بالتحليل النفسي العميق، وتغلب عليه السمة التراجيدية فالبطل نتيجة للجريمة التي قام بها موضوع أمام اتخاذ قرار يتوقف عليه كل مصيره التالي ووجوده، وفي جميع الأحوال يبدو هذا المصير مظلما وتعسا.

    إن دوستويفسكي يأتي في الرواية كشاهد عيان يسمع كل شيء، وينصت إلى وجهات نظر شخصياته، وينظر إلى العالم بأعينهم، وهو أحيانا يحكي عن بطله الرئيسي بضمير الغائب، وأحيانا أخرى يلتحم صوت الكاتب بصوت بطله، وأحيانا يبدو أن البطل يحكي بنفسه للكاتب عما يحدث.

    ودستويفسكي لا يصف الأحداث من وجهة نظر المراقب الخارجي الذي لا علاقة مباشرة له بالأحداث، بل يمر بالأحداث خلال استيعاب بطله الرئيسي وتبعا لحالته النفسية الداخلية، ولذا فإن سرعة أو بطء الأحداث تتغير تبعا لحالة البطل، فنجد الأحداث أحيانا تحدث في بطء وذلك مثلما حدث في لقطة قتل العجوز..وأيضا اللحظات التي تصف المعاناة النفسية لرسكولينكوف، وأحيانا أخرى نجد الكاتب يسرع بزمن الأحداث في كثير من اللقطات التي تصف لقاءات رسكولينكوف لمختلف الشخصيات. ولا يلعب وصف المكان والشخصية عند دوستويفسكي دورا مستقلا، بل يعتبر جزءا من الحدث والمضمون، فمثلا وصف الكاتب لحجرة رسكولينكوف الكئيبة أو للحانة التي يتقابل فيها رسكولينكوف في بداية الرواية مع مارميلادوف والد سونيا..لا يعتبر وصف هذه الأماكن شيئا مستقلا بل هو يلعب دورا مساعدا في كشف صورة العالم المادي المحيط بالبطل والذي بعث فيه النفور والسأم.

    وأما وصف الشخصية، فهذا الوصف يساعد كثيرا في تفهم طبيعتها وصفاتها، من ذلك وصف ليزافيتا "المسكينة" أخت المرابية، فقد وصفها الكاتب من خلال استيعاب الطالب الذي كان يجلس بالقرب من رسكولينكوف بالحانة ويتحدث مع الضابط عن المرابية، وصفها بالتالي: "لقد كانت تعمل ليلا ونهارا، وكانت تعمل بمنزلها بدلا من الطباخة والغسالة وعلاوة على ذلك كانت تحيك الملابس وتبيعها وكانت تعمل حتى بالأجر في مسح الأرضيات وكانت تكسب النقود، وكلها لأختها ( المرابية ) ولم تكن تتجرأ أن تأخذ على عاتقها أي قرار كطلب شراء أو أي عمل بدون إذن العجوز....وكان وجه ليزافيتا طيبا وعيونها أيضا طيبة للغاية بدليل أنها كانت تعجب الكثيرين....وهي هادئة ووديعة وحليمة، ومطيعة، مطيعة في كل شيء"
    لقد انطبع هذا الوصف لليزافيتا في ذاكرة رسكولينكوف وقت قتله لها، وبعد ذلك كان يتذكر في عذاب فتله لليزافيتا المسكينة التي كانت بلا وعي منه ترتبط صورتها المستغلة المظلومة في ذهنة بصورة سونيا.

    وفيما يتعلق برسكولينكوف فالكاتب لا يصف للتو لك حياته وظروفه وأفكاره ومشاعره، بل يدخل بالتدريج في الرواية معلومات عن ظروف حياته وعن تلك الأفكار والمشاعر التي تراوده، فمثلا بالنسبة "لفكرة" رسكولينكوف- وكما شاهدنا – فهي لا تبدو واضحة للقارئ في البداية، كما أن معتقدات البطل المختلفة والتي تناولها في حديثه مع المحقق عن مقالته وفي حديثه حتى مع سونيا لا توضح مباشرة أبعاد "الفكرة" بل نتبين هذه الأبعاد تدريجيا كلما انغمسنا أكثر وأكثر في عالم أفكار رسكولينكوف قد تبدو في نظام لا يتسم بالمنطق والتسلسل بل هي تبدو أو تخفى تبعا لحالته النفسية وطبيعة من يتحدث إليه.

    .

    .
    و......
    .

    .

    يتبــــــع.......
  • 14/06/2007, 03:25 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    مـــن هو رسكولينكوف..؟

    إن رسكولينكوف شاب جامعي وهب الذكاء والقدرة على التأمل والتحليل فيما يحيط به، وهو شهم بالطبع، كريم يجود بآخر ما في جيبه من أجل مساعدة الآخرين كما أنه مدافع عن الحق والمظلومين.. ورسكولينكوف حساس بالطبع يحب الطبيعة ويعشق الزهور "التي كانت تشغله بوجه خاص" كما أنه يقدس الأطفال.

