Post a reply to the thread: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
Click here to log in
Please enter the six letters or digits that appear in the image opposite.
You may choose an icon for your message from this list
Will turn www.example.com into [URL]http://www.example.com[/URL].
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *الحَرّاتـــــــون* ........................ أدركت أن هناك من سبقنى إلى دخول الحجرة .. لم أكن جاوزت الباب عندما بدا الأثاث القليل فى غير المواضع التى تركته عليها : السرير المعدنى الصغير لصق الجدار ، نزعت الملاءة عن المرتبة الإسفنجية ، وما كان على المكتب ـ فى الناحية المقابلة ـ من كتب وأوراق وملفات ، تناثر على الأرض . حتى لوحة المنظر الطبيعى المعلقة على الجدار ، انتزعت من مكانها ، واختلطت بالأوراق المتناثرة على الأرض ، وطوح بالكرسى ناحية الباب .. بدا ما حدث رسالة تؤكد أن من سبقنى لدخول الحجرة ، أراد إبلاغى رسالة بقدومه ، وأنه قدم لمهمة لم أعرف إن كانت قد تحققت .. تسلمت مفتاح الحجرة فى اليوم الأول لنزولى الفندق ، لكننى كنت أتركها مفتوحة . ينفض عبد الرحمن ما يهب عليها من الأتربة ورمال الصحراء ـ فى تلك الأيام من يونيو 1975 ، الشديدة السخونة ـ يعيد تسوية الفراش ، ربما استبدل الملاءة وأغطية الوسائد إن تبين فيها رائحة العرق .. تخلى عبد الرحمن عن نظراته الصامتة وتجهمه : ـ جاءوا فى الصباح .. لم أكن أقوى على مواجهة نظراته . شىء ما لم أتمكن من تحديده ، يثيرنى فى صمته ونظراته الساكنة ، هى نظرات تجمع بين الغضب والرفض والكراهية . أتعمد ، فلا أنظر إليه مباشرة ، حتى لا يفطن إلى ارتباكى . لا أكرهه ، ولا أتعالى عليه ، وإن حرص على أن يقيم ـ بتصرفاته الصامتة ـ جداراً بينى وبينه . ينصت ، ويجيب عن الأسئلة ، وينفذ الأوامر ، دون أن يغادر الجمود ملامحه .. قلت : ـ أنت تثيرنى بتصرفاتك .. قال : ـ لا أتأخر عن مطالبك .. ـ ليس هذا ما أعنيه . أنت تقيم جداراً بينك وبينى .. ـ أنا خادم .. أنت السيد الذى يأمر .. ـ أنا ضيف ، لا شأن لى إن كنت خادماً أم سيداً .. ـ عملى أن أظل فى خدمتك .. أطلقت أف مستاءة : ـ تصر على مضايقتى . بدا لى أن العداء هو ما يربطه بى . لا تشغله محاولاتى لاجتذاب صداقته . يتحصن بالصمت حتى وهو ينظف القاعة والحجرات ، ويرتب الأثاث ، ويعد القهوة أو الشاى . ألتقى بأعضاء من مجلس النواب . أسألهم ، وأسجل أجوبتهم فى أوراقى . ربما تواعدت معهم على لقاءات خارج الفندق . أعرف أنه وضع لى صورة لا تختلف عن صور النواب الذين يترددون على الفندق . هم السادة ، وهو الحرتانى . كنت أشعر نحوه بمودة ، لم أحاول تفسيرها . شغلنى إبداء تعاطفى ناحيته . تمنيت أن يقابل مشاعرى نحوه بما يساويها ، بمشاعر مماثلة . ضايقنى أنى لم أفلح فى الاقتراب منه ، أو تحريضه على الاقتراب منى . تصورت أن النظرة إليه هى التى تملى عليه تصرفاته . لم يكن يتحدث عن شىء يضايقه ، وإن اكتفى بالملامح الساكنة والنظرة المتجهمة . تبينت ـ بجولاتى ولقاءاتى ـ أن الفروق الاجتماعية لا تشكل ظاهرة ، ولا هى لافتة للنظر . يحيونها باعتبارها وسيلة الحياة ، السادة والحراتين . لا ينطقون الكلمتين ، وإن مارسوا الفعل . السيادة على ما يملكون من عبيد ، حراتين .. واجهته بنظرة متسائلة : ـ من ؟ قال : ـ لا أعرف . إنهم يأتون دائماً للبحث عن أوراق .. أردف : ـ هذا ما يفعلونه دائماً فى كل حجرات الفندق ! ـ حتى حجرات النواب ؟ هز رأسه دلالة التأكيد .. حين أوفدتنى منظمة اليونسيف إلى نواكشوط لدراسة مشكلة الحراتين ، قصرت تحركى بين فندق البرلمان ـ حيث أقيم ـ وخيام الحراتين ، فى الطريق إلى أكجوجيت . رائحة النوم تسود الفندق ذى الطابق الواحد ، والصالة الواسعة ، والحجرات على الجانبين ، اسودت أجزاء الجدران السفلية بتوالى التبول عليها . يتناثر فى الأركان براز يشى سواده بمدته الطويلة ، ومياه راكدة ، وعطن . حدست أنه من الصعب أن يقيم فى الفندق من يترددون عليه . هو مكان فلإقامة الطارئة ، لأيام تطول أو تقصر ، من الصعب أن تمتد لفترة طويلة . البناية متسقة مع البنايات المطلة على الشارع المتقاطع مع الشارع الرئيسى المفضى إلى القصر الجمهورى . حتى مكاتب شركات الطيران والمؤسسات الحكومية فى امتداد الشارع ، لم تكن تعلو عن طابقين .. أقف فى الشرفة المطلة على الطريق المفضى إلى المحيط . يترامى ـ عبر الظلمة الحالكة ـ هدير الأمواج . أخترق الصحراء ـ بمفردى ـ فى سيارة لاندروفر ، يقودها سائق سنغالى ، ينطق العربية بلكنة متعثرة . وضعتها حكومة موريتانيا تحت تصرفى . الصحراء الواقعة بين المحيط الأطلسى والنيجر والسنغال ، لم تعد كما كانت . هى جزيرة صحراوية ، تتناثر فيها المدن والقرى والخيام والزراعات والمراعى والجدب . تنقلت بين المدن والقرى والمعسكرات ، حتى روسو على ضفة نهر السنغال . ربما سافرت إلى مدن : قاعدى ، نواذيبو ، كيفه ، زويرات ، أكجوجيت . التقيت بأفراد وجماعات من قبائل الفولانى والتكرور وساراكوللى وولوف . نزلت ضيفاً على قبائل أولياء الله الصالحين ، والقبائل المحاربة ، وقبائل الموالين .. البيوت ذات الطابقين مغلقة . إلى جوارها خيام ، ربما بالمساحة نفسها . حركة الناس فى داخلها وأمامها ، تشى بأنها هى مكان الإقامة .. لماذا البيوت مغلقة ؟ ولماذا يسكن الناس فى الخيام ؟ رفض أفراد طائفة التنوروبى ، طائفة النبلاء الأشراف ، استقبالى ، أو حتى الرد على أسئلتى المكتوبة . قال الشيخ الممتلئ الجسد ، المربد السحنة : ـ هذه فرية لا أنصحك بتصديقها .. قلت : ـ لا أصدق ولا أكذب .. أنا أبحث عن الحقيقة .. ـ الحقيقة هى ما تراه .. ثم وهو يشيح بيده : ـ الحراتين جزء من الماضى . *** كيف عرف الرجل ما جرى بينى وبين شيخ طائفة التنوروبى؟ لم أكن قد التقيت به من قبل . ولد البشير ، قدم نفسه مسئولاً بوزارة الخارجية .. ـ أنتم الذين نشرتم الفوضى فى الحجرة .. فوت ملاحظتى المتسائلة . افتعل ابتسامة : ـ نحن نعطيك تقريراً واقعياً .. شعرت بالارتباك . حاولت أن أثبت نظرى على شىء ما ، أتظاهر بأنى أتأمله ، حتى أعود إلى نفسى .. ـ لن أذكر فى تقريرى سوى الحقيقة .. ـ الحقيقة أبلغك بها شيخ التنوروبى .. واتجه ناحيتى بملامح غاضبة : ـ حكومتى لن توافق على معنى آخر .. بدا الموقف أعقد من أن أتخذ فيه قراراً سريعاً . قال الرجل ما قال ومضى . أحسست بالخطر . توقعت ما لا أدركه ، حتى فى الهواء الذى أتنفسه .. قال عبد الرحمن : ـ الحراتون حقيقة لن يلغيها كذب الرجل .. أردف لنظرتى المتسائلة : ـ أستأذنك فى أن تكون ضيف قبيلتى .. اجتذبتنى رنة الصدق فى صوته . تأملت بشرته الداكنة السمرة ، وشعره الأجعد ، وعينيه الواسعتين الصريحتين .. صحبنى إلى خارج نواكشوط ، بالقرب من المحيط . مئات الخيام ، وأكواخ الصفيح ، فوق الأرض الرملية ، سدت أبوابها وثغراتها بالحصير ، والستائر المجدولة من قطع القماش الملون . يتخللها أولاد يلعبون ، وباعة ، وقطط ، وكلاب ، ونفايات .. قال : ـ هؤلاء هم الحراتون .. لم يضف إلى قوله ما يعيننى على الفهم ، وإن بدت الظروف القاسية فى غير حاجة إلى شرح من أى نوع .. قلت : ـ لماذا يقبلون ؟ ـ العبودية ملغاة .. لكن الفقر موجود .. أردف : ـ يعودون إلى العبودية بإرادتهم ! قبائل الحراتين . يشكلون بالفعل قبائل كبيرة العدد . جلست إلى أعداد من طائفة الماتشوبى . الملامح الزنجية ، الشعر الأكرت ـ التصرفات المتذللة ، الأعمال التى تكاد تقتصر عليهم . عبيد استردوا حريتهم . صاروا خدماً ، وإن حظوا بمجالسة أسيادهم . ذابت الفواصل إلى حد يصعب إزالته ، يعيشون على التقاليد والعادات المستقرة . حتى المال لا قيمة له عندهم ، سيظل الحراتيون كذلك . ليسوا من الماضى . لم يعودوا كذلك . أحسست فى رفقته بألفة لم أشعر بها من قبل . زال كل ما كان بينى وبينه من حواجز غير مرئية . نشأت بيننا رابطة ، مشاعر صداقة . الملامح المتجهمة أشبه بقشرة تخفى نفساً طيبة . بدا مطمئناً إلى حياته : يعيشها ، فيعبره الناس . لا يهتمون به . لا يعنون بمشاعره ، ولا ماذا يفكر فيه ، أو يفعله . اعتاد العيش فى ظروف قاسية ، فرضت عليه . يكتم الأحاسيس المتنامية فى داخله ، بالتمرد أو الرفض .. تكلم إلى حد الثرثرة . فندق " مرحبا " فى شارع جمال عبد الناصر يقتصر ـ إلا فى النادر ـ على الفرنسيين والسياح الأجانب . أقصى إمكانية أمن تطلبها حفلات الغناء والرقص ـ تحضرها زوجة رئيس الجمهورية ـ فى ليال متقاربة داخل الفندق . شكا لى من أن كل ما بفندق البرلمان ، المخصص لنواب المدن البعيدة ، مسئوليته وحده : المسح والكنس وترتيب الأثاث وغسيل الملابس . قد يعد الطعام والشاى والقهوة . النظرات الغاضبة ترفض مجرد إشارته إلى ما يفعله الأطفال . لا يتركون شيئاً فى حاله . ابتلع ما كان قد تهيأ لقوله حين علا صوت الرجل فى غضب : ـ أنت خادم فى المكان ولست صاحبه .. بدت عليه الدهشة لسؤالى المفاجئ : ـ ألا تخشى من أن يرونا معاً ؟ ـ من هم ؟ اكتفيت بالإشارة إلى موضع غير محدد .. قال : ـ لأول مرة أشعر بحريتى فى تصرف وأنا أصحبك الآن .. أردف : ـ جميل أن تنفذ ما تريده لا ما يملى عليك .. وأنا أتجه إلى حجرتى مددت يدى لأصافحه . بدا عليه تردد . أدركت أنه لم يتوقع أن ألامسه .. *** لا أعرف من حصل على التقرير . وضعته داخل الحقيبة . لم أتصور أنه سيختفى ، ولا إن كانت الحكومة يشغلها الاطلاع على التقرير . حدثنى ولد البشير عن الأماكن التى أزورها . أشار إلى زياراتى لضفة نهر السنغال ، ترددى على الحى الإدارى ، ومبانى الوزارات المتلاصقة ، وعلى دار السينما الوحيدة ، تقدم عروضاً متواصلة بلا رقابة ، شراء احتياجاتى من السوق الشعبى على اليسار ، فى نهاية شارع جمال عبد الناصر ، وقفتى ـ فى الليل ـ على الشاطئ ، أترقب النسائم القادمة من المحيط الأطلسى تلطف سخونة النهار . حتى تأملى لأذان الصلاة فى أى موضع من الطريق . مجرد أن يقف المرء فى مواجهة القبيلة ، ويكبّر ، ويبدأ الصلاة . أدركت أنه يريد أن يكشف حتى تحركاتى الصغيرة ، وما لم أتصور أنه موضع رقابة .. قلت : ـ كتبت فى تقريرى ما رأيته .. أردفت : ـ ليس هناك أقسى من أن يكون الإنسان حراتياً .. ـ الحراتون ينتمون إلى الماضى .. ـ هل ادعى من قابلتهم بأنهم حراتون ؟ بدا عليه غضب : ـ نحن لا نوافق على هذا التقرير .. قلت مدفوعاً بما يشبه التحدى : ـ وأنا أصر عليه .. ـ من حق حكومتى أن تعتبرك شخصاً غير مرغوب فيه .. أهمل نظرتى المندهشة ، ومضى . اقتحمنى شعور أنى وحيد . أواجه العالم بمفردى . فاجأنى عبد الرحمن بالقول : ـ أعرف ما حدث .. رمقته بنظرة متسائلة ، دون أن أتكلم .. قال : ـ جاء السيد ولد البشير إلى الفندق هذا الصباح . أصدر أوامره بأن أعد حقيبتك لترحيلك إلى المطار فى أى وقت .. ـ هو الذى قال هذا ؟ قاوم الارتباك : ـ كنت أؤدى عملى . استمعت إليه بالمصادفة .. ـ وهل أعددت الحقيبة ؟ ـ موجودة فى الحجرة .. *** فارقنى موظف وزارة الخارجية عند الباب المفتوح . تلاصق فى جانب قاعة المطار " كاونتر " الجوازات ، وثلاثة لشركات الطيران . أعداد القادمين والمسافرين قليلة ، تناثروا فى القاعة المستطيلة ، المزينة بالنقوش والمقرنصات . غطيت أرضيتها بالأسمنت ، وتسربت من ثقوب النوافذ ذات القضبان الحديدية ، تقاطعات ضوء وظل ، فوق الأرض ، وعلى الجدران . حين هممت بدخول الصالة الداخلية ، لامست يدى جيبى ، أطمئن إلى أوراق قدمها لى عبد الرحمن ، وأنا أتهيأ لترك الفندق ، والبسمة المعتذرة تملأ وجهه : ـ معلومات ، ربما أضفتها إلى تقريرك . ............................ (انتهت المجموعة) ............................