    لم يكن لرسكولينكوف بالجامعة أي أصدقاء، إذ كان حسب وصف الكاتب له يتجنب الجميع، كما لم يكن يتزاور مع أحد ولم يكن يسهم في أي نشاط طلابي أو ترفيهي، لكنه كان يدرس بجد ومثابرة، ورغم تقدم رسكولينكوف في الدراسة، إلا أنه فصل لعدم قدرته على سداد المصروفات الدراسية.
    وينغلق رسكولينكوف على نفسه ويعيش وحيدا في صومعته، أو حجرته الحقيرة الكئيبة يجتر فقره وألمه وحرمانه، كان رسكولينكوف يرتدي رث الثياب ويأكل أردأ الأطعمة ويبدو بين شوارع مدينة بطرسبرج كالشحاذ، والكاتب يروي لنا كيف أن رسكولينكوف في إحدى تجولاته بمدينة بطرسبرج اصطدم بعربة سيدة من الأغنياء، فتوقفت العربة، وما أن شاهدته السيدة حتى مدت إليه يدها ببضعة قروش كإحسان، فقد بدا لها من ملبسه وهيئته كالشحاذ. ولكن رغم الفقر الشديد لم يفقد رسكولينكوف كبرياءه وكرامته. وكان ينظر إلى رفقائه بالدراسة " مثلما ينظر على الأطفال، نظره من أعلى، وكان قد سبقهم جميعا في التطور والمعرفة والعقيدة، وينظر غليهم كما لو كان ينظر إلى شيء أدنى.
    كان رسكولينكوف يعيش بمفرد في مدينة بطرسبرج بعيدا عن أمه وأخته وكانت أخته على قسط من التعليم، لكنها كانت تعمل في الفترة الأخيرة كمربية لدى إقطاعي غني وهو سفيرديجالوف الذي أساء إليها كثيرا وخرجت من بيته ومن حولها الشائعات مما جعلها تفكر في الإقدام على الزواج من كهل لا تحبه هو المحامي لوجين كمخرج لها ولأسرتها من الأزمة الطاحنة التي تعتصرهم، وكان هذا الموضوع يؤرق ويعذب رسكولينكوف بشدة، فقد كان يحب أمه وأخته حبا كبيرا، أما هما فقد كانتا تحبانه لدرجة العبادة.
    إن خطاب أم رسكولينكوف الذي تحكي له بالتفاصيل عن مشروع زواج أخته من لوجين قد أثار بشدة أشجان رسكولينكوف وأحزانه إذ كان يقرأ الخطاب ووجهه "مبلل بالدموع" لقد هال رسكولينكوف تضحية أخته بنفسها من أجل إنقاذهم، وهو ما نتبينه من المونولوج الداخلي لرسكولينكوف:"إنها لن تبيع نفسها من أجل نفسها، أو من أجل راحتها، أو حتى من أجل إنقاذ نفسها من الموت، بل تبيع نفسها من أجل شيء آخر! من أجل الشخص العزيز الذي تعبده ففي هذا يتلخص الموضوع كله، من أجل الأخ، ومن أجل الأم ستبيع نفسها".
    ولكن ماذا يملك رسكولينكوف لمساعدة أمه وأخته أو حتى نفسه...؟ ما الذي يستطيع فعله كي يمنع زواج أخته من هذا الرجل..؟ كانت الأسئلة تعتصر ذهن رسكولينكوف دون أن يجد لها جوابا.

    كان رسكولينكوف يعرف فقط أنه من الضروري عمل شيء ما، أما الأسئلة الأخرى فلم يكن هناك جواب لها بعد، وهي الأسئلة التي يصفها الكاتب بأنها لم تكن جيدة أو مفاجئة " بل قديمة العهد وموجعة" وقد خلقت فيه هذه الأسئلة حسرة كانت تزداد يوما بعد يوم،"أما في الوقت الأخير فقد نضجت وتركزت واتخذت شكل سؤال مفزع وقاس، كان يعذب قلبه وعقله ويتطلب حلا دامغا"
    راودت رسكولينكوف فكرة الانتحار كمخرج من عذاب الحياة، لكن حب الحياة كان عنده أقوى، كما فكر رسكولينكوف أيضا في إيجاد عمل يرتزق منه ويساعد به أسرته، لكنه سرعان ما تبين لنفسه عدم جدوى البحث عن عمل فهو في جميع الأحوال لن يحل مشاكله ومشاكل أسرته، ولن يتمكن من الدراسة، ومن جديد دارت "الفكرة" برأسه.
    إن هذه الفكرة لابد أن تكون فكرة مريعة فقد كان مجرد تذكرها " يجعل الرعشة العصبية بداخله تتحول إلى حمى، وكان يشعر بقشعريرة ويحس بالبرد في الحر الشديد".
    إن دوستويفسكي يبرز "الفكرة" عند البطل في ارتباط وثيق بالظروف البائسة وضغط الحياة من جهة، وحياة الوحدة والعزلة من جهة أخرى، فعزلة الشباب في المدينة الكبيرة كانت تجعلهم فريسة لمختلف الأفكار والنظريات الغريبة والأحلام المريضة والمشاعر الشاذة.
    ولكن الوحدة والظروف ليست الأسباب الوحيدة التي تثمر "الفكرة" فهناك أيضا القدر الذي يسيرنا والصدفة التي تلعب دورا في حياتنا.
    إن الكاتب كان كمن يتأرجح بين شرح الأسباب الموضوعية التي تحيط بالبطل والتي كان لها دورها في دفعه للجريمة وبين أسباب أخرى غيبية خارجة عن إرادته. فدستويفسكي يحكي كيف أنه في إحدى المرات التي كان رسكولينكوف فيها عائدا إلى بيته قرر بالصدفة أن يعرج على إحدى الحانات، وهناك "بالصدفة أيضا" سمع رسكولينكوف حديثا بين شخصين كانا يجلسان بالقرب منه، يبدو أحدهما طالبا والآخر ضابطا، وكان هذا الحديث كما يصفه الكاتب "غريبا" إذ يدور حول المرابية وأختها، وكان الطالب يحكي عن أن المرابية شريرة ومتقلبة المزاج، وأنها لا تتوانى عن القصاص من زبائنها إذا تأخروا في سداد المطلوب منهم حتى ولو كان عندهم ظروف قاهرة، وأشار الطالب أنه يود لو قتل العجوز وسرق أموالها وأنه إذا ما فعل ذلك فلن يحس حينئذ بأي توبيخ للضمير، لاسيما وأن العجوز بلهاء وتافهة لا معنى لوجودها، كما أنها شريرة ومريضة وفوق كل هذا وذاك ضارة بالجميع، ولا تعرف هي نفسها لماذا تعيش، بالإضافة إلى كل ذلك وحسب رأي الطالب فإن القوى الشابة اليافعة تضيع هباء بلا سند، وهذه القوى بالآلاف في كل مكان، ونقود العجوز التي ستؤول إلى الدير من بعد موتها يمكن أن تؤتي وتدر بالكثير من الفوائد، فهناك عشرات العائلات التي تضيع بسبب الفقر وتتفكك وتموت، وتضطر للدعارة، ونقودها كان يمكن أن تصنع الكثير لمثل هذه العائلات. وهنا صرح الطالب للضابط:"أقتلها وآخذ نقودها، وذلك كي تستطيع بمساعدتها أن تكرس نفسك بعد ذلك لخدمة الإنسانية جمعاء والخير العام" وأضاف الطالب متسائلا:" ألا تكفر آلاف الأرواح المنقذة من العفن والتفكك عن التضحية بحياة واحدة؟".
    ويعلق الكاتب على شعور رسكولينكوف ورد فعله على هذا الحديث بأن رسكولينكوف كان بالطبع في اضطراب للغاية، فقد كانت هذه الموضوعات عادية ومكررة وكان قد سمعها أكثر من مرة فقط في أشكال وموضوعات أخرى، ولكن لم تحتم الآن بالذات أن يسمع حديثا كهذا وأفكارا كهذه في الوقت الذي ولدت برأسه مثل هذه الأفكار بالضبط".
    إن دستويفسكي يشير على أهمية هذا الحديث وتأثيره فيما بعد على تطوير "فكرة" رسكولينكوف كما لو كان هناك "قدر مسبق وتوجيه"، ولذا فقد عاد رسكولينكوف بعد سماعه الحديث إلى حجرته في حالة شديدة من الإعياء، ورقد بلا حراك، وتراءت له في رقدته أحلام غريبة، كان رسكولينكوف يرى نفسه فيها ضائعا وتائها في بلاد بعيدة.
    وهاهو اليوم المشئوم، يوم تنفيذ "الفكرة"، إن الكاتب يصاحب رسكولينكوف لحظة بلحظة ويسجل كل أفكاره ومشاعره، ورغم أن رسكولينكوف كان قد قرر يرم الجريمة بناءا على معرفته بأن أخت المرابية لن تكون بالمنزل وأن المرابية ستكون بمفردها، إلى أن الكاتب يحكي أن يوم الجريمة قد أتى "بالصدفة" أما في الواقع فلم يكن رسكولينكوف يتحرك بعفوية، وبلا إرادة ووعي وتدبير وتخطيط، فقط كان يراجع نفسه في كل صغيرة وكبيرة تخص الجريمة ورسكولينكوف حين يسأل نفسه عن الجريمة وملابساتها، وعما إذا كانت الجريمة تنتج عن مرض المجرم، أو إذا كانت الجريمة تصاحب بشيء ما شبيه بالمرض، فإنه يجيب على ذلك بأنه بإقدامه على تنفيذ الجريمة لا يمكن "أن تكون هناك انقلابات مرضية كهذه،وأن عقله وإرادته حاضران معه بلا تجزئة" وينفذ رسكولينكوف الفكرة ويقتل المرابية، لم يكن رسكولينكوف شريرا أو مجرما بالطبع، فلحظة أن فتحت له العجوز بنظرات شك انتابه خوف وجزع لدرجة جعلته يضيع "ويفكر في الهرب". ومنذ تلك اللحظة لازمه الخوف والعذاب، وكما اشرنا من قبل فقد كانت محاكمة رسكولينكوف الحقيقية أمام ضميره الذي لم يسمح له بأن يحصد ثمار الجريمة ولم يتركه هادئ البال ولا لحظة واحدة، أما المدعي الحقيقي ضد رسكولينكوف فقد كان هو نفسه الذي أثقل روحه وعقله بالأسئلة حول الجريمة، لقد نصب دستويفسكي بطله حكما على نفسه، ومن خلال ذلك تعرض بالحكم على كل النظريات والأفكار التي كان يؤمن بها والتي لعبت دورها في قيامه بالجريمة، ولكن على ما يبدو فرسكولينكوف نفسه تائه في أسباب جريمته ودوافعها ونحن لا نتعرف في الحال ومرة واحدة على هذه الدوافع ولكن نتبينها بالتدريج.