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *ارتحال السكون* ......................... طرف الخيط يصعب التقاطه . وصل النتائج بأسبابها ربما ساعد على توضيح ما غمض . أتابعك وأنت تميلين من ناحية شارع سيدى داود إلى شارع الحجارى . لا أحاول اجتذابك إلى حديث بسؤال ، أو ملاحظة . أكتفى بهزة الرأس . أظهر التأثر لرؤيتك وأنت تفتحين الباب الزجاجى ، وتعيدين ترتيب البضائع على الأرفف ، وفى الفاترينة ، وتكنسين داخل الدكان وخارجه . حلوى من كل الأنواع . علب الشيكولاتة والبسكويت ، وأقراص المشبك والكعك والمعمولة ، ومكعبات الزبدة والكيك والجاتوه، والمرطبات والمياه الغازية ، والدولاب الزجاجى على أرففه قطع التورتة بتكوينات مختلفة ، وصينية الهريسة تعلو النيران الهادئة .. لم يعد فى حياتى قبل ولا بعد . خلت مساحة الصورة إلا منك . لم أعد أرى فى الدنيا فتاة أخرى . أضع اهتمامى ـ بالساعات ـ فى وقفتى وراء النافذة . أتابع كل ما تفعلين . ألحظ حتى التصرفات العفوية . أخمن الكلمات التى ترافقها ابتسامة وجهك ، فى بيع الحلوى للزبائن . أرهف سمعى كأنى أريد التقاط الهمسات المتبادلة بينك وبين مدحت شاهين . أهمل حتى مواربة ضلفتى النافذة عندما تقتحم الشمس الشقة ، بعد أن تتجه إلى الناحية المقابلة. ذلك ما كنت أحرص عليه ، أو أغلق النافذة تماماً ، منذ الظهر إلى ما بعد المغرب .. أذكر متى ظهر مدحت شاهين فى حياتك ، فى حياتنا . هز المفتاح فى يده وهو يتجه ناحية دكان أدوات الصيد الملاصق لدكان الحلوانى الذى تعملين فيه . القامة طويلة ، والبشرة نحاسية ، والعينان تشيان بنظرة مقتحمة . تابعت انشغاله بترتيب كومات الغزل والحبال وقطع الفلين والإسفنج وبراميل القطران والبوص والسنارات والسكاكين والخطافات وطعم السمك . لاحظت ـ من وقفتى فى النافذة المطلة على ناصية شارع الحجارى ـ أنه قدم نفسه فى اللحظة الأولى ، كأنه قدم للتعرف إليك . تحولت هزة الرأس المحيية ـ فى الأيام التالية ـ إلى مناقشات ، وأخذ ورد ، وملاحظات . اعتدت وقوفه بعيداً عن دكان أدوات الصيد ، ووقوفه أمام دكانك . بدا كشيطان برز فى حياتنا ليفسدها . يشغلك حتى عن نفسك ، ويقتلنى بالتوتر .. حين يقرر المرء أن يحب ، فهو يبحث عمن يبادله العاطفة . تصورت ظهوره فى حياتك بداية علاقة جميلة تأنسين إليها . ألمح التماع عينيك البنيتين ، وارتعاشة أنفك الدقيق ، والحمرة التى تغطى وجنتيك . تابعت لهفتك وأنت تنظرين إلى دكان الصيد المغلق . التوتر ينطق فى ملامحك وتصرفاتك . لما عاد ـ فى اليوم السابع ـ على شفتيه ابتسامة فقدت المعنى ، حدست أن غيابه ليعرف ما فى نفسك ، ليزيد من شوقك للقائه ، وإيلامك . كنت أضيق ـ أحياناً ـ بسكوتك عن تصرفاته ، وقبولك ما لا ينبغى أن تقبليه . أتململ فى وقفتى وراء النافذة لرؤية تطور العلاقة بغير ما كنت أتوقعه . يناوشنى الفضول ، والرغبة فى المتابعة . يداخلنى شعور بالضيق ، وربما الغضب ، لصمتك أمام ما يقوله ، أو يفعله . تؤلمنى نظرة الرضا فى عينيك . تتصاعد فى أعماقى موجات غضب تجاه تصرفاته فى مواجهة عجزك الواضح . تثيرنى قدرته فى السيطرة على حياتك : الثياب ، ومفردات الكلام ، وطريقة المشى ، والجلوس . حتى ما تضيفينه إلى جسدك أو تختزلينه من كيلو جرامات . كأنه أخطبوط يقيد تصرفاتك ، يمنعك من الحركة ، يعتصر حياتك ، تواجهين الموت لو أنك حاولت المقاومة .. فقدت صبرى تجاهك . أعانى ما يفعله . أرتجف للتصرف الذى يمليه عليك ، كأنى أنا المقصود بنصائحه وملاحظاته وأوامره . حتى الثياب التى أحدس أنه دفعك إلى ارتدائها ، تمنيت لو أنك رفضت نصيحته . بدا الأمر شخصياً . أحسست أنه يخصنى ، وأنك تخذليننى بصمتك عن تصرفاته . فى لحظة شعرت بميل إلى الغثيان . أرفض مجرد الإشفاق على ما بدت عليه العلاقة بينك وبينه . أفسد ـ بتصرفاته ـ صورتك الجميلة . غابت النظرة الطفولية الصافية . حل بدلاً منها توتر ينعكس فى ارتجاف أنفك وعينيك ، والارتباك الذى يسم تصرفاتك . تخفضين رأسك أمام عباراته القاسية ـ لابد أن تكون قاسية ـ وتكور قبضة يده بما يعنى التهديد . أحدس مشاعرك وما تعانين ، من تعبيرات يديك ، وملامح وجهك ، والدموع التى تمسحينها بكم البلوزة البيضاء .. لم تعد متابعتى فضولاً ، ولا حب استطلاع . شغلنى ما يحدث . أضيق بتصرفاته ، وأحزن لصمتك عما يفعل . تشغلنى توقعات أخشاها ، ولا تفطنين إليها ، وإن اكتفيت بالوقوف وراء النافذة ، وتأمل ما يجرى فى الناحية المقابلة . همس فى أذنك بما لم أتبينه . انعكست كلماته ضيقاً فى ملامحك ، وأشحت بيدك . عاد إلى أذنك بفمه . حدست أنه يهون عليك ، ويعتذر عما فعل . قال ما استدعيت له ابتسامة ، أدركت أنها لإنهاء الموقف ، أو للمجاملة . عرفت أنه لم تعد بينكما مساحة ود . تداخلت فى نفسى مشاعر غامضة ، لم أدر إن حزنت أم سررت لها .. أزمعت أن أفعل شيئاً ، وإن لم أدرك ـ على وجه التحديد ـ ما يمكن أن أفعله . أقاوم التردد ، وأطرده . أعبر المسافة بين البيت والدكان . أواجهه بما أكتمه فى نفسى ، وأتقبل النتائج . لكننى أعانى فقدان الرغبة فى مواجهته ، أو أنى كنت أخشى المواجهة . ما أراه من تصرفاته ، يتسلل إلى داخلى بأسئلة قاسية ، ولعله الخوف .. كنت دائم التخيل لمواجهتى له . أحاصره فى زاوية الدكان . أحذّره من تصرفاته القاسية مع أميرتى الجميلة . أصوب إليه من اللكمات ما يجبره على التدخل .. ناقشت الأمر بينى وبين نفسى : ماذا لو أنى وقفت أمامك ، وهمست شفتاى بالتحذير ، فواجهت الصدود ؟ هل أظل فى وقفتى ، أو أتمنى الموت هل فطنت إلى ارتباكى وأنت تطالعيننى بملامح الأميرة فى وقفتك أمام باب الشقة . تداخلت فى نفسى مشاعر كثيرة ، غامضة . ما أذكره أنى أخفقت فى استدعاء الكلمات التى أرد بها على قولك الهامس : ـ أستأذنك فى التليفون . اتسم رد الفعل فى تصرفى لعفوية لم أتدبرها . غمغمت بعبارة ترحيب لا أذكرها . أفسحت لك الطريق . تأملت الشقة بتوقع نظراتك لها . الصالة الواسعة ، تتوسطها طاولة خشبية الصغيرة مغطاة بمفرش من القطيفة الحمراء ، حولها أربعة كراسى . تحتها فروة خروف ، فرشت كسجادة . اللوحات على الجدران للكعبة وصور فوتوغرافية ، ولوحات تآكلت حوافها ، أو شحبت ألوانها بمرور الوقت . الأبليكان المتقابلان على الحائط . المكتب الخشبى الصغير ، فوقه أوراق تصدير واستيراد وكتب فى المعاملات التجارية ، النجفة الخالية إلا من لمبة واحدة ، الكنبة الاستانبولى ، المروحة المتدلية من السقف تصدر طنيناً خافتاً .. غالبت التردد لكى أنبهك إلى خطورة ما يفعله مدحت شاهين . ـ مدحت شاهين .. قريبك ؟ التمعت عيناك البنيتان بتساؤل : ـ لا . هو المسئول عن دكان الصيد .. ثم فى نبرة التساؤل : ـ لماذا ؟ ـ لا أرتاح له . وأنت تربتين صدرك : ـ أراه إنساناً لطيفاً .. ـ هذا رأيك .. لى رأى آخر . واتجهت بنظرى إلى الناحية المقابلة . أدركت أنك تهملين تصرفاته القاسية لأنك تخشين غيابه ، فقده . لا يشغلك سوى أن يظل فى حياتك . يأتى إلى دكانه كل صباح . يقضى فيه النهار . يحدثك ـ فى وقفته على الحد الفاصل ، أو أمام دكان الحلوى ـ وإن وجدت فى انعكاسات كلماته على ملامحك ما يسهل فهمه . ألزمت نفسى أن أظل هادئاً ، وأترك الأحداث تمضى كما هى ، هذه إرادتك . لا أتدخل على أى نحو . لم أعد أتردد على الدائرة الجمركية إلا لأوقّع فى الساعة . هأنذا أحرص على المجىء إلى عملى ، ثم أعود . ألزم موضعى وراء النافذة ، أرقب ما يحدث فى الدكانين المتلاصقين . يبدأ يومى عندما تقبلين من ناحية الموازينى أو رأس التين . تضعين المفتاح فى الباب الزجاجى . تتأكدين من ترتيب الحلوى ، أو تعيدين ترتيبها . أهملت ملابسى والقراءة ومشاهدة التليفزيون ونوم القيلولة . حتى الطعام أتناوله فى وقفتى وراء النافذة ، لا تتحول عيناى عن الموضع الذى اجتذب اهتمامى . إذا أغلقتما الدكانين ، أنسحب إلى الداخل . أرتمى ـ بالتعب ـ على السرير . أغيب فى النوم . أصحو على رنين جرس الباب . أضع الجريدة على الطاولة الصغيرة ، لا أحاول حتى مطالعة عناوينها . أمضى إلى الدائرة الجمركية ، وأعود . ألزم وقفتى وراء النافذة . أثارت الحقيبة الجلدية فى يدك دهشتى . أشرت إليه وأنت تتكلمين ، خمنت أن ما بالحقيبة يخصكما . لم تحاولى فتحها ، فأحاول تبين ما بها . حين أغلقتما الدكانين ، ورفع الحقيبة على كتفه ، وسرتما معاً ، انداحت فى داخلى مشاعر الضيق ـ أظن أنه لم يكن مجرد ضيق ـ حدست أنه يرافقك إلى مكان لا أعرفه ، وإن كنت لا أحب أن تذهبى إليه . تابعتكما ـ فى رمادية الغروب ـ تمضيان إلى نهاية الحجارى .. كانت الظلال قد تقلصت ، وانسحبت بقايا الشمس خلف البيوت وأعلى الجدران . لم تعد إلا ذؤابات أميل إلى الحمرة . تكرر ما حدث فى الأيام التالية . يدفعنى التوتر إلى خارج البيت . تتابعكما عيناى حتى تغيبان فى انحناءة الطريق إلى شارع رأس التين . أترك النافذة مفتوحة . أهبط درجات السلم . أتجه ناحية البحر ، تلازمنى أفكار مختلطة ، ومتشابكة ، لا حصر لها . تتأمل نظراتى ما لا أراه ، أو أتبينه ، التفصيلات الصغيرة تلح فى ذاكرتى : الكلمات الهامسة والزاعقة ، تكور قبضة اليد ، توبيخه المتكرر لك ، دون مقدمات ، وبلا سبب .. أدركت أن مراقبة ما يجرى من وراء النافذة ، خطأ ينبغى التنبه إليه . أزمعت أن أبادره بتصرفات العداء ، وأدفعه إلى ترك دكان الصيد ، والحى كله . تحاصره المضايقات ، فيذهب بلا عودة . هو غريب عن بحرى ، وإن لم أعرف إن كان من الإسكندرية أم من خارجها . لا أذكر أنى التقيت به فى جامع ولا شارع ولا مقهى . بدت سحنته غريبة حين رأيته ـ أمام الدكان ـ للمرة الأولى .. فى غبشة الصباح الباكر ، عبرت مسافة الطريق بين البيت ودكان الصيد . دلقت الماء الوسخ على بلاط الرصيف ، أمام الدكان . صبغت بابه بالشحم وبوية الزيت وما شوهه . كتبت على الجدار عبارات التهديد والشتم . دسست فى أسفل زيق الباب عملاً يذهل الشاب عن نفسه . تغيبين عن عينيه وذاكرته ، وعن حياته . ظلت علاقتكما ـ فى الأيام التالية ـ على حالها . لم تتأثر بما صنعته . قاومت الاستياء حين رأيته يكتفى بتأملك ، وأنت تكنسين الماء الوسخ ، وتزيلين الصبغة من الباب ، وتقذفين العمل فى فتحة البالوعة لصق الرصيف . كان الشارع ـ وقت الظهر ـ خالياً ، ودكان الحلوى بلا زبائن ، ودكان الصيد مغلقاً بلا سبب أعرفه . لم أطل مناقشة ما اعتزمت . اندفعت إلى الناحية المقابلة .. ـ هل استغنى صاحب الدكان عن مدحت شاهين ؟ علا حاجباك بالدهشة وأنت تنفضين يديك من بقايا الفانيليا : ـ ما شأنك ؟ ـ الدكان لم يغلق منذ فترة طويلة .. أشرت إلى صدرك بأصابع مضمومة : ـ لا شأن لى .. ورمقتنى بنظرة غاضبة : ـ ولا شأن لك . حاولت أن أتكلم ، لكن نظرتك الزاجرة ، أعادتنى إلى حيث كنت . *** أذهلنى ما رأيت . كان يدفعك بقبضته فى كتفك ، وهو يتكلم ، وأنت تتراجعين إلى الوراء ، وتتألمين . أومأت بعينك إلى الطريق ، تنبهينه إلى الأعين التى ربما تلحظ ما يفعل . رفعت يديك تحمين وجهك من ضربته المتوقعة . قاومته . حاولت أن تتملصى من يديه ، تفلتى بجسدك ، لكنه جذب شعرك ، لفه حول يده ، خبط رأسك فى الحائط . خلت ملامحه من التوقع ما إذا كانت الضربات ستجرحك ، أو ـ ربما ـ تقتلك . ألقى بك على الأرض ، لا يأبه بصراخك ، ولا انحسار الفستان عن ساقيك إلى أعلى الفخذين . توقعت ، تمنيت ، أن تردى ضرباته . لا تهملين جسدك بين يديه ، يضربه بآخر قوته ، دون أن يعبأ بتألمك وصراخك .. انبثقت من كتفيه أذرع كثيرة ، امتدت الأصابع الخمسة فى كل يد . أحاطت بكل جسدك ، لم تترك جزءاً دون أن تصل إليه الضربات . تحولت إلى دمية يمارس فيها العنف . تبدلت المرئيات . تحولت إلى أشكال لم أفهمها ، وفقدت الملامح معانيها . لم يكن أمامى وقت حتى لمجرد التفكير فيما يحدث . تصاعد من أعماقى ما غطى حتى على قدرتى فى التفكير . علا فى صدرى ما يشبه قرع الطبول .. ينبغى على المرء ـ فى لحظة ما ـ أن يتخذ قراراً يتصل بحياته ، وحياة من يهمونه . زايلتنى القدرة على الوقوف فى موضعى وراء النافذة ، والاكتفاء بالمتابعة . أزمعت أن أتصرف بحيث يعرف مدحت شاهين أن لك أصدقاء يقفون إلى جانبك ، ويدافعون عنك . هبطت الدرجات القليلة المفضية إلى الطريق . عبرت الزحام والسيارات والنداءات والصيحات والعبارات المتسائلة . واجهته بملامح غاضبة .. لم يشغلنى رد الفعل ، ولا ما إذا كان يستطيع رد ضرباتى . لكننى ضربته بكل الترقب والمعاناة والغل والغضب والتحدى . لم أتدبر أين اتجهت ضرباتى ، أضرب ، وأضرب ، وأضرب ، ضربته بآخر قوتى . حين تنبه إلى ما فعلت ، انتفض كعملاق ، وواجه ضرباتى بما لم أتوقعه ، ولا قدرة لى على مغالبته . أهملت التخاذل والتهاوى . لم يشغلنى حتى الدم الذى انبثق من جبهتى ، ولا الآلام التى صرخت فى كل جسدى . دفس ركبتيه فى صدرى . توالت صفعاته وركلاته ، دون أن أقوى على مجرد الرد . تماوجت ملامحه ، واهتز الواقفون والمارة والجدران وأسفلت الطريق والسيارات والنوافذ والشرفات وأعمدة النور . شعرت بما يشبه الدوار ، والميل إلى الإغماء ، وأن روحى آخذة فى التلاشى ، لكننى تماسكت فى وقفتى ، وتساندت على إفريز الجدار . حاولت أن أستجمع قوتى . أرد على ضرباته الموجعة بما وسعنى . مجرد أن ألامس رأسه أو وجهه أو ساقيه . كنت أدافع عنك . كنت أدافع عن نفسى .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *التحليق بلا أجنحة* ............................. اقتحمه شعور بالغربة .. لم يعد يدرى لماذا هو فى هذه المدينة ؟ وإلى أين تمضى الشوارع ؟ وإلى أين يتجه ؟ هذه ليست أولى رحلاته إلى الخارج ، لكنها أولى رحلاته إلى لندن .. حين استقل الطائرة ، كانت المدينة ـ فى مخيلته ـ مجرد تصورات . لا قسمات محددة : بنايات وساحات وميادين وشوارع وأسواق وجسور وتماثيل وأبراج كنائس وحدائق . أدرك أنه يعرف شوارعها ، وإن عانى الغربة . انطبعت ملامحها فى ذهنه من أحاديث مرجريت وقراءات الصحف ومشاهد التليفزيون . اعتاد أسماء الوست إند وبيج بن وكوفنت جاردن والمتحف البريطانى وهايد بارك وقصر باكينجهام .. تأمل مبنى المطار . صالة هائلة يتفرع منها العديد من الأروقة والردهات والسلالم المتحركة ، وإعلانات النيون تعلو الجدران ، وصفوف الكراسى ، وكاونترات الجوازات وشركات الطيران ، وعربات نقل الأمتعة ، ووجوه المسافرين . أزمع أن يقضى ليلته فى فندق . ينتظر طلوع النهار ، ثم يبدأ البحث .. *** أحس ـ وهو يغادر الفندق فى غبشة الصباح الباكر ، أن اليوم كله أمامه . ترك حقيبته فى الحجرة ، حقيبة واحدة ، متوسطة . استعان بخريطة سياحية ، تعرف فيها على الأماكن المهمة . نقاط ينطلق منها إلى الميادين والشوارع وضفتى التايمز . يستطيع أن يتنقل فى أحياء المدينة الواسعة ، يبحث عن الشقة فى أكثر من عنوان ، فى أكثر من حى . تلاشى الحنين الذى كان يناوشه إلى المطارات والفنادق والمدن والأسواق والبشر الذين لم يلتق بهم من قبل . همه أن يرى الولد أمامه .. شرد فى صورة مرجريت . فرضت عليه ـ فى هذه اللحظة ـ نفسها : السحنة ، والتصرفات ، وطريقة الكلام .. قال : ـ تربية الطفل مسئولية أبيه وأمه .. قالت : ـ هذا صحيح .. لكنها مسئولية الأم أولاً .. ـ دعينا من الأولويات . إنها مسئولية الوالدين .. تخبطت علاقتهما . بدا الانفصال نهاية مؤكدة . ما حدث ليس شرخاً فيسهل التئامه . إذا تكسر الشيء ، تحطم ، يصعب أن يعود إلى ما كان عليه . وجد فى الإرجاء ما قد يأتى بالحل . تغاضى عن إصرارها على مضايقته . أهمل المعايرة ، والتلميز ، والعبارات المفعمة بالتورية .. التقيا ـ للمرة الأولى ـ فى رحلة للأقصر . رافقها فى زيارتها لمعابد الكرنك ، ومعبد الأقصر فى البر الشرقي ، والمعابد الجنائزية ، ومقابر وادى الملوك والملكات ، ومقابر الأشراف فى البر الغربى .. بدت مسحورة وهى تجيل النظر فى ما حولها . هذه مدينة المدائن الأثرية . لو أتيح لى الاستقرار فيها . لو تحولت إلى نخلة تطل على طريق الكباش .. قبل أن تبدأ فى إعداد حقائبها ، همس : ـ هل تتزوجيننى ؟ حدس ـ من دائرة السحر التى تعيش فيها ـ أنها ستوافق . لكن المفاجأة أخذته لموافقتها . لم تناقش الأمر ، ولا تحدثت عن ظروف من أى نوع .. لم يعد يتردد على الشقة إلا لتغيير ملابسه .. حاول ـ بكل طاقته ـ أن تظل الأمور على تماسكها . تفادى الرياح والنوات والزلازل والأعاصير .. أذهله قرارها .. قال : ـ لن تخرجى ! علا صوته بما لم يعهده فى نفسه . شعر أنه لابد أن يكون سيد نفسه للمرة الأولى . يناقش ، ويقبل ، ويرفض .. دفعته بيد غاضبة ، وخرجت . اكتفى ـ فى ذهوله ـ بمتابعتها ، وهى تقفز فى نزولها على السلم .. حين ضغط على الجرس ، ترامى الصمت من الداخل . خبط على الباب بقبضة غاضبة .. ظل الصمت سادراً .. أدار المفتاح فى الباب . كان دولاب حجرة النوم مفتوحاً ، وخالياً من ملابسها . بدا السرير خالياً ، ومرتباً . لا آثار نوم فوق الوسادة ، أو فى الفراش . حتى طيات الأغطية ظلت فى موضعها .. عرف أنها تركت البيت . أجهده البحث . تنقل بين أحياء القاهرة . يسأل من كانت تعرفهم ، ومن عرفهم بها . حتى من لم يجاوز تعرفها إليهم حفل الزفاف ، سألهم عنها . طالعه هز الرأس ، مط الشفتين ، القول من خلال الدهشة المتسائلة : لا أعرف . لا يشعر بالتعب إلا حين يسلم جسده إلى الفراش . تعددت الشوارع التى سار فيها ، والسلالم التى رقاها ، والأبواب التى طرقها ، والسحن التى طالعته . هزة الرأس دلالة النفى تغنى عن القول : لا أعرف . لا أحد يعرف البيت ، أو مرجريت . حاول ـ برسم الكلمات ـ تقريب الصورة فتنشط الذاكرة ، وتتجسد الملامح . لكن نظرة النفى جدار يصد ما يفعل .. تكرر النفى ، ففرضت التوقعات القاسية نفسها . شعر أنه غير قادر على مواجهة الموقف . تنامت فى داخله هواجس خمن بواعثها . فقد الرغبة فى الحياة . لم يعد لها أى معنى .. لم يعد أمامه سوى احتمال أن تكون قد صحبت الولد خارج مصر . لا يدرى كيف ولا متى أعدت أوراقها وأوراق الولد ، ولا من الذى ساعدها حتى طارت به . سيطرت عليه فكرة السفر إلى لندن . بدا السفر وسيلة وحيدة لرؤية الولد . يعرف العنوان من مراسلاتها لأمها ، لكنه لا يعرف موضعه إن كان فى قلب المدينة ، أم فى ضاحية لها ، أم فى مدينة إقليمية .. سار دون أن يعرف جيداً موضع الشارع الذى يقصده . الفجوة واسعة بين ما كان يتصوره وما يراه . حدثته عن الشقة فى شارع أوكسفورد . قالت إنه يمتلئ بالعرب . الملامح العربية كثيرة . يذهبون للتسوق فى الشارع . الشقة فى الطابق الثالث من بيت تتوسطه . تحدثت عن المقهى فى أسفل البيت ، تضطر للسير بين الكراسى المشغولة حتى تصل إلى الباب الخارجي . خطر له أن يسأل رجل على ناصية الطريق . عانى التردد ، ثم واصل السير . حدّس أنه يدور فى دوائر . ينتهى إلى النقطة التى بدأ منها . يدرك أنه سبق له رؤية المكان ، فلا معنى للبدء من جديد .. مضى نحو مكان لا يعرفه . المدينة الهائلة غابة من البنايات والشوارع والميادين والبشر واللافتات وإعلانات النيون والحدائق والتماثيل والأبراج . تجول بلا هدف ، لا يدرى إلى أين يتجه ، ولا المكان الذى يريده . ثمة هاتف ـ لا يدرى كنهه ـ يجتذبه إلى مكان ما . يطيل الوقفة ـ دون تأمل حقيقى ـ أمام واجهات المحال ، يغسل وجهه فى نافورة تتوسط ميداناً ، على ناصيته لافتة باسم ميدان " ترافالكار " ، يجلس فوق مقعد خشبى بحديقة عامة . يستعيد يوم صحب الولد إلى خارج البيت ـ لأول مرة ـ ليرى الشمس ، لحظة بصق طعم البن من ثدى أمه ليفطم ، أخذه إلى الحلاق ليصفف شعره بعد أيام من ولادته . يدفعه الشوق لرؤيته ، يراه ، يحتضنه . إذا لم يعثر على الولد ، فلن يكون لديه شىء يصنعه . لو أن عناء البحث ـ باليأس ـ انتهى ، ستصبح الحياة بلا معنى .. مال إلى شارع إيدجوير الواسع . طالعته اللافتة الزرقاء على ناصية الشارع . هو بالقرب من شارع أكسفورد . الشارعان ، المنطقة كلها ، تمتلئ بالعرب : المطاعم اللبنانية والشرقية . الشاورما والطعمية والحلويات الشرقية واللافتات المكتوبة بالعربية .. حدّس أنها هنا . ستطالعه فى لحظة ما قد لا يتوقعها ، لكنها موجودة فى شقة ما ، فى هذه البنايات المتلاصقة التى تفصلها الشوارع والحدائق والميادين .. لندن مدينة كبيرة ، متشعبة ، هى واحدة من الملايين التى تسكن فيها . لا يعرف أين على وجه التحديد ، لكنه يثق من وجودها ، ويثق أن الولد يعيش معها . هى فى بيت من هذه البيوت المتلاصقة أمامه ، من حولها حدائق ، تعلوها أسقف القرميد المائلة .. أدرك أنه من الصعب أن يمضى فى قلب المدينة ، دون أن يركب سيارة عامة ، تصل إلى أماكن محددة ، يعرف أنها تصل إلى المكان الذى يقصده .. هذا هو الحى كما وصفته . نسى اسم الشارع ، ورقم البيت . لكن ذاكرته احتفظت باسم الحى ، ربما لسهولته . يتأمل ملامح النساء . يطيل تأمل من يجتذبه الشبه بينها وبين مرجريت . خطواته لا تتبعها ، لكنها تبحث عن الولد .. صرخ لاختطاف الحقيبة الجلدية الصغيرة من يده . جرى وراء الشاب الزنجى بآخر قوته . سبقه . وضع قدمه فى طريقه ، فسقط الشاب من طوله .. رد له الشاب الحقيبة . قال وهو ينفض نفسه : ـ أخف الحقيبة . لن تجرى وراء كل من سيخطفها ! *** توالت أيامه فى المدينة ، دون أن يفقد الأمل . طرد الخاطر بأنه لن يستطيع لقاءها فى هذه المدينة الواسعة ، الغامضة ، الغريبة . كشف باب المقهى المفتوح والنوافذ الزجاجية عن قاعة واسعة ، صفت فيها موائد ، تتقابل حولها الكراسي . مال ـ بالتعب ـ إلى الداخل .. النافذة الزجاجية المغلقة ، بامتداد الواجهة ، جلس وراءها ، يتابع حركة المرور ، ويلمح الداخلين والخارجين . تشاغل بتأمل المكان .. ثمة رجال ونساء تقابلوا على الموائد ، وامتلأت الكراسى العالية ، أمام الطاولة الرخامية فى الوسط ، من ورائها أرفف فوقها زجاجات متباينة الألوان ، وأغنية بالفرنسية تترامى من مسجل فى موضع قريب . تنبه إلى رائحة عطر أنثوى . التفت بتلقائية . لم يلحظ متى جلست المرأة على الكرسى المجاور ، لكنها كانت تتجه ناحيته بنظرة تعد بما استطاع فهمه .. تملكه شعور أنه التقى بها من قبل . لا يدرى أين ولا متى . رآها فى مكان ما ، ولعله رآها فى حلم . زادت من المساحيق فى وجهها ، فلم يتعرف ـ من النظرة السريعة ـ إلى ملامحها .. عاود التطلع إليها . لاحظ العينين الخضراوين ، عمقتا من خلال الرموش الطويلة والكحل ، والأنف الصغير ، والشفتين المصبوغتين بحمرة قانية زادت من غلظتهما ، ووضعت شامة صغيرة ، مستديرة ، على خدها الأيمن . أدرك من صفرة إصبعيها حول السيجارة ، والسواد فى أسنانها ، أنها تكثر من التدخين .. عاد إلى تشاغله بتأمل المكان : الأضواء الشاحبة ، والنداءات ، والأغنية الفرنسية الكلمات .. سحب قدمه من ضغطة حذاء متعمدة . بادرته بالحديث بصورة مفاجئة : ـ هل أنت آسيوى ؟ ثم وهى تزوى ما بين حاجبيها : ـ هندى .. باكستانى .. قاطعها : ـ مصرى . ـ جئت للسياحة ؟ ـ لا أمتلك رفاهية السائح . وهز رأسه فى تأثر : ـ جئت لحل مشكلة ! روى لها الأمر من بداياته . وضعت متابعتها فى نظرة ثابتة ، اتجهت بها إليه . هو يروى ، يفض ما بنفسه ، يتهدج صوته بالتأثر ، يغمض عينيه لاستعادة ما مضى . هى تهز رأسها . *** صحا على ضوء الشمس يقتحم عينيه . انتفض . تلفت حوله .. الحجرة الخالية تختلف عما يتذكره حين قدم مع المرأة أول الليل . لاحظ تهدج صوتها ، ونظراتها الداعية . هتف فى داخله صوت يشجعه على المغامرة ، الاستجابة إلى التعبيرات والإيماءات المحرضة . تملكه إحساس أنه يفلت فرصة ربما لن تعود . واتته جرأة لم يتوقعها فى نفسه . لامس يدها المسترخية على الطاولة . لم تسحبها . صحبته إلى شارع جانبى . استقلا المصعد إلى الطابق الخامس . الشقة الواسعة تسبح فى إضاءة خفيفة ، علقت على الجدران أقنعة إفريقية ، وأقواس ، وسهام ، وفرش على الأرض جلود حيوان . على الطاولة ـ وسط الصالة ـ سلة كبيرة مليئة بالفواكه ، وشمعدانان متجاوران ، وفى الأركان أصص الزهور تصاعدت منها نباتات حلزونية . استأذنت لتبدّل ثيابها .. عادت ـ بعد دقائق ـ حافية ، ترتدى قميص نوم من الشيفون الأسود .. ماذا حدث له فى أثناء الليل ؟ يذكر صحوه ، لكنه لا يذكر ما حدث فى النوم .. هبط إلى الطريق . استقبلته الشوارع والساحات والميادين والبنايات وتقاطعات الطرق والأشجار وجلسات المقاهى والوجوه التى لا تعرفه . تشاغل بقراءة لافتات الطريق والمحال ، يحاول استعادة المكان . حتى البنايات الهائلة ، لا يتذكر أنه رآها من قبل . اقتحمه شعور أن كل ما رآه ـ فى الليلة السابقة ـ لم يحدث ، وأن المرأة لا وجود لها .. واصل السير . لم يعد يدرى مقصده . نسى ما يريده ، ما يبحث عنه .. أخذته الشوارع . تقاطعت الطرق ، وتفرعت . اختلطت ـ فى عينيه ـ السحن والقامات والأزياء والأصوات . أدرك أنه فى مدينة غريبة ، لم يرها من قبل .. طالعه فى أفق الطريق ما يشبه الغلالة التى تتخلل المرئيات . بدا المارة ـ من ورائها ـ كأطياف ، أو كأشباح . يتعالى وقع الأقدام على الأرض المنداة ، دون أن يستبين الأجساد ، ولا الوجوه . حتى أضواء الشوارع والمحال ، غلفها الشحوب . تلاحقت الغلالات ، تشابكت ، تحولت إلى موجات من الضباب المتكاثف . تصاعدت موجات الضباب حتى غطت البشر والأبنية وأسفلت الطريق .. لم يعد يعرف من هو ، ولا فى أية مدينة يعانى التلفت ، لا يعرف شيئاً مما يتحرك حوله .. لماذا هو فى هذه المدينة ، وإلى أين يتجه ؟ اشتد الضباب ، فغابت الرؤية .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *حصار الأسئلة* ........................ (إلى محمد الحديدى) زوت الراهبة ما بين عينيها ، تحاول أن تتذكر : ـ أنت ؟ تأمل الزى البنى المنسدل إلى ما فوق الصندل والجورب الأبيض ، وغطاء الرأس الأبيض المنشى ، أحاط بالوجه ذى الملامح الدقيقة .. قال : ـ زكى .. شقيق محرم السلامونى .. هزت رأسها دلالة التذكر : ـ زرته مرات مع أبيكما ، ثم أصبح الأب يأتى بمفرده .. لم يجد سوى الكذب وسيلة لمواجهة نظرة التأنيب فى عينيها : ـ عدت بعد فترة سنوات من العمل فى الخارج .. قالت وهى تمضى داخل الطرقة الطويلة ، فوق أرضيتها مشاية بنية تمتص وقع الأقدام : ـ حالته متقدمة .. ثم وهى تبتعد : ـ زياراتك ستفيده كثيراً .. الطرقة المستطيلة ، تتوسط جدارها صورة للمسيح جالساً على العرش ، فى داخل المركبة السماوية ، تحيط برأسه هالة نور ، ويحمل كتاباً فى يده اليسرى . تمتد على الجانبين أبواب غرف متقابلة ، مقفلة ، تنسدل عليها ستائر من القطيفة الداكنة الحمراء ، الحائلة اللون . كل ستارة مفتوحة من الجانبين ، على مقابض معدنية ، وتمتد ـ أمام الأبواب ـ سجاجيد صغيرة ، لها شراشيب كثيرة بألوان متداخلة .. كان قد أطال الوقوف إلى جانب الكشك الخشبى ، انشغل فى داخله العجوز ذو البشرة التى كساها البهاق بصف علب السجائر والمناديل الورقية وأكياس الشيكولاتة والبسكويت .. حدجه العجوز بنظرة متسائلة : ـ هل تريد شيئاً ؟ ـ لا .. وأشار إلى المبنى الحجرى الصامت ، أغلق بابه ونوافذه : ـ لم أتصور أن الدار تغلق هذه الساعة .. قال العجوز : ـ موعد الافتتاح من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء .. تطلع ـ بتلقائية ـ إلى الظلال التى بدأت تنسحب من أعلى البنايات المقابلة ، وقال فى لهجة تسليم : ـ سأنتظر . حين علا صوت المفتاح فى رتاج الباب الحديدى الضخم ، كانت الظلال وانعكاسات الضوء تفترش المكان . حدس أن المبنى صمم بحيث يسمح للهواء بالمرور فى الحجرات المتقابلة .. ظلا صامتين .. أنحف مما انطبع فى ذاكرته ، وتداخل البياض والسواد فى رأسه ، وسقطت من فمه سنة علوية ، وبدت عيناه أميل إلى الجحوظ ، وإن لم تفقدا وجهه ما به من وسامة ظاهرة .. تردد مع أبيه لزيارته فى الدار الحجرية ، ذات الطابقين . الحديقة الترابية ، تسلقت سورها الحديدى الأسود فروع اللبلاب وست الحسن . تديرها الراهبات للعجائز من الرجال والنساء . وكان أبوه يحرص ـ فى كل زيارة ـ على أن يضيف إلى الإعانات التى تنفق منها الدار . ثمة عجائز ـ أربعة أو خمسة ـ جلسوا على كراسى متناثرة ، تحت أشجار الكافور فى جوانب الحديقة . شك من نظرته المتسائلة أنه يعرفه .. قال : ـ أنا زكى .. أخوك .. ـ أين ضحى ؟ ـ فى بيتها .. ـ لم تعد تزورنى .. ثم وهو يتجه ناحيته بنظرة غاضبة : ـ أنت أيضاً لا تزورنى .. ـ وماذا أفعل الآن ؟ ـ كان أبى يزورنى مساء كل خميس . قال وهو يغالب التأثر : ـ هذا ما سأفعله . قد أزورك فى الأسبوع أكثر من مرة .. حل الصمت ثانية .. انشغل بشروده ، وعدم قدرته على التركيز ، وبطء فهمه ، وكلماته التى بلا معنى . استعاد ملامح واضحة ، ويغلفها الشحوب : طريق المقابر خلف القلعة ، الليلة الأخيرة فى مولد الحسين ، زحام شارع الموسكى ، ترقب أمه لصنع القهوة فوق السبرتاية ، جلسة أبيه إلى أصدقائه فى مقهى الكورسال ، وشيش التليفزيون بعد انتهاء السهرة ، صياد يجذب الحبل ليرسى قاربه على الشاطئ .. لا يذكر متى أدرك أنه قد مضى زمن على حياته بمفرده . ألف الحياة دون أن يشاركه فيها أحد . داخله سأم لا يعرف بواعثه . يردفه حنين إلى ملامح وأماكن طال غيابها ، فبدت كأطياف . أحس أن هناك ما ينقصه ، وأنه فى حاجة إلى من يجعل لحياته معنى . قال الطبيب : ـ الحالة مستقرة وإن كانت لن تشفى .. أظهر القلق : ـ هو مريض إذن ؟ ـ طبعاً .. وهمس : ـ نوع من التخلف العقلى .. لم يتصور هذه الحالة التى صار عليها أخوه . لم يكن ينتبه إلى كلمة واحدة مما يدور حوله . يبدو غائباً عن الدنيا . يحدث أشخاصاً وهميين . قال : ـ هل الرعاية جيدة ؟ أطلت من عينيه نظرة غير فاهمة .. قال : ـ هل يقدمون لك طعاماً جيداً ؟ ملابس نظيفة ؟ تشاهد التليفزيون ؟ .. قالت الراهبة : ـ نحن نعطى ذوى الظروف القاسية من التبرعات التى نحصل عليها . قال : ـ ظروف أخى النفسية وحدها هى السبب .. وحرك أصبعين فى دلالة : ـ أترك له فى الأمانات أكثر من حاجته . لمح فى عينيه انبثاق دمع ، وهو يديرهما إلى الناحية المقابلة : ـ أريد أبى . ـ أنا الآن أبوك . اطلب ما تريده منى .. ـ لا أريد إلا أبى .. وعلا صوته بنشيج : ـ أريد أبى . شرد محرم فيما لا يتبينه . جاراه فى الصمت .. فاجأه بالسؤال : ـ هل حضر أحدكم الغسل ؟ ـ أسامة زوج ضحى .. ـ وما يدريك أن الميت هو أبوك ؟ ـ رأيته مكفناً . أعرف تكوين أبى الجسدى .. لم يكن الموت مما يشغله ، لكن الخوف من الموت اقتحمه للمصير الذى ربما يواجهه محرم : من يدفع له إيجار الدار ؟ من يزوره ، ويطلب عرضه على الأطباء ، ويحاول استثارة ما فى نفسه من ذكريات ؟.. تنبه إلى أنه خلف البيت وراءه ، ثم عاد إليه . المدخل غارق فى رمادية خفيفة . لاحظ تآكل السلالم الحجرية ، وتكسر الدرابزين . تحسس طريقه بالتساند على الحائط ، مطلى بالجير ، عليه رسوم أحجبة وأكف وباخرة يتصاعد الدخان من مدخنتها ، وخيوط زرقاء تمثل أمواج البحر ، ورسوم للكعبة ، وجمل .. آخر زيارة إلى البيت مع أبيه منذ ثلاثة أعوام ، ربما قبل ذلك بأشهر . اتصل به أبوه ليصحبه إلى بيت شقيقته . طلبت تدخل الأب لحل خلافات لا تنتهى مع زوجها . اعتذر بمشاغله . بدا صوت الأب في التليفون محملاً بالغضب : ـ كيف أطمئن إلى تحملك المسئولية من بعدى ؟ وداخل نبرته توجس : ـ هل قررت الانسلاخ بحياتك ؟! الجدران متآكلة ، تقشر طلاؤها ، فصنع أشكالاً وتكوينات ، وسرت الرطوبة بالصدأ فى النافذة الحديدية المطلة على المنور الخلفى . السجادة تتوسط مساحة الصالة ، تغلب عليها النقوش الزرقاء ، فوقها ـ لصق الجدار ـ كنبتان متقابلتان ، مستطيلتان ، من الخشب ، بمساند ، و كراسى وطاولات تعلو منها رائحة القدم ، عليها فازات فى نهاياتها زهور صناعية ، وقبالة الباب مرآة هائلة ، أكل الصدأ حوافيها ، وتخللها ، تغطى معظم مساحة الجدار . وفى الجدار المقابل صورة فوتوغرافية كبيرة للكعبة الشريفة . وتدلت من السقف نجفة من الزجاج الملون المقلد للكريستال . وثمة صرصار ـ فى الزاوية ـ انقلب على ظهره ، بدا من توالى حركة أقدامه أنه حى .. اختارت الجلوس فى زاوية الكنبة . فتش ـ فى ملامحها ـ عن الصورة القديمة التى أحبها . كأنه يودعها ذاكرته ، يختزن ما بدده توالى الأعوام . لم تتبدل الملامح كثيراً ، وإن ران على التصرفات ما أثار إشفاقه . كلماتها لا تزيد عن الهمس ، وتتجه بنظراتها إلى الأرض . أضافت الأعوام شعيرات بيضاء تسللت إلى الرأس ، ودوائر من التجاعيد الخفيفة حول العينين والفم . أهملت الزغب الأصفر الخفيف فوق شفتيها . ترتدى جلباباً واسعاً أشبه بجلابيب الرجال .. داخلته عاطفة حقيقية ، لعلها غابت منذ سنوات طويلة . شعر أنها قريبة منه ، أنها تنتمى إليه ، وينتمى إليها .. لماذا لم يفعل ـ من قبل ـ ما يريد أن يفعله الآن ؟ لماذا تأخر عن زيارتها ؟ ما الذى شغله عن الزيارة ؟ لم يستطع ـ بينه وبين نفسه ـ أن يصل إلى إجابة . كرر إرجاءه للأمر ، حتى أهمله تماماً .. لاحظ نظرتها المتأملة .. هل ما تزال على عادتها القديمة فى محاولة قراءة مشاعره ؟ هل يبدو ارتباكه ، وعجزه فى البحث عن الكلمات المناسبة ؟ أومأت برأسها ناحية الزوج الجالس فى الزاوية المقابلة : ـ أنت لم تلتق بزكي من أعوام .. ران على قامته ذبول ، وبدا أقصر مما كان . هل هو تقدم السن ؟ غاب الجسد المتماسك ، والضحكة المقهقهة ، والصوت العالى . مالت كلماته المرحبة إلى البطء ، ووضحت الثاء بدلاً من السين فى النطق . خمن أنه ركب طقما للأسنان . ترهل جفناه ، ومال بياض عينيه إلى الصفرة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته ، وتناثرت فى وجهه بقع من الشعر المختلط السواد بالبياض . أكثر من لعق شفتيه بلسانه ، فأدرك أنه يعانى السكر . ارتدى جلباباً من الكشمير ، وترك قدماه حافيتين .. حل صمت مفاجئ . عانى ارتباكاً لم يدرك بواعثه . بدا أنها تعانى الشعور نفسه ، وإن لم يفسره على نحو محدد . هل لمفاجأة الزيارة ، أم أنه استدعى ما كانت قد أهملت تذكره ؟ نادى على الولد الواقف خلف الباب الموارب . تلقاه بذراعين مفتوحتين . تعلق الولد بعنقه ، وأسلم له خديه يقبلهما .. قالت ضحى فى لهجة محايدة : ـ هذا مرتضى .. لم تره منذ ولادته .. وأومأت إلى مرتضى : ـ قبل خالك . أضافت لنظرة الولد المتسائلة : ـ هذا خالك . أجلس الولد الأصغر على ركبته . قبل خده ، ومسح بيده على شعره .. قالت ضحى بلهجتها المحايدة : ـ محيى .. انقطعت زياراتك قبل ولادته .. لاحظ أنها تضع فى معصمها ساعة أبيه ، وتدير أصابع يدها على المسبحة التى ظل أبوه ممسكاً بها حتى وفاته . وضع انفعاله فى تقبيل الولد : ـ شاطر فى المدرسة ؟ اكتفى محيى ـ دلالة التأكيد ـ بإيماءة من رأسه .. ماذا ورث الولد منه ؟ أخفق ـ حين أعاد تأمله ـ فى التعرف على الملامح المشابهة ، وإن حدس أنه ورث عن أمه امتلاء الوجه ، والعينين المسحوبتين .. لو أنه تزوج !.. ربما أنجب أبناء يماثلون الولدين فى العمر ، وربما كانا أكبر منهما .. وهو ينزل الولد من تحت إبطيه إلى الأرض : ـ هل تزورين محرم ؟ قالت : ـ إن زرته .. لابد أن أحمل معى هدية .. وهو يدارى انفعاله : ـ أتكفل بدفع مصاريف الدار .. ـ لن أذهب بيد ورا ويد قدام .. ـ ربما زرته غداً .. رمقته بنظرة مستنكرة : ـ ألم تزره حتى الآن ؟ ألم تزره منذ وفاة أبينا ؟ غلبه الصمت والارتباك . هل تلمح ضحى بأنه هو السبب فيما يعانيه محرم ؟ هل هو المسئول ؟ قالت وهى تربت فخذه : ـ أنت الآن أخونا الكبير .. وأبونا .. تمنى لو أنها تخلت عن كلماتها الملمحة . لو أنها أظهرت غضبها ، ولامته على غيابه الطويل . يدرك أن الإجابة لن تقنعها . حين أدار الكلمات فى ذهنه ، لم يقتنع هو نفسه . المشاغل !.. كلمة بلا معنى فى توالى السنين . قال أسامة فى لهجته المتباطئة : ـ أبوك كان ينعى همنا .. وسكت . ومضت القامة الطويلة ، والكتفان العريضتان ، والبشرة السمراء ، والعينان اللتان تحتويان من يحدثه. استعاد ما روى عقب وفاته . هل مات ميتة ربه ؟ أو دس له السم فى الطعام ؟ أو قتل فى ظروف رفضت الشرطة أن تخبرهم بها ؟ قتله الإحساس باليتم ، وإن عانى توالى المشكلات ـ فيما بعد ـ وانفضاض أقاربه وأصدقاء أبيه . باعد العجز بينه وبين ضحى ومحرم . قلت زياراته ، ثم انتهت .. شعر ـ وهو يهبط السلم ـ بنظراتها تتبعه من وراء ظهره . لما وصل إلى البسطة ، استدار ، ورفع رأسه . كانت تستند بصدرها على الدرابزين . لوحت بيدها وهى تقول : ـ لا إله إلا الله . قال : ـ محمد رسول الله . أشفق على محرم مما يعانيه ، كأنه يمضى إلى دنيا غير الدنيا . بدا أمام خيارين : إما أن يفعل شيئاً ، يدفع نقوداً زائدة ، أو يهدد ، أو يتوسل حتى ، لتصير معاملة الدار لأخيه على ما هى عليه ، أو أن يصحبه إلى البيت ، وهو ما لن يستطيع تدبره ، ولا يعرف كيف يتولى رعايته بمفرده . أزمع ألا ينصرف حتى يطلب محرم الطعام . يعيد قطعة الجبن والبيضة وحبات الزيتون . يصر على الخضار واللحمة والأرز . يجلس معه حتى يفرغ من تناول الطعام . يصحبه إلى حجرة نومه . يفرد الغطاء فوقه . يطمئن إلى نومه .. مضى داخل الحجرة وراءه .. التفت محرم ناحيته مستغرباً . ثم تجاهله . اتجه بالكلام إلى ما لا يتبينه . لا تتصل جملتان بمعنى محدد ، فالكلمات غامضة ، مختلطة ، لا يفهم ماذا يعنى محرم ، ولا إلى أين يتجه بكلماته . تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ أن يتبادل مع أخيه حواراً كالذى يتبادله الأخوة ، كالذى يتبادله الناس . يسأل ويجيب ، يأخذ ويعطى ، يفض عما بنفسه .. أطال إليه النظر .. تملكته الحيرة فلم يدر كيف يتصرف . هو يريد أن يفعل شيئاً ، لكن ما يراه يبدو أقسى من أى تصرف . كان يحرك ذراعيه ، ويهز رأسه ، ويوجه حديثه إلى من لا يراه . ظلت الكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، مجرد كلمات متقطعة ، متناثرة ، لا تعبر عن معنى محدد .. لو أنه استطاع أن يستعيد أخاه ، ينتزعه مما هو فيه .. واجهه محرم بنظرة مؤنبة ، وهو يشير إلى الفراغ : ـ هذا أبونا .. لماذا لا تكلمه ؟!