    في البداية وكما اشرنا برزت ظروف رسكولينكوف الصعبة كعامل رئيسي دفع به إلى الجريمة لكي يحصل على النقود وكل مشاكله ومشاكل أسرته، لكن ما حدث بعد الرحيمة لم يثبت هذا الدافع، فقد فكر رسكولينكوف في التخلص من المسروقات بإلقائها في البحر، ولم يكلف خاطره مجرد التعرف على هذه المسروقات. ورسكولينكوف المدعي يوجه لنفسه سؤالا بخصوص هذا الموضوع:"لو أن هذا العمل قد صنع حقيقة عن وعي وليس بحماقة،و إذا كان بالفعل عندك هدف محدد وثابت، فلماذا لم تحدق حتى هذا الوقت في الحافظة لتعرف ما الذي حصلت عليه، والذي بسببه نلت كل هذه الآلام وأقدمت على عمل نذل وكريه وحقير كهذا؟ نعم، لقد كنت تريد الآن أن تلقي بالحافظة إلى الماء مع كل الأشياء التي لم ترها بعد...كيف هذا" ولكن إذا كان رسكولينكوف لم يكن قد ارتكب جريمته بدافع السرقة ، فما السبب الكائن وراء هذه الجريمة..؟

    إن التعرف على مقال رسكولينكوف عن الجريمة، والذي كان قد كتبه قبل قيامه بالجريمة ونشر له في إحدى الصحف ربما يساعد في الوصول إلى دوافع جريمة رسكولينكوف، لقد لفت مقال رسكولينكوف عن الجريمة اهتمام المحقق القانوني الذي انتابه الشك في رسكولينكوف بسبب مقاله هذا والذي بدأ يناقشه في مضمونه أثناء استجوابه له بصفته أحد الزبائن الذي كان لهم صله بالمرابية القتيل....ورسكولينكوف في مقاله عن الجريمة يقسم الناس على صنفين" على "عاديين" وغلى "غير عاديين". العاديون حسب المقال يجب أن يعيسوا في طاعة وهم لا يملكون الحق في تعدي القانون لأنهم عاديون، أما غير العاديين فلهم الحق في أن يرتكبوا شتى الجرائم وأن يتخطوا القانون بشتى الطرق فهم " غير عاديين"..ويشرح رسكولينكوف بصورة أوشح فكرته هذه بالتالي "إن غير العاديين لهم الحق في أن يسمحوا لضميرهم بإزالة العوائق في حالة وجود "فكرة" يريدون تحقيقها".
    ويذكر رسكولينكوف مثالا على ذلك بأن المخترعين العباقرة من كبار العلماء أمثال "نيوتن" لم يكن من الممكن بحال أن تصبح مخترعاتهم معروفة للناس دون التضحية بحياة شخص أو عشرة أو مائة أو غيرهم ممن كانوا يعوقون هذا الكشف أو الذين يقفون في طريقه، وإلا فإن نيوتن كان سيكون له الحق، أو حتى لزاما عليه أن يبعد هؤلاء العشرة أو مائة الشخص لكي تصبح مكتشفاته معروفة للإنسانية كلها، ولكن لا يترتب على ذلك أن نيوتن كان يحق له قتل كل من يخطر له على بال".
    علاوة على ذلك ففي رأي رسكولينكوف أن "مشرعي ومنظمي الإنسانية منذ القدم وحتى نابليون كانوا جميعا مجرمين، وذلك لأنهم كانوا وهم "يعطون قانونا جديدا كانوا بذلك يحرقون القديم المبجل في تقديس من جانب الآباء السابقين، وهم في سبيل ذلك لم يتوقفوا أمام الدم لو أن الدم استطاع فقط أن يساعدهم".

    ورسكولينكوف لا يدين هؤلاء " الخاصة" من الناس ممن يمتلكون موهبة قول " كلمة جديدة" في بيئتهم إذا ما ارتكبوا الجريمة، وذلك لأن جزءا كبيرا يسعى إلى حل الحاضر من أجل المستقبل ومن ثم فهؤلاء الناس في اعتقاد رسكولينكوف يمكن أن يسمحوا لأنفسهم " بالعبور خلال جثة، خلال الدم".

    وينتهي شرح رسكولينكوف لمقاله دون أن يتمكن المحقق من إمساك أية أدلة مادية ضد رسكولينكوف، فرسكولينكوف نفسه دارس للقانون، وهو على درجة عالية من الذكاء تمكنه من المراوغة في الحديث، وكان على يقين من أن هذه الأحاديث الطويلة من جانب المحقق بغرض إيقاعه لا تعني شيئا سوى أنه ليس ثمة "أدلة مادية" ضده، وأنه ليس عندهم " أي حقائق حقيقية أو شكوك لها أساس بقدر ما".
    ولكن هل كان رسكولينكوف يعتبر نفسه من " غير العاديين " الذين يسعون إلى " حل الحاضر من أجل المستقبل"، ولو عبر الدماء؟

    إن رسكولينكوف نفسه يتيه في دوافعه، ومن الصعب بعد التأكد من دوافع جريمته، فاعترافاته الذاتية متضاربة وهو على ما يبدو ينكر الحقيقة حتى عن نفسه، ويبدأ رسكولينكوف في كشف حقيقة دوافعه بصراحة وصدق أكثر مع سونيا، الشخص الوحيد الذي بقي على صلة به في الفترة التي سبقت توجهه للاعتراف، لقد جمعت رسكولينكوف وسونيا مشاعر العذاب والضياع وتوبيخ الضمير، فكلاهما " ملعونان" كما قال رسكولينكوف نفسه لسونيا.
    وتوطدت علاقة رسكولينكوف بسونيا بعد مصرع والدها مارميلادوف الذي كانت تربطه علاقة معرفة برسكولينكوف، قد أسرع لنجدة مارميلادوف بعد أن شاهده قتيلا في أحد الشوارع، ومنذ ذلك الوقت بدأت لقاءات رسكولينكوف وسونيا، لقد تجسد لرسكولينكوف في شخص سونيا كل "عذاب الإنسانية" مما جعله يسجد عند أقدامها وذلك رغم رفضه في البداية لفلسفتها في الحياة. إن لقاءات رسكولينكوف وسونيا بالرواية والجدل الذي كان يدور بينهما تلعب دورا كبيرا في المضمون الفلسفي للرواية، فرسكولينكوف في أحاديثه مع سونيا كان كثيرا ما يربط بين مصيره ومصيرها ويحاول أن يجد في تصرفاتها وآرائها في الحياة حلولا لمشاكل حياته ووجوده.

    فسونيا رغم احترافها الدعارة من أجل طعام إخوتها الجياع تبدو في ذات الوقت-على خلاف رسكولينكوف- شديدة التدين ومؤمنة بقدرها وعذابها، وهو ذلك التناقض الذي أشار إليه رسكولينكوف وتعجب منه فهو يقول لها:" كيف يتعايش بك مثل هذا العار وهذه الحقارة جنبا على جنب مع مشاعر أخرى متناقضة ومقدسة؟".

    ورسكولينكوف يتعجب بشدة من قدرة سونيا على المعاناة والصمود أمام الحياة المهينة التي تعيشها رغما عنها، فهو لا يستطيع أن يتحمل مثلها هذه المعاناة النفسية، وهو يقول لسونيا بعد ذلك " إنه لأعدل واعقل ألف مرة لو أنك كنت قد ألقيت برأسك مباشرة في الماء وانتهيت مرة واحدة".
    لقد كانت سونيا المهانة الذليلة هي الشخص الذي باح له رسكولينكوف بسره واعترف له بجريمته، ورغم تقبل سونيا لهذا الاعتراف ورغم رفضها لإراقة الدم أيا كانت الدوافع إلا أنها لم تنبذه عن طريقها ولم تستدر له.
    وها هي سونيا هي الأخرى تبرز في دور المحقق فتسأل رسكولينكوف عن الأسباب التي دفعته للجريمة فيجيبها في البداية: "كي أسرق"، فهل هذه هي الحقيقة؟؟.
    إن رسكولينكوف يعرف جيدا أن هذا ليس هو الحقيقة، فهو نفسه يقول لها: لو أنه "قتل بسبب الجوع، لكان عندئذ سعيدا". وسونيا هي أيضا تعرف أن هذا ليس السبب الوحيد، فهي تعلم جيدا أن رسكولينكوف قدم لعائلتها آخر ما بجيبه من نقود..ويحاول رسكولينكوف أن يبرر جريمته أمام سونيا متعللا بنفسه وطبيعتها بعد أن لاحظ أن سونيا لا تصدق أن جريمته بغرض السرقة وهو لهذا يقول لها:" إن قلبي شرير، لاحظي هذا، ولذا يمكن تفسير الكثير" وأضاف بأنه من الممكن أيضا افتراض أنه "محب للنفس وحسود وشرير ورذل وميال للانتقام وأيضا إلى الجنون" ولكن لا، فنفسه الميالة للشر ليست هي السبب المباشر أو الوحيد، إن رسكولينكوف يتراجع في اعترافه هذا، ليبدأ في الإفصاح عن الأسباب الجوهرية التي دفعته إلى الجريمة، فقد أراد "أن يصبح كنابليون" ولم تفهم سونيا البسيطة الساذجة بعض الشيء هذا الكلام، فقد بدا لها غير مفهوم، ولذا فقد بدأ رسكولينكوف يبسط لها "فكرته" التي ولدت في جو "السخط" الذي كان يعيشه، ذلك السخط الذي كان-كما يحكي- نتيجة للحياة الحقيرة التي كان يعيشها، فكما يقول:"إن الأسقف المنخفضة والمجرات الضيقة تضيق على الروح والعقل! آه، كم كنت أكره هذه العيشة! ومع ذلك كنت لا أرغب في الخروج منها، كنت لا أريد عن عمد..كنت لا أخرج أياما ولا أريد العمل، ولم أكن أريد الأكل، وكنت أرقد طوال الوقت، فإذا أحضرت ناستاسيا الطعام ( خادمة الدار ) كنت آكل، وإذا لم تحضر فلا، كان يمر اليوم دون أن أسأل عمدا من السخط! وبالليل لم يكن هناك ضوء، وكنت أرقد في ظلام ولا أرغب في العمل على ضوء شمعة، كان يجب أن أدرس، لكني كنت قد بعت كتبي وكانت المذكرات ترقد عندي على المائدة، نعم والكراسات التي يرقد عليها الآن التراب بعلو الإصبع. وكنت أفضل الرقاد والتفكير، كنت أفكر طوال الوقت...ومع ذلك كانت عندي أحلام غريبة، أحلام مختلفة، لا داعي للكلام، أي أحلام، بيد أنه فقط آنذاك كان قد بدأ يتراءى لي..."

    إن رسكولينكوف في رقاده الطويل وتأملاته الكثيرة في الواقع المحيط به قد وصل إلى أن الناس باتوا يعيشون في مجتمع الغابة، فالقوي يلتهم الضعيف، والقوي هو الذي يحكم الناس، وكما يقول " فالجامد القوي العقل والروح هو ذلك الذي له عليهم سلطان! من سيتجرأ كثيرا فهو على حق عندهم، من يستطيع البصق أكثر يكون هو المشرع، من يستطيع التجرؤ أكثر يكون أحقهم جميعا". لقد بات قانون الغاب هذا "عقيدة وقانون" رسكولينكوف، ومن ثم صارت القوة والسلطة مطمعه وحلمه، لكن السلطة والقوة لا توهبان بل يجدر "التجرؤ" وانتزاعهما، ولذا فقد قرر رسكولينكوف كما قال لسونيا " أردت أن أتجرأ وقتلت".