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *الإستاكوزا* .................. ـ 1 ـ البحر حصيرة .. تابع سرباً من غربان البحر يحلق فوق الخليج ، يحرك أجنحته ، ويطير بلا صوت . أعاد النظر إلى السمكة فى قاع الطراحة . ليست من الأنواع التى اعتاد صيدها فى المينا الشرقية وخليج الأنفوشى . المرجان والبورى والمياس والبربونى . شكلها ما بين الجمبرى والكابوريا .. تفحص المعلم محمود الطويل السمكة . قلبها فى يديه : ـ هذه استاكوزا .. علا صوت زناتى حلبو متسائلاً : ـ الأنفوشى لا يعرف الإستاكوزا .. إنها صيد خارج البوغاز. قبل أن تهلك السمكة فى وقت الأسئلة ، قذف بها المعلم محمود الطويل إلى الماء . قال لنظرة الدهشة فى عينى زناتى : ـ فلنعطها فرصة للتكاثر فى مياه الأنفوشى ! جرت الإستاكوزا ـ بسرعة مذهلة ـ فى اتجاه البحر . ـ 2 ـ طالت قعدة صياد السنارة محروس الشاطبى على المصد الأسمنتى . النفايات فى أسفل تعلو برائحة نفاذة . الصمت يعمقه أزيز لف بكرة السنارة ، وصوت موتور يتناهى من وراء قلعة قايتباى . أرهقه الملل ، فمضى . نشر صيادو الجرافة شباكهم ـ يحدها إطار الفلين ـ على دائرة واسعة . لم يكن فيها ـ بعد جرها إلى الشاطئ ـ سوى صغار الأسماك ـ تساقطت من الثقوب ـ والطحالب والأعشاب . تكرر إلقاء الطراحة ، وسحبها . لم يكن فيها إلا كميات من الإستاكوزا . أنستهم غياب الأسماك الأخرى التى اعتادوا صيدها . نزع القشرة المتغضنة ، والتلذذ بطعم قطع اللحم الوردية اللون . لمحها الرجال تتخلل أعشاب البحر الطافية فوق المياه ، تزحف فوق الرمال ، وبين الأصداف والقواقع والطحالب وبقايا الأعشاب وزيوت المراكب والقناديل الميتة . تتخلل الأحجار الصغيرة والحصى والجحور والصخور المدببة بالخضرة اللزقة .. ـ 3 ـ تكاثرت الإستاكوزا . تقافزت فوق المياه . لامست الأجساد . زحفت فوق رمال الشاطئ . تسللت إلى ورش المراكب والكبائن ما بين الحجارى وسراى رأس التين .. أدرك الرجال أن الإستاكوزا تأكل ما تصادفه من بيض السمك . اختفى البيض من أماكن الفقس والتوالد . اللحم الشهى ـ مخلوطاً بالأرز ـ على موائد الطعام ، دفع الرجال إلى إهمال نصيحة إمام أبو العباس بصيد الإستاكوزا .. ـ 4 ـ حين تبين الرجال تحرك الإستاكوزا على المتبقى من غزل الصيد وقطع الفلين والقصبات والإسفنج والحبال والأشرعة ، أهملوا تصورهم بأن جزر البحر مضى بالطحالب والأعشاب إلى الأعماق . التهمت الإستاكوزا ـ الآلاف من الأجساد الصغيرة ، المتحركة ـ ما صادفته من الغزل والفلين والطحالب والأعشاب . حتى مخلفات المراكب لم تعد تطفو فوق الأمواج ، ولا يقذف بها المد على الشاطئ .. أكلت الإستاكوزا كل ما بلغته أقدامها الصغيرة ، الكثيرة .. لم يعد إلا الرمال المنداة بالمياه . ـ 5 ـ اختفت البلانسات واللانشات والفلايك وبلوطات الخشب من الورش المتلاصقة . اختفت حتى السفن الغارقة فى مياه الخليج . حتى المعدات الخشبية تآكلت . لم يعد إلا أخشاب متكسرة ، وبقايا فلايك ، وهياكل بلانسات متآكلة .. قبل أن يظهر أهل الأنفوشى إشفاقهم على مصير الكبائن من الحجارى إلى سراى رأس التين ، كانت أسراب الإستاكوزا قد زحفت إليها . علتها ، تسللت إلى داخلها ، انشغلت بالتهام أبنيتها الخشبية . رمقت الفئران المتقافزة فوق قطع الحجارة الضخمة ما يحدث . اختبأت فى الشقوق .. ـ 6 ـ خلا البحر والشاطئ تماماً . لا أسماك ، ولا طحالب ، ولا أعشاب ، ولا سفن ، ولا كبائن . رفرفت الأعلام السوداء فى مواقع متناثرة على امتداد الشاطئ ، تحذر من النزول فى المياه . ألقى المد بأعشاب البحر الخضراء ، الداكنة ، على الشاطئ . اختلطت بزيت البواخر الضخمة ومخلفات البلانسات والقواقع والرمل وقطع الأخشاب وبقايا الأطعمة . ضرب الموج صخور الشاطئ بعنف . تعالى الرذاذ ، وارتمى على امتداد الطريق . نعقت غربان البحرـ وهى تحوم فوق القارب ـ وصرخت .. عانى الناس حيرة التوقع .. زاد تكاثر الإستاكوزا . لم تعد فى حجمها القديم . بدت أكثر امتلاء وقدرة على الحركة . زحفت ، وتقافزت ، وعلت أصواتها بصيحات وحشية . غطت المياه والرمل بكتلة من الرءوس ، كأنها تلاصقت .. نفض زناتى حلبو ساقه من الإستاكوزا العالقة بها .. صرخ لرؤية الإستاكوزا فى الأجساد التى قتلها الخوف ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *الثورة* ............ حين وصل إلى نهاية الرواية ، كان مصير الفتاة يشغله تماماً . بدا الظلم أشد مما يستطيع احتماله ، كأنه الموت ، أو أقسى .. أغلق الكتاب بعنف ، ونزل إلى الطريق ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *اغتيـــــــــال* ...................... (إلى المناضلة الفلسطينية مروة جبر) لكزه الواقف إلى جانبه وهو يشير بامتداد ذراعه إلى المدينة فى أسفل : ـ أطلق الرصاص على أى شئ يتحرك ، ولا تشغلك النتائج .. وحدجه بنظرة محرضة : ـ هذه فرصة ممتازة للتدرب على الجسد الحى .. سأل فى دهشة : ـ أقتل ؟ ـ من تتردد فى قتله سيقتلك .. ثم وهو يهز قبضته : ـ لا مجال للتردد فى مواجهة الموت ! أسند البندقية على الساتر الرملى ، وتأمل المدينة فى أسفل . الشارع الواسع ، المسفلت ، تتفرع منه شوارع جانبية . البيت على اليمين ـ يفصله عن الساتر ساحة دائرية ، صغيرة ، على ناصيتها طابقين ، شيد من الطوب الأبيض ، وسقفه من القرميد الأحمر ، تسلقت لبلابة حافة النوافذ الخشبية ، العالية ، وكست الجدران ، وصعدت إلى السطح . تحت البيت دكان بقال يقف أمامه شاب فى حوالى الخامسة والعشرين ، يرتدى قميصاً طوى كميه ، وبنطلوناً من الجينز . فى طرف الرصيف شجرة تين تساقط معظم أوراقها . لم يعد إلا الفروع الجرداء ، المتشابكة . يترامى ـ من بعيد ـ صوت سرينة إسعاف .. معظم النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين على جانبى الشارع المواجه ـ مغلقة ، أو تطايرت ، البنايات مشيدة من الحجارة و الطوب الرملى المتداخل بتكوينات من الخشب . ثلاثة دكاكين فقط ظلت مفتوحة . البقال ، ومخبز ، وصيدلية ، ومقهى تجاورت فى داخله كراسى ذات قيعان مجدولة من الخوص ، حول طاولات قديمة مختلفة الأحجام . رواده ثلاثة ، ثبتت عيونهم ـ من وراء النافذة الزجاجية المفتوحة ـ على بقايا البيت المتهدم ، وولدان أمسكا بخيط طائرة ورقية ، يتابعان ارتفاعها فوق البنايات . وإلى جوار الرصيف كومة زبالة ، تعبث فيها قطة ، والسماء ملبدة بالسحب .. ظل المعركة التى دارت ـ قبل ساعات ـ بين الجنود والفلسطينيين المسلحين ، امتص حركة الطريق . المارة قليلون ، خلت الشوارع . تناثرت آثار المواجهة : دماء متخثرة على الجدران والأرصفة وفوق أسفلت الطريق ، طلقات رصاص فارغة ، مزق ورقية متطايرة ، زجاجات ، علب صفيح وكرتون ، غيمات التراب ـ بفعل القصف ـ غطت واجهات البيوت ، كومات الحجارة تناثرت أمامها ، تشى بأنها سقطت من فترة قريبة . لم يشاهد المعركة ، وإن تابع تعليقات زملائه . رفض الفلسطينى أن يسلم نفسه . رآه الجنود وهو يقتحم الباب ، ويتركه ـ باللهفة ـ مفتوحاً . وقف الجنود والبولدوزر أمام البيت ذى الطوابق الثلاثة . علا صوت الميكروفون يدعو السكان إلى إخلائه . انطلق الرصاص من النافذة العلوية . دارت المعركة فى دقائق ، ثم تهاوت الطوابق الثلاثة . لم تذكر التعليقات إن كان من فى المنزل قد فازوا بحياتهم ، أم ماتوا بين الأنقاض . طالت مناقشات الضباط .. الأخذ والرد ، الأسئلة والأجوبة . هل من الأجدى فرض حظر التجول ؟. حسم القائد الأمر بالقناصة ، وتسيير الدوريات . وقفته ـ وراء الساتر ـ لإطلاق الرصاص على من يلمح ، ولو مجرد سيره أمام البناية . إطلاق الرصاص بلا تردد . اصطياد من تلتقطه الشبهات سهل ، إن أغلقت المدينة أبوابها على الفارين ، وظلت الأبواب مفتوحة ، وأطل الناس من النوافذ والشرفات ، وجلسوا على المقاهى ، وأمام الدكاكين ، وداخل البيوت .. أمر نقله من صحراء النقب إلى مدن الضفة الغربية ، فرض توقعاً طيباً . تصور فى الحياة بين الناس ما يطرد الملل . يطل ـ فى وقفته ـ على صحراء ممتدة ، اختلطت فيها الرمال ومساحات الخضرة والبنايات الصغيرة المتباعدة والمعسكرات . أربكته نظرات السكان العرب ، التقط منها ما لم يستطع تحديده ، وإن غاب عنها الود والألفة . لم يكن يستطيع أن يرد النظرات المتطلعة ناحيته ، تحدق فيه ، تحاصره . حرص على ما ألزمته به الأوامر . كن قريباً من القوة لتحتمى بها . يشكل ـ داخل المدن ـ مجموعة مع جنديين أو ثلاثة ، يحتفظون بكامل الأسلحة ، يقيسون المسافة مع