    رسكولينكوف بين النظرية والتجربة:

    في جو من الحرمان والفقر الشديد الذي يحرم طالبا موهوبا من دراسته وفي الحجرة الكئيبة الخانقة، ولدت عند بطل دوستويفسكي "الفكرة" التي قادته إلى الجريمة، إن الفكرة تعتبر سمة مميزة لروايات دوستويفسكي التي يبرز بها نمط البطل المفكر ذي الأبحاث الفلسفية، ومن ثم فالفكرة عند دوستويفسكي –وكما يقول الناقد تشتشيرين- تصبح في الرواية "مركزا وبدورها بطلا للرواية".

    إن رسكولينكوف ذا الشخصية المتأملة المفكرة قد وصل إلى "الفكرة" بناء على نظرية كاملة لخص بعض نقاطها الأساسية في مقالة عن الجريمة والذي سبق أن تناولناه، وبناء على هذه النظرية خطط رسكولينكوف في عناية لجريمته، وقرر أن يجرب "النظرية" أو مفهومه عن الشخصية "غير العادية" التي يحق لها أن تقول كلمتها وأن تجد حلا للحاضر من أجل المستقبل ولو عبر الدمــا..لقد قرر رسكولينكوف أن يقوم بالتجربة ليتأكد عمليا إلى أي من الناس ينتسب، ومن ثم فهو لم يذهب عفويا أو متهورا إلى الجريمة بل "كالذكي"، فقد كان يلزمه أن يعرف كما قال لسونيا هل هو "قملة كالجميع أم إنسان" هل سيستطيع أن يتخطى أم لا؟ هل سيتجرأ على الانحناء وأخذها أم لا..؟ هل هو "مخلوق مرتجف أم يملك الحق".

    وفشلت التجربة، وسقط البطل، لقد ظهر انفصال تراجيدي بين "حسبة" رسكولينكوف للجريمة وبين الحياة الحقيقة، فقد خطط رسكولينكوف لقتل المرابية "الهراء" الظالمة، لكنه اضطر لقتل شقيقتها البريئة ليزافيتا والتي لم يحسب حسابا لقتلها، والكاتب كما لو يريد الإشارة بذلك إلى أن الشر عادة ما يجر وراءه شرا آخر. وبالإضافة لذلك فإن قتل ليزافيتا "المسكينة"- كما كان يذكرها رسكولينكوف بعد قتلها-اكتسب معنى رمزيا في الرواية فالكاتب كان يقارن كثيرا بينها وبين سونيا المظلومة الذليلة، ولذا فقد أخطأ رسكولينكوف حين كان يتصور أحيانا أنه بجريمته سينتقم من عالم الظلمة، فقد ضل هو بهذه الجريمة على هذا العالم الظالم الذي يظلم ويضطهد الأبرياء أمثال سونيا وليزافيتا.

    والأهم من ذلك كله أن رسكولينكوف كان يتصور وهو يخطط لجريمته أنه سيستطيع أن يقف في جانب الشر دون تهديد للضمير، لكن العكس حدث، إذ لم يستطع أن يتحمل وزر العذاب النفسي الرهيب الذي لازمه بعد الجريمة فهو بطبعه إنسان خير وشهم ومحق، ومن ثم بات واضحا أن طبيعة البطل لم تكن متكافئة مع "الفكرة" وأن هذه "الفكرة" لم تكن سوى مجرد جزء صغير من نفسه، وقد دخل هذا الجزء في تناقض مع طبيعة البطل، وأكدت التجربة لرسكولينكوف وكما قال لسونيا "أنه لم يكن له الحق في الذهاب" لأنه كما يقول "نفس القملة كالجميع".
    لقد بات واضحا بالنسبة لرسكولينكوف أن طريقه كان طريقا خادعا، وفكرته كانت خاطئة لم ينل من ورائها سوى الموت الروحي، وتبدل مثل رسكولينكوف الأعلى، ولم يعد يتطلع على "غير العاديين" فهو لم يجد السلوى والطمأنينة على عند "العاديين"، إذ برزت سونيا المحطمة المعذبة كملاذ أخير له، وكانت هي الشخص الذي "نشد فيه الإنسان حين كان يلزمه إنسان"، كما أصبح طريقها طريقة، ألا وهو طريق المعاناة والصبر والبعث الديني، وهو الطريق الذي كان يسخر منه رسكولينكوف من قبل. إن رسكولينكوف قبل أن يتوجه للاعتراف يسجد على الأرض في أحد الميادين وبين "العاديين" ويقبل الأرض "القذرة" في "لذة وسعادة".

    ورسكولينكوف لا يبتعد فقط عن نظريته، ولا ينبذها فقط عن طريقه، بل تصبح بالنسبة له مصدرا للاشمئزاز، فحين شاهد رسكولينكوف-عند أمه حيث كان ذاهبا إليها لوداعها قبل التوجه للاعتراف- مقالة عن الجريمة الذي يلخص فيه نظريته، اعتراه الحزن والهم،"وتركز به كل صراعه الروحي في الشهور الأخيرة مرة واحدة، فألقى بالمقال في نفور وهم على المائدة".

    ورسكولينكوف رغم معرفته بالحكم الذي سينتظره بعد الاعتراف إلا أنه لم يفقد تفاؤله بالمستقبل، وهو يودع أخته قائلا" سأحاول أن أكون شجاعا وشريفا طوال حياتي، رغم أنني قاتل، وربما ستسمعين اسمي في وقت من الأوقات".