نقاط التفتيش والحواجز والعربات المصفحة والدبابات .. تركت له الأوامر تحديد الهدف . يضغط زناد البندقية على ما يثير الريبة . يقتل قبل أن يستوضح ، أو يسأل ، أو يتأكد . الأوامر الصريحة تساعده . لا تحدق فى ملامح من تصوب إليه . الشك يكفى للضغط على الزناد . هذا هو الهدف ، فاطلق رصاصاتك عليه ، لا تتردد ، إذا ترددت فى قتل عدوك ، فسيبادر هو بقتلك . إما أن تتركه حياً ، أو تفقد حياتك . ظل إسقاط المسئولية فى القتل الخطأ بلا معنى . قانون الحرب لا يعرف المشاعر الطيبة .. ترامى هدير سيارة . بدت مقدمتها فى انحناءة الشارع الجانبى . توقفت فى موضع محطة الباصات . خلفت عجوزاً يرتدى العباءة والعقال والكوفية الفلسطينية . أسند راحته على قبضة العصا . جال بعينيه فيما حوله ، كأنه يتوقع أحداً فى انتظاره . تأكد من إمساكه بالعصا جيداً ، وعبر الطريق إلى الشارع المقابل .. أحس برغبة فى أن يسدد بندقيته إلى موضع ما ، أحد ما ، يضغط على الزناد . لا يرفع إصبعه . أصدر صوتاً من بين شفتيه : تك ، تك ، تك . تظاهر بالضغط على الزناد . ثم أرخى ساعده .. هز رأسه يطرد النوم ، فرك عينيه . أغمضهما ، وفتحهما . ثم أعاد النظر إلى الواقف بجانبه ، وإلى الطريق والبنايات أمامه .. تحسس البندقية وهو يرمق مسلحاً يعبر المسافة بين تقاطعات شارعين . قبل أن يلتقط البندقية من فوق الساتر ، كان المسلح قد اختفى .. قرب جهاز اللاسلكى من أذنه ، يستمع إلى اختلاط المكالمات والملاحظات والأوامر ، ربما يكون بينها ما يأمره بفعل شئ . يحدد له الهدف الذى ينبغى أن يصوب إليه رصاص بندقيته .. أغلق الجهاز .. ركز نظرته على الجسد الأنثوى ، يبين عن قسماته فى العباءة السوداء . قدمت من شارع جانبى ناحية دكان البقال .. خمن من تلويحة يد الشاب أنه ينتظرها .. اطمأن ـ بنظرة جانبية ـ إلى زميله خلف الساتر الرملى ، قرفص فى إغفاءة بين جوالين . أسند البندقية على الساتر أمامه . ثبت النظارة المكبرة على مدخل الدكان . وقف أمامه الشاب والفتاة . الحاجز الخشبى فوقه رخامة تحتل معظم مساحة الواجهة ، ماعدا مساحة صغيرة سدت بباب ذى مفصلات ، ينفذ منها إلى الداخل .. مد يده لها بالمصافحة . استبقى يدها فى يده ، وضغط عليها بكفه . لما ربتت صدره بيدها ، حدس أنهما يعرفان بعضهما . ما يراه ليس أول لقاءاتهما .. تابع إشارة الشاب ناحية البناية المتهدمة . قال كلاماً كثيراً ، أضاف إليه تعبيرات يديه . مرر جانب يده على رقبته دلالة الموت .. أزاحت العباءة عن مقدمة الرأس ، فبرزت خصلة من شعرها . أظهرت التأثر فى إسناد ذقنها على قبضة يدها ، وإعادة النظر إلى المكان بعينين متأملتين .. رفع الشاب رأسه وذراعيه إلى السماء ، وقال ما لم يتبينه ، ثم مسح براحتيه على وجهه .. قال الشاب ما فطن إلى معناه فى اتجاه نظرة الفتاة إلى الناحية المقابلة .. التفت ـ بتلقائية ـ إلى مصدر ترامى هدير سيارة . مد عنقه ، وزوى عينيه . تبين عربة مصفحة ، بداخلها ضابط وثلاثة جنود . مالت إلى الشارع الجانبى أسفل الساتر الرملى ، واختفت .. قرن الشاب كلماته بإيماءة إلى الدكان : هل يدعوها إلى الدخول ؟ كان الدكان من الداخل معتماً ، لم يستطع تبين ما إذا كان خالياً .. تحركت شفتا الشاب كمن يهم بالكلام ، ثم سكت . لزم صمتاً ، واكتفى بالنظر إلى قدميه .. نبهته إلى أنه وضع زرار القميص العلوى فى العروة الثانية . اتجه إلى الناحية المقابلة . تأكد من وجود الأزرار فى مواضعها ، وعاد إليها بابتسامة معتذرة .. ظل صامتاً ، وإن استحثته بنظرة مشجعة على الكلام .. شوحت بيدها ، وابتعدت خطوات . لحقها . مد ذراعيه . أعادها إلى وقفتها أمام الدكان .. أزاحت خصلة الشعر المتهدلة على جبينها ، وواجهته بنظرة متسائلة . انتفضت لسقوط ورقة يابسة من فوق الشجرة . طفرتها بطرف إصبعها . تأمل نثارها على الأرض ، وداست عليه .. خبط جبهته علامة التذكر . اتسعت ابتسامتها ـ رد فعل لما قاله ـ فتوضحت الغمازتان فى وجنتيها ، والتمعت أسنانها البيضاء . قربت فمها من أذنه . قالت ما أضحكه حتى ضرب ركبته .. أخفضت عينيها ، فحدس أنه قال ما أربكها . أشاحت بوجهها حتى لا يفطن إلى ما قد تعبر عنه عيناها .. لو يعرف ماذا يقولان ؟ ماذا يقول لها ؟ ماذا تقول له ؟ . التخمين صعب ، وإن حرك الشاب يده بما يشى أنه قال ما لديه .. ظلت أصابعها على ظهر يده ، كأنها استراحت إلى هذا الوضع . داعبت ظهر كفه بظفرها . عاد إلى احتواء أصابع يدها بين راحته ، يضغط عليها بآخر ما عنده ، وهى تضحك . وضعت سبابتها على شفتيه ، دلالة أن يصمت . تظاهر بأنه سيعض إصبعها . احتضن الإصبع ، ورفع إلى شفتيه ، وقبله . تراجعت بأعلى كتفيها ، وأعادت خصلة الشعر المتهدلة بهبة هواء مفاجئة .. أحس بتوتر يتولد داخل نفسه ، لا يدرك بواعثه ، وتملكه إحساس بالمحاصرة . لم يستطع السيطرة على انفعاله . اختلطت المشاعر فى داخله . تداخلت ، وتشابكت . غاب حتى إحساسه بالزمان والمكان . حاول أن يتجه بنظراته إلى أعلى ، حتى يعود إلى نفسه .. كانت الشمس قد مالت نحو الغروب . انحسرت عن الأسطح وأعلى البيوت ، وتقلصت الظلال . تناثرت سحب كثيفة تشى بمطر وشيك ، ودارت أوراق الشجرة المتساقطة فى دوامة بتأثير الهواء المندفع من تلاقى الشوارع الجانبية . تأكد من وجود رأس الشاب فى دائرة التلسكوب .. ضغط على الزناد .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *العصفور* ............... ـ 1 ـ صحوت على زقزقة عصفور فى داخل الحجرة . لمحته ـ وأنا بين اليقظة والنوم ـ فى زاوية السقف . بدا كحلم بجسده الصغير ، وزقزقته الجميلة ، وريشه المتداخل الألوان .. أسرعت بإغلاق الباب والنافذة . أرهقنى حتى استطعت أن أمسك به . ـ 2 ـ عدت إلى البيت ، وفى يدى قفص من الأسلاك الحديدية ، تتدلى من سقفه أرجوحة خشبية صغيرة . وضعت البرغل فى الدرج الصغير على الأرضية البلاستيك . دسست يدى تحت الصندوق ذى الثقوب الصغيرة ، فأمسكت به . أدخلته فى القفص ، وأغلقت الباب . ـ 3 ـ صحوت على زقزقة العصفور . بدت عالية ، متواصلة ، كالاستغاثة . كانت قطتى السيامية تحاول أن تصل إليه بمخالبها من خلال الأسلاك الحديدية ، والعصفور يتقافز داخل القفص ، ويطلق زقزقته المستغيثة . أعرف العداء بين القط والكلب، وبين القط والفأر . لم أتصور علاقة ما بين القط والعصفور . ـ 4 ـ علقت القفص فى جدار الشرفة . أغلقت الباب ، فلا تحاول القطة أذيته . ـ 5 ـ صحوت على صوت استغاثة العصفور فى موضعه داخل الشرفة .. كان الطائر الضخم ـ لعله صقر أو نسر ـ يحاول أن يمد منقاره ومخالبه من بين الأسلاك . تطاير ريش العصفور الملون فى أرضية القفص ، وعلى الأسلاك . ـ 6 ـ استبدلت بالقفص قفصاً آخر ، أسلاكه متقاربة ، فلا تصل إليه مناقير ولا مخالب الطيور آكلة اللحوم . اطمأننت إلى أن اقتراب الأسلاك يحول دون وصول أذى أى طائر إليه . ـ 7 ـ صحوت على استغاثة العصفور .. كانت " العرسة " تذوى جسدها اللين ، تحاول الدخول فى المساحة الضئيلة أسفل القفص . ـ 8 ـ وضعت القفص فوق الطاولة الصغيرة ، إلى جانب السرير . أحكمت تغطيته بقماش ، كى لا أخاف على حياته . ـ 9 ـ صحوت على أصوات العصافير تغرد فى الخارج . داخلنى اطمئنان بأن المخالب والمناقير لن تصل إلى العصفور .. رفعت الغطاء .. كان العصفور صامتاً ، لا يتحرك .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *محطـــــة* ................. صعدا فى المحطة نفسها . واحد من الباب الأمامى ، وواحد من الباب الخلفى . وقفا أمام المقعد الوحيد الخالى .. قال الأول : ـ من مواليد كم ؟ قال الثانى : ـ 22 قال الأول : ـ أنا من مواليد 21 قال الأول : ـ أنا أكبر منك .. قال الثانى : ـ إذن من حقك أن تجلس .. وأخلى له الطريق .
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *أصداء* ........... ألقى الرجل أوامره .. قال لنا : ــ لا تشغلوا أنفسكم .. فالقيادة مسئولة عن كل شئ !.. كنت أعبث بالمقعد تحتى ، أكور الإسفنج ، وأقذف به إلى الأرض ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *ثــــــــأر* ............... أحاطت بساعديها الطفلين ، واستندت إلى الجدار .. قال فى لهجة مشفقة : ــ لا شأن لك ولا للطفلين بما حدث .. قالت فى خوفها : ــ لكنك قتلت أباهم .. ــ إنه ابن عمى أيضاً .. وقد نلت ثأري منه .. أضاف فى لهجته المشفقة : ــ لا شأن للطفلين .. سيأتون إلى بيتى ليكونوا فى رعايتى .. فأنا ابن عم أبيهم .. اتسعت عيناها بالخوف .. والدهشة ..