    وفي المنفى حيث كان يقضي رسكولينكوف فترة عقوبته في سيبيريا، وحيث كانت سونيا في جواره، يحدث تحول وبعث برسكولينكوف، ويحدث الالتحام بين روحي رسكولينكوف القاتل السابق وسونيا الخاطئة، فقد رحلت سونيا على سيبيريا وراء رسكولينكوف واستقرت هناك لكي تكون قريبة منه، واستطاعت أن تكون لنفسها معارف وأصدقاء، وأن تجد لنفسها عملا شريفا تعيش منه بعد أن امتهنت مهنة الحياكة، إن رسكولينكوف وسونيا يبعثان من جديد، "فقد بعثهما الحب، واحتوى قلب أحدهما على منابع لا نهائية من الحياة من أجل قلب الآخر".

    لقد طريق رسكولينكوف صعبا وشائكا، بيد أنه ليس من العسير ملاحظة تعاطف الكاتب مع بطله "المجرم" فرسكولينكوف لم يكن فقد جانيا، بل كان أيضا مجنيا عليه، وإذا حاولنا أن نلخص لدوافع جريمته فسنجد أنها مركب متشابك من الدوافع الذاتية والموضوعية، فمن جهة دفعت الظروف الصعبة اليائسة برسكولينكوف إلى حياة الوحدة والانطاء مما أعطاه فرصة الانغماس في التأملات والأفكار، وكشفت تأملات رسكولينكوف عن واقع يسوده الظلم ويسيره قانون الغاب، ومن ثم اهتدى البطل إلى "فكرته" كمخرج من ضائقته وكحل لآلامه. بيد أن ظروف رسكولينكوف ليست الدافع الوحيد للجريمة فهناك أيضا نفسه المهزوزة المريضة، فهو يبرز كشخصية منطوية منفصلة عن الناس ومغرورة ومتعالية، مما يسمح بتغلغل مثل هذه الفكرة التي خلقت به وعيا مريضا بدا من خلاله كل شيء أمام رسكولينكوف قاتما وشريرا.

    وعليه فإن أيا من الأسباب الذاتية البحتة التي ترتبط بنفس البطل وحدها أو الموضوعية الاجتماعية الخاصة بظروفه لا تكفي، فقد كان لكل هذه الأسباب جميعها متضافرة دورها وعلاقتها بارتباكه الجريمة.

    ورسكولينكوف يعتبر بلا شك حلقة جديدة في سلسلة الرواية الروسية التي تصور الشاب المعاصر ومشاكله الاجتماعية والنفسية، وصورة رسكولينكوف ذي التكوين العقلي الفردي النابليوني وذي الأحلام الطائشة ليست بالجديدة على الرواية الروسية فقد سبقتها صور شبيهة، ولعل رسكولينكوف بتجربته الذاتية يذكرنا ببيتشورين بطل ليرمونتوف في رواية "بطل العصر" التي سبق أن تناولناها وبالذات في الجزء من الرواية الذي يذهب فيه إلى "بثامان" مع الفارق في الظروف التي تغيرت بتغير الزمان.

    وشخصية رسكولينكوف تتميز بالعمق في التحليل وهي تعتبر بحق-كما أشار العديد من النقاد-ذخيرة عبقرية لدستويفسكي في تطوير الرواية الروسية. وأهمية رسكولينكوف لا ترتبط فقط بالتحليل النفسي البارع وأيضا الفني لأخطاء البطل وتجربته، بل ترتبط أيضا بتلك الموضوعات الفلسفية والأخلاقية الهامة التي تطرق غليها الكاتب من خلال بطله والتي نلخصها فيما يلي:

    أولا: فيما يخص استخدام الجريمة كأسلوب من أساليب الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي ومن أجل حل مشاكل الحاضر، فقد رفض الكاتب تماما هذا الأسلوب ولا أدل على ذلك من المأساة التي انتهى إليها البطل بعد الجريمة، وخير شاهد على ذلك أيضا تعليق الكاتب على حالة بطله بعد الجريمة وهو في بيت العجوز، فقد كتب عن رسكولينكوف يقول:" لو أنه فقط تمكن أن يدرك كل صعاب حالته، وكل فظاعتها وسخافتها، ولو أنه تفهم آنذاك كم من الصعاب وربما أيضا الشرور مازال أمامه تخطيها كي يخرج من هنا ويصل على منزله، لربما كان ألقى بكل شيء للتو وذهب بنفسه يعلن عن نفسه، لا بسبب الخوف على نفسه، بل بسبب الرعب نفسه والازدراء من ذلك الذي صنعه".

    ثانيا: فيما يخص تفسير الكاتب للجريمة كظاهرة كائنة فقد اختلف دستويفسكي مع علماء الاجتماع الذين يربطون الجريمة بالظروف المحيطة وحدها، فقد شاهدنا الكاتب وهو يحاول أن يجسد تفسيرا لجريمة رسكولينكوف في نفسه هو، إذ كان دستويفسكي يعتبر أن البيئة وحدها لا تكفي لتفسير الجريمة، هي ليست بالمصدر الرئيسي للشر، فهناك أيضا نفس الإنسان ذات الجانبين ( الخير والشر )، وهذه الازدواجية من شأنها أن تكون مصدرا للشر، ولذا نجد الكاتب يسخر صراحة في روايته من الآراء التي "لا تأخذ في الحسبان الطبيعة" وهو لهذا يرى أنه من أجل تحطيم الشر لا يكفي تغيير البنيان الاجتماعي، بل يجب تغيير الإنسان نفسه، وما حدث مع بطله. ومن هنا يصبح واضحا تأرجح الكاتب بين شرحه للمؤثرات الغيبية والموضوعية التي أثرت على البطل.