رد: النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل *فــــــــــراق* ...................... فاجأتنا الفتاة بنفخ الكيس الورقى الملون ، الصغير . استطال فى لولبية ، وأحدث صفيراً ، وتقلص .. قال محيى معوض : ـ إنها تعاكسنا .. هززت رأسى فى عدم فهم . خمنت من حوارنا الهامس اختلافنا فى معنى تصرفها . أعادت نفخ الكيس ، فاستطال ، وأحدث صفيراً ، وتقلص ، ثم غمزت بجانب عينها ، وواصلت السير .. فتحت أمامنا عالماً مجهولاً من المغامرة : الفضول ، والتوقع ، والرغبة فى الاكتشاف ، والدهشة .. عانى الباص زحام الطريق ، فقال محيى معوض : ـ أثق أن السير فى هذا الزحام أفضل من ركوب الباص .. التصقنا فى مواجهة الزحام ، ولجأنا ـ لمغالبة الضوضاء ـ إلى إشارات الأيدى والأعين ، وإيماءات الرأس .. تركنا لأقدامنا سبيلها فى الشوارع المتوازية ، والمتقاطعة . نخلى أعيننا للمشاهدة والتأمل . نتعرف على السحن والبنايات والأسواق واللافتات والإعلانات والمطاعم والمقاهى وعازفى الأكورديون وراسمى البورتريهات على الجدران والسيارات واقفة على جانبى الأرصفة ، معظمها فيات . تلتقط العين كل ما تراه . تودعه الذاكرة . ما نراه ربما لن نعود إليه ثانية . أحتفظ بعنوان الفندق فى جيبى لأعود إليه إن تاهت خطواتنا . أزمعنا تأجيل الإحساس بالتعب حتى نعود إلى القاهرة . نعوض ما فات بالبقاء فى البيت يوماً كاملاً أو يومين .. بدت البيوت والشوارع ـ ربما لأنى أسير فيها للمرة الأولى ـ متشابهة . بنايات عالية ومتوسطة الارتفاع وأبراج كنائس ومساحات خلاء ومقاهى ومحطات أوتوبيس وترام وأفيشات أفلام ومسرحيات وبضائع ودعاية انتخابية .. واجهت الحيرة فى الأيام الأولى لالتحاقى بكلية الفنون الجميلة . بدت البنايات متشابهة ، وتقاطعات الشوارع ومساحاتها متقاربة . ثم فرض الاختلاف نفسه فى توالى ترددى على المبنى ذى الحديقة الواسعة . غاب التشابه ـ فى الأيام التالية ـ فغيرت طريقى بالتعرف على ما يحيط بالكلية من الشوارع والمحال والمقاهى ومداخل البيوت .. رأينا الفتاة ـ للمرة الأولى ـ فى شارع جانبى ، قلت فيه حركة المارة والسيارات .. أبطأت خطوات الفتاة ، تتظاهر ـ لابد أن هذا هو ما تفعله ـ برؤية ما بداخل الفاترينات . تظاهرنا بالتطلع إلى الصحف المصفوفة على الحامل الحديدى ، فى ناصية الشارع . نلتقط بجانب العين ما تفعله ، ونحدس الخطوة التالية .. ألقت علينا نظرة سريعة ، لم أجد فيها معنى محدداً ، وإن اعتبرها محيى تحريضاً على أن نسير وراءها .. حين استأذنت الدكتور رفيق صفوت أن يفتتح معرضى الأول ، احتضننى بنظرة ود : ـ معرض لاثنين .. أليس كذلك ؟ حدست أنه يقصد محيى معوض . لم نكن نفترق فى المدرجات ، ولا فى قاعات الرسم ، وألفنا دغم أول الاسمين فى اسم واحد .. أومأت برأسى تصديقاً لحدسه .. ومض السؤال : ماذا نفعل لو أن الفتاة وافقت على التحدث إلينا ؟ وأين نذهب بها لو أنها وافقت على دعوتنا ؟ هل نستضيفها فى واحدة من عشرات المقاهى المتناثرة على امتداد الطرق ؟ أو نصحبها فى جولة على ضفة نهر التيبر ؟ وما هى العبارات التى أتصور أننا نتبادلها بعد مقدمة التعريف : محيى معوض ومحمد سامى ، من مصر . فلانة من إيطاليا . ثم ماذا ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى فنجان قهوة ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى مشروب بارد ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى جلسة فى مقهى ؟ . نكتفى بمحادثتها فيما يفد إلى خواطرنا . نتكلم ونتكلم حتى .. ماذا ؟ حتى تضغط اليدين على اليدين ، وتهمس الكلمات المودعة .. لماذا إذن كانت المطاردة السخيفة منذ البداية ؟ قال محيى كأنه أدرك ما يجول بذهنى : ـ إنها تتصرف مثل الأطفال ، وربما يقتصر تصرفها على ما تفعل .. قلت فى حسم : ـ لماذا لا نعود ؟ قال مدفوعاً بأمل لم أتبينه : ـ نحن نتمشى ، ولن نخسر شيئاً ! قال الدكتور قاسم البحر وهو يمد يده بالمصافحة من وراء المكتب : لا يحتاج قسم العمارة إلا لمدرس واحد فقط . أجدركما ستختاره الكلية .. فرضت المناقشة نفسها من قبل أن نستقل الطائرة إلى روما . لم نحاول مجرد الإشارة إلى الثمرة التى لابد أن يلقفها أحدنا بمفرده . شغلتنا الدراسة فى الأكاديمية المصرية ، فأهملنا التوقع . محيى هو زميل الدراسة منذ السنة الأولى بالكلية ، وصديقى . مثلت الأمر نفسه فى حياته . أثق فى صدقه ، وإن يصعب ـ فى ظل طبيعته المرحة ، المشاكسة ، المندفعة ـ أن أحدس ما ينوى فعله . يضع عينيه فى عينى ويقول : سهل أن أعرف ما بداخلك من النظر فى عينيك ! . وكنا نتفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس ، أو تعبير العين عن المعنى المقصود .. سلكت الفتاة ـ ونحن نتبعها ـ شارعاً مرصوفاً بأحجار البازلت السوداء الصغيرة . على جانبيه فيلات ذات شرفات حجرية بنقوش وزخارف وثقوب طولية ومقرنصات ودعامات من تماثيل الرخام والمرمر ، وتتهدل على أسوارها الحديدية أغصان كثيفة تترامى منها رائحة الياسمين .. عبرت ميداناً تتضوع منه رائحة القدم . ثمة كنيستان متماثلتان ، ومسلة رومانية ، محاطة بأربعة أسود من الرخام ، تغطيها الأضواء غير المباشرة من الأحواض الرخامية ، ويحمل الهواء رذاذ الماء الذى ينبثق من أفواه الأسود . وفى الوسط نافورة ، ينبثق الماء من فتحاتها الإثنى عشر ، وينحدر على الأحجار والصخور ، إلى الحوض الرخامى المستطيل .. لاحظت خروج يده من جيبه بعملة معدنية . قلت : ـ لا تفعل !.. فى الدليل السياحى أنها تسحر من يشرب منها ولا يرمى فيها نقوداً .. ثم وأنا أغمز بعينى : ـ من يكتفى بالشرب منها يعود إليها ثانية .. ورحلت نظراتى إلى بعيد : ـ شئ يذكرنا بما يقال عن الذى يشرب من ماء النيل .. أطلنا الوقوف أمام ما بدا مسلة مصرية ، بجانبها نافورتان تنبثق منهما المياه ، فى ميدان تطل عليه كنيسة هائلة .. أشار محيى إلى شاب وفتاة يتبادلان القبلات فى ظل شجرة : ـ عقبى لنا ! مضت الفتاة ناحية سوق هائلة تلاصقت فيها طاولات الخضر والفاكهة والأسماك واللحوم ، واختلط الزحام والروائح النفاذة والصيحات والنداءات والشتائم .. تباطؤ خطوات محيى وشى بإدراكه صعوبة اللحاق بها . قبل أن يهمس بالميل إلى طريق جانبى ، كانت قد اخترقت شارعاً موازياً ، يكاد يخلو من المارة ، على جانبيه بيوت لا تعلو على طابقين أو ثلاثة ، تتصل بها حدائق صغيرة ، كأنها فيلات تمتد أمامها أشجار الأكاسيا .. لاحظت انشغال محيى بتأمل مشيتها . شعرها المنسدل على كتفيها يهتز بخطواتها الطفولية ، وذراعاها تتطوحان ، ولردفيها الممتلئين استدارة واضحة تختلف مع الضمور النسبى للخصر ، وأعلى الصدر ، والجونلة الصغيرة تبين عن ساقين مخروطتين .. رفضت فكرة محيى أن ندور حول البنايات ، فنسبقها إلى تقاطع الطرق . ماذا لو أن المفاجأة أربكتها ، فتصرفت بما يؤذينا ؟ تقلصت المسافة بيننا وبينها بما أتاح لى تبين ملامحها . فى حوالى الثامنة عشرة ، ذات شعر كستنائى ، وعينان خضراوان ، باسمتان ، وبشرة بيضاء أقرب إلى الحمرة .. اقترح محيى أن ننتقل من الفندق الصغير فى شارع جانبى ، إلى فندق خمسة نجوم . يعفى موظف الاستعلامات الداخلين إلى الفندق من السؤال السخيف : إلى أين ؟ الرواد يدخلون ويخرجون . يجلسون فى الصالة الواسعة . يتعاملون مع محال الخدمات فى الداخل . يتجهون إلى المصاعد . لا شأن لأحد بأحد . عمل موظف الاستعلامات هو الإجابة عن الأسئلة ، وملء الاستمارات ، وتسليم المفتاح ، واستلامه . لا شأن له بعد ذلك بشىء .. قلت لمحيى : ـ نحن فى مهمة دراسية .. بدل السفر الذى نتقاضاه يا دوب يكفى الأشهر الثلاثة فى روما .. وضغطت بيدى على ساعده : ـ لا معنى لهذه المطاردة .. وواجهته بنظرة مشفقة : ـ لو أنها رحبت بإقامة علاقة فسيصعب أن نصحبها إلى أى مكان .. شوح بيده : ـ خرجنا لرؤية المدينة .. أترك لها مهمة الدليل .. وطرقع بإصبعيه الوسطى والإبهام : ـ المثل يقول : إذا كنت فى روما .. افعل مثلما يفعل أهلها .. مضت فى طريقها ، لا تتلفت ، ولا تشير بإيماءة من أى نوع .. كنت ألجم اندفاع محيى بالتباطؤ . يبطئ بالعدوى ، وتظل المسافة على طولها بيننا وبينها .. لكزنى محيى بكتفه فى الظلمة وهمس : ـ دع لى مكانك ! تسللت يد المرأة متشجعة بالظلمة ، وبعرض الأفلام المستمر . لاحظت التماع سواد البشرة ، وإن لم أتبين الملامح ولا تقاطيع الوجه . لم أفطن إلى متابعة محيى الأمر من بداياته ، حتى لكزنى وطلب أن نستبدل مكانينا .. اكتفينا بالمتابعة .. لم نحاول تجاوز الفتاة . المهم أن تكون أمامنا . نتبعها ، وتشعر بمتابعتنا لها .. ألقت نظرة سريعة ، ومالت إلى شارع جانبى ، هادئ ، مرصوف بمستطيلات البازلت الصغيرة . تظلله أشجار البانسيه والمارجريتا والباتونيا والفاولاكس ، وأسقف البيوت ـ على جانبيه ـ مغطاة بالقرميد . وألق الشمس يصطدم بالنوافذ الزجاجية على الواجهات ، فتبدو المرئيات ـ من ورائها ـ خيالات متحركة .. مرقت من باب حديدى ضخم . فى داخله ظلمة شفيفة تبين عن مكاتب متلاصقة ، يجلس عليها موظفون يرتدون زياً أزرق موحداً ، ومن ورائها صفوف من الصناديق الخشبية الهائلة ، المغلقة ، اختفت الفتاة فى تقاطعاتها .. غالب محيى الارتباك ، ثم عدل عن متابعة الفتاة إلى الداخل .. لزمنا الوقفة تحت شجرة على الرصيف المقابل .. حين عادت من الداخل ـ تلفتت بعفوية . خمنت أنها تنظر فيما إذا كنا قد انصرفنا .. بدا أن محيى قد أهمل ما يمكن أن تؤدى إليه متابعتنا للفتاة . أهمل حتى تخوفى من أن تقودنا إلى خطر لا نتوقعه . نمضى وسط المارة ، والبنايات الهائلة ، والميادين ، والشوارع ، والمقاهى ذات المقاعد والشمسيات التى احتلت الأرصفة . لا ندرك ـ ولا حتى نملك التخمين ـ ما وراءها . غرباء فى مدينة غريبة . تطالعنا الواجهة وحدها . حتى الذى نلتقى به نسأله ، ونناقشه ، ونأخذ منه ونعطى . هو مجرد مصادفة ، لحظة عابرة ، تمضى بلا قبل ولا بعد . مجرد واجهة متسائلة ، أو جادة ، أو مبتسمة ، أو رافضة . قناع يخفى الملامح الحقيقية .. وقفت الفتاة على باب المحل المغلق . واجهته من الزجاج ذى النقوش الملونة ، البارزة .. نفخت فى كيسها الورقى الملون ، ثم دفعت الباب .. حدجت محيى بنظرة متسائلة : هل نعود ؟ أسند ظهره إلى عمود إنارة فى هيئة المتريث ، فتوقعت أن ننتظر خروجها من المحل .. قال الدكتور رفيق صفوت : ـ إن أردتم شراء شئ ، احرصوا على الفصال .. ثم وهو يهز إصبعه : ـ العادة أنهم قد يقبلون تنزيل الأسعار إلى النصف أو أقل .. واستطرد فى لهجة آمرة : ـ الفصال مهم ! ابتسمت لتذكر قول عبد الله جعفر : أريد روائح روما ! ورسم بسبابتى يديه ما يعنى جسد امرأة . تقلصت التوقعات . انتهت إلى هذه الفتاة التى تداعبنا بالنفخ فى الكيس الورقى الملون .. غادرت الفتاة المحل . عبرت الشارع . اتجهت ناحية مبنى ضخم كالكاتدرائية ، أو الكنيسة ، أو المؤسسة الهائلة .. ظللنا فى وقفتنا على الرصيف المقابل، ننظر إلى المبنى من بعيد .. أطلت من نافذة صغيرة تطل على جانب الطريق . أومأت برأسها ، فأشار محيى إلى نفسه . أهمل ترددى ، ومضى ـ بطبيعته المندفعة ـ ناحية المبنى .. تشاغلت بقراءة عناوين الصحف المعلقة على جوانب الكشك المعدنى . تنبهت إلى ندائه على باب المبنى . أشرت إليه ، أنبهه إلى موضعى .. لوح بما لم أتبينه فى يده ، وتقدم ناحيتى . رمقته بما لم أستطع فهمه ، كأنى أراه للمرة الأولى أربكنى شرود عينيه ، والارتعاشة الواضحة فى ملامحه . داخلنى توقع بالشر . لم يعد هو محيى الذى أعرفه . الرفقة فى المدرجات ، وقاعات الرسم . التفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس . تساؤل الدكتور رفيق صفوت : معرض لاثنين ؟ . قول الدكتور قاسم البحر : أجدركما ستختاره الكلية .. تراجعت إلى الوراء ، أحاول السيطرة على نفسى من تأثير المفاجأة . تناوبتنى مشاعر غريبة ، غاب مصدرها . شلت الحيرة تفكيرى . تملكنى إحساس بالمحاصرة .. اتسعت المسافة بينى وبينه . أدرت وجهى بعيداً عنه .. ثم ملت إلى الطريق العكسية ..
Forum Rules