    ثالثا: تعرض الكاتب من خلال نقده "لنظرية" رسكولينكوف أو "فكرته" لموضوعات الفكر الثوري والثقافي الأوروبي المعاصر له، ففيما يخص موقف الكاتب تجاه الفكر الثوري المعاصر له فقد ربط الكاتب بين احتجاج رسكولينكوف الفوضوي بالجريمة وبين الفكر الاشتراكي الثوري، وقد ألمح إلى ذلك وكما أشرنا في مواضع مختلفة بروايته، منها على سبيل المثال أللقطة التي تحكي عن حديث الطالب للضابط وهو الحديث الذي سمعه رسكولينكوف فجأة، وهو الحديث الذي يمثل حسب وصف الكاتب "الأحاديث" و"الأفكار الشابة" والذي كان يدور مثله تماما برأس رسكولينكوف. كما هاج الكاتب أيضا على لسان رسكولينكوف الفكر الليبرالي المعاصر الذي كان ينادي بالتقدم البطيء التدريجي للحياة والحضارة، فبطله يقول " لا، إن الحياة تعطي لي مرة واحدة، ولكن لن تكون أبدا مرة أخرى، وعليه فلست أريد انتظار "السعادة العامة" فأنا نفسي أريد أن أعيش، وإلا فالأفضل ألا أعيش".
    وقياسا على ذلك يمكن فهم فلسفة الكاتب ونظرته للتغيير فقد كان يسعى إلى أن يجد "الإنسان بالإنسان"، ومن ثم كان بعثه لبطله بعثا دينيا وأخلاقيا وروحيا.
    .
  • 14/06/2007, 03:21 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    3 – رسكولينكــوف:

    من هو رسكولينكوف؟ هل هو شخص غير طبيعي كان يعاني من أمراض نفسية تدفعه إلى الانتقام من الناس كي يعيش بعد ذلك كل هذه الآلام من عذاب الضمير؟ أم هو شخص يدعي دور المصلح الاجتماعي الذي يحاول التخلص من الشر دون أن يتفادى هو نفسه هذا الشيء؟ أم هو شخص " غير عادي" كما كتب هو نفسه في مقال عمن أسماهم بالأشخاص "غير العاديين" الذين يحق لهم أن يقولوا كلمتهم حتى ولو اضطرهم ذلك إلى تخطي أي عقبة في الطريق؟

    أم هو خليط من هذا وذاك معا في تركيبة متضاربة ومتناقضة معقدة، إن رسكولينكوف ورغم كل الغموض الذي لازم شخصيته إلى أنه في ذات الوقت يمثل نموذجا لأبطال دوستويفسكي المحبوبين، فأبطاله عادة يعيشون حياة روحية مضطربة ويطبعهم الفكر والألم والعذاب. وقد أثارت شخصية رسكولينكوف بالذات من بين أبطال دستويفسكي جدلا طويلا حولها، واختلفت آراء النقاد في تحليلها؟ فقد شاهد البعض فيه نفسا مريضة مهتزة العقل ومن ثم فهو لا يؤاخذ على جريمته، فمثلا الناقد سوفورين يقول:" إن رسكولينكوف شخص مريض، ذو طبيعة عصبية وختل التفكير، ولذا فإن قتل العجوز الشريرة ليس بجريمة".
    ومثل هذا التفسير لا يعتبر صحيحا وكافيا، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار كل الظروف الموضوعية المحيطة بالبطل والتي كان لها دور كبير في ارتكابه للجريمة.
    أما بعض النقاد الآخرين فقد شاهدوا في جريمة رسكولينكوف تعبيرا عن "دراما الفكر التي ظهرت في الغرفة الخانقة الضيقة كالنعش"
    ومثل هذا الرأي لا يأخذ في الاعتبار جوانب الضعف بشخص رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف " منتقما للإنسانية البائسة ولذل وآلام سونيا مارميلادوف".
    وهذا الرأي لا يعطي أهمية " الفكرة" أو النظرية لدى رسكولينكوف والتي كان لها دورها في ارتكاب الجريمة، وإلى جانب هذه الآراء كانت هناك آراء أخرى تربط بين شخصية رسكولينكوف وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية، وهو الرأي الذي هوجم بشدة من جانب ممثلي هذه الحركة. وعموما فرسكولينكوف يعتبر من أعقد شخصيات الرواية الروسية، وربما كان رسكولينكوف نفسه لا يفهم نفسه جيدا فأي إنسان هو؟ أشرير؟ أو ×ير؟ أو مصلح بطريقته..؟ أم هو خليط من كل هؤلاء معا.
    سنحاول في هذا الجزء أن نتأمل شخصية رسكولينكوف، علنا نجد لها بعض التفسير...
  • 14/06/2007, 03:08 PM
    نيرفانا

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    <<لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.>>

    وعليكم السلام..

    تفضلــ/ي الرابط هذا :)

    http://abooks.tipsclub.com/index.php?act=view&id=5541

    توجد المجموعة الكاملة
  • 05/02/2007, 11:53 AM
    chatter_lb

    رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

    السلام عليكم


    الاخوة الكرام

    لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.

    يرجى ممن يعرف شيئا عن الموضوع مراسلتي على chatter_lb@hotmail.com
    ولكم جزيل الشكر
هذا الموضوع لدية أكثر من 12 ردود. اضغط هنا لعرض الموضوع بأكمله.

ضوابط المشاركة

  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •