Post a reply to the thread: نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان"
Click here to log in
Please enter the six letters or digits that appear in the image opposite.
You may choose an icon for your message from this list
Will turn www.example.com into [URL]http://www.example.com[/URL].
مؤلفات محمد جبريل ........................... 1 ـ تلك اللحظة ( مجموعة قصصية ) 1970 ـ نفد 2 ـ الأسوار ( رواية ) 1972 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1999 مكتبة مصر 3 ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( دراسة ) الكتاب الحائز على جائزة الدولة ـ 1973 هيئة الكتاب 4 ـ انعكاسات الأيام العصيبة ( مجموعة قصصية ) 1981 مكتبة مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية 5 ـ إمام آخر الزمان ( رواية ) الطبعة الأولى 1984 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 1999 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية 6 ـ مصر .. من يريدها بسوء ( مقالات ) 1986 دار الحرية 7 ـ هل ( مجموعة قصصية ) 1987 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الإنجليزية والماليزية 8 ـ من أوراق أبى الطيب المتنبى ( رواية ) الطبعة الأولى 1988 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1995 مكتبة مصر 9 ـ قاضى البهار ينزل البحر ( رواية ) 1989 هيئة الكتاب 10 ـ الصهبة ( رواية ) 1990 هيئة الكتاب 11 ـ قلعة الجبل ( رواية ) 1991 روايات الهلال ـ الطبعة الثانية .......... مكتبة الأسرة 12 ـ النظر إلى أسفل ( رواية ) 1992 ـ هيئة الكتاب 13 ـ الخليج ( رواية ) 1993 هيئة الكتاب 14 ـ نجيب محفوظ .. صداقة جيلين ( دراسة ) 1993 هيئة قصور الثقافة 15 ـ اعترافات سيد القرية ( رواية ) 1994 روايات الهلال 16 ـ السحار .. رحلة إلى السيرة النبوية ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر 17 ـ آباء الستينيات .. جيل لجنة النشر للجامعيين ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر 18 ـ قراءة فى شخصيات مصرية ( مقالات ) 1995 هيئة قصور الثقافة 19 ـ زهرة الصباح ( رواية ) 1995 هيئة الكتاب 20 ـ الشاطئ الآخر ( رواية ) 1996 مكتبة مصر ـ ترجمت إلى الإنجليزية ـ الطبعة الثالثة 2002 مكتبة الأسرة 21 ـ حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) 1996 هيئة قصور الثقافة 22 ـ سوق العيد ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب 23 ـ انفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية 24 ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر 25 ـ ياقوت العرش ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر 26 ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر 27 ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر 28 ـ بوح الأسرار ( رواية ) 1999 روايات الهلال 29 ـ مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) 1998 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2000 ـ المجلس الأعلى للثقافة 30 ـ حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) 1998 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية 31 ـ الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) 1999 ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية 32 ـ حارة اليهود ( مختارات قصصية ) 1999 ـ هيئة قصور الثقافة 33 ـ رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) 2000 ـ مكتبة مصر 34 ـ المينا الشرقية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية 35 ـ مد الموج ـ تبقيعات نثرية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية 36 ـ البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ( دراسة ) 2000ـ هيئة قصور الثقافة 37 ـ نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) 2001 ـ مكتبة مصر 38 ـ زمان الوصل ( رواية ) 2002 ـ مكتبة مصر 39 ـ موت قارع الأجراس ( مجموعة قصصية ) 2002 ـ هيئة قصور الثقافة 40 ـ ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ( رواية ) 2003 ـ روايات الهلال 41 ـ حكايات الفصول الأربعة ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 42 ـ زوينة ( رواية ) 2004 ـ الكتاب الفضى 43 ـ صيد العصاري ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 44 ـ غواية الإسكندر ( رواية ) 2005 ـ روايات الهلال 45 ـ الجودرية ( رواية ) 2005 ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 ـ مكتبة الأسرة 46 ـ رجال الظل ( رواية ) 2005 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 47 ـ ما لا نراه ( مجموعة قصصية ) 2006 ـ هيئة قصور الثقافة 48 ـ مواسم للحنين ( رواية ) 2006 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 49 ـ كوب شاى بالحليب ( رواية ) 2007 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 50 ـ سقوط دولة الرجل ( دراسة فى القصة والرواية ) 2007 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع 51 ـ المدينة المحرمة ( رواية ) 2007 ـ دار مجدلاوى بالأردن 52 ـ أهل البحر ( رواية ) 2007 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007 كتب عن المؤلف ..................... 1 ـ الفن القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ 1985 مكتب منيرفا بالزقازيق 2 ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ 1986 مكتب منيرفا بالزقازيق 3 ـ البطل المطارد فى أدب محمد جبريل ـ د. حسين على محمد ـ 1999 دار الوفاء بالإسكندرية 4 ـ فسيفساء نقدية : تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ـ د . ماهر شفيق فريد ـ 1999 دار الوفاء بالإسكندرية . 5 ـ محمد جبريل .. موال سكندرى ـ فريد معوض وآخرين ـ 1999 كتاب سمول 6 ـ استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ـ سعيد الطواب ( دكتور ) 1999 دار السندباد للنشر 7 ـ تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل ـ د . حسين على محمد ـ 2001 كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ الطبعة الثانية ـ 2004 أصوات معاصرة 8 ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ـ نعيمة فرطاس ـ 2001 أصوات معاصرة 9 ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب ـ 2001 هيئة قصور الثقافة 10 ـ محمد جبريل ـ مصر التى فى خاطره ـ حسن حامد ـ 2002 أصوات معاصرة 11 ـ سيميائية العقد فى رواية النظر إلى أسفل ـ د .عبد الرحمان تبرماسين ، العطرة بن دادة ـ 2004 أصوات معاصرة 12 ـ التراث والبناء الفنى فى أعمال محمد جبريل الروائية ـ د . سمية الشوابكة ـ 2005 هيئة قصور الثقافة 13 ـ المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل ـ د . محمد زيدان ـ 2005 أصوات معاصرة 14 ـ بنية الخطاب الروائى فى أدب محمد جبريل: جدل الواقع والذات ـ آمال منصور ( جامعة بسكرة بالجزائر ) 2006 ـ أصوات معاصرة
ثمة تعريف اشتقاقى للحرية بأنها " انعدام القسر الخارجى " . وكان القسر الخارجى ـ تحديداً ـ هو ما واجهه محمد قاضى البهار . كانت التهمة التى طاردت جهات البحث محمد قاضى البهار من أجلها ، أنه يمارس نشاطاً ضد الجماعة ، ضد الحكومة ممثلة الجماعة . ومع أن محمد قاضى البهار لم يكن مهموماً سياسياً ، ولا هو صاحب رأى ، فإنه وجد نفسه مدافعاً عن حريته فى ألا يكون مهموماً سياسياً ، وألا يكون له رأى !. وجد قاضى البهار نفسه معرضاً لفقد حريته الشخصية ، وهى الحرية الأهم . وكما يقول برجسون فإن الإنسان لا يكون حراً إلا عندما تصدر أفعاله عن شخصيته كلها . وفراراً بحريته ، نزل محمد قاضى البهار إلى البحر . توالت التقارير تؤكد خلو تصرفاته من كل ما يدعو إلى مصادرة حريته ، إلى اعتقاله ، لكن جهة الأمر أكدت النشاط المريب لقاضى البهار ، وأن إدانته ثابتة ، وأن احتاجت إلى الأدلة التى تدعمها ، ومارس كتبة التقارير ضغوطاً على قاضى البهار بلغت حد الإيذاء البدنى ، لتحصل على الأدلة التى تثق فيها جهة الأمر ، لفقت لقاضى البهار عدة تهم ، من بينها أنه شارك فى مناقشات قهوة البورى ، وزملاء العمل ، فعاب على النظام فساده وقسوته ، وأنه كان يحمل متفجرات فى حقيبته عندما زار ملهى " زهرة البنفسج " . أما تردده على زاوية الأعرج لأداء صلاة العصر ـ قبل توجهه إلى قهوة البورى ـ فلتدبير اغتيال بعض القيادات السياسية ، بعيداً عن أعين الأمن . أذكرك بمسرحية " حالة حصار " لألبير كامى " إن اقتناعنا هو أنكم مذنبون ، ولن تجدوا أنكم مذنبون ما دمتم تشعرون بأنكم متعبون ، إنهم يتعقبونكم ، وعندما يرهقكم التعب ، سيسير الباقى وحده " . لم تثبت التهم فى مواجهة صمت الشهود ، وإنكار رواد قهوة البورى مناقشات السياسة ، وتأكيد بائع الصحف سيد النن أن ما رآه فى طفولة قاضى البهار لم يعد يتكرر فى شبابه ، وأضاف أنه ربما اختلط عليه الأمر ، فشهد بما لم يشهده ، ونفى رواد القهوة أنهم يعرفون قاضى البهار أصلاً . وحين نزل محمد قاضى البهار مياه الأنفوشى ، واختفى ، فإنه ربما فعل ذلك فراراً من القوى الضاغطة ، لكنه مارس ـ بفعله ـ فى الوقت نفسه ـ حريته . وكما يقول سارتر ، فإن حريتنا هى الشيء الوحيد الذى ليس لنا الحرية فى أن نتخلى عنه . الحرية ـ فى أحد تعريفاتها ـ هى " اختيار الفعل عن روية ، مع استطاعة عدم اختياره ، واستطاعة اختيار ضده " . ولم يكن النزول إلى البحر هو اختيار محمد قاضى البهار الوحيد ، بل إنه الحل الذى لم يطالبه أحد ، لكنه لجأ إلى ذلك الحل دفاعاً عن حريات الآخرين ، فضلاً عن فراره هو نفسه بحريته ، فلن تعاود الشرطة حملاتها ضد سكان بيت الموازينى ، أو رواد قهوة البورى ، ولن تلجأ إلى اختطاف أحد أقاربه ، ولن تضرب أباه فى شارع خلفى . وكما يقول باكونين " أنا لا أكون حراً بمعنى الكلمة ، إلا إذا كانت كل الموجودات الإنسانية المحيطة بى ـ رجالاً ونساء ـ حرة هى الأخرى . أجل ، فإننى لا أصبح حراً إلا بحرية الآخرين " . ومع تأكيدى على أن تعدد مستويات الدلالة فى العمل الفنى هى اجتهاد الناقد ، وربما المتلقى العادى ، فلعلى أثق أن محمد قاضى البهار لم يمت . لقد نزل البحر واختفى . ذلك ما رأته الأعين التى رافقت رحلته الأخيرة من البيت إلى داخل البحر ، لا يلغى ما حدث إخفاق الشرطة فى العثور على جثة قاضى البهار ، أو ما يدل على غرقه ، ولا تلك الابتسامة الغامضة التى واجه بها تحريات الشرطة فى ظروف موته : أبواه والجيران وزملاء العمل ورواد القهوة . حتى أبناء الموازينى ، الذين لم يكونوا على صداقة بقاضى البهار " إذا جاءت سيرته ، وظروف اختفائه ، تسللت إلى شفاههم تلك الابتسامة الغريبة ، المحيرة ، كأنها العدوى " . هذه هى الكلمات التى انتهت بها رواية قاضى البهار ، وهى ـ كما ترى ـ نهاية مفتوحة ، ولعلها أقرب إلى نفى موت قاضى البهار ، وإلاّ : ماذا تعنى تلك الابتسامة الغريبة المحيرة ؟! *** يقول ألدوس هكسلى : " من الأفضل أن نخطئ فى الحرية ، على أن نصيب فى القيود " . وقد حاول منصور سطوحى أن يتحرر من السلطة التقليدية ممثلة فى القائد التقليدى ـ الأب ـ الذى كان يصدر أوامره معتمداً على مكانته ، وهى أوامر اتسمت ـ فى الأغلب ـ بالطابع التحكمى . كان منصور يريد أداء الفرائض الدينية عن اقتناع ، وليس لمجرد أن يتبع خطوات أبيه . كان يريد دخول الكلية التى يريدها ، ويتطلع إلى أصدقاء يطمئن إلى صداقتهم ، وإن رفضهم أبوه ، وإلى تعامل مغاير لما كان يعامله به أبوه ، بدت تصرفات منصور ـ عقب رحيل الأب ـ كأنها تعبير عن مقولة سارتر " إن حريتى هى الدعامة الوحيدة للقيم ، فليس ثمة شيء يمكن أن يلزمنى بأن أتخذ هذه القيمة أو تلك " . شك منصور فى حقيقة حريته ، فى حقيقة وجودها ، بعد وفاة أبيه ، وجد نفسه وحيداً ، بعيداً عن سياج الأسرة والوالدين والعادات والتقاليد والمجتمعات ، نفض عن نفسه ذلك كله ، أو أنه وجد نفسه خارجه ، واهتزت فى داخله قيم كثيرة ، وتبدلت نظرته إلى الكثير من الأمور ، ولم يعد المستقبل بمثل الاستواء الذى كان قديماً . الحرية ـ فى التعريف الفلسفى ـ تجربة روحية ، يحاول فيها الموجود الإنسانى ـ الذى هو مزيج من دم ونور ـ أن يستخرج من حياته المادية نفسها وسائط نموه ، ووسائل تحريره ، وأسس سورته الروحية " ( مشكلة الحرية 259 ) . إرادة الإنسان تتجه ـ دائماً ـ نحو الأفضل ، أو ما يبدو لها أنه كذلك ، وهى لحظة مسبوقة ، أو متزامنة ، مع تحقق الاختيار ، ولو لم يكن الإنسان ـ فى تلك اللحظة ـ سيد انتباهه ، لما أحس بحريته بصورة حقيقية . وكانت الدوافع المحركة لمنصور سطوحى بحثاً عن الحرية ، تعبيراً ـ فى واقعها ـ عن الحرية . وإذا كان ماكس جاكوب قد وصف ميرسو بطل " الغريب " لكامى بأنه " إنسان فاقد الوعى بما حوله " فإن منصور سطوحى يكاد يعبر عن الحالة المناقضة ، فهو مدرك تماماً لما حوله ، ويرفضه ، ويحاول التغلب عليه . جابرييل مارسيل يذهب إلى أن حرية الاختيار تتجلى فى لحظات الإشراق ، التى يتجلى فيها الوجود الإنسانى بسره وغموضه ونفحاته القدسية أمام الإنسان ، فينقاد له إطلاقاً ، ويفوض أمره إليه . فهل تكون النهاية التى اختارها منصور سطوحى هى مرفأ البحث عن الذات ، وعن تواصله مع الآخرين ، وعن الحرية الغائبة ، والسعى نحو الأفضل . تذكرنا هذه النهاية ، المرفأ ، بقول جان جينيه " إن الوسيلة الوحيدة لتجنب هول الهول هى أن تلقى بنفسك فيه " . *** إن ديكتاتورية السلطان خليل بن الحاج أحمد هى المقابل لتطلع الناس إلى الحرية . كان القهر صورة حكمه ، أحكم قبضته فلا يأذن حتى للهواء بأن يتخللها ، أو ينفذ منها ، له الكلمة النافذة ، والرءوس ـ مهما استطالت ـ تخشع إلى حد الركوع ، وربما السجود ، فى مجلسه . نشأ السلطان فى كنف أب يبيع الرقيق ، أهم ما يرويه معاصرو طفولته أنه كان يحبس مجموعة من القطط فى قفص حديدى ، ويعمل فيها سيخاً حديدياً . ولما نقل الطواشى شعوان ما رآه إلى والد خليل ، ظهر عليه ارتياح ، وقال : لو أنه ضعيف القلب ، فكيف يبيع الرقيق ؟!.. ثم مارس هو نفسه تجارة الرقيق . لذلك فإن نظرته إلى حرية الإنسان ـ حتى هؤلاء الذين باعدت الظروف بينهم وبين العمل كرقيق ـ على أنها تخضع لإرادة الحاكم ، هو الذى يهب ويمنع ، أوامره قضاء ، وعلى الجميع أن يخضعوا لها . لقد تبدى اختيار عائشة فى سؤال السلطان لعائشة : هل تريدين الإقامة معنا ؟، وفى ردها عليه : لو أعطيتنى الملك ما أخذته دون زوجى . حددت اختيارها ، وهو أن تكون حرة مع زوجها ، وأهل حدرة الحنة ، رغم الظروف القاسية التى كانوا يحيونها ، ولا تصعد إلى قلعة الجبل ، فتتحول إلى سجينة فى قصر السلطان . كان اختيار خالد عمار هو اختيار زوجه عائشة ، قال له مقدم الجند : هل تريد أن تعمل فى خدمة مولانا السلطان ؟ قال خالد : من الصعب أن أجيد مهنة غير التى تعلمتها [ نسّاخ ] قال المقدم : الجندية لمماليك السلطان وحدهم ، وإن أمكننى الحصول على موافقة مولانا ، نلحقك بزمرة المماليك السلطانية . ـ أخشى أنى لن أستطيع . ـ للجندى المملوكى مرتبة جليلة ، فكيف ترفضها ؟ ـ أنا من عامة الناس ، والعمل فى خدمة مولانا السلطان مما لا أقوى عليه . ـ الجندية تميزك عن موظفى دواوين السلطان . ـ لا أتخيل نفسى فى غير هذا المكان . اختار خالد الحرية ، مألوف أيامه بعيداً عن الحياة التى لا صلة له بها فى قلعة الجبل . حتى عبد الرحمن القفاص ـ والد عائشة ـ حاول أن يعتذر عن الخدمة فى قلعة الجبل . قال للسلطان خليل : أنا رجل سوقى ، لا أعرف غير صنع الأقفاص !.. لكن السلطان ـ كى يستدرج الرجل إلى حتفه ـ أصر أن يعمل فى القلعة ، بدعوى أن أمره لا يرد ! ومع أن السلطان جعل من عائشة ضيفة على قلعة الجبل ، تقيم فى واحد من قصوره الثلاثة ، لا تغادرها ، بوسعها أن تخرج إلى القلعة ، قصورها وأبراجها ودورها، كل من فى القلعة يعلم بأمرها ، وأنها ضيفة السلطان . وبرغم أن خصياً قادها إلى حجرة بها كنوز هائلة من المجوهرات والذهب والفضة ، فإنها ظلت على حنينها إلى ناسها ، وظلت حزينة ، وقالت عن الكنوز التى عرضها عليها : الحق أنلا لا أفهم منها أى شيء ، ولا أعرف قيمتها ! وكانت الجريمة التى عوقب بسببها والد عائشة وخالها وإمام مسجد شيخون وقاضى الشافعية والخليفة وزوج السلطان ، أنهم تفهموا اختيار عائشة ، وأنه لا شيء يعدل حياتها فى حدرة الحنة . أخيراً ، فإن الحرية هى اختيار عائشة ، فى مقابل عرض السلطان خليل بن الحاج أحمد عليها ، وإصراره ، أن تقيم فى قلعة الجبل ، طاردها وقتل كل من حولها حتى تغادر حدرة الحنة ، واختار الناس أن يناصروا حرية عائشة فى الاختيار ، وهو اختيار أفضى ـ فى النهاية ـ إلى زوال السلطان نفسه . *** إن عزلة الإنسان تنفى حريته ، فالحرية مسئولية اجتماعية ، وارتباط بالآخرين ، ووعى متنام بما يحيط به . لقد عاش سر شاكر المغربى فى داخله ، وكما يقول كودويل ، فإن الرجل الوحيد فى الصحراء ليس حراً ، إن حى بن يقظان وروبنسون كروزو لم يشعرا بحريتهما الحقيقية ، لم يصبحا أكثر حرية إلا بعد أن التقيا بسلامان وابسال وجمعة وغيرهم ، من نقلوا إليهما الشعور بالجمعية . وقد آثر شاكر المغربى أن يظل فى جزيرته المنعزلة ، حتى فى حراكه الاجتماعى للصعود إلى الطبقة الأعلى ، يخلو إلى أحلام عشقه المجنون ، يتخيل ويتصور ويمارس العزلة الكاملة ، فلا يبوح بسره لأحد " الإحساس بمخالفة الآخرين يضعنى فى جزيرة منعزلة ، أعانى الوحدة ، والسر الذى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن أعلنه ، لم تصرفنى المعاملات المادية ، أو الصفقات ، عن الخلو إلى نفسى ، ولو فى حضور الآخرين ، واحتضان حلمى الغالى ، وبقيت على صلتى بالخيالات ، لا أفارقها ، وإن ظل السر داخلى ، أتحدث وأناقش وأسأل وأبيع وأشترى وأعقد الصفقات ، فلا صلة بين عملى وذلك المارد الذى يعلو صراخه ، فأضرب قبضتى ـ بلا مناسبة ـ فى حافة المكتب . لم تكن تؤلمنى أو تضايقنى تصرفات الآخرين ، مهما تمادت فى الإيلام ، إن أذنوا لى ـ ربما دون أن يدروا ـ باحتضان كنزى الجميل ، نتمرغ فى رمال الشاطئ ، نسبح فى بحار عميقة ، غامضة ، نعانق النجوم فى سماوات لا نهائية " إلخ . وعندما أصبح سره فى وعى غيره ـ نادية حمدى ـ حاول أن يسترده ، فأخفق ، فلجأ إلى تصرف مجنون ، وإن كان منطقياً ، ليفقد حريته ، وربما وجوده . بالطبع ، فإن " اعتراف المرء بذنوبه لا يكفى لتبرئة ساحته " .. ذلك ما تبينه كليماس بطل " السقطة " لكامى ، وإن لم يتبينه شاكر المغربى . تصور المغربى أن عليه أن يروى ما حدث دون أن يندبر العواقب ، وأن الحفاظ على حريتى مرتهن بالحفاظ على حرية الآخرين ، المرء لا يكون حراً بالفعل فى أفكاره وتصرفاته ، إلا إذا كان على معرفة حقيقية بما ينتويه ، وبالحرص المؤكد ـ فى الوقت نفسه ـ على أن يعثر " على المفتاح الوحيد لكل حرية كائنة ما كانت " ، والتعبير لجون ديوى . ثمة مقولة ترى أنه " بدون الحرية لن يكون ثمة فارق بين الخير والشر ، لأن الحرية هى التى تدخل القيمة فى العالم ، ومن ثم فهى لابد أن تظل وراء القيمة نفسها " ( مشكلة الحرية ص 263 ) ، فليس من شيء يعلو على الخير والشر معاً سوى الحرية ، وأتذكر كذلك قول البولندى شاينا " إن ما سيبقى من فنى ، هو حريتى التى تحيا فى الإنسان الآخر .. المتلقى " ! فصول ـ 1988 (انتهى الكتاب)
ولعل الأستاذ يذكرنا بالشاعر الروسى بوشكين الذى أيقظ بقيثارته ـ فى نفوس الناس ـ مشاعر طيبة ، ولأنه ـ على حد تعبيره ـ بارك الحرية فى زمن قاس . أما على مستوى الهدف فإن الأستاذ هو كل المشاعل فى تاريخ البشرية ، بذلوا حياتهم ـ بإرادة واعية ـ فدية عن الآخرين ، عن حرية الآخرين . إنه سقراط والمسيح وجان دارك وتشى جيفارا وسلفادور الليندى وإبراهيم ناصف الوردانى وعبد الحميد عنايت وشفيق منصور . والقائمة طويلة ، تبين ـ بمجرد القراءة المتصفحة ـ أننا قد نلقى جزاء سلبياً على أفعالنا التى استهدفت صالح الجماعة ، لكن الجزاء الإيجابى ، التقدير والإنصاف ، لابد أن يبين عن قسماته فى أفق قادم ، قريب أو بعيد . *** منذ زمان بعيد ، ربما فى أوائل الستينيات ، كنت أناقش السياسى اليمنى رشيد الحريرى فى بعض القضايا العربية ، وتطرق النقاش إلى ظاهرة الانقلابات التى عاشها العالم العربى منذ انقلاب حسنى الزعيم فى سوريا ، ثم تكشّف ممارسات قادة كل انقلاب عن الحاجة إلى تغيير ، وقال لى رشيد الحريرى : أخشى لو أنه استمرت هذه الظاهرة ، فسيرفض الناس البيان رقم واحد ، حتى لو كان صاحبه معنياً بمشكلات الناس ، وبالتغيير . مرت الأعوام ، ثم تذكرت ـ فى توالى الأحداث على عالمنا العربى ـ مقولة السياسى اليمنى . توالت القيادات ، أو توالى الأئمة ، انتظر الناس قدوم الإمام ليغير واقع الديكتاتورية الذى يرسفون فى أغلاله ، لكن الممارسات ماتلبث أن تبين عن ملامح شوهاء يتمنى الناس زوالها ، وربما عملوا على زوالها بالفعل ، وكلمت صديقى سامى خشبة فى الفكرة التى تشغلنى ، تناولت فكرة المخلّص فى الأسوار ، وهأنتذا تفكر فى عمل آخر يتناول الفكرة نفسها ؟! . لم أجد رداً على ملاحظته إلا أن الفكرة تشغلنى ، وتلح فى أن أكتبها على أى نحو ، ثم سافرت إلى سلطنة عمان ، وحرضنى الجو الأسطورى الذى يشمل مظاهر الحياة فى مسقط القديمة على البدء فى كتابة إمام آخر الزمان ، الإمام المهدى الذى ينتظر الناس قدومه ، وتبين الممارسة عن نقيض ما كانوا ينشدونه ، أعجب لقول أحد النقاد إن الرواية تعريب لروايةجارثيا ماركيث " خريف البطريرك " ، فلم أكن قد تعرفت إلى أدب ماركيث ، فترة انشغالى بإمام آخر الزمان منذ أواسط الستينيات إلى أواسط السبعينيات ، حتى بدأت كتابة الرواية فى فبراير 1976 . ولعلى أعترف أنى أحاول ـ فى كتاباتى بعامة ـ أن أهمل المحظورات ، وأكتب فى حرية ، لكننى أتوقف طويلاً أمام المحظورات الدينية ، أحرص فلا أحاول اجتيازها ، مناقشة الدين من وجهة نظر غير مسنيرة ، تنتهى ـ فى الأغلب ـ بالتكفير ، تكفير صاحب وجهة النظر المستنيرة ، والخوض فى بحر الدين ينتهى كذلك ـ فى الأغلب ـ بغرق صاحبه ، أذكرك بمعاناة أستاذنا نجيب محفوظ منذ نشر روايته الرائعة " أولاد حارتنا " فى 1959 ، من هنا كانت تلك الكلمات التى قدمت بها إمام آخر الزمان " هذه الرواية نسج خيال ، وإذا كان إطارها يبدو دينياً ، فإن مضمونها أبعد ما يكون عن تناول القضايا الدينية ، إن الذى ينشد أمور دينه عليه أن يفتش عنها فى كتب الدين ، وما أكثرها ، وإذا توالت الأسماء ـ خلال الأحداث ـ لأماكن وبشر ، فى هذا القطر العربى أو ذاك ، فمرد ذلك إلى الواقع الفنى ، وليس إلى الواقع التاريخى ، وأكرر : هذه الرواية نسج خيال " . *** إن هدف الثورة هو إقامة شرعية جديدة ، تتواصل فى ظل الاستقرار الذى يقره الشعب ، فإذا لم يكن ذلك كذلك فهو انقلاب ، اغتصب السلطة ، وحقق استمراره بالعنف والقهر ، وليس بالشرعية ، والشعب الذى يمارس ضده هذا الحكم سلطته ، يعانى الغربة وعدم الانتماء ، وانقطاع الصلة بينه وبين من فرضوا أنفسهم أوصياء عليه . لقد رفع كل إمام شعارات زاهية براقة ، تصور الناس فى تنفيذها ـ إن نفذت ـ خلاصاً من كل المظالم التى عانوها فى حكم الأئمة السابقين ، لكن الممارسة ـ تطول أو تقصر ـ ما تلبث أن تكشف عن زيف الشعارات المعلنة ، وأنها لم تكن سوى واجهة تخفى وراءها عالماً من الديكتاتورية السافرة ، أملى كل إمام على الناس ـ بقوة السيف ـ أنه هو وحده الصواب ، ومن عداه على خطأ ، وبتعبير آخر ، فقد كان يواجه شعبه ورأيه فى رأسه ، وسيفه فى يده ، فلا يملك الناس إلا الموافقة صاغرين !. انغلقت السلطة على نفسها ، تصور الإمام نفسه مرجعاً وحيداً ، يخطط للناس أمور حياتهم ، يدفعهم إلى الالتزام بالسير فى طريق محددة ، فإذا حاول البعض أن يجاوز تلك الطريق ، أو أفلح فى ذلك بالفعل ، واجه عقوبات قاسية ، تبدأ بفقدان الحرية ، وتنتهى بفقدان الحياة . ثار الناس على الأئمة فى تعدد ممارساتهم ، أو تمنوا زوالهم فى أقل تقدير ، وبالذات فى الآونة التى يكون فيها الحكم مسيطراً ومباشراً ، لا يأذن بمعارضة أو تمرد ، فضلاً عن إمكانية الثورة . الغريب أن الكثير من هؤلاء الأئمة كانوا يدركون بشاعة حكمهم ، فهم يلجأون إلى إصدار القوانين التى تلزمهم بالرضا عن الوضع القائم ، أو يدفعون الرواة إلى المقاهى والساحات والأماكن العامة ، يذيعون الحكايات المختلفة عن ميل الإمام إلى نشر العدل والمساواة والحرية ، ويتهمون المعارضين بالمروق والفساد والإلحاد والإعداد لقلب نظام الحكم ، بل إن بعض الأئمة استند إلى فكرة الحق الإلهى ، الله هو مصدر السلطات وليس الشعب ، وبالتالى فإن الأفراد لا حقوق لهم تجاه الحاكم ، وليس لهم أن يطالبوه بحريات من أى نوع ، سواء كانت فردية أم سياسية . والحق أن مقتل حسن الحفناوى ـ آخر من قال الكلمات الجميلة ـ لم يكن تعبيراً عن رفض الناس للثورة ، لكنه كان تعبيراً عن إصرار الناس ـ إزاء المعاناة التى واجهوها فى توالى حكم الأئمة ـ على أن يتولوا قيادة أمورهم بأنفسهم ، القائد يظهر من الشعب ، لا يتحول المخلّص إلى جودو الذى طال انتظاره فى مسرحية بيكيت ، ولا إلى المهدى الذى ينتظره الشيعة ، ليزيل القهر عن أعناق الجماهير ، ويملأ الأرض عدلاً ومساواة . أخذ النقاد على نهاية الرواية ما توضح فيها من جهارة . قال الرويعى : لا يخرج الإمام إلا للعدل ، ومن سبق ظهورهم كانوا ظلمة . قال ياقوت نافع : إذا جاء فلن يختلف عمن سبقوه .د قال الكرديسى : ظهور الإمام حقيقة . قاطعه ياقوت نافع : مصيبتنا أننا لا نبحث عن إمام يحكمنا ، بل نصطنع إماماً يقودنا ! قال الرويعى : الإمام يستمد وجوده من مبايعة الناس له ! قال ياقوت نافع : فماذا لو اختار الناس أن يحكموا أنفسهم .. هل لابد من وصى ؟ قال الرويعى : الزعامة مطلوبة فى كل الأحوال . قال ياقوت نافع : سيكون كل شيء على ما يرام حين يسقط النظام على أيدى الجماهير ، وليس عن طريق فرد ، أو أفراد ، أيا كان ، أو كانوا ! أصارحك أنى أزمعت أن أكتفى بمقتل حسن الحفناوى ، ذلك الرجل الطيب الذى كان يقول كلاماً طيباً فى مقهى السيالة . تظل النهاية مفتوحة ، وتطرح الأسئلة نفسها : هل كان الرجل إماماً بالفعل ؟ وهل يظهر أئمة جدد ؟ وهل قرار الجماهير رفض البيان رقم واحد ، وما يتلوه من عكس ما يعلنه ، فلا حرية ولا ديمقراطية ولا عدالة ، إنما هو تسيد لفرد ، أو لطبقة ، على الجماعة . وعلى الرغم من نصيحة صديقى الدكتور طاهر مكى : دع نهاية الرواية كما هى ، حتى لو اتسمت بالجهارة ، فالجهارة مطلوبة !، فإنى أضفت فصلاً أخيراً ، كنت قد ضمنته مجموعتى " هل " ، يتحدث عن تطلع الناس إلى إمام حقيقى يقود الناس إلى الحرية والعدل . *** يقول لوناتشاركسكى : " إذا كانت الثورة تستطيع أن تعطى الفن روحاً ، فإن الفن يستطيع أن يعطى الثورة لساناً " . وقد انشغل أبو الطيب المتنبى ـ بتطلعاته وطموحاته وذاتيته ـ عن هموم المصريين عاش بينهم فترة طويلة من الزمن ، فلما غادر مصر ، وتبادل الرسائل مع عبد الرحمن السكندرى ، راجع موقفه ، وأزمع أن يغادر مصر ليكون صوتاً لثورتها المرتقبة . السلطة المطلقة طريق مؤكدة إلى الاستبداد . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الحكام الذين مارسوا السلطة المطلقة ، جاءت بعض قراراتهم ةتصرفاتهم مشوبة بجنون العظمة حسب التعبير العلمى المعاصر ، والمثل الأوضح فى شخصيتى الإسكندر ونابليون بونابرت ، والنظام السياسى الذى يكرّس الديكتاتورية ، يمتد خطره إلى كل من يتصور معاداتهم له ، حتى لو لم يكونوا كذلك ، فالحرية الشخصية لا تعنيه فى قليل ولا كثير . كان كافور هو كل شيء فى الدولة ، هو الذى يفكر ، وهو الذى يأخذ القرار ، وهو الذى يعين أشخاص المنفذين . أما النتائج ، فإن الشعب ـ بالتأكيد ـ هو الذى يتأثر بها . كافور هو صاحب الحكم فى الرواية ، وهو صاحب الرأى ، ورأيه هو الذى ينفذ ، مهما تعددت الآراء المخالفة ، واتسعت مساحتها ، لا راد لرأيه فى مشكلات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وكل ما يتصل بأمور الدين والدنيا . من يفكر فى التنبيه إلى الخطأ ، أو يعترض ، فإنه يعرَض نفسه للمساءلة والتحقيق بما يفضى ـ فى الأعم ـ إلى فقدان الحرية ، وربما فقدان الحياة نفسها . حتى المتنبى ـ وهو شاعر ، ومن أصحاب الرأى ـ وجد من يحذره من الجهارة ، أو حتى التلميح ، برأيه ، فلا يواجه غضب الإخشيد . ولأن الاستبداد السياسى لابد أن يفرز ـ بحكم طبيعته ـ فئات صغيرة مستغلة ، تعين المستبد ، وتؤيده ، وتزين له تصرفاته ، فقد تخلقت مجموعات قليلة ، تتمتع بالكثير من الامتيازات ، وتستأثر بمزايا الاقتراب من الحاكم ، وتفرض تسلطها على مجموع الموطنين . كانت الحرية تعنى ـ فى نظر أعوان كافور ، وعلى حد تعبير الرئيس الأمريكى لنكولن ـ " حرية بعض الرجال أن يصنعوا ما يشاءون بالرجال الآخرين " . بدا المخالفون لتصرفات الحاشية " من حشو الرعية ، وسفلة العامة ، ممن لا نظر لهم ولا روية ، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ، أهل جهالة بالله ، وعمى عنهم ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم " إلخ ( الطبرى 2/631 ) . ولا يخلو من دلالة هذا الحوار بين المتنبى ومعاون المحتسب إبان اشتداد الضائقة الاقتصادية . قال أبو الطيب : الجوع فى الشوارع ، مع ذلك فإن الطعام يصل لى فى موعده . قال الرجل وهو يطمئن إلى ترتيب الصناديق والأوعية : أنتم من أعوان أبى المسك ، لا يجرى عليكم ما يجرى على العامة !. أما الجماعات الوافدة ، فقد كانت مشكلة أهل مصر الأولى فى مواجهتهم هى " إحاسهم بالخضوع لهذه الجماعات التى أتت من مناطق بعيدة ، تنشر الدمار والموت الأسود " ( المتنبى 44 ) فهو إحساس بفقدان الحرية . والملاحظ أنه حين قامت مظاهرات المصريين ضد الجوع ثاروا ضده ، وأوشك كافور أن يتبنى حقيقة الدوافع التى خرجت بالمظاهرات ، لكن ابن حنزابة صور له الأمر على غير حقيقته : كل الأسباب واجهة زائفة لهدف خبيث ، هو الخروج على حكم سيدى أبى المسك !. ومع أن ابن رشدين فسر ما جرى بأنه كان تعبيراً عن غضبة الجياع على الظروف الصعبة ، فإن الإخشيد مالبث أن هز رأسه فى اقتناع لملاحظة ابن حنزابة : من يهاجمون أعوان الأستاذ اليوم ، قد تسول لهم نفوسهم بأن يهاجموا قصر الأستاذ فى الأيام المقبلة . وأمر كافور بأن تثبت الأحكام التى صدرت على متزعمى المظاهرات . من هنا ، جاءت ثورة الجماهير على الحاكم إفرازاً طبيعياً لإهمال حقوق الأفراد وحرياتهم ، فليس ثمة إلا هو وأعوانه وحاشيته ، ولم يعد أمام الناس إلا الخروج عن طاعته ، ومقاومته ، ومقاومة السلام الزائف الذى وافق عليه فى الوقت نفسه ، وهذه الثورة المرتقبة تأكيد بأنه على الإنسان أن ينتزع حريته بيده ، وبتعبير آخر ، فإن الإنسان لا يكون حراً إلا إذا استحق ـ بالفعل ـ أن يكون حراً . الحرية عادة ، الحرية اعتياد وممارسة وفعل . وكما يقول برناردشو فإن الطائر لابد أن يطير مغادراً إذا تركت القفص مفتوحاً . والحقيقة أن استمرار الحبس دون فعل مقاومة من أى نوع ، يوطن النفس على أن تألف نقيض الحرية ، تألف الخنوع والاستكانة ، واعتبار ذلك قضاء وقدراً . *** (يتبع)
كلام عن الحرية ............. لم تتعدد تفسيرات أحد المعانى ، مثلما تعددت تفسيرات معنى الحرية . إنها ـ كما يقول التعبير الفلسفى ـ هى التى تجعل منا أشخاصاً ، لأننا بالحرية نهب أنفسنا الوجود ، بعد أن كنا مجرد أشياء . وقد عرّف ابن رشد الحرية بأنها لقاء بين ضرورتين ، ضرورة إنسانية وضرورة طبيعية . ويقول جون ستيوارت مل : الحرية حق طبعى يملكه الإنسان بحكم الطبيعة . أما برياديف فيعرّف الحرية بأنها القوة الداخلية المحركة للروح ، وهى السير غير العاقل للوجود والحياة والمصير . وفى تقدير هارولد لاسكى أن الحرية هى الأحوال الاجتماعية التى تنعدم فيها القيود التى تنعدم فيها القيود التى تقيّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته . أما ديفيد هيوم فيعرّف الحرية بأنها " القدرة على التصرف طبقاً لما تحدده الإرادة " ، ولكامى مقولة أتذكرها " إن الذى يغفر للإنسان كل شيء هو الحرية ، الإنسان حرية قبل كل شيء " . الاستبداد والديكتاتورية والطغيان مترادفات لنقيض الحرة ، للاحرية . يقينى أن الحرية فى حياة الإنسان لها نفس أهمية النوم والطعام والجنس وترددات الأنفاس . قيمة الحرية أنها ليست مطلقة ، ليست مشكلة نظرية ، قد تعنينا ، وقد لا تعنينا ، لكنها تتصل بوجودنا ، وبحياتنا اليومية . إنها ذات صلة وثيقة بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة ، ذات صلة بالوجود الإنسانى فى مجمله . ولأن ما أكتبه هو شهادة مبدع مهموم سياسياً ، وليس مقالاً فلسفياً يفترض فيه الإحاطة بالأبعاد المختلفة لكلمة " الحرية " ، فإن كلماتى ستقتصر على الحرية السياسية ، إنها سدى اهتماماتى الشخصية ، والإبداعية فى الوقت نفسه . لن أحدثك عن الجبر والاختيار والميتافيزيقا والضرورة والإمكان والمصادفة والقضاء والقدر والحتمية ، ولا عن مشكلات الزمان ، والصلة بين العقل والإرادة ، إلخ .. ذلك كله أجدر به مقال فلسفى ، وليس شهادة مبدع يتحدث عن الحرية فى إبداعه ، وفضلاً عن أن الحرية تعنى ـ كتعبير مجرد ـ مفهوماً سياسياًَ ، فإن الحرية السياسية هى المعنى الذى تنطوى عليه كلمة " الحرية " فى الأعمال التى سأعرض لها فى هذه الكلمات . *** أوافق أستاذنا زكى نجيب محمود أن مشكلة الحرية السياسية هى على رأس مشكلاتنا المعاصرة ، وقد نشأت أساساً بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التى تباعد بين أنظمة الحكم فى العصر الحديث ( تجديد الفكر العربى ص 76 ) . وأذكر أن أكثر من سبعين مفكراً عربياً شاركوا فى مؤتمر لمناقشة أزمة الدميقراطية فى الوطن العربى ، اختلف المشاركون ـ كعادة المثقفين العرب ـ فى الكثير من قضايا المؤتمر ، لكنهم أجمعوا على أن الحرية السياسية هى الهم العربى الأول ، وأنها البداية الحقيقية لحل مشكلات المجتمع العربى . الحرية السياسية ـ بالتعبير العلمى ـ هى " حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة ، وكذلك حقهم فى أن يكونوا حكاماً " .. وهى حكم الشعب لنفسه بنفسه ، هو الذى يختار الحاكم ، فإن رضى عنه أبقى عليه ، وإن سخط على تصرفاته عمل على إزالته ، والأسلوب ـ فى كل الأحوال ـ يعتمد الديمقراطية ، فلا مواجهات حادة من أى نوع ، لا تمرد ولا اعتقال ولا مصادرة ، إنما الرأى الحر ، رأى غالبية المواطنين ، هو الذى يقرر ما ينبغى ، وما لا ينبغى ، قبوله ، والاختيار ـ بالطبع ـ لا يقتصر على الحاكم ، الرأس ، وحده ، لكنه يختار قيادات تنوب عنه فى مجالات الحكم المختلفة ، بدءاً بالتشريع وانتهاء بالإرادة . والواقع أن الحرية الفردية لا تنفصل عن الحرية السياسية ، والعكس صحيح ، وفقدان الحرية السياسية يتزامن ـ بالضرورة ـ مع ضياع الحقوق المدنية ، والحريات الأساسية ، للجماعات والأفراد ، وضياع العدل الاجتماعى . *** من الناحية الشخصية كمبدع ، فإن حرصى على أن تكتب القصة نفسها ، يجعل من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ وجود رقابة ، أو مؤثر ، على العمل من أى نوع . القلم يجرى على الورق ، نهاية لتلك الحركة ما بين الذهن والأصابع ، لا تشغلنى المحاذير ولا التوقعات ولا ردود الأفعال . وحين أنتهى من الكتابة ، فإن عنايتى تتجه إلى حذف كل ما لا ضرورة فنية له، جملة أو كلمة أو حرف ، وربما إضافة ما قد يبدو العمل ناقصاً بدونه . أيضاً ، فإنه قد يبدو متناقضاً حرصى أن يكتب العمل الأدبى نفسه ، مقابلاً للإيمان بأن مجموع أعمال الفنان يجب أن يشتمل على فلسفة حياة واضحة ، ومتكاملة . لكن ذلك كذلك بالفعل ، فأنا لا أتعمد الجهارة بوجهة النظر أو الموقف أو الرأى ، إنما أترك للعفوية ـ فى اللحظة التى تحددها ـ اختيار " الرف " الذى يحتاج إليه النص الأدبى . والحق أنى أحاول الإفادة من تلقائية الكتابة فى التحرر من الرقيب الكامن داخلى ، هو رقيب شكلته أعوام عملى فى الصحافة ، ورفض ما قد يغضب السلطة ، أو علماء الدين ، أو حتى القارئ العادى . إنه رقيب تسلل إلى داخلى من خلال عشرات القراءات والأحداث والخبرات الشخصية ،أو التى تلقيتها عن آخرين . واكتسى الرقيب المستقر داخلى لحماً وشحماً ، حين عملت ـ لسنوات ـ مشرفاً على تحرير جريدة " الوطن " العمانية ، مجتمع له عاداته وتقاليده وأوضاعه البالغة الهشاشة ، ثمة جاليات كثيرة ، ومذاهب دينية تنتمى إلى الإسلام ، لكنها تتباين فى اجتهاداتها ، وسلطة أبوية ، أو قبلية ، وظاهر متمدن ، أو متقدم ، يخفى واقعاً شديد السلفية ، ومحظورات رقابية لا حصر لها ، بحيث اقترحت ـ ذات يوم ـ أن تقدم لى قائمة بالمسموح ، فأعرف أن ما عداه من الممنوعات !. استقر ذلك كله فى داخلى ، كأنه عين تبصر ، وأذن تسمع ، وأنف يتشمم . ومع أن كتاباتى اقتصرت على الموضوعات الأدبية ، فإنى عانيت ـ فى عملى الصحفى اليومى ـ مشكلات كبيرة وصغيرة ، تناولت بعضها فى روايتى " الخليج " ، لعل أخطرها عندما استبدلت الخمور بالتمور فى تحقيق عن مصنع للتمور بمدينة نزوى العمانية . تهدد وزير الزراعة فى منصبه بمئات الرسائل والبرقيات التى تلقاها السلطان ، تحتج على إنشاء مصنع للخمور ، فأصر أن يبلغ الشرطة ، لم يرجع عن عزمه إلا بعد أن تأكد له عدم مسئوليتى ، لأن الرقابة ـ أولاً ـ هى المسئولة عن السماح للجريدة بالتوزيع ، ولأن الجريدة ـ ثانياً ـ كانت تطبع فى الكويت ، فلا حيلة لى فى مراجعتها . وكانت ألقاب الجلالة والسمو والسيادة والمعالى والسعادة تسبب لى ارتباكاً شديداً ، فلم أعتدها إلا بعد ممارسة طويلة. الأهم من أن أكتب عن الحرية ـ فى تقديرى ـ هو أن أكتب فى حرية ، أن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل ، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه ، أو أعلن المعاداة ، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى ، خلقه توالى التجارب والخبرات. أزعم أنى حاولت ، ما وسعنى ـ أن أتخلص من كل العوامل التى تحول دون أن أكتب فى جريدة . كنت مضطراً ـ لظروف مادية ـ بحتة ـ أن أقبل العمل الوظيفى ، وإن اخترت العمل الأقرب إمكانية للتعبير عن الرأى فى حرية ، وهى الصحافة . أقسى الأمور على المبدع ، حين يتصور السلطة وهى تقرأ وتحلل وتستنبط الدلالات ، وتفرض سوء الظن . إنه يسقط العفوية ، ويعانى صياغة كلماته ، بحيث تؤدى المعنى الذى يريده هو ، أو يريده العمل الفنى ، ولا تؤدى المعانى التى قد تتصورها السلطة . أومن جداً وجيداً أنه لا فن حقيقياً بدون حرية حقيقية . يظل الفن فى إطار التمنى ما لم يرتكز إلى الحرية التى تحفز الفنان لأن يكتب عمله بعيداً عن أية مؤثرات أو ضغوط ، سواء كانت خارجية أم داخلية . حرية الفن هى التى تهبه الفرصة لأن يكون فناً ، إنه ـ بغير الحرية ـ قد يكون أى شيء ، لكنه ـ بالتأكيد ـ لا يكون فناً . أعنى بالفن الحر هنا ، ذلك الفن الذى يقول الحقيقة ، أو يحاول قول الحقيقة . قد يبدع الفنان عمله فى زمن استبدادى ، أو تسيطر عليه قوى شريرة ، لكنه يتجاوز ذلك الزمن ـ وإن كتب عنه ـ إما باللجوء إلى الرمز ، أو إلى أحداث التاريخ ، بما يسهل تبين الواقع فى ضوئها ، أو بالكتابة السرية ، أى تلك الكتابة التى تكتفى بالنسخ المحدودة ، والتوزيع غير المعلن . *** كان أبى ـ فى شبابه الباكر ـ عضواً بالحزب الوطنى القديم . ثم تحول انتماؤه ـ فى أحداث ثورة 1919 وما تلاها ـ إلى حزب الوفد . وكانت معظم ملاحظات أبى ـ فى مناقشاته مع أصدقائه ـ تتناول غياب الديمقراطية فى ممارسات حكومات الأقلية . وبالإضافة إلى قراءاتى فى مكتبة أبى ـ وكانت عامرة بمئات الكتب ـ فإنى أدين بفضل كبير لتلك المناقشات ، الهادئة أحياناً ، الصاخبة أحياناً أخرى ، فى جلستهم شبه اليومية عقب صلاة العشاء ، فى حجرة القعاد المطلة على المينا الشرقية . وحين أصدرت كتابى الأول ، المطبوع ـ وكنت فى حوالى الخامسة عشرة ـ صدرته بعبارة تقول : أشياء ثلاثة ، كرست حياتى للدفاع عنها : الحق والخير والحرية . ورغم تقضى أعوام كثيرة على صدور ذلك الكتاب / الكتيب الأول ، القديم ، ومع يقينى ـ فى الوقت نفسه ـ بأهمية أن يكون للأديب المبدع فلسفة حياة . أقول : رغم ذلك ، ومعه ، فإن القضايا التى تشتمل عليها أعمالى ، تتوضح فيها ملامح ذلك الشعار ـ هل تصح التسمية ؟! ـ بصورة واضحة . الحرية عند كامى هى أن يقول الإنسان لا . وقد تعددت مستويات الـ " لا " فى أعمالى ، ما بين الكلمات الطيبة اتى تحدث فى النفوس تأثيراً إيجابياً ، ينتهى بطلب الحرية [ الأسوار ] والتخلى عن فكرة انتظار الإمام المخلص ، أو الحاكم الذى ينشر العدل، وأن يصنع الشعب غده بنفسه [ إمام آخر الزمان ] والإعداد للثورة مقابلاً لتردى الحاكم فى هوة الديكتاتورية التى صنعها له أعوانه [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] والفرار بالذات من قسوة القهر الذى تمتد تأثيراته إلى الآخرين [ قاضى البهار ينزل البحر ] والإيمان بأن الفعل الأخلاقى لا يكون كذلك ، ما لم يصدر عن إرادة حرة [ الصهبة ] والحرص على القيم الجميلة ، فلا يسطو عليها الحاكم [ قلعة الجبل ] واستغلال حرية القللة فى تحقيق الثراء غير المشروع على حساب الجماعة [ النظر إلى أسفل ] . ولعلى أصارحك بأن الشخصيات الأقرب إلى نفسى فى أعمالى ، الأقرب إلى وجدانى وأفكارى ونظرتى إلى شمولية الحياة ، هى عماد عبد الحميد فى النظر إلى أسفل ، وبكر رضوان فى الأسوار ، ورءوف العشرى فى الخليج ، حُمّلوا بآراء وأفكار من آراء الكاتب نفسه ، لم يفرضها ـ فيما أتصور ـ وإنما جاءت فى عفوية الكتابة ، ووفق التزامى بأن يكتب العمل الأدبى نفسه . أبدأ فى كتابته وليس فى الذهن سوى أفكار غير محددة ، أو هلامية ، ثم ما يلبث العمل أن يبين عن قسماته وملامحه ، ليكتسب صورته الكلية فى النهاية . فى قصتى " تلك اللحظة " تصادر حرية المرء بتهمة غير محددة . الموقف نفسه يواجهه الأستاذ فى رواية الأسوار ، وبطل قصة التحقيق [ مجموعة " هل " ] ، ويضطر محمد يوسف المصرى إلى الاعتراف تحت قسوة التعذيب ، بأنه عضو فى تنظيم يخطط لقلب نظام الحكم . ثم يعانى محمد قاضى البهار [ قاضى البهار ينزل البحر ] تأثيرات سلسلة متوالية من التقارير البوليسية ، تصر أن تدينه بتهم محددة ، رغم خلو حياته مما يدين ، أو يبعث على الريبة ، انصياعاً لتوجيهات الجهة الأعلى بأن محمد قاضى البهار يمارس نشاطاً مشبوهاً ، ولا يجد قاضى البهار ـ فراراً من الضغوط القاسية ـ إلا أن ينزل البحر !. وتواجه الحرية ، حرية المواطن والوطن ، مأزقاً ، عندما ينتشر الفساد والمحسوبية والرشوة وغيرها من القيم السلبية [ أذكرك بروايتىّ من أوراق أبى الطيب المتنبى ، والنظر إلى أسفل [ ويصبح تغيير الأوضاع مسألة مهمة ، مطلوبة ، سواء بالاغتيال الفردى ، كما فى النظر إلى أسفل ، أو بالثورة الشعبية كما فى من أوراق أبى الطيب المتنبى . البطل المطارد ـ كما تكاد تجمع الكتابات النقدية ـ شخصية رئيسة فى معظم أعمالى ، سواء كانت قصصاً أم روايات ، وهؤلاء الأبطال لم يرتكبوا جريمة من أى نوع ، فيفرون منها . إنهم يفرون بحريتهم من مطاردة السلطة ، من قهرها ، حتى لو لم يمارسوا نشاطاً من أى نوع [ قاضى البهار ] أو لضمان الاستكانة وعدم التفكير فى الثورة [ المتنبى ] أو لأن الحاكم يحرص على أن يصادر كل ما فى حياة الناس ، حتى القيم الجميلة [ قلعة الجبل ] أو لمحاولة الخروج من أسوار المعتقل إلى حياة أكثر رحابة وإنسانية [ الأسوار ] . حتى مطاردة ناس الصهبة لمنصور سطوحى ، لا تخلو ـ فى ضوء الرغبة فى الفرار من سطوة الأب وقيود المجتمع ـ من دلالات يصعب إهمالها [ الصهبة ] إلخ . *** كانت الحرية ـ فيما أتصور ـ نبض روايتى الأولى الأسوار . صرخ نزلاء المعتقل فى نفس واحد : الإفراج .. الإفراج ، وأجروا القرعة التى دفعوا بها أحدهم ليكون فدية عن الآخرين . القضية هى صلة المثقف بمجتمعه . التخلف الذى يرسف الناس فى إساره يحول بينها وبين التحرك الإيجابى ، سعياً للخلاص من واقعها ، ويأتى دور المثقف مهماً ، ومطلوباً ، لرفض الواقع ، ومقاومته . ذلك هو الدور الذى تؤهله له ثقافته ، بل إن ما حصل عليه من ثقافة ـ متميزاً بذلك عن غالبية مواطنيه ـ يدفعه لأداء دوره ، ويفرضه عليه . لكن قضية الحرية هى الشريان الرئيس فى جسد الرواية ، فالمثقف يشغله غياب الديمقراطية فى حياة الوطن البلاد ، ثم يشغله غياب الحرية فى حياة الوطن المعتقل . وكانت مشكلة بكر رضوان الأولى هى أن فقدان الحرية لم يكن يمثل شاغلاً لهؤلاء الذين بذل حريته دفاعاً عنهم ، بدوا راضين بحياتهم ، ولا يعنيهم التغيير ، ويتساءل الأستاذ : أليس الأجدى أن نناقش مأساة موتنا البطئ داخل هذه الأسوار ؟ , وكلمة الإفراج التى لم تكن تجاوز جدران العنابر ، فى همس متردد ، تكاد تكون سراً ، يحرص الجميع عليه ، أصبحت محور النقاش المستفيض " ويعتق أولئك الذين ـ خوفاً من الموت ـ كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ( عبرانيين 2 : 14 ) " وأفتى فقهاء ذلك العصر ببطلان الحبس " ( المقريزى ) . كانت الكلمة سلاح الأستاذ فى حربه من أجل الحرية لنزلاء المعتقل " كنت أقول كلاماً أتصوره طيباً " . لم يحمل سلاحاً ، ولا دعا إلى التدمير ، لكن كلماته الطيبة المؤثرة ذات الجدوى ، هى التى دفعت نزلاء المعتقل إلى التحول فيما يشبه كائن واحد ، يصرخ بآخر ما عنده : الإفراج .. الإفراج ! " ولم يدر أحد كيف ولا أين بدأت الفوضى تكسر الطوق البشرى فجأة ، ليتوزع بلا رابط فى الساحة الواسعة ، اختلطت البنادق والشتائم والصراخ والكرابيج والسيور الجلدية ونفير البروجى وطلقات الرصاص ، تحول الوجود كله إلى معركة ضارية بين النزلاء والحراس ، وامتد الزئير الوحشى إلى ما بعد الصحراء والأودية والجبال : الإفراج .. الإفراج . (يتبع)
النثر ـ فى تقدير همنجواى ـ ليس مجرد زخارف على الهامش ، لكنه بناء معمارى فنى شديد الحيوية ، العمل الفنى يتألف من عناصر فنية ، لكل منها وظيفته المحددة ، والمرتبطة عضوياً بوظائف العناصر الأخرى ، بما يحقق التفاعل بين كل العناصر ، تحقيقاً لعمل فنى يسعى إلى التفوق . ومن ناحيتى ، فقد كنت أريد أن أمتلك صوتاً خاصاً بى فلا أقلد أحداً ، أحاول ـ فى كل ما أكتب ـ أن أرتاد آفاقاً ربما تكون مجهولة لى فى الأقل ، إن لم تكن مجهولة للكثيرين ، وكما يقول فرانسوا مورياك ، فإن على كل روائى أن يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص ، وإن كل رواية هى مثل كوكب آخر ، له قوانينه مثلما أن له نباتاته وحيواناته الخاصة . كل رواية مثل كوكب آخر ، لكننى أتصور ـ فى الوقت نفسه ـ أن الفنان لا يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص . أرفض كلمة " يخترع " ، فبالإضافة إلى الموهبة ، فإن الأسلوب والتكنيك ينبعان من داخل العمل نفسه ، هو الذى يفرضهما ، والأسلوب ـ والتكنيك ـ الذى قد يكتب به الفنان رواية ما ، قد يبدو مجافياً لرواية أخرى . تعجبنى النصيحة التى وجهتها شاعرة أمريكية إلى همنجواى : دع الناس فى حياتهم ، لا تقل شيئاً عنهم ، بل دعهم هم وحدهم يتكلمون . ويقول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكننى لم أكن أعرف القصة " . وكان مشهد فتاة صغيرة فوق شجرة دافعاً لأن يكتب فوكنر مئات الصفحات ، هى روايته الرائعة الصخب والعنف . وكنت حين بدأت كتابة روايتى الصهبة أعلم بأمر واحد فقط ، هو طقس الهبة نفسها ، عملية نزع النقاب . وفيما عدا ذلك ، فلم أكن أعرف شيئاً ، اخترت للرواية أن تكتب نفسها ، كلما أضفت صفحات توضحت شخصيات ، وظهرت شخصيات لم تكن موجودة ، وتخلقت أحداث ربما غابت عن تصورى ، بحيث اكتملت فى النهاية رواية لم أكن أعرف من شخوصها سوى الفتاة المنقبة فى الصهبة ، والشاب الذى نزع نقابها ، أما بقية الشخصيات والأحداث فقد تخلقت أثناء كتابة العمل نفسه ، لم تشغلنى الحبكة ، ولا العقدة ، ولا اختلاط الواقع والخيال ، ولا تداخل سيرتى الذاتية بالسير الذاتية للآخرين ، ولا الأحداث القديمة بالأحداث المعاصرة ، والتفكير بالسرد .. كل ما تريد الرواية أن تكتبه ، كتبته حالاً . مع ذلك ، فإن " الحدوتة " هى النطفة التى يتخلق منها العمل الفنى . وعلى الرغم من اختلافى مع أرنولد بينيت بأن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات ، ولا شيء سوى ذلك ، فلعلى أتفق تماماً أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى البناء الروائى ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أولاها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة ، وإن تصور بعض الروائيين والنقاد أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها . وكانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، إلى غير ذلك من المسميات ، هى الباعث الحقيقى لأن تتحول روايتى الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث وشخصيات ، ثم تخلقت فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ أثناء عملية الكتابة ـ سماتها النهائية . الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وتشمل عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى الفنون الأخرى . أتصور أن ذلك يتبدى ـ بدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار ، وانتهاء بأهل البحر . إن على الفنان أن يثرى إبداعه السردى بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى . ثمة التحقيق المطول [ إمام آخر الزمان ] والتقارير البوليسية [ قاضى البهار ينزل البحر ] والرواية التاريخية التى تدعى الاجتهاد [ قلعة الجبل ] وتقنية القص واللصق [ الأسوار ] ومخاطبة الآخر [ النظر إلى أسفل ] واليوميات [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] وتداخل الزمان والمكان [ الخليج ] واختلاط الواقع بالحلم [ الصهبة ] والتبقيعات النثرية [ مد الموج ] والاعترافات [ اعترافات سيد القرية ] والواقعية التسجيلية [ الحياة ثانية ] وتعدد الرواة [ بوح الأسرار ] والحكى السردى [ صيد العصارى ] وتوظيف التاريخ [ الجودرية ، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ] وتوظيف التراث الشعبى [ زهرة الصباح ] واللوحات المنفصلة ، المتصلة [ رباعية بحرى ] وتقنية الموسوعة [ أهل البحر ] . وأحياناً ، فإن ضمير المتكلم ـ كما تقول ناتالى ساروت ـ أفضل وسيلة لإرضاء الكاتب والقارئ سواء بسواء ، إنه يهب إحساساً ـ ولو ظاهرياً ـ بالتجربة الحية والأصالة ، مما يقلل من شك القارئ ، ولكى يجذب الكاتب قارئه إليه ، فقد " جعل البطل يتحدث بضمير المتكلم ، واتضح بالفعل أن هذه الوسيلة أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية فى هذا الصدد ـ لذا لجأ إليها الكثيرون ، ولازالوا يلجأون ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الأول ص 235 ) . سبقنى إلى فنية تعدد الرواة ، أو تعدد الأصوات [ قصتى متتابعات لا تعرف الانسجام ، حولتها ـ فيما بعد ـ إلى رواية باسم بوح الأسرار ] أدباء كثر : فوكنر فى الصخب والعنف ، فتحى غانم فى الرجل الذى فقد ظله ، نجيب محفوظ فى ميرامار ، جبرا إبراهيم جبرا فى السفينة ، لورنس داريل فى رباعية الإسكندرية ، وغيرهم .. لكن حاجتى لتعدد الأصوات فى بوح الأسرار لم تكن لمجرد رواية ما حدث ، أو التعليق عليه ، الاتفاق أو الاختلاف ، وإنما لإعادة اكتشاف الحدث ، إعادة تفسيره ، تعميقه بالأضواء والظلال ، بما يهب القارئ فرصة حقيقية للتعرف إلى سيرة بطل الرواية محمد أبو عبده . *** الفن ـ مهما يخلص فى تصوير الواقع ـ فإنه يظل أقل واقعية من الواقع نفسه . الواقعية التامة مستحيلة فى الفن ، فالفن انتقاء يخضع لموهبة الفنان ورؤيته . يشير ديهاميل إلى أن بلزاك قد خلق نماذجه بنفسه ، فهو لا يصور الأشخاص الواقعيين ، إنما يعيد خلق هؤلاء الأشخاص . العناية بتفصيلات الزمان والمكان ، وإجادة رسم الجو والشخصيات .. ذلك كله يشكل ما يسمى الإيهام بالواقع ، شريطة أن يحتاجه العمل الفنى فعلاً ، فلا يأتى مجرد تزيدات ، أو نتوءات ، أو حواشى قد لا يحتاج العمل إليها . ومع ملاحظة أن نتاج الفن ـ كما يقول جوتة ـ يختلف عن نتاج الطبيعة ، فهو لا يكررها صورة طبق الأصل " النتاج الفنى هو طبيعة ثانية " . المتلقى حين يعلن ـ بينه وبين نفسه ـ : هذه الشخصية الروائية تشبه شخصية فلان الذى أعرفه ، يؤكد ـ ضمناً ـ أن الشخصية الروائية ليست من الخيال تماماً ، حتى لو تصور الفنان نفسه ذلك . *** اللغة ـ فى تعريف نقدى ـ هى أداة التعبير فى فن الأدب ، فهو إذن فن لغوى . الكلمات أهم أدوات الكاتب ، ومن هنا تأتى عنايته باللغة ، أو هذا المفروض . يقول العماد الأصفهانى : " لا يكتب إنسان كتاباً فى يومه إلا قال فى غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر " . لقد حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التى تلقاها همنجواى من أحد نقاده ، فأتخلص من كل الألفاظ " القنبلية " ، وأصف الأشياء ببساطة أشد ، وأضع الكلمة المناسبة فى الموضع المناسب . معانى الكلمات مهمة جداً ، لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضاً ، وربما أرجأت نقل قصة لى على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر ، لأن إحدى كلماتها تبدو نشازاً ، أو غير متسقة ، مع بقية الكلمات . وكما يقول فلوبير فإن " جملة نثر جيدة حقاً ، تساوى فى جودتها بيتاً من الشعر ، وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة " . أذكر أنى بدأت حياتى الأدبية شاعراً ، مثلما بدأ الكثير من الأدباء . الأدق أنى أحببت الشعر ، وحاولت أن أسبح فى بحوره ، وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكى محاولات شعراء قدامى ومعاصرين ، لكنها لم تكن تعبيراً بأية حال عن موهبتى الخاصة . فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لى موهبة حقيقية فى مجال الشعر ، عنيت بالكتابة القصصية والروائية ، وإن ظل حبى للشعر ، أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديداً فى كتاباتى النثرية . ولعلى أستعير قول لورنس ديرل بأنى شاعر تعثر فكتب نثراً ، أو أنى روائى شاعر ، يشغلنى التوتر فى الجملة ، الصورة ، التداعيات الداخلية ، إلخ . والحوار مهم أيضاً فى الرواية . إن حواراً قصيراً ، مكثفاً ، بين شخصيات الرواية قد يغنى عن سرد مطول يفتقد المعنى . وفى العديد من رواياتى إفادة مؤكدة من درامية الحوار ، فهو جزء من البنية الدرامية للرواية ، لا تستقيم بدونه ، جسر يستحيل إلا أن تمضى عليه بين فقرات السرد . لقد طالما حذر موباسان روائيى عصره أن يحكوا كل شيء " فذلك أمر غير ممكن ، لأنه يلزمك مجلد كامل كى تروى ما حدث لشخص واحد ، فى يوم واحد " . وكان رأى شوبنهاور أن على الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل ، ويتحاشى التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها ، أن يفرق بين ما هو لازم ، وما هو من قبيل التزيد الذى لا لزوم له . ويقول تشيخوف " الإيجاز توءم الموهبة " ، ويكتب فى إحدى رسائله : " قد يبدو غريباً أننى أحب ـ لدرجة الجنون ـ كل ما أتى مختصراً ، بل إنى لم أقرأ بعد ـ فيما كتبته ، أو ما كتبه غيرى ـ ما أطلبه من الإيجاز . وبالطبع ، فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل . ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز . من المستحيل ـ على سبيل المثال ـ أن نتصور ثلاثية نجيب محفوظ فى غير الحجم الذى صدرت به ، مثلما أنه من المستحيل تصور الحرب والسلام ، والأبله ، والجريمة والعقاب ، فى صفحات أقل مما صدرت فيها . باختصار ، فإنه إذا كان التكثيف مطلوباً ، فإن الاختصار المخل غير مطلوب . وعلى حد تعبير بيرسى لبوك فإنه مما يدمر القصة هو الإفراط فى معالجتها ، أو التقصير فى هذه المعالجة " . وإذا كنت أشدد على أهمية اللغة ، فإنى أشدد كذلك على أهمية الجوانب الأخرى للعمل ، أن يكون العمل فناً له وهج الفن ، وخصائصه ، وقيمته ، وجدواه . " الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى ، وكما يقول أرسكين كالدويل " هناك العديد من الكتاب الذين يملكون سيطرة كاملة على الشكل والتكنيك ، لكن ينقص قصصهم الإحساس ، أعتقد أن ذلك مهم " ( كيف أصبحت روائيا ص 85 ) . *** إذا كان تولستوى يذهب إلى ضرورة أن يتقمص الأديب شخصان ، هما الكاتب ذاته والناقد ، فإنى أفضل أن يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الإبداعية . القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة ، فالنقد الحقيقى ، المطلوب ، هو ما يمارسه الأديب على فنه ، وما يرتفع بمستوى أديب عن سواه ـ بالإضافة إلى الموهبة ـ هو ارتفاع حسه النقدى . المبدع الذى يفتقر إلى ملكة النقد ـ والرأى للروائية الإنجليزية إليزابيث بوين ـ لا وجود له ، بل إن مهنته كروائى لا تتحمل مثل هذا النقص . طبيعى أن الفنان لا يرضى تماماً عن نفسه ، ولا عن عالمه ، لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التى تنطلق فيها جياد إبداعاته . مع ذلك ، فأن يكون الفنان صاحب عمل ما ، فذلك لا يعنى أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهماً للعمل من الفنان نفسه ، أكثر استنباطاً لمعانيه ودلالاته . استمعت فى البرنامج الثقافى الإذاعى إلى حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور . بدأ نعمان فى تلخيص مسرحيته عيلة الدوغرى . قاطعه مندور ـ بعد لحظات ـ فى بساطة : أخشى أنك لن تحسن تلخيص عملك ، أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التى فهمتها . ولخص مندور المسرحية ، وأذكر أنه كان أكثر قدرة على تسليط الضوء على مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان . وكان أبو الطيب المتنبى يحيل السائلين عن شعره إلى شارح ديوانه وناقد شعره ، أبى الفتح عثمان بن جنى ، ويقول : عليك بابن جنى فإنه أعرف بشعرى منى . *** تقول بيرل باك : " لكى تكون كاتباً جيداً ، فعليك أن تكد ، بمعنى أن تنهض فى الصباح ، وتبدأ فى الكتابة مبكراً ، والذهن صاف ورائق ، فضلاً عن أن تبدأ الكتابة حتى لو لم يكن الذهن رائقاً وصافياً . عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هى ضرورية للعامل ، وربما أكثر ، لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب على العمل ، وليس هناك من يساعده فى أداء عمله ، إنه رئيس نفسه ، وهذا الرئيس هو عامل فى الوقت نفسه . وتقديرى أنه على الفنان ألا يرجئ عمل اليوم إلى الغد ، بحجة أنه مشغول ، فالوقت لن يكون فى حوزته ـ ذات يوم ـ بصورة مطلقة . وعلى الرغم من حرصى على عادة الكتابة اليومية ، فإنى أتذكر ـ دوماً ـ قول روبرت هنرى " إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة " ، وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه . ولعلى أتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا : " لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال . اتركه يزول . استدعه مرة أخرى " . على الفنان ـ إن اعتبر الإبداع قضية حياة ـ أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت ، حتى لو كان مجرد دقائق قليلة ، أنا أطمئن إلى ما كتبته فى تلك الأوقات العابرة ـ إن جاز التعبير ـ ، أوقات ما بين عملين ، أوقات الانشغال فى عمل لا يتصل بالإبداع ، وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوى . أجرى بالقلم على الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن ، وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة . كانت روايتى مد الموج إبداع ما بين أوقات العمل الإدارى نائباً لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين . وكانت قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون محصلة ضيق نفسى فى أيام الغربة ، حاولت رفضه فى استقالة ، فعبرت عنه فى قصة قصيرة . وكانت قصة أحاديث النفس المتداعية امتداد يوم صحفى كامل ، بدأ فى السابعة صباحاً ، إلى الثانية من صباح اليوم التالى . انصرف الجميع ، وخلوت إلى نفسى . أغرانى الورق الأبيض بأن أخط عليه كلمات ، كتبت جملة وشطبتها ، كتبت جملة ثانية ، استدعيت بقية الجمل ،حتى فرغت من كتابة القصة فى الصباح نفسه . حاولت ـ منذ تعرفت إلى الكتابة الأدبية ـ أن أكتسب عادة الكتابة اليومية ، بصرف النظر عن كل شيء ، حتى الأيام التى كان الإجهاد يلفنى فيها تماماً ، بعد تواصل عمل شاق ، كنت أحرص أن أكتب ، ولو بضعة أسطر . أتذكر قول جوجول : " لابد للكاتب أن يسيطر على قلمه ، كما يسيطر الرسام على فرشاته ، يجب أن يكتب شيئاً كل يوم ، فاليد ينبغى أن تألف الطاعة العمياء للأفكار . وكان استندال يرغم نفسه على العمل كل يوم ، وحاول كازنتزاكس ـ لما اشتد عليه المرض ـ أن يملى إبداعاته ، لكنه أخفق : مستحيل !.. لا أجيد الإملاء !.. عندما أمسك بالقلم فقط تأتينى الأفكار . والواقع أن الإملاء ـ بالنسبة للكاتب الذى تعود الكتابة ـ مسألة مستحيلة ، ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار فى الذهن ، والقلم الذى يجرى على الورق . عملية الكتابة باليد ـ بالنسبة لى ـ مهمة للغاية . قد أملى موضوعاً صحفياً ، لكن العمل الإبداعى لابد أن ينطلق من الذهن إلى الورق ، عبر الوجه، والرقبة ، والكتف ، والذراع ، والأصابع . وكان الشعور الأقوى عند همنجواى أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره . أعترف أنى حاولت أن تكون لى عاداتى المصاحبة للكتابة ، مثل شرب القهوة والسجائر ، وسماع الموسيقا ، والتحكم فى مساحات الضوء ، فلم أوفق . تكفينى المعادلة السهلة : فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم ، لا يشغلنى ـ بعد ذلك ـ أى شيء ، حتى الشاى تعرفت إليه متأخراً . كنت قد حاولت ـ قبلاً ـ أن تكون لى ـ مثل بقية الناس ـ هوايات أمارسها ، لكن الفشل كان هو الجدار الذى اصطدمت به كل محاولاتى . أوافق جون برين على أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذى تريده ، ليس بوسعك الانتظار حتى تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة : الجو الهادئ ، والضوء المناسب ، والموسيقا الخافتة التى تساعد على الكتابة ، والتخفف ـ ما أمكن ـ من الهموم الحياتية الخاصة . لن أنسى قعدة بيرم التونسى فى قهوة شعبية بشارع السد ، منشغلاً بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله ، كأنه يحيا فى جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات . الكاتب يجب أن يعمل فى كل الأجواء ، بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة ، وكما يقول نيكولاى استروفسكى ، فإن " الإلهام يأتى فى أثناء العمل " . كان مكتبى فى الجريدة ضمن ثلاثة عشر مكتباً ، فى مساحة حجرة متوسطة الحجم ، ومخزن لأوراق رئيس التحرير ، وبضعة دواليب للصحف ، وما يبيعه السعاة من سجاير وبسكويت وأقلام إلخ [ تغيرت الظروف ـ بعد عناء سنوات طويلة ـ إلى الأفضل ] مقولة . وكنت أتذكر فى ذلك اللغط مقولة همنجواى : إن المرء يستطيع أن يكتب فى أى وقت يتركه الناس وشأنه ، ولا يشوشون عليه ويقاطعونه . كانت الشوشرة فضل الزملاء المقيمين فى الحجرة ، والمترددين عليها لتناول فطورهم ، بعيداً عن الأعين فى الصالة الواسعة ، فضلاً عن السعاة الذين تتعالى أصواتهم ـ بلا انقطاع ـ فى طلب احتياجات الزملاء فى الصالة. الإخلاص للفن قد يدفع الفنان " إلى التضحية بنفسه ـ القول لبوريس بوريسوف ـ والابتعاد عن أى شيء يعرقل عملية الإبداع لديه ، بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقربين له ، والتصرف معهم بقسوة " . الفن يحتاج إلى ضحايا ، تلك مقولة شهيرة ، لكنها لا تتجه إلى الفنان وحده ، وإنما تشمل القريبين منه أيضاً . وإذا كنت ـ فى أحيان كثيرة ـ قد أهملت البعد الاجتماعى ، من حيث المشاركة فى الحياة العامة ، والخروج إلى المجتمعات ، فإن ذلك قد انسحب بالضرورة على القريبين منى ، زوجتى وابنىّ ، وأصدقائى الذين أحبهم ، لكننى لا أستطيع أن أبذل لهم وقتى على النحو الذى يريدونه ، وأريده أنا أيضاً . ............................. نشرت فى "فصول" بعنوان " كتبت ما تريده الرواية " ـ العدد الأول صيف 1998
لفلوبير عبارة شهيرة هى " أنا مدام بوفارى " ، بمعنى أنه عندما نتحدث عن مدام بوفارى ، فإنه كان يتحدث عن نفسه . والمؤكد أنى لست موجوداً خارج أعمالى . ما أكتبه يتضمن وجهاً من وجوه حياتى : قراءة ، مشاهدة ، تجربة ، إلخ . من الصعب أن أجد ذلك فى كل ما كتبت ، مع أنى أجد نفسى فى الكثير مما كتبت . أجد ناساً عرفتهم ، التقيتهم ، صادقتهم ، عايشت خبراتهم وتجاربهم ، ولحظاتهم الهانئة والمأساوية ، أجد العديد من الأماكن والأزمنة التى اتصلت بحياتى ، بصورة وبأخرى . لاحظ الناقد " لاكان " فى دراسة له عن الكاتب الفرنسى الشهير أندريه جيد أن تفصيلات السيرة الذاتية لحياة الكاتب ومنمنماتها ، تشكل بعداً أساسياً فى أعماله الفنية [ لا يخلو من دلالة قول همنجواى ، أنا لا أعرف إلا ما رأيته ] . وأتصور أن هذا هو الدور نفسه الذى تشكله سيرتى الذاتية فيما كتبته ، وأكتبه ، من أعمال . أذكر حين أنهيت قصتى " القرار " مفاجاة القصة لى بأن الشقة التى اختارها الراوى للإقامة بعيداً عن مشكلات أخوته ، هى الشقة نفسها التى أمضيت فيها طفولتى وصبلى إلى بداية العقد الثالث ، فى الطابق الثالث ، البيت رقم 54 شارع إسماعيل صبرى بالإسكندرية . وأتذكر قول باشلار : " إن البيت الذى ولدنا فيه بيت مأهول ، وقيم الألفة موزعة فيه، وليس من السهل إقامة توازن بينها ، إذ هى تخضع للجدل ، فالبيت الذى ولدنا فيه محفور بشكل عادى ، وفى داخلنا ، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية " , ولعلك لاحظت شبهاً واضحاً بين الكثير من الشخصيات التى قدمتها فى أعمالى ، ذلك لأن معظم هذه الشخصيات تعبير ـ بدرجة وأخرى ـ عن شخصية الكاتب نفسه . القصة يجب أن تكتب نفسها . فعل الكتابة اكتشاف . أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماماً صورتها النهائية . القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها . قد يأتى المولود فى صورة غير التى كان يتوقعها الفنان . قد تبين القصة ، أو الأحداث ، عن ملامح ربما لم تخطر فى باله . كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو ، فى أن الثانى عنده قصة جاهزة ، فهو يحول القصة إلى مشاهد . وفى كل الأحوال ، فإن كتابة القصة ينبغى ألا تخضع للمنطق الصارم ، للعقلانية التى قد تفقدها تلقائيتها . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته . أحياناً ، أبدأ فى تصوير الشخصية ، ولها فى مخيلتى ملامح محددة ، ثم تذوى الملامح التى تصورتها أثناء عملية الكتابة ، لتحل ـ بدلاً منها ـ ملامح أخرى ، فتأتى الشخصية مغايرة ـ سلباً أو إيجاباً ـ لكل ما تصورته . وربما بدأت فى كتابة عمل ما وفى داخلى وهم أنى أمتلكه ، أعرف البداية والنهاية . فإذا بدأت فى الكتابة ، أسطر قليلة أو كثيرة ، لم أعد سوى أداة للتسجيل . القصة تكتب نفسها ، كأنها الأمواج التى تذهب بالقارئ إلى شواطئ لم يكن يتوقع ربانه الوصول إليها . وكما يقول سيمينون : " أنا لا أعرف فى البداية ماذا سيحدث لأبطالى بعد قليل ، فإذا عرفت ذلك ، انتابنى السأم والملل . أنا لا أكتشف الوقائع دفعة واحدة ، بل أقع عليها وأنا أنتقل من فصل إلى آخر ، وكأنى أحكى قصتى لنفسى لا للآخرين " . وبالتأكيد ، فإن ما أريده بعد أن أتم كتابة عمل ما ، يختلف عن الصورة التى كتبته بها فعلاً ، تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أتصور أنها أساسية ، لتحل بدلاً منها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مختفية فى تلافيف الذاكرة ، ثم ظهرت فى وقت لم أحدده . انطلاقات الشعور لا تعرف الترتيب ولا المنطق ، ولا يحدها زمان ولا مكان ، فهى أشمل من كل زمان ومكان ، يختلط فيها الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل . لم يبدأ همنجواى أياً من رواياته على أنها رواية ، لم يجلس إلى الورق ـ ذات يوم ـ ليكتب رواية ، لكنه كان يبدأ كل ما كتب على أنه قصة قصيرة ، قد تنتهى بالصورة التى أرادها ، وقد تطول فتصبح رواية . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، لكن اتساع القراءة فى الفترة التاريخية وسع كذلك من بانورامية الصورة التى يجدر بى تناولها ، فتضاعفت الصفحات القليلة ـ كما كنت أعد نفسى ـ إلى ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة . وكانت تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ كتاباً أولياً ، يتكون من ثمانى قصص ، هى أقرب إلى الاسكتشات ، أو الرسوم التخطيطية ، لأعمال أشد اقتراباً من فن القصة القصيرة ، أشد اقتراباً من النضج . باختصار ، فقد وشت تلك اللحظة بطموحاتى بأكثر مما رسخت تلك الطموحات . وكان على بعدها أن أعطى لنفسى إجازة ، أعيد خلالها تثقيف نفسى ، وأعيد النظر فى أوراقى ، وأناقش إعجابى بالأساتذة الذين قرأت لهم : هل يقف عند حد الإعجاب ، أو أنه يمتد ـ أحياناً ـ إلى التأثر والتقليد ؟ وهل الكتابة الروائية والقصصية هى الفن الذى ينبغى أن أخلص له بالفعل ؟ وإذا كانت الصرامة القاسية التى ألزم بها أستاذنا نجيب محفوظ نفسه فى مجال الكتابة الإبداعية ، هى المثل الأوضح ، والأقرب ، بين أساـذتى من الأدباء العرب ، فإن الصرامة القاسية نفسها كانت مثلاً لى فى السيرة الذاتية لأديب فرنسا الأشهر جوستاف فلوبير [ 1821 : 1880 ] . رفض فلوبير تكرار التجربة الأدبية ، أو التأثر برؤى وتجارب الأخرين ، جعل همه أن يفرز أسلوباً مميزاً ، طابعاً أدبياً يسم أعماله ، وشغله ـ فى الوقت نفسه ـ وجوب الانطلاق فى كل إبداعاته من تجربة حسية عميقة ، فلا يكتفى بالقراءة أو الإنصات ، إنما هو يعانق الناس والأشياء ، يتعرف فيهم وفيها ـ بصورة مباشرة ـ إلى شخصيات وأحداث عمله الأدبى ، أياً تكن طبيعة ذلك العمل ، وبصرف النظر عن المكان الذى ينتسب إليه ، وينطلق منه . وبالقدر نفسه الذى تمنيت أن أكتب عملاً ملحمياً ، رواية أجيال ، أو نهر ، مثل ثلاثية نجيب محفوظ ، فقد تمنيت أن أكتب عملاً عبقرياً مثل مدام بوفارى التى أنفق فلوبير فى كتابتها لأكثر من عشر سنوات . ألتزم بالصرامة التى تبلغ حد " الرهبنة " ، أشاهد ، أتعرف ، أقرأ ، أحاول الاستيعاب والهضم والفهم والتفهم ، وتقديم محصلة ذلك كله فى أعمال فنية . وحتى الآن ، فإن العمل ـ أى عمل ـ يشغلنى ، وأفكر فيه ، حتى يدفعنى ـ فى لحظة يختارها ـ إلى كتابته . جاوزت هذه الفترة فى الأسوار ثمانى سنوات ، واقتربت فى أعمال أخرى من الفترة نفسها ، فى حين أن " المتنبى " ألحت كفكرة ، ثم ألحت فى الميلاد ، بما لا يجاوز بضعة أيام ، لكن الأحداث امتدت ، وتشابكت ، فصارت القصة القصيرة قصة مطولة ، أو رواية . كانت المتنبى روايتى الثالثة . شدنى فى سيرة الرجل ما كان يتناوب حياته من أمل ويأس ، حتى لقى مصرعه ـ بصورة مأساوية ـ فى دير العاقول ، لكننى اخترت من حياة المتنبى ما يجعله شاهداً على الحياة فى مصر أعوام إقامته فيها ، وإن ارتكزت إلى مقولة كروتشى " التاريخ كله تاريخ معاصر " ، بمعنى أن التاريخ هو رؤية للماضى بمنظار الحاضر ، وفى ضوء مشكلاته ، وكان ذلك هو الباعث أيضاً لكتابتى روايات أخرى : إمام آخر الزمان ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، قلعة الجبل ، ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله . وجدت فى استعادة التاريخ إضاءة لأحداث معاصرة . *** أعترف أنى أحاول ـ ما أمكن ـ أثناء كتابة العمل ، ألاّ أسيطر على الفكرة بصورة مطلقة . تخف قبضتى على العمل ، أترك له تلقائيته . أختلف فى باعث تقدير برسى لوبوك لرواية تولستوى " الحرب والسلام " ، وأنه كان " يعرف تماماً أين يذهب ، ولماذا ، وليس أى شيء فى أية لحظة يشير إلى أنه لا يمتلك السيطرة الكاملة المحكمة على فكرته ( صنعة الرواية ص 37 ) . ثمة قول " لا وجود فى الحلم لشيء اسمه الضمير ، فالقاتل قد يقدم فى الحلم على السرقة أو القتل أو الاغتصاب ، وهو لا يبالى أو يستشعر ندماً . ويقول فولكت : " لا تعرف الغرائز الجنسية فى الحلم أى نوع من الكبح ، فلا حياء ولا رادع ولا منطق ، بل إن الأشخاص الآخرين أيضاً الذين يراهم فى الحلم ، كثيراً ما يكونون فى صورة أخلاقية مريعة " . وفى قصة " رحلة بورين " لأندريه جيد لا يدرى بورين : هل ما يحياه هو رحلة حقاً أم لا ؟ . يقول : نحن ربما نعيش حلماً ، إنه خداع ، فليست هنا رحلة أصلاً " . وفى روايتى الصهبة لم أعن بتدبر السؤال : هل كان ما جرى حقيقة أم حلماً ؟.. وفى البحر أمامها تطمئن نجاة إلى تردد زوجها الراحل على البيت ، وتستغنى به عن الآخرين ، أما نجم وحيد فى الأفق فهى تنطلق من اختلاط المشاعر والرؤى والتصورات . الإحساس بالحياة والحلم يكاد يكون واحداً ، ثمة رابط كبير بينهما ، بحيث ينتفى الخلاف ، أو عدم التشابه . وكما يقول بورخيس فإن الحياة وسيلة للحلم ، أو وسيلة للحياة . مع ذلك فإنى حين أدعو لأن يكتب العمل الأدبى نفسه ، لا أقصد أن تنطلق القصة ، أو الرواية ، فى تهويمات ، أو تفقد المعنى ، أو تلجأ إلى الغموض والتلغيز ، ذلك لأن تسلح الفنان بثقافة موسوعية سيفيده ـ ولو فى النظرة النقدية المتأملة الأخيرة ـ فى تبين قيمة ما كتبه ، سلباً وإيجاباً . *** الكثير من أعمالى يبدو فيها البطل واضحاً ، مسيطراً ، لا يفارقنا منذ بداية العمل إلى نهايته ، نتعرف إلى ملامحه النفسية ـ والجسمية أحياناً ـ وظروفه الاجتماعية والثقافية ، ونوازعه ، وأفكاره ، وآرائه . وعلى العكس من ذلك ، فإن بقية الشخصيات تعانى الشحوب ، لأنها تؤدى أدواراً مساعدة تعمق من دور البطل ، توضحه ، تجسده ، تثريه . والحق أنى لم أكن أعرف أن هذا هو ما تعتمده ـ فى الأغلب ـ الحكايات الشعبية ، فقد حاكيت إذن تكنيك الحكاية الشعبية ، دون تعمد !. وعموماً ، فإنى أفضل أن أقدم من ملامح الشخصية ما يساعد على التعرف إليها ، على فهمها . أحترم الميراث الإبداعى الروائى الذى يمتد عشرات الأعوام ، أتفهم قول همنجواى إن الرواية مثل كتلة جليدية عائمة فى البحر ، ثلثاها مغمور فى الماء ، فأنا أكتفى برسم الملامح التى تهب الشخصية بلا ثرثرة ، ولا زيادات مقحمة ، ولا كلام مرسل ، أو سرد ممل . أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية وليس لمجرد تصوير الشخصية فى ذاته . وأحياناً ، فإن وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية ، أو النفسية ، أو يصبح رمزاً ، أو معادلاً لما يمور به داخل الشخصية من انفعالات . ولعل فى مقدمة ما أعنى به أثناء الكتابة : تلك اللحظة التى يبدو فيها العمل قد انتهى ، فهو فى غير حاجة إلى حذف أو إضافة ، أو تدخل من أى نوع . أستطيع نقله على الآلة الكاتبة [ الكومبيوتر ] باعتباره مسودة نهائية ، أدفع بها إلى المطبعة ، وأنتظر ـ مطمئناً ـ آراء القراء والنقاد . أتذكر قول جراهام جرين : " هنالك لحظة فى الكتابة ، عندما يصل المرء إليها يشعر بأن الطائرة ، بعد أن قطعت ممراً طويلاً ، معبداً ، قد أقلعت ، وخرجت قليلاً عن السيطرة . عانيت طويلاً من تلك المشاعر التى لم تكن ـ بالتأكيد ـ مقصورة على ، لعلها المشاعر نفسها التى عاناها العديد من الأدباء ، والتى تدفعه إلى الهمس لنفسه : فلننتظر قليلاً ، أو : أنا لست على استعداد ، أو : إن تصورى لم ينضج بعد ، أو : إننى لم أجد بعد النغمة المطلوبة ، إلخ .. وكل التعبيرات للشاعرة الوسية الشهيرة " فيرا أنبر " ، فهى قد عانت تلك المشاعر إذن . وذات يوم ـ لا أذكر إن كانت قد سبقته إرهاصات ، أم أنه كان وليد اللحظة ـ قررت أن أتخلى عن التردد والوسوسة ، أن أنهى الإضافة والحذف والتعديل ، وأبدأ فى " تبييض " كومات الأوراق التى كتبت فى مدى سنوات وسنوات ، بخط ردئ للغاية ـ هو خطى ! ـ فهى لا تزيد عن مسودات يصعب أن تفتح مغاليقها إلا لكاتبها . المشكلة التى عبّرت عنها الشاعرة الروسية ، لما بلغت السن التى كان على الزمن أن يراعى فيها بكل عناية " فى هذه المرحلة من الحياة ، ينبغى على المرء ألا يقول : سأفعل كذا أو كذا يوماً ما ، بل عليه أن يفعل ما يجب عمله فوراً ، وإلا أصبحت عبارة " يوما ما " ، مطلقة وأبدية . وكان نقل " المسودات " على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر هو الفعل الآنى الذى كان علىّ أن أحرص عليه . لم يكن ثمة سبيل آخر لمواجهة كومات الأوراق التى تكاثرت ، وتضخمت ، حتى أنى كنت أبذل جهداً فى تذكر بعضها . *** يقول ألان روب جرييه : " إن القصة هى التى تبتدع أسسها الخاصة " . التكنيك وسيلة لنقل معنى العمل الفنى إلى القارئ ، كلما أجاد الفنان اختياره ، كان ذلك فرصة لتقديم أقصى قدر من المضمون ، أوالتكنيك الذى أكتب به عملاً ما ، هو سر يستغلق حتى علىّ شخصياً . العمل يفرض صورته وأسلوبه وطريقة تناوله . من الصعب تفسير ذلك فى ضوء رؤى فنية أو نقدية محددة . ثمة العديد من الاعتبارات التى ربما غاب بعضها عن الكاتب نفسه . أحياناً ، يغيب الوجود المستقل للزمان أو المكان ، فهما وحدة متكاملة ، ليس ثمة عقدة ولا حبكة ، وربما لا تتخلق رواية ـ بالمعنى التقليدى ـ على الإطلاق . لا أعنى إهمال الشكل ، فالشكل مهم جداً ، ذلك لأن الفرق كبير ـ ذكرت هذا المثل فى مقدمة كتابى مصر فى قصص كتابها المعاصرين ـ بين شكوى فى رسالة ، وقصة فى رسالة ، مقابلاً لوعى الفنان الحاد بقضايا مجتمعه وعصره ، والتزامه بالتعبير عنها . ومع أن حقيقة وجود القاص تبدو واضحة لنا ، فإنه يميل إلى البقاء فى الظل كما لو أنه أطل من نافذة ، يشاهد العالم من تحته ، فجاءت شخصيته مجسدة فى ساحة مضاءة ، دون أن يتبين القارئ ملامحه بدقة . وكما يقول كيتس ، فإن " الفنان الأصيل هو الذى لا يفرض شخصيته عليك ، لأنه هو نفسه بلا شخصية " . ويذهب هنرى باير إلى أن من نقاط الضعف فى الرواية الفرنسية تلك المراقبة الشديدة للذات ، والتى تصل إلى حد تسلط الروائى على شخصياته ، لكن الفرنسيين أصبحوا يضيقون بتلك الشخصيات التى يكبلها الفنان بأفكاره ، دون أن يترك لهم حرية التصرف والمغامرة الذاتية . أزعم أنى كنت مؤمناً بذلك الرأى قبل أن أقرأه ، وقبل أن أقرأ لهنرى جيمس الرأى نفسه ، وإن زاد فدعا إلى اختفاء الفنان من عمله . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته ، وعلى حد تعبير فلوبير ، فإن الفنان فى عالمه الروائى صاحب القدرة على كل شيء ، رغم أنه لا يكشف عن ذاته . لعلى أتفق كذلك مع الرأى الذى يؤكد أن " كل القواعد التى توضع لفن ما ، إنما توضع لتخرق .. إن الشكل ينبثق من التجربة انبثاقاً طبيعياً . وعلى العكس ، يكون مقلداً بقدر ما يحاول أن يصب التجربة فى قالب جاهز مصنوع مسبقاً " ( الحياة ـ 28/11/1989 ) . (يتبع)
القصة تكتب نفسها ........................... " إن الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن " بوشكين " للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده " أندريه جيد إن الفن يزلزلنى ، عبارة لفلوبير ، أتذكرها كلما أنهيت عملاً ما . كانت الكتابة ـ فى تقدير فورستر ـ أمراً مريحاً ، وأعلن دهشته لعبارة " آلام الخلق " . وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلى نفسه . والكتابة ـ عند الكثيرين ـ هى مجرد تسلية . يغيظنى قول أحدهم ، رداً على اعتذارى عن موعد بأنى مشغول : يعنى مشغول فى ايه ؟. والكتابة : أليست مشغولية ؟ أليست هما يجب حشد النفس له ؟. أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضرباً من السحر ، وأنها تخلو من الجدية . عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها ، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول . وحين سئل وليم ستايرن : هل يستمتع بالكتابة ؟. أجاب : كلا بالقطع !. نعم ، إنى أشعر شعوراً طيباً عندما أجيد ، لكن ذلك الشعور يتخللهالألم الذى أعانيه كلما شرعت ـ كل يوم ـ فى الكتابة . بصراحة ، إن الكتابة جحيم ! اللغة تقول إن الإبداع هو " إحداث شيء على غير مثال سابق " . وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليه ، فإن ناتالى ساروت تعلن " يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون " . ويقول سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً من قبلى لم يقم بهذه المهمة " . ولعلى أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هى أن تبين دائماً عن الجديد . الخطأ الأكبر الذى يقع فيه الروائى هو أن يكون سلفياً ، فيكرر ما اكتشفه ـ من قبله ـ الآخرون . القول بانه لا جديد تحت الشمس يحتاج إلى مراجعة . ثمة الجديد دائماً تحت الشمس ، وكل يوم هو إضافة ـ سلبية أو إيجابية ـ فى حياة الفرد والجماعة ، وفى حياة الكون جميعاً ، وإلا فماذا تعنى آلاف المنجزات التى تقدمها البشرية ، فى توالى الأيام : الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها ؟. يعجبنى قول جارثيا ماركيث " الكاتب الذى لا يعرف ماذا يعمل ، يسعى دائماً ألا يكون شبيهاً بالآخرين ، لكنه يصبح فى الحال غير متجاهل للكتاب الذين يحبهم ، أفضل من هجرهم نهائياً " . ودلالة قول هيراقليطس " أنت لا تستطيع أن تستحم فى مياه النهر مرتين " واضحة ، فمياه النهر فى جريان دائم ، بحيث يغتسل المرء دائماً فى مياه جديدة . والحق أنى لا أذكر متى كان تعرفى إلى الإبداع السردى ، كقارئ فى البداية ، ثم كواحد من الذين يطمحون لتقديم إضافة فى هذا المجال . كانت أيام طه حسين هى أول ما أذكره من قراءات مؤثرة ، قرأتها فى حوالى الثامنة من عمرى ، أحببت لغتها فى القراءة الأولى ، ثم ألممت بضمونها فى القراءة الثالثة ، وأفدت ـ بعد ذلك ـ كثيراً من مكتبة أبى . كانت تضم عدداً هائلاً من المؤلفات التى تعنى بألوان المعرفة الإنسانية ، والقصة والرواية ـ بالطبع ـ من بينها . وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى ، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطى والمازنى وهيكل وحقى وعبد الحليم عبد الله ومكاوى وغيرهم من أدباء جيل الرواد ، وجيل الوسط الذين أتاحت لى مكتبة أبى قراءة مؤلفاتهم [ تعرفت إلى نجيب محفوظ فى مرحلة تالية ] . وقد أقدمت فى سن باكرة على إصدار كتابين [ التسمية لا تخلو من تجاوز ] يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة ، وهما الملاك وظلال الغروب . أنت تجد فى كل فقرة ، وكل تعبير ، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار . كنت أنفذ ـ دون أن أدرى ! ـ نصيحة د . جونسون " انقل كتابات أدبائك المفضلين حتى تستطيع ـ ذات يوم ـ أن تكتب مثلهم " . كنت فى مرحلة الصبا ، لم أستقر على أسلوب ، وإن تعجلت ـ فى الوقت نفسه ـ أن أكون كاتباً . كانت " الملاك " أشبه بمقال رثائى لأمى التى اختطفها الموت قبل سنوات . أما ظلال الغروب فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة . وبالطبع ، فإنى أعتبر هذين النصين من ذكريات الصبا ، بل إنى أتردد كثيراً فى وضعهما تحت تصرف الدارسين ، حتى لا يصدموا فى سذاجات البداية . أما قصة البداية التى أعترف بها ، فهى يا سلام من مجموعة تلك اللحظة . كنت أسير فى شارع شريف ، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية ، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح ، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم فى أى مكان . ولأن مصر ـ أيامها ـ كانت تواجه عدوان 1956 ، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب . ثم كتبت العديد من القصص القصيرة ، قرأها أستاذى أحمد عباس صالح ، فنصحنى بأن أمزق معظمها ، وأنشر أقلها ، وبعضها لم أنشره فى مجموعتى الأولى . *** يقول نورمان بوردور فى سيرته الذاتية : " الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضاً ، ولا أحد ، حتى المحللين النفسيين ، يعرف القوانين التى تحكم حركتها أو توقفها . فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة ، وحتى الدراسة النقدية ، هى هناك ، حتى قبل أن يخط الكاتب كلمة واحدة على الورق . وفعل الكتابة أشبه بالمفتاح السحرى الذى يفتح الباب المغلق ، فيبدأ الإبداع فى التدفق " . وبالنسبة لى فإنى أخشى العمل الفنى قبل أن أبدأ فى كتابته ، يشغلنى ، ويلح على . أقرر ـ مرات كثيرة ـ أن أخلو إليه لأكتبه ، لكننى أتذرع بحجة ما ، فأتشاغل عنه ، وإن ظل يشغلنى إلى حد بعيد . ثم أبدأ فى الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحاً داخلياً يدفعنى إلى ذلك . ربما انشغلت ، أو تشاغلت ، فتفلت اللحظة الماسبة . وحين أتوهم ثانية أنها قد عادت ، تأتى الكلمات باهتة ، باردة ، كالوجبة التى لم تقدم وهى ساخنة . وفى معظم الأحيان ، فإن البدء والختام فى قصة قصيرة ـ أحرص أن يكون ذلك فى جلسة واحدة ـ تأتى أقرب إلى المفاجأة . ربما تطاردنى الفكرة شهوراً ، فأتناساها وأهملها ، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى ، ثم يجرى القلم على الورق دون تعمد . ولعلى أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية " إننى لا أضعها أبداً ، إنما هى تنمو ، فهى تقبل على ملحة فى أن أكتبها ، ولولا أننى أحببت موضوعاتها لحزنت ، وما كان لشيء أن يحملنى على كتابتها إطلاقاً . أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلاً ، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدنى أن أكتبها ، فقد تململت قليلاً ، ثم كتبتها " ( ت نبيل راغب ) . ويعرّف جورج مور الرواية بأنها " تتابع منظم للحوادث فى أسلوب إيقاعى منظم للعبارات " . ولعلى أعترف أنى أبدأ فى كتابة العمل ، وأواصل الكتابة ، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل ، وغير ذلك من التعريفات التى أعتبرها مخزوناً معرفياً ، أفيد منه بالضرورة ، ودون تعمد ، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات إلخ ، عفوية الإبداع لا تلغى ثقافة المبدع ، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقاً . أحياناً ، أهم بكتابة رسالة أو مقال صحفى ، فيتحول ـ منذ البداية ـ إلى القصة التى كانت تشغلنى وتشاغلنى . وعندما أنتهى من كتابة القصة ، فإنى أعيد النظر فيها بين حين وآخر ، حتى أطمئن ـ فى النهاية ـ إلى إمكانية نشرها . فإذا نشرت ، لم يعد لى بها بعد ذلك صلة . ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذى لابد أن يغادر بأكمله رحم أمه ، فإنى أكتب بسرعة ، دون توقف . ما يشغلنى هو التدوين فحسب . ربما أتوقف أمام كلمة ، أو جملة ، أو موقف كامله ، فأتجاوز ذلك كله ، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة ، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك ، فأحاول أن أسود بياضها . بعض أعمالى واتتنى [ هل ، على سبيل المثال ] وأنا فى حلم يقظة ، وحين قرأتها ، لم أضف إليها ـ ولا حذفت ـ حرفاً ، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى [ لم أكن قد تعرفت إلى الكومبيوتر بإمكاناته المذهلة ! ] . كنت أتردد فى البوح بذلك الأمر ، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء . أذكر قول همنجواى " يحدث لى أحيانا أن أحلم بالسطور نفسها ، وفى هذه الحالة ، فإنى أستيقظ وأكتبها ، وإلا ربما نسيت الحلم تماماً " . كانت كوليت تقضى الصباح كله فى كتابة جملة واحدة . وأنا أفضل أن أترك لهذه الجملة موضعها فى السياق ، ثم أتأملها ، أضعها فى بالى ، أحاول صياغتها فى حياتى العادية : فى البيت ، فى المكتب ، فى الطريق ، حتى إن تشكلت على النحو الذى أطمئن إليه ، ملأت بها الموضع الخالى من السياق . تعمد وصل الجمل بالمعانى الغائبة يضر بالعمل الإبداعى ، فأنت قد تقبل ـ لتكامل النص ـ كتابة ما ، قد يكون فى وعيك أفضل منها . أنا أكتب القصة القصيرة ، أو الفصل فى رواية ، فى جلسة واحدة . لا أترك القلم والورق قبل أن أنهى ما بيدى ، يملى النص ما يحمله . ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء فى الكتابة ، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها . لا أحاول التدخل ، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب . وعلى حد تعبير همنجواى ، فإن همى الأول ـ وأنا أبدأ فى كتابة الرواية ـ هو أن أنجزها . إذا صادفت قلقاً فى بعض المواقف أو التعبيرات ، أو حتى الكلمات التى تهب المعنى ، فإنى أتجاوزها ليظل الخيط متصلاً إلى نقطة الختام ، ثم أبدأ فى رتق [ وأعتذر لردءاة التشبيه ! ] ما أهملته من قبل ، أو يبدو لى غير منسجم مع النص . لا أترك القلم ، أعتبر النص منتهياً إلاّ إذا بدا النص جسماً مكتمل الملامح والقسمات والتكوين ، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال ، قطعة نسيج خلت من العيوب التى تقلل من قيمتها . لا أقصد من ذلك أنى أكتفى بمجرد وضع السواد على البياض ، أو على حد تعبير موباسان " اكتب أى هراء ، ولا يهمنى ماذا يكون ، ثم أنظر فيه بعد حين " . أنا أكتب بالفعل ، أحاول أن أعبر بقدر ما تواتينى الموهبة ، وحضور اللغة ، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة ، أو الفقرة ، حتى لا أفقد المواصلة ، ثم أعود إلى النص ، أطيل قراءته ، أعاودها ، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدل ، حتى أطمئن إلى أنى لم أخطئ فى صياغة جملة ، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف . وربما أقدمت على تمزيق النص ، لأن صورة المولود شوهاء ، فلن تجدى إعادة نظر . عموماً ، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل ، وهذه الفترات عندى حين أقود سيارتى ، أو عند ركوبى المواصلات العامة ، أو لحظات القراءة . تثيرنى معلومة ، فأسرح فيها ، وربما بعيداً عن المعلومة نفسها . قد تأتى لحظات التأمل تحت " الدوش " ، أو فى دورة المياه ، أو حتى أثناء تناول الطعام . إنها تأتى فى اللحظات التى أنعزل فيها ـ دون وعى دائماً ـ عن الآخرين ، أذهب إلى جزر قريبة ، وبعيدة ، أتنقل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية ، فى هذه اللحظات ، تواتينى فكرة الرواية ، أو القصة ، أستكمل الجملة الناقصة ، أحذف الكلمة الزائدة ، وربما الحرف الزائد . قرأت لفيلكس ألكرن إن قلمه كان يجرى على الورق بقدر ما تواتيه السرعة ، فهو يجعل بعض الكلمات إشارات وخطوطاً ، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته . ربما كان خط ألكرن جيداً ، فهو يكتب ـ بسرعة ـ كلمات وجملاً واضحة . أما خطى فهو سيء فى الكتابة العادية ، ويصعب على قراءته ـ أحياناً ـ بعد أن أكتب بسرعة ، ولولا أن عمل زوجتى بالتدريس لأعوام طويلة ، فخبرتها فى الخطوط طيبة ، ولولا أنى أفلح فى القراءة بالتذكر ، فلعلى كنت سأتخلص من الكثير الذى قرأته ، يأساً من قراءته . *** يعرف بعض الأدباء " الإلهام " بأنه القدرة على أن يخلق المرء فى نفسه أنسب الحالات للعمل . ويقول أوستروفسكى : إننى مقتنع بشيء واحد ، هو أن الإلهام يأتى أثناء العمل ، والكاتب يجب أن يكون كالبناء فى هذا البلد ، أى أن يعمل فى جميع الأجواء ، سواء كانت سيئة أم حسنة " . أنا أتفق مع هذا الرأى تماماً ، فالقضية ليست فى " أنسب الحالات للعمل " ، ولكن فى مدى قدرتناعلى إيجاد تلك الحالة فى النفس . كذلك فإنى أتفق مع الرأى بأنه ينبغى على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام ـ وقد لا يأتيه ! ـ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه . من الخطأ ـ على حد تعبير جون برين ـ أن ننتظر الوحى قبل الكتابة ، لا لأن الوحى لا وجود له ، بل إنه لا يأتى إلا مع الكتابة . يكفى أن تكون لديك الصورة ، ليس من الحتم أن تكون عالماً بأصل الصورة ، المهم أن تكون لديك الصورة ، وهى لن تكون موجودة ، ومتبلورة إلى حد ما ، ما لم تكن قد اتخذت قراراً بكتابة القصة ـ أو الرواية ـ وهممت بكتابتها . ولعلى أشير إلى قول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكن لم أعرف القصة ، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث فى لمن تدق الأجراس ، أو وداعاً للسلاح . والحق أنى حين أبدأ فى كتابة عمل ما ، فإن صورته فى ذهنى لا تكون واضحة تماماً . إنى أكتفى بالفكرة دون تفصيلات ، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة ، لكننى أفضل أن يكتب العمل نفسه ، بمعنى أنى أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة ، حتى لحظة ترك القلم ، ذلك تعسف لا أتصور أنى أقدم عليه . وكما قلت ، فإنى أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح ، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة ، لأنها هى التى تهب تلك الملامح ، بإسهام من المخزون الذى أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات . عندما أبدأ الكتابة ، فإنى أعتمد كثيراً على الخبرات ـ خبراتى وخبرات الآخرين ـ الكامنة والمترسبة فى أعماقى . لا أجهد نفسى فى البحث ، ولا أحاول انتزاعها ، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق ، تظهر فى الوقت الذى تريده ، وعلى النحو الذى تريده ، دون تعمد ولا قسر من ناحيتى . وربما تكون الشخصية ، أو الحادثة ، غائبة تماماً ، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة . *** (يتبع)
والوقوف على أرضية الصفر ، بمعنى مواجهة الخطر ، وتحديه ، هو ما يلجأ إليه أبطال رواياتى ، عندما تحاصرهم الأزمة تماماً . يترددون فى البداية ، تنهكهم المطاردة ، يحاولون الاختباء أو الفرار أو التجاهل ، لكن الخطر يدفعهم ـ فى النهاية ـ إلى تحديه ، إلى مواجهته ، ومقاومته . فى روايتى الصهبة يقول الهاجس لمنصور سطوحى : لكى تفر مما يشغلك ، اقذف بنفسك داخله . وكان الوقوف على أرضية الصفر هو سر صمود بكر رضوان فى " الأسوار ، وسر حفاوة " الأستاذ " بالمصير المحتوم . وقد أذهل محمد قاضى البهار مطارديه ، وهو يصفّر ، ويغنى ، فى طريقه إلى البحر ، ليقذف بنفسه فيه . ومثلت مواجهة عائشة للسلطان خليل بن الحاج أحمد لحظات الحسم فى إصرار السلطان على أن ينتزع عائشة من المدينة ، لتقيم معه فى قلعة الجبل . واستطاعت زهرة الصباح أن تحيا فى ظل الخوف ، وتحب ، وتنجب . وفى " الجودرية " تأكد دور المهمشين فى صناعة الثورة ضد حملة بونابرت . وصارت الشقة المطلة على البحر فى البحر أمامها وطناً أعدت السيدة نجاة نفسها للدفاع عنه . وقد أراد بطل قصتى القصيرة المستحيل بإغلاق الأبواب والنوافذ ، وتكويم قطع الأثاث وراء الأبواب والنوافذ المغلقة ، أن ينأى عن الخطر فى خارج البيت ـ فعل مشابه لمد الأيدى أو إغماض العينين ـ اتقاء مواجهة ما يهدد الحياة . تناسى الرجل أن الخطر الذى يتحرك فى الخارج ، يهدد ، ويدمر ، إنما يستهدفه هو فى الدرجة الأولى . وفى قصة فى الشتاء يعانى البطل الفرار من المجهول ، فإذا تحتمت المواجهة ، بدا المجهول لا شيء لقاء إصرار البطل على المقاومة . وفى حدث استثنائى فى أيام الأنفوشى بدا السكوت عن مقاومة أسراب السمان ـ التى قاسمت أهل بحرى حياتهم ـ طريقاً إلى الجنون . وبالطبع ، فإن هذه الأعمال مجرد أمثلة . *** أذكر لأستاذنا زكى نجيب محمود قوله : " إنه ليكفى الكاتب العربى أن تكون أحداث العصر قد ألقت فى وجهه شيئاً اسمه إسرائيل ، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه ، مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكتاب من الجماعات التى اقترفت فى حقه هذا الجرم ، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها " ( العربى ـ يناير 1971 ) . كانت يا سلام أولى قصصى المنشورة ( 1958 ) هى التعبير عن انعكاس تجربة الحرب [ حرب 1956 تحديداً ـ على حياة البسطاء ، كما سجلها شاب فى حوالى الثامنة عشرة . ثم أصبحت مصر هى " القضية " فى كل ما كتبت ، مصر الماضى ، والحاضر ، واستشرافات المستقبل ، ما يعجز الفن عن تسجيله ، فإنى أحاول أن أناقشه فى دراسات . وقد أشرت فى مقدمة كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى أن من بين الأسباب التى دفعتنى لتأليفه ، والابتعاد ـ لسنوات ـ عن الكتابة الإبداعية ، تأكيد الصداقة بين الكاتب وبلاده ، بالتعرف المباشر ، وبالقراءة التى تشمل جوانب الحياة المصرية ، بكل اتساعها وخصبها وثرائها . العجوز فى يا سلام تأثرت حياته بنتائج الحرب ، لكن السلام الزائف أخطر ـ فى تقديرى ـ من الحرب ، عندما يوهمك عدوك أن المعارك بينك وبينه قد انتهت إلى الأبد ، وتعانق الوهم ، فى حين يصرف العدو جهده إلى الإعداد للحرب الحتمية ، القادمة . ثمة قول فى سفر التثنية ( الإصحاح العشرون ـ الفقرة العاشرة ) " حين تقترب من مدينة لكى تحاربها ، استدعها إلى الصلح " . الصلح غير العادل ـ كما يقول القانونى فاتيل ـ ظلم لا تتحمله أية أمة إلا لافتقارها لوسائل نقضه ، وإحقاق حقها بالسيف . القضية المحور التى تشغلنى منذ سنوات ، هى مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى : الحياة والبقاء والموت ، الكينونة وانعدامها ، الاستمرار والانقطاع . تلك هى القضية التى تسبق فى اهتماماتى ما عداها من قضايا ، لأنها قضية المصير العربى فى إطلاقه . ألح فى أن أدب المقاومة ليس وقفاً على التحريض ضد المستعمر الذى يسعى إلى احتلال أرضى , وتشويه حضارتى وقيمى وموروثاتى وملامح شخصيتى بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام . السلام مطمح ، لكنه ـ بالتأكيد ـ ليس ذلك السلام الذى يدفع أحد طرفى النزاع إلى الاطمئنان للغد والمستقبل ، والاطمئنان كذلك إلى النيات المقابلة ، بينما الطرف الآخر يدبر ويخطط ، بل وينفذ ـ علناً وسراً ـ تدبيراته . الحذر إذن مطلوب ، والتنبه إلى الغزو السلمى ، بأبعاده الاجتماعية والثقافية ، يستوجب التعرف إلى الشراك الخداعية فى حقول السلام . أشير إلى رواياتى : النظر إلى أسفل ، ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ، والمينا الشرقية ، وصيد العصارى ، ومجموعات : هل ، وحارة اليهود ، وموت قارع الأجراس ، ورسالة السهم الذى لا يخطئ ، وغيرها . *** ثمة قضايا أخرى ، آنية ، مثل قضايا التخلف : غلبة الاستهلاك على الإنتاج ، محدودية المسار الديمقراطى ، زيادة أعداد الأميين ، انعدام الوعى السياسى والبيئى ، الزيادة غير المسئولة فى النسل ، وغيرها من المشكلات التى قد لا تكون فى صميم مسئوليات المبدع ، لكنها ـ فى الدرجة الأولى ـ قضايا المجتمع الذى يعيش فيه ، ولابد أن ينشغل بها على المستويين الشخصى والعام ، و تتوضح فى أعماله ، بصورة وبأخرى ، على أن تنتسب هذه الأعمال إلى الفن ، وترفض الجهارة والمباشرة . فى قصتى " الرائحة " يقول الطبيب : غلطتان كفيلتان بتقويض أية ثورة .. زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية . المثل الشعبى يقول " السجن سجن ولو فى جنينة " ، وغياب الديمقراطية معناه تحول المجتمع إلى سجن ، قد يكون مزوداً بكل الضروريات ، وقد يوفر لنزلائه وسائل الراحة ، لكنه يظل ـ فى النهاية ـ سجناً . الديمقراطية تعنى الرأى والرأى الأخر ، مناقشة المحكوم للحاكم ، التعبير عن وجهة النظر دون خشية من مصادرة أو اعتقال . *** هنا يفرض السؤال نفسه : كيف تدعو إلى فلسفة الحياة فى العمل الفنى ، وتناقش ـ فى الوقت نفسه ـ صورة المجتمع فى القصة والرواية ؟ ظنى أن انشغالى بضع سنوات فى إعداد الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " ـ كأول محاولة تطبيقية فى علم الاجتماع الأدبى ـ يؤكد أهمية أن تعبر القصة عن المجتمع الذى صدرت عنه ، وصدرت فيه . لكن العمل الفنى الحقيقى هو الذى يتناول مشكلات آنية فلا يفقد جوهره ولا جودته بغياب تلك المشكلات ، ولا يموت بموتها . ثمة أعمال إسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وموليير وبلزاك وزولا وفلوبير وديكنز وإبسن ونجيب محفوظ وغيرهم ، كانت تعبيراً ملحاً عن قضايا مجتمعها ، لكنها ـ من بعد ـ تجاوزت " الآنية " لتعنى باهتمامات الإنسان الباقية ، وتجيب عن أسئلته المهمة . لذلك فإن المبدع الذى يدرك قيمة الفن ، يتحفظ على الإبداعات التى انشغلت باللحظة الآنية ، فتجردت من الديمومة التى تهب العمل الفنى استمرار الحياة . صارحت أستاذنا نجيب محفوظ ـ عقب نكسة 1967 ـ بإشفاقى من أنه يعنى بالتعبير ـ فيما سماه مسرحيات ذات فصل واحد ـ عن التطورات السياسية والاجتماعية ، التى ربما تتصل بالطارئ والمؤقت ، بحيث تنتسب ـ فى المستقبل ـ إلى التاريخ بأكثر من أن تنتسب إلى الفن . قال لى محفوظ : إن لدى استعداداً لأن أكتب عملاً من هذا النوع ، ولظروف سياسية أحب أن أمارس دورى فيها ، حتى لو قدر لهذه المسرحية أن تموت فور انتهاء المناسبة التى كتبت فيها . لقد عنى ـ على حد قوله ـ بالتوصيل قدر اهتمامه بالتعبير . وكان لذلك بواعثه الملحة ، وهى أن مصر كانت تحيا فى ظل نكسة ، ومع تفهمى لقول سارتر " إننى أكتب لزمنى ، لا يهمنى من يأتون بعدى " ، فإن العمل الإبداعى يختلف ـ بعامة ـ عن الوثيقة التى تخاطب اللحظة المعاشة . *** صلتى بعملى الأدبى ، وفهمى له ـ بعد أن يجد سبيله إلى النشر ـ يجب ألا تجاوز صلة الآخرين به ، وفهمهم له ، بمعنى أنه ينبغى ألا أتصور فى نفسى قدرة على تفسير العمل ، وفهم دلالاته ، أكثر من الآخرين . وبالتأكيد ، فإن الفنان ليس أقدر الناس على الإحاطة بعمله ، بل إنه قد يكون أبعد الناس عن ذلك . ولأن المتنبى كان ذكياً وفاهماً ، فقد كان جوابه على السائلين عن شعره : عليك بابن جنى ، فإنه أعرف بشعرى منى !. وكان أبو الفتح عثمان بن جنى هو شارح ديوان المتنبى وناقد شعره . على الفنان أن يطرح الأسئلة طرحاً صحيحاً ، لكنه ليس مطالباً بأن يجيب على ما يطرحه من أسئلة . وكما يقول تشيخوف ، فإنه ما من سؤال واحد قد أجيب عليه ، أو وجد حلاً ، فى رائعة تولستوى " أنا كارنينا " ، لكن الرواية ترضينا تماماً لأن كل الأسئلة قد طرحت طرحاً صحيحاً . مهمة المبدع أن يطرح القضية طرحاً جيداً ، وإن كان عليه ـ فى الوقت نفسه ـ أن يظل الطرح بلا حل ، تظل النهاية مفتوحة . فإيجاد الحل هو مهمة المتلقى . إن عليه ـ فى المقابل ـ أن يبذل جهده , ويفكر فيما طرحه المبدع . إنى أكتفى ـ فى نهاية كل قصة ـ وأحياناً فى ثنايا القصة ـ باللمحة الدالة التى تخاطب ذكاء القارئ , وعيه ، تراثه الروائى والقصصى ، لا تفرض عليه استنتاجاً أو رأياً . الكثير من سردى الفنى ينتهى بصيغة السؤال ، أو التساؤل . أذكر قول أندريه جيد " إن واجب الكاتب أن يوجه الأسئلة للقارئ ، ويحاصره ، ويدفعه إلى الإجابة " . كذلك فإنه من حق المتلقى ـ بصرف النظر ما إذا كان ناقداً متمرساً أم قارئاً عادياً ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من القيم والمعانى والدلالات مادامت طبيعة العمل تحتم ذلك ، وليس المطلوب من كل غواص أن يستخرج من البحر ما استخرجه الآخرون . الفعل الإبداعى لحظة ناقصة ، لا تستكمل إلا بالمتلقى الذى تستكمل اللحظة بتلقيه . قراءة النص إعادة خلق له . بل إن النص المتفوق هو ما يجاوز الدلالة المغلقة ، ليطرح العديد من الدلالات . من حق قارئ العمل الأدبى ـ ومن واجبه أيضاً ـ بصرف النظر عن مدى ثقافته ، أو تخصصه ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من المدلولات ، التى يجد أن العمل يحتمل التعبير عنها . بل إن تصور التفسير الواحد لعمل ما ، ينزع عن ذلك العمل صفة الديناميكية التى تعد سمة أساسية فى العمل الفنى . وكما يقول رينيه ويلك فإنه لو قدر لنا أن نسأل شكسبير عن المعنى الذى قصد إليه من كتابة " هاملت " لما كان فى جوابه ما يشفى الغليل ، مع ذلك فنحن نجد فى هاملت ما قد يكون ـ فى الأرجح ـ بعيداً عن ذهن شكسبير ". العمل الفنى الجيد هو الذى يحتمل العديد من التفسيرات ، تعدد التفسيرات دليل على خصوبة العمل ، وعمقه ، بشرط أن تصدر كل التفسيرات من داخل العمل ، ولا تفرض عليه من الخارج ، أو تستنطقه بغير ما يقول . *** يقول أرسكين كالدويل : " إن واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه ، وأمام قارئه " . الالتزام لا أرفضه ، ولعلى أوافق عليه . أما الإلزام ، فإنه يعنى القضاء على ملكة الإبداع ، وهى ملكة " فردية " لا تستطيع أن تتحقق ، وتنطلق ، إلا فى جو من الحرية . الإلزام فى الفن يعنى ـ بأبسط عبارة ـ القضاء على موهبة الفنان ، فهى لا تحيا وتزدهر إلا فى الحرية المطلقة . التزام الفنان ينبع من داخله ، من ذاته ، من نظرته إلى الأمور ، وفهمه لها ، وإيمانه بالقضية التى يعالجها ، وفى كل الأحوال ، فإن ذلك الالتزام ينبغى أن يتحرك فى دائرة الفن . وقد أعلن كامى ـ يوماً ـ أنه ضد الالتزام ، إن كان الالتزام يعنى ارتباط الفنان بصانعى التاريخ الذين يغنون على مؤخرة السفينة للقمر والنجوم ، بينما سياط جلاديهم تسلخ شعوبهم فى قلب السفينة نفسها . بل إن الكاتب ـ إذا كان قد اختار مهنته عن اقتناع ، وبجدية ووعى ـ لا يستطيع أن يصمت ، إلا إذا اعتبر الصمت مظهراً من مظاهر الكلام . الأدق : مظهراً من مظاهر رفض الكلام ، لأن الضغوط لا تتيح له أن يتكلم بصورة طبيعية ، وبما يمليه عليه ضميره . وكما يقول سارتر فإذا " تناولت هذا العالم ، بما يحتوى عليه من مظالم ، فليس ذلك لكى أتأمل هذه المظالم فى برودة طبع ، بل لكى أراها حية بسخطى ، أكشف عنها، أبعثها مظالم على طبيعتها ، أى مساوئ يجب أن تمحى " . وبالنسبة لأوضاع مجتمعاتنا العربية ـ التى لا تجاوز الديمقراطية فيها دائرة التمنى ! ـ فلعلى أزعم أنى أتفهم قول تورجنيف : " يجب على الكاتب ألا يفقد شجاعته ، وإنما عليه أن يمضى فى بسالة إلى النهاية ، فلنرفع رءوسنا إذن فوق الأمواج ، حتى تجتذبنا الأعماق تماماً " . بوسع الكاتب ـ كما يقول الفرنسي بريسباران ـ أن يصمت ، " ومادام قد اختار أن يطلق رصاصاته ، فإن عليه أن يتصرف كرجل ، يصوب إلى الأهداف الحقيقية ، ولا يفعل كطفل يطلق رصاصاته عشوائياً ، وهو مغمض العينين ، لا ينشد سوى سماع صوت انطلاق الرصاصات " . ليس المهم أن أردد الشعارات الباهرة عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها ، المهم أن أومن بذلك ، أن تتطابق تصرفاتى مع أومن به . الكتابة الحقيقية فى عصرنا نوع من الشهادة ، والكاتب الحقيقى يصرعه رصاص كلماته ، وإن كنت أومن بأن المستقبل للإنسان . .............. 1985
لست أذكر القائل : إن على الكاتب مهمتين : الأولى أن يقول شيئاً ، والثانية أن يروى شيئاً ، لكنه قول صحيح تماماً . ورغم احترامى لقول بيكيت " ليس لدى شيء أقوله ، فأنا الوحيد الذى يستطيع أن يقول إلى أى حد أننى ليس لدى شيء أقوله ، أو مضطر لأن أقوله " فإن المقولة / الدلالة واضحة فى أعمال بيكيت . قد تتعدد التفسيرات ، والتعرف إلى ما يحمله العمل من دلالات مضمونية ، لكنها موجودة [ أذكرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية فى كتابى نجيب محفوظ : صداقة جيلين ] . فى رسالة من تولستوى إلى مواطنه الروائى الروسى ليونيد أندرييف ، يشير إلى أنه على الكاتب ألا يكتب " إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التى يود التعبير عنها بأحسن ما فى طاقته ، وألا يفكر حينئذ فى شيء آخر غير إجادة التعبير ، فلا ينظر إلى ما تضفى عليه الكتابة من شهرة أو مال " , وكتب تشيخوف فى إحدى رسائله : " دعنى أذكرك بأن الكتاب الخالدين ، أو فى الأقل ذوى الموهبة ، الذين يهزون نفوسنا ، لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية ، هى أنهم يتجهون إلى شيء ، وأنهم يدعونك إليه أيضاً ، وإنك تحس ، لا بعقلك وإنما بكيانك كله . إن لديهم هدفاً ، بعضهم لديه أهداف مباشرة ، كالقضاء على الإقطاع وتحرير البلاد ، وكالسياسة أو الجمال ، أو مجرد الفودكا ، وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله ، وكالحياة بعد الموت ، وكسعادة البشرية ، وهكذا، وإن أفضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هى ، ولكن على الرغم من أن كلاً منهم يستغرقه هدف واحد ، فإنك تحس فى أعمالهم ، لا مجرد الحياة كما هى ، بل تحس الحياة كما ينبغى أن تكون ، وإن هذا ليأسرك " . إن للعمل الأدبى استقلاليته ، لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذى كتبه ، من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه . أفترض أن العمل كتب نفسه ، أو هذا ـ فى الأقل ـ ما أتحمس له ، لكننى لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ ، حتى الثمرة المعينة هى ـ فى الأساس ـ بذرة معينة ، وضعت فى تربة معينة ، ومناخ معين .. وإلا ، فما سر زراعة محصول بذاته فى بلد ما ، ولا يمكن زراعته فى بلدان أخرى ؟!. وإذا كان رأى بوشكين أن " الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن " ، فإنى أجد أن القضايا التى يناقشها الفن ويطرحها ، وليس الفن كغاية ترفيه ، هى ما ينبغى على الفنان أن يخلص لها . ولعلى أذكر قول بيرل باك " الفنان اليوم لم يعد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة ، بل لابد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبر عنه " ، بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلى أنه " على الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء " ( ما الأدب ص 25 ) . وقد أبدى سارتر أسفه على لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره ، وعلى عدم الفهم ، وعلى الخوف أيضاً الذى أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة ، فضلاً عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولين عن القمع الذى أعقب حكومة الكوميونة، لأنهما لم يكتبا حرفاً واحداً. المسألة ـ فى تقدير بريخت ـ ليست مجرد تفسير العالم ، بل تغييره ، وعلى حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت ، إلى حياة لا نهائية ، أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق عليه مع القانون العام " إن رسالة الكاتب نبوية " . بالنسبة لى ، فإن الكتابة قضية حياة ، وليست مهنة . وكما أشرت سلفاً ، فقد بدأت الكتابة دون أن أفكر : لماذا أكتب ؟. العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة ، ورسالة الأديب هى رسالة الحرية والجمال ، قلمه يجب أن يصبح سلاحاً ضد الديكتاتورية والاستبداد . ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال : لماذا يكتب الأديب ؟ ، يذكرنى بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة ، اسمه " الملاك " ، من الصعب تصنيفه ككتاب ، فعدد صفحاته ستة عشر بالتمام والكمال ، فهو إذن أقرب إلى الكراسة أو الكتيب فى أفضل الأحوال ، محاولة غلبت عليها السذاجة ، وارتكزت إلى التقليد ، مهدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد ، وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لى قراءته من كتب . أما الكلمات فهى : الحق ، الحرية ، الحب . ومع أنى لا أذكر الظروف التى كتبت فيها هذه الكلمات ، ولا بواعث كتابتها ، فضلاً عن أنى لم أكن أفهم دلالاتها جيداً ، وإن أمليتها على قلمى .. مع ذلك ، فإنى حين أتدبر هذه الكلمات الآن ، أجدها واضحة فى إطار اهتماماتى الفكرية . الرواية ـ فى تقدير دوبريه ـ " ذلك الشكل الأدبى الذى يؤدى دور المرآة للمجتمع ، مادتها الإنسان ، أحداثها مبعثها صراع الفرد ضد الآخرين ، للملاءمة بينه وبين مجتمعه ، وينتج عن ذلك الصراع خروج القارئ بفلسفة ما ، أو رؤيا شمولية للروائى " . أرفض دعوة ناتالى ساروت بأن تتحرر الرواية من كل هدف أخلاقى أو اجتماعى ، وأعتبر الكاتب ـ بدرجة وبأخرى ـ موقفاً فى عصره . أستعير من د . هـ . لورنس قوله " بما أن الإنسان يصور العالم من منطلق نظرى ، فمن المطلوب أن يكون لكل رواية خلفية أو مخطط لنظرية عن الوجود ، شيء ميتافيزيقى ، لكن ذلك الشيء الميتافيزيقى عليه أن يخدم الهدف الفنى دوماً، ويختفى وراء وعى الفنان ، وإلا تحولت الرواية إلى دراسة " . وأذكر أن دعوت ـ فى سن باكرة ـ نسبياً ـ إلى ضرورة أن يتضمن مجموع أعمال كل أديب فلسفة حياة ، نظرة شاملة مجتمعية وسياسية وثقافية وميتافيزيقية . كتبت فى " المساء ( 8/9/1960 ) بعنوان " فلسفة القصة " : لو نظرنا إلى أعمال أعظم روائى فى الشرق العربى الآن ـ نجيب محفوظ ـ لأخذتنا الروح الشعبية الصميمة ، واللمسات الإنسانية التى تنبض فى كل سطورها . لكن هذه الأعمال جميعاً لا تريد أن تقول شيئاً محدداً ، فالثلاثية ـ مثلاً ـ اعتبرها بعض النقاد تخطيطاً جغرافياً وتاريخياً ناجحاً للإقليم المصرى [ اسم مصر حينذاك ] إبان ثورة 1919 ، هى صورة اجتماعية صادقة لحياة العصر ، لكنها تفتقر إلى الفلسفة الواضحة التى تعكس نظرة الكاتب إلى الحياة [ راجعت هذا الرأى فيما بعد ، وتوصلت إلى قناعات مغايرة ، أثبتها فى كتابى نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ] والواقع أن كل قصاصينا ، الكبار والصغار [ التعميم مبعثه حماسة الشباب ] ليست لديهم فلسفة معينة ، يمكن أن نحس بها فى كتاباتهم ، كل ما نلاحظه ونحن نخرج من قراءة أية قصة ، أن قاصنا يريد أن يحكى حكاية ، يريد أن يفض عن نفسه تجربة عاشها وعاناها ، أما ما هو الذى يريد أن يقوله من خلال هذه الحكاية ، فلا شيء على الإطلاق " . أعمال أى مبدع يجب أن تشكل وحدة متكاملة " يوضح كل مؤلف منها مؤلفاته الأخرى، وكل منها يرى وجهه فى الآخر " . أزيد فأزعم أنى حاولت منذ تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ والأسوار ـ روايتى الأولى ـ أن أحقق ـ بتوالى ما أكتبه ـ تلك الوحدة المتكاملة . ما أنشده فى مجموع كتاباتى ـ ومجموع كتابات الآخرين أيضاً ـ أن ينطوى على فلسفة حياة متكاملة . أن يعبر مجموع أعمال فنان ما عن صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته فى نظر الآخرين . الأدب غير الفلسفة ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ تصور للعالم ، يرتكز إلى درجة من الوعى ، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس . طريقة الفيلسوف هى التنظير والتحليل والإقناع ، والصدور عن العقل ، والاتجاه كذلك إلى العقل . أما طريقة الأديب فهى العاطفة والخيال والحواس ، والصدور عن ذلك كله إلى المقابل فى الآخرين ، من خلال أدوات يملكها الأديب ، وتتعدد مسمياتها ، كالتكنيك والتطور الدرامى والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال إلخ . وإذا كنت أومن بوحدة الفنون ، وأن على كاتب الرواية ـ مثلاً ـ أن يضم إلى معارفه وأدوات ثقافته : القصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلى والموسيقا والسينما وغيرها من الفنون ، فإنى أومن ـ بالدرجة نفسها ـ بضرورة أن يقرأ الأديب فى الفلسفة ، يتأمل معطياتها ، يناقشها ، يحاول أن تكون له فى ذلك وجهات نظر . بعض كتاب القصة يعنون بالشكل السوريالى فى أعمالهم ، فإن شاهدوا لوحة سوريالية ، وقفوا أمامها فى تحير ، وربما أعرضوا عن مشاهدتها ، وثمة شعراء لا يجدون فى الأعمال الروائية ما يستحق عناء القراءة ، وسماع الموسيقا الكلاسيكية همّ ينأى عنه غالبية المبدعين [ أذكرك بمقدمة يحيى حقى البديعة لكتابه : تعال معى إلى الكونسير ] . ولعله يمكن التأكيد كذلك على أن نظرة الغالبية من أدبائنا إلى الفلسفة تحتاج إلى مناقشة ، وإلى تقويم ، والزعم بأن الفلسفة ـ وربما الثقافة بعامة ـ تفسد الموهبة ، وتسئ إلى التلقائية والبساطة والشاعرية التى ينبغى أن ينهض عليها العمل الفنى .. ذلك الزعم غير صحيح ، لأن مجرد استقراء تاريخ المشاعل فى حياتنا الأدبية يؤكد أن الحصيلة المعرفية ، والتأمل ، ومحاولات التوصل إلى صورة خاصة للعالم ، كانت هى الدعامات التى استندت إليها أعمال هؤلاء الأدباء . بل لقد أفادت الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية ، من أعمال أدبية لسوفوكليس وشكسبير وديستويفسكى وعشرات غيرهم ، أثروا الحياة الإنسانية بمعطياتهم . وفى المقابل ، فإن المذاهب الفلسفية كانت هى النبع الذى ارتوت منه المراحل الأدبية المختلفة . وضع الفلاسفة وعلماء النفس نظرياتهم ، فبدت أعمال هؤلاء الأدباء ـ أحياناً ـ كأنها تطبيقات لتلك المذاهب [ السراب وعقدة أوديب مثلاً ] . وأفادت الأعمال الأدبية كذلك من قوانين الوراثة [ ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً ] ، ونظرية التطور ، ونظريات علم الاجتماع ، وعلوم البيئة . وباختصار ، فإن دراسة الفلسفة ـ كجزء من عملية التحصيل الثقافى ، ينبغى أن تكون هماً لكل أديب ، يحاول أن يشكل ـ من خلالها ـ آراءه ونظرته وتصوراته للعالم الذى يعيش فيه . إنها ـ بالقطع ـ ليست ترفاً قد تستغنى عنه موهبة الأديب ، لكنها ضرورة . لم يعد دور الأدب فى المجتمع من القضايا المطروحة فى حياتنا الثقافية . وإذا كنا قد شغلنا ـ زمناً ـ بقضية : هل الفن للفن ، أو الفن الحياة ، ودارت فى ذلك مناقشات عقيمة منذ مطالع الخمسينيات إلى مطالع السبعينيات ، فإن دور الأدب فى المجتمع الآن ، ودور الأديب بالتالى ، مما يصعب إغفاله ، أو التهوين منه ، بل ومما يصعب مناقشته ، لأنه دور قائم ومؤكد . الأديب لا يكتب لنفسه ، ولا تنطلق إبداعاته من فراغ ، ولا تنطلق إلى فراغ كذلك ، لكنه يعبر ـ على نحو ما ـ عن هموم قد تكون مجتمعية أو سياسية ، أو حتى ميتافيزيقية ، لكنها هموم تشغله ، وتلح عليه ، وتعبر عن نفسها فى أعماله الإبداعية . وتحديداً ، فإن لى موقفاً ـ أتصوره واضحاً ـ من القضايا الإنسانية والاجتماعية . هذا الموقف يبين عن نفسه فى مجموع ما صدر لى من كتابات . ثمة وشيجة تربط روايتى " الأسوار " مثلاً ، بقصة " التحقيق " برواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، ورواية " المينا الشرقية " إلخ . وثمة وشيجة أخرى تربط روايات الشاطئ الآخر ، وزمان الوصل ، وصيد العصارى ، وزوينة " إلخ . ووشيجة بين من أوراق أبى الطيب المتنبى ، و " الأسوار ، وإمام آخر الزمان ، والنظر إلى أسفل ، والخليج ، واعترافات سيد القرية ، وحكايات الفصول الأربعة ، ورجال الظل ، وكوب شاى بالحليب . ووشيجة تربط بين زوينة ، وصيد العصارى ، و زمان الوصل ، وذاكرة الأشجار . وثمة وشيجة تربط بين رباعية بحرى ، وأهل البحر ، ونجم وحيد فى الأفق ، ومواسم للحنين ، ومجموعة ما لا نراه ، والكثير من القصص القصيرة ، إلخ . ربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل . يختلف الحدث والتناول ، لكن الفكرة تتردد فى محاولة ـ غير متعمدة ـ لتأكيد نظرة بانورامية شاملة . ولعلى أفضل أن يتناول النقد أعمالى بصورة كلية ، كل عمل يشرح ويفسر ما قد يكون غامضاً فى أعمال أخرى ، من المهم أن نتنبه إلى الفرق بين السؤال : ماذا يريد الفنان فى هذا العمل ، وبين السؤال : ماذا يريد الفنان فى مجموع أعماله ؟ . مجموع الأعمال يعكس نظرة شاملة ، فلسفة حياة ، تحول الجزئيات إلى بانورامية تزخر بالتفصيلات. إن غاية ما تطمح إليه أعمالى ألا يظل قارئها كما هو بعد قراءتها ، وإنما يشعر بالحصار ، بالاستفزاز ، بالتحدى ، وأنه يواجه فقدان الحرية مثلما واجهه بطل القصة ، أو يواجه القهر كما واجهه بطل القصة ، أو الظلم والكبت والتهديد ، ويعانى المطاردة [ الإحساس بالمطاردة يعاودنى طول الحياة . تختلف بواعثه ، لكنه قائم ، متجدد ، أعانى تأثيراته ، أحاول التخلص منها ] ، ومن ثم ، فإنه يشعر بوجوب التحرك ، وأن يفعل شيئاً لمجابهة الخطر القائم ، أو المحدق . ثمة وحدة ما ـ موجودة ، أو أتوق لتحقيقها ـ يشكّلها مجموع أعمالى . ولعل العنوان الرئيس الذى يعلو مفردات نظرتى الشمولية هو المقاومة ، المقاومة ضد كل قبيح وزائف ومتسلط وعدمى وقاهر للإرادة الإنسانية . قد أكون مخطئاً فى هذا المعنى ، لكنه المعنى الذى ناقشته ـ بينى وبين نفسى ـ واطمأننت إليه ، ساعد على ذلك قراءاتى الشخصية ، المتأملة ، لأعمالى ، وملاحظات النقاد حول تلك الأعمال . وكما أشرت ، فربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل ، رواية ، أو قصة قصيرة . وإذا كان فيتزجرالد يرى أن على الكتاب أن يكرروا أنفسهم على الدوام ، فإن هذه ـ فى تقديرى ـ هى الحقيقة . ثمة فى حياتنا تجربتان أو ثلاث ، كبيرة ومثيرة ، نحن نرويها فى كل مرة ، بقناع جديد ، عشر مرات ، وربما مائة مرة ، وبقدر ما نجد أناساً يصغون إلينا . ولعلى أنفى عن ماركيث ما يبدو مبالغة فى قوله إن الروائى لا يؤلف غير رواية واحدة فى حياته ، ويصدر له العديد من الروايات تحت الفكرة نفسها ، وإن حملت عناوين أخرى مختلفة . ومنذ أصدر سارتر عمله الأول " الغثيان " ( 1938 ) فإن كل ما كتبه كان يلح فى اكتشاف حرية الإنسان ، وعدم جدواها : " لماذا أنا حر ؟ " . أذكر أنى أشرت فى حوار مع ناقد صديق إلى تشابه " القضية " فى العديد من كتاباتى ، فلما أعاد الناقد ملاحظتى فى إحدى الندوات ، ثار عليه معظم الحضور ، رأوا فى كلماته قسوة متجنية ، وتغلب الشعور بالامتنان للأصدقاء الأدباء ، على تفهمى للورطة التى أوقعت فيها ـ بحسن نية طبعاً ـ صديقى الناقد ، فلو أنى احتفظت بملاحظتى لنفسى ، ربما غابت عن كلماته ، ولم يواجه ثورة الحضور . مع ذلك ، فإنى أطمئن إلى ملاحظتى ، وأجد أنها سليمة فيما يتصل بالكثير مما كتبت ، وبالكثير مما كتبه أدباء آخرون أدين لهم بالأستاذية ، مثل إبسن الذى ركز فى معظم مسرحياته على موقف الفرد من المجتمع ، وتشيخوف فى تفرد غالبية إبداعاته بمناقشة " العمل " كضرورة حياة ، فراراً من خواء النفس ، وخواء الأيام ، وبرنارد شو وتحدد معظم كتاباته فى مناقشة الفوارق بين المثالية التى لا تجاوز إطار الأحلام ، والبرجماتية التى قد تهمل المبادئ والمثل ، فالنجاح ـ بكل السبل ـ هو ما تسعى إليه ، وأدباء آخرون ، أشرت إليهم فى مواضع سابقة ، أو تالية . وإذا كان أوجست رودان يؤكد أن " الحياة هى العمل ، وكائنة ما كانت العبقرية الموهوبة ، فلا شيء ينمّيها ويصقلها غير مواصلة العمل " ، فإن قيمة العمل تتبدى بعداً أساسياً فى العديد من أعمالى . فى " الأسوار " بادرت سلطات المعتقل إلى منع التعذيب وطوابير العمل ، وتواصلت الأيام بالنزلاء متشابهة ، يؤرخ لتواليها أحداث تافهة ، حتى أعلن النزلاء ـ فى محاولة لطرد الملل ـ رغبتهم فى الخروج إلى الوادى ، زراعة الأرض أهون ملايين المرات من الثرثرة فى اللاشيء ، والتحديق فى اللاشيء ، وترقب اللاشيء . وفى نجم وحيد فى الأفق يرفض البطل حياة الدعة والنعيم ، ويتوق للعودة إلى مهنته التى طالما ضايقته . ومن الأقوال التى أستحضرها ـ دوما ـ ما كتبه تشيخوف " لو أن كل إنسان فى العالم صنع كل ما فى استطاعته ، فى أرضه الخاصة ، لغدا العالم رائعاً " . ولعل أهم " القضايا " التى حاولت مناقشتها فى أعمالى ، ذلك السؤال عن صلة المثقف بمجتمعه : هل يؤدى ما عليه ، باعتباره واجباً لا يرجو فيه مقابلاً ، أو أنه من المفروض أن يشعر مواطنوه ، ويشعر هو أنهم شعروا ، بهذا الدور ؟. كما تناولت ـ فى بعد آخر لصلة المثقف بمجتمعه ، دور الأعوان فى صناعة الطاغية ، بداية من رواية " من أوراق أبى الطيب المتنبى ، إلى رواية رجال الظل ، مروراً بقلعة الجبل ، وزهرة الصباح ، وإمام آخر الزمان ، واعترافات سيد القرية ، وما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها . (يتبع)
الكاتب لا يخترع شخصياته . من الصعب أن تكون الشخصيات منبتة عن الواقع تماماً . بل إن كاتب نفسه ربما تصور أنه اخترع الشخصية ، والحقيقة ليست كذلك . إنه لو حلل الشخصية إلى عناصرها الأولى ، فلابد أن يجد فيها ملامح وقسمات من شخصيات عرفها بصورة مقيمة ، أو طارئة ، وربما قرأ عنها ، أو سمع بها ، دون أن يتاح له التعرف إليها مباشرة . وكما يقول ألبير كامى ، فلا يمكن أن تكون إحدى شخصيات العمل الفنى هى الفنان نفسه ، وإن ظل هناك احتمال بأن يكون الفنان فى آن واحد ، جميع الشخصيات التى خلقها . إن العمل الأدبى ـ على نحو ما ـ يحمل طابع السيرة الذاتية ، وعلى حد تعبير الناقد الروسى بوريس بورسوف ، فإن " الذى يكتب بشكل حقيقى ، هو من يفكر بنفسه ، وبكل شيء آخر فى آن معاً " . " أنا مدام بوفارى " ، عبارة لفلوبير . وفيما عدا استثناءات قليلة ، فإن رواياتى وقصصى ـ بدرجة أو أخرى ـ حياتى . لست أزعم ـ كما قال ألان روب جرييه عن نفسه ـ إن مذكراتى الحقيقية موجودة فى رواياتى ، لكن معظم أعمالى ـ إن لم يكن جميعها ـ تنطلق من تجربتى الشخصية ، وإن صعب القول إنه يمكن اعتبارها سيرة ذاتية حقاً . ولعلى أوافق نجيب محفوظ على أن تجربة الفنان ليس من الضرورى أن تحدث له شخصياً ، لكنها قد تحدث لآخرين ممن أتيح له أن يعايشهم عن قرب [ ونتذكر كامل رؤبة لاظ بطل روايته السراب ] . معظم ما كتبته ، وأكتبه ، يتناول أحداثاً عشتها ، أو تعرفت إليها ، بصورة صحيحة . وعلى حد تعبير همنجواى فأنا لا أعرف إلا ما رأيته . أوافق يحيى حقى فى أن التصوير الفنى لوردة فى حديقة ، يختلف عنه لوردة فى صورة كتاب ، تلمس خشونة الأوراق والساق وقطر الندى يختلف عن التعرف إليها فى الصورة المسطحة . حتى أعمالى التى حاولت توظيف التراث ، أفدت فيها من ملامح وتصرفات شخصيات تعرفت إليها ، وعايشتها . وكما وصف كونراد بطل روايته " لورد جيم " بأنه " واحد منا " ، فلعلى أزعم أن الوصف نفسه ينطبق على معظم الشخصيات التى تناولتها فى أعمالى . ولا يخلو من دلالة أن العديد من أبطال رواياتى كانت القراءة شاغلاً أساسياً لهم : منصور سطوحى فى الصهبة ، حاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، عادل مهدى فى " المينا الشرقية ، المؤرخ فى قلعة الجبل ، شاكر المغربى فى النظر إلى أسفل ، محمد إبراهيم مصطفى العطار فى قاضى البهار ينزل البحر ، رفعت القبانى فى حكايات الفصول الأربعة ، وغيرهم . وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة هى " جيفرسون " تدور فيها أحداث رواياته ، فى حين اخترع ماركيث مدينة هى " ماكوندو " تعبيراً عن خصوصية البيئة فى أمريكا اللاتينية ، فإنى حرصت على الكتابة عن " بحرى " باعتباره كذلك . لم أحذف ، ولم أضف ، إلا بقدر الاختلاف بين الواقع والفن ، وكما أشرت قبلاً ، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع ، لكنه إيهام بذلك الواقع . بحرى ليس ماكوندو ماركيث ، ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان ، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات . أهل بحرى يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون ، لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هى البيئة الحقيقية التى يجدر بأعمالنا الفنية أن تتحرك فى إطارها ، توصلاً للإنسانية . وإذا كانت المحلية ـ فى اتفاق الجميع ـ شرطاً أساسياً لتحقيق العالمية ، فإن المحلية ليست فى تلك الحكايات الساذجة ، أو الهلاميات ، أو الصور التى تفتقد الترابط ، بحيث يصعب نسبتها إلى العمل الفنى فى إطلاقه . وعندما ترجمت ـ بمبادرات طيبة من لجاننا المختلفة ـ نماذج من تلك الأعمال التى يمكن القول ـ بكثير من التجاوز ـ إنها جيدة فنياً ، فإن القارئ الأجنبى وضعها فى الإطار الذى ينبغى ألا تتجاوزه . المحلية العالمية هدف من الصعب بلوغه . ترجمنا العديد من أعمال كبار أدبائنا إلى لغات أجنبية ، فلم تجاوز اهتمامات المستشرقين والمعنيين بالثقافة العربية . صارحنى أستاذنا حسين فوزى ـ وقد طالت إقامته فى أوروبا ـ عن " نهر الجنون " لأستاذنا الحكيم ، بأن ترجمتها إلى الفرنسية حققت أثراً سلبياً ، لأن قيمتها الفنية تهبط عما يمكن لطالب فرنسى فى المرحلة الثانوية إبداعه . لم يجد حسين فوزى فى تلك الملاحظة انتقاصاً لأعمال الحكيم ، فالإعجاب بيوميات نائب فى الأرياف وعودة الروح ـ على سبيل المثال ـ يبين عن نفسه ـ فى المقابل ـ فى آراء النقاد الأجانب ، وإن تحفظت تلك الآراء فى نسبتها كذلك إلى الإبداع العالمى ، بكل ما تنطوى عليه الصفة من مواصفات محددة ، وصارمة . مع ذلك ، فإن الإبداعات العربية الحديثة قد أفرزت ـ فى فهمها الواعى لمعنى المحلية ـ معطيات يصح انتسابها ـ بدرجات متفاوتة إلى الأدب العالمى فى إطلاقه . العمل الفنى الحقيقى هو الذى يلتحم ببيئته بصدق ، ويعبر عن تلك البيئة بالصدق نفسه ، شريطة أن يعى الفنان مقومات الإبداع الفنى بعامة ، وأن تكون الهموم التى يتناولها ـ رغم محليتها ـ هى هموم الإنسان فى كل مكان . المثل الذى يحضرنى قصة تشيخوف الرائعة " لمن أسرد أحزانى " . لا يجد الحوذى من يسرد له أحزانه ، فيتجه بالحديث إلى حصانه ، يبثه ما يعانيه ، شخصية روسية تنتمى إلى أواخر القرن الماضى ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ شخصية إنسانية ، بكل ما تنطوى عليه هذه الصفة من دلالات . *** الملاحظة التى ربما أبداها البعض ، واكتفى البعض الآخر بإيرادها تساؤلاً فى عينيه ، هى أن حياتى خاصة ، فلا أغادر بيتى إلا نادراً ، ولا ألتقى الآخرين إلا لضرورة ، ولا أتردد على الندوات أو المقاهى أو أماكن التجمعات بعامة ، بما يعجل بنفاد مخزون " التجارب " التى تصلح نبضاً لأعمالى . والملاحظة ـ فى ظاهرها صحيحة ـ بل إنى أقدرها تماماً ، وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً . وبصراحة ، فليس ثمة فجوات فى حصيلتى المعرفية والاجتماعية والنفسية . ولعلى أحرص ـ فى كل لحظة ـ على أن أحتفظ بقدرتى على الدهشة . إذا زايلتنى هذه القدرة ، فإن الخطوة التالية ـ كما أتصور ـ هى أن أهجر الإبداع مطلقاً . إن عين الفنان تختلف فى نظرتها إلى من حولها ، وما حولها ، عن عين الإنسان العادى . عين الفنان شديدة الحساسية ، بارعة الالتقاط ، دقيقة الملاحظة . قد يغادر الإنسان العادى حياة كاملة لها خصوصيتها وتفردها ، فلا يستقر فى داخله منها شيئ. أما الفنان ، فقد تهبه جلسة عادية مع أناس عاديين ، حياة خصبة ، بما يضيف إليها من تجاربه ورؤاه وخياله . من خصائص العمل الجيد أن صاحبه يلفت نظرى إلى أشياء طالما شاهدتها من قبل ، لكننى لم ألتفت إليها ، بل ولم أفطن إلى وجودها . مع تأكيدى على أهمية التجربة ، فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل فلوبير ، حين أراد التعبير عن انتحار مدام بوفارى ، ليرى مدى تأثير الزرنيخ فى النفس والجسد . الشخصية الروائية لا تبدو غريبة عن الواقع ، أو هذا ما ينبغى أن يكون . الفن ـ كما أشرت ـ إيهام بالواقع ، والفنان لا يأتى بشخصياته من فراغ . إنها محصلة الواقع والخيال فى آن . من هنا ، أتفهم قول برتولت بريخت إن " شخصيات العمل الفنى ليست مجرد أشباه للناس الأحياء ، بل صور حددت ملامحها بما يتناسب والمنهج الفكرى للمؤلف " . على سبيل المثال ، فإن السلطان خليل بن الحاج أحمد وعائشة بنت عبد الرحمن القفاص وخالد عمار والمعلم شيحة ومختار الرمادى وتغريد وخيرات ، هؤلاء وغيرهم ليسوا شخصيات تاريخية حقيقية ، لكنها شخصيات اخترعها خيال الفنان ، وإن أفاد فى ملامحها الظاهرة والنفسية من شخصيات معاصرة تعرف إليها . أكد لى الصديق الراحل فاروق خورشيد أنه قرأ قلعة الجبل باعتبار أن السلطان خليل شخصية حقيقية فى التاريخ المملوكى ، وتوافق اسم سلطان التاريخ مع سلطان الرواية لا يجاوز المصادفة البحتة . أما الصديق الأستاذ الجامعى حسن البندارى فقد عرض مساعيه لبيع ما تصور أنه يوميات المتنبى لجامعات أجنبية . وأما الصديق الشاعر كامل أيوب ، فقد دفع برواية من أوراق أبى الطيب المتنبى إلى سلسلة المكتبة الثقافية ، بتصور أنها تحقيق وتقديم ليوميات المتنبى . فلما صارحته بأن الرواية من تأليفى ، أصر أن أكتب ورقة تتضمن ذلك المعنى . حين ألح فى وجود المصدر الواقعى للشخصيات التى تضمها أعمالى ، لا أعنى أنى أنقل الشخصية كما هى فى الواقع . ألتقط لها صورة فوتوغرافية ، أو أرسم " بورتريه " يحاول الإجادة فى النقل ما أمكن . المصدر الواحد ، المحدد ، فى الشخصية ، أولى به أن يبعد عن الفن ، إنه يصبح أقرب إلى الكتابة الببليوجرافية ، أو التقارير . ثمة نمط إنسانى معين ، شخصية محددة ، لكن تلك الشخصية تهجّن ، تطعّم بقسمات وملامح من شخصيات أخرى ، تتداخل معها ، فتشكل شخصية أخرى ، هى شخصيات العمل الأدبى ، الشخصية الأصل ، الشخصيات المتداخلة ، موروثات الكاتب وقراءاته وتجاربه . ليست كل الشخصيات مما يصلح لأن يتوقف الكاتب أمامها ، يتأملها ، يعلن بينه وبين نفسه : هذه شخصية روائية . مع ذلك ، فإن الكاتب لا ينقل ملامح الشخصية وقسماتها كما هى فى الواقع . إنه يضيف إليها ، ويحذف منها ، فتنتهى إلى شخصية روائية حقيقية ، فيها من الواقع ، ومن الكاتب نفسه . قد يختار الفنان شخصية من الواقع ، ثم يضفرها بتجاربه ـ وتجارب الآخرين ـ ورؤاه وخبراته وقراءاته وخياله ، فتتشكل من ذلك كله شخصية جديدة ، هى الشخصية الروائية . والذهن ـ وحده ـ ليس مصدر استلهام الشخصية الروائية ، إنها عملية معقدة ، يشارك فيها الذهن والوجدان والعين والأذن ، لتبين الشخصية الروائية عن ملامحها . وبافتراض أن الفنان قد استطاع أن يخترع شخصيته الروائية تماماً ، فلا ظل وجود لها فى الواقع ، فإنها ستأتى ـ بالضرورة ـ شخصية آلية ، بلا حياة . وأغلب الظن أنها لن تكون شخصية مقنعة . لقد كتب جارثيا ماركيث وقائع موت معلن بعد حادثة قتل شاهدها فى أحد شوارع مدينة أرتاكا " أطلقت الرصاصات على الضحية وهو عائد إلى منزله ، أغلقت أمه الباب ، ذلك شيء يفوق التصور : رجل ثرى له أهميته يضرب من جهتين . طلبت منى أمى ـ فى ذلك الحين ـ ألا أكتب شيئاً ، لأن هذا سوف يقاضى أم الضحية بتهمة إغلاق الباب على نفسها . وعدت أمى ألا أكتب شيئاً طيلة حياة هذه المرأة . وقد سمعت أنها ماتت منذ خمس سنوات ، وبدأت أفكر فى كتابة الرواية " ( الهلال ديسمبر 1982 ) . أما أستاذنا نجيب محفوظ ، فقد كانت روايته الشهيرة اللص والكلاب تأثراً مباشراً بسيرة السفاح محمود أمين سليمان ، الذى أراد أن ينتقم من زوجته الخائنة ، فأصابت رصاصاته أبرياء كثيرين . ويصف لنا يحيى حقى فى كتابه " عطر الأحباب " تلك الأيام التى كانت فكرة " اللص والكلاب " قد شغلت فيها نجيب محفوظ ، سيطرت على أفكاره ومشاعره ، تحاول التخلق كعمل فنى . *** يقول أرسكين كالدويل : " إنى أعتقد أن الكتابة الخلاقة تحركها حالة ذهنية معينة ، وأن أولئك فقط الذين ولدوا بهذه الموهبة ، ويسعون بجهد متواصل ليعبروا عن أنفسهم كتابة ، يمكن أن يحققوا النجاح الذى يريدون " ( كيف أصبحت روائيا ـ 266 ) . وفى تقديرى ، أن كاتب الرواية أو القصة القصيرة ينبغى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتاريخ والأنثربولوجيا ، وملماً ـ إن لم يكن منغمساً ـ بالتطورات السياسية فى بلاده ، وفى العالم ، فضلاً عن وجوب أن يكون ذا نفس مناضلة ، تحيا واقع الجماعة ، وتحس به ، وتخلص فى التعبير عنه . وباختصار ، فإن الروائى ، والمبدع بعامة ، ينبغى أن يكون متسلحاً بثقافة موسوعية . نحن إذا هدمنا شيئاً ما ، بناية مثلاً ، فإن الهدم ليس غاية فى ذاته ، إنما الهدف ـ أو هذا هو ما ينبغى ـ أن يكون الهدم للبناء ، للإضافة ، للتطوير . الهدم لمجرد الهدم مرفوض ، والتعرف إلى البدايات والقواعد والركائز والأصول هو ما يجدر بالأديب أن يحصل عليه ، مثلما أنه على الفنان التشكيلى أن يتعرف إلى المذاهب والاتجاهات الفنية المختلفة . الأمر نفسه بالنسبة للمبدع فى كل المجالات ، أن يحيط بالخصائص الفنية ، التقليدية ، للفن الذى اختاره . بوسعه ـ بعد ذلك ـ أن يهدمه ، ليضيف ، ويطور ، بقدر ما تمنحه قدراته الفنية وموهبته . أشير إلى قول هنرى جيمس : لا يمكن لقصة جيدة أن تنبثق عن ذهن سطحى " . أنا حين أتحدث عن ثقافة الكاتب ، عن خبراته وقراءاته وتجاربه وتأملاته وإفادته من كل الفنون فى إثراء فنه ، وتوضح البعد الثقافى بعامة فيما يكتب .. حين أتحدث عن ذلك ، فإن الأرضية التى يقف عليها ذلك كله هى الموهبة . لا فن بلا موهبة . مهما حصّل الكاتب من ثقافة ، فإنها لا شيء بلا موهبة . حتى الفلسفة بمعناها الأكاديمى المتخصص يجب أن يحصل المبدع على المتاح من التثقف فيها . وفى المقابل ، فلعل أهم ما يجدر بالفنان أن يحرص عليه ، هو أن يحترم ثقافة قارئه ، وأن يحترم ذكاءه أيضاً . وقد طالما حرص الرومانتيكيون على تضمين أعمالهم خطباً وشعارات ، بينما يكتفى الفنان المعاصر ـ أو هذا هو المطلوب ـ بالإضمار التصويرى . يثق فى ذكاء قارئه ، وأن من حق القارئ ـ وواجبه ـ أن يتأمل العمل الفنى ، ويمعن النظر فيه ، بل ويملأ الفجوات التى يتركها الفنان فى ثنايا العمل بما يحمله من ثقافة وذكاء . كانت تلك محاولتى ـ على سبيل المثال ـ عقب إضراب النزلاء فى الأسوار ، ملأت الفجوات بفقرات تروى نتفاً من وقائع التاريخ القديم، والمعاصر، واعتبرتها نسيجاً فى العمل الفنى ، يصل ما بين بدء الإضراب ، والرضوخ لمطالب النزلاء ، وتركت لذكاء القارئ تبين ذلك . والأمثلة كثيرة . *** (يتبع)
ماذا يريد الكاتب ؟ .............. " الفن .. مقلق أبداً ، ثورى دوماً " هربرت ريد " الأدب عالم مغاير " الفيلسوف بومجارتن " لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب . إنه الكائن الذى يقود ، يعمل بريشته ، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف " مقولة فرعونية " إن الكلمات هى غدارات محشوة " الكاتب الفرنسى بريسباران " لست إلا أديباً ، ولا أستطيع ، ولا أريد أن أكون شيئاً آخر " فرانز كافكا لماذا أكتب ؟ لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسى أو مناقشته . نشأت فى بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة ، مكتبة زاخرة بمئات الكتب ، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته ، ومناقشات لا تنتهى فى السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبى وأصدقائه . أشارك فيها ـ أحياناً ـ بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب ، أو بما يدفع أبى إلى إسكاتى ، لسذاجة آرائى . نشأت وأنا أقرأ وأكتب ، فغاب السؤال ، لأن الفعل سبق تقصى البواعث . وحين واجهنى السؤال ، بدأت التفكير فى إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل ، ولا تدبرتها ، لأنى حين بدأت القراءة الأدبية ، فالكتابة ، لم أكن طرحت على نفسى أسئلة من أى نوع . والحق أنى لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى . كانت أيام طه حسين هى أول ما قرأت من أعمال أدبية . أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة . أما بدايتى الأدبية ، أول ما كتبت ، فإنى لا أذكر متى ولا كيف ، وهل عرضت محاولتى على آخرين ، أو أنى لجأت ـ عقب الكتابة ـ إلى تمزيقها . *** كانت القصيدة الشعرية هى أول ما كتبت . لم أكن تعلمت الأوزان ، فلجأت إلى المحاكاة . قصيدة الرثاء التى كتبها شوقى ـ مثلاً ـ تتحول إلى قصيدة مناجاة للحبيبة ، القصيدة البرمكية الشهيرة : قل للخليفة ذى الصنيعة والعطايا الفاشية .. وابن الخلائف من قريش والملوك العالية .. إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية .. صفر الوجوه عليهموا حلل المذلة بادية .. إلخ ، كتبت على منوالها : قل للحبيبة ، وكلمات أخرى باعثها التقليد ، فبديهى أن ابن الثامنة ، أو التاسعة ، لن يكون قد تعرف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدى ، أو حتى الأفلاطونى . ثم كتبت العديد من القصص وأنا فى المرحلة الأولية ، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال ـ فى المرحلة السنية نفسها ـ يفعلونه ، لا شبهة نبوغ ، أو تفرد ، القضية هى فيما يلى هلاميات البداية . كنت أكتب قصصاً مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال ، فتنشرها بعد أن تهذبها ، أو تعيد كتابتها ، وقرأت محاولاتى لتلاميذ ـ وأحياناً : أساتذة ـ مدرسة البوصيرى الأولية . وعجل زميلى فى الدرج المجاور باحترافى ، حين أصر أن أكتب له قصة ، فلا يقرأها سواه ، ودفع المقابل مليمين ، كنت أسعد الناس بهما ، لا للقيمة المادية ، بل لأنى تقاضيت أجراً عما كتبته ! *** كانت الملاك روايتى الأولى ، المطبوعة . توليفة مقلدة للمنفلوطى وطه حسين والمازنى والسباعى وعبد الحليم عبد الله وغيرهم ، تلتها رواية ظلال الغروب . توهمت ـ دون وعى حقيقى ـ أن الجنس مهم فى العمل الفنى، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة ، وغير مبررة ، فى حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة ، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها . قصة أتيح لى معايشتها ، وكانت الفتاة الراحلة هى طرف العلاقة الآخر . ثم كتبت رواية باسم أين الطريق ؟ ، لا أذكر شيئاً من أحداثها ولا شخصياتها ، وإن كنت أذكر ـ بحب ـ محاولة صديقى المهندس صلاح شاهين ـ أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية ـ طباعتها على نفقته . إرهاصات ، أحتفظ بها فى مكتبى ، من قبيل الذكرى ، ولتلمس خطوات البداية . أما القصة التى أعتبرها بدايتى الحقيقية ، فهى " يا سلام " ، كتبتها فى 1956 ، ونشرتها ضمن مجموعتى " تلك اللحظة " . حاولت ـ بالطبع ـ أن أنشر محاولاتى الباكرة فى صحف الإسكندرية . قدمت الفصلين الأولين من روايتى " أين الطريق " إلى رئيس تحرير جريدة " العهد الجديد " ، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفاً ، ونشر الفصل الأول من الرواية فى الجريدة ، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثانى إلى جريدة أخرى اسمها " الاتحاد المصرى " ، فنشرته . وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوّد بياض الصفحات ، ولأن القارئ الذى يتابع كان غائباً ، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين فى الأخرى مسألة واردة ، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التى تحقق لها الربح المسبق . بالمناسبة : لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة . ومع أن صديقى صلاح شاهين قد تكفل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته ، ولم يطبع الجزء الباقى لتكاسل منى ، لا لتقصير منه .. مع ذلك ، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو فى ذاكرتى الآن كالأصداء البعيدة ، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها ! *** الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل المودة ، أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة ، لكن الإبداع الروائى والقصصى فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته بلا عوز مادى ، فيسافر ، ويتأمل ، ويقرأ ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه ، دون خشية من الفقر ، وما يضمره من احتياجات .. لكن المقابل المحدد ، والمحدود ، الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمناً لعمله ، يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة . لقد اعترف الروائى الإنجليزى فرانسيس كنج ـ فى بساطة وصراحة ـ أن السبب الحقيقى فى اتجاهه للنقد ، هو أنه من الصعب ـ فى بريطانيا ـ أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب ، ومن ثم فقد اتجه ـ وعدد آخر من الروائيين البريطانيين ـ إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية . فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون فى الغرب ـ لظروف اقتصادية كما ترى ـ فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون ـ مقابلاً لأعمالهم ـ بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة ؟! [ هذه الكلمات ، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة ، بالإضافة إلى تفشى جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلاً من مكافأتهم ، ولو ببضع نسخ ! ] من هنا ، كان اختيارى ـ أو لجوئى ـ للصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً . وكنت أتذكر المازنى وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن وحده شاغله وهواه ، وكتبت فيما أعرفه ، واستعنت ـ بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر ـ فيما لم أكن أعرفه . ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بكتابة عمل أدبى : رواية النظر إلى أسفل مثلاً ، ورواية الأسوار ، ورواية الخليج " ، ورواية صيد العصارى " ، ورواية كوب شاى بالحليب وغيرها ، لكن الأدب ظل ـ بالرغم منى ـ تزجية فراغ . أحاول الكتابة إن وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً . لذلك كان ترحيبى ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان ، للإشراف على إصدار جريدة " الوطن " . وكنت أمنى النفس بأن أدخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن ، أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى بالفعل ، فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ـ ما أمكن ـ فإن " مصر " ، الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ، هى الشخصية الأهم فى كل إبداعاتى . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها ، نبض كتاباتى جميعاً ، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب ، وكانت حصيلة ذلك ـ كما تعرف ـ عشرات المقالات التى تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية ، بدءاً بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى كتاب " مصر المكان " ، وربما إلى كتب أخرى تالية . لم تكن الصحافة إذن مدخلى إلى الأدب ، لكن الأدب كان مدخلى إلى الصحافة . أحببت الأدب ـ كما قلت لك ـ فى سن باكرة ، لا أستطيع تحديدها تماماً . ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها ، كانت الصحافة هى المهنة الأقرب إلى اهتماماتى الأدبية . أذكر قول أرسكين كالدويل : " لم يكن لدى طموح فى أن أجعل الصحافة مهنتى فى الحياة ، لكن عمل الصحافة هو الكتابة ، وكانت الكتابة هى الشيء الذى كنت أريد أن أتعلمه " ( ت سيد جاد ) . أقدمت على العمل فى الصحافة وفى خاطرى قول همنجواى " إن العمل الصحفى لن يؤذى الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه فى الوقت المناسب . وكنت أدرك ـ كما أدرك تولستوى دوماً ـ أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعنى من الأدب . عاهدت نفسى ـ مثلما فعل كالدويل من قبل ـ على أن أى عمل أشتغل به غير الكتابة ، سوف يكون مؤقتاً ، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار فى العيش ، والاحتفاظ بسقف فوق رأسى ، وبكساء فوق جسدى . قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسى نفسه ، وارتمى فى أمواجها . اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب ، وإلى اهتماماته ، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل ـ بطل ستندال ـ فأواجه دائماً تلك المشكلة الأليمة التى تتمثل فى الوجبة التالية ، ومن أين آتى بها . إذا كنت قد حاولت الإجادة ، فلأنى أحاول الإجادة فى أى عمل أوافق على أدائه ، حتى لو لم أكن أحبه . مع ذلك ، فإنى أحاول أن أجعل معظم وقتى للأدب ، وأقله للصحافة . علمتنى ذلك تجربة السنوات التسع التى قضيتها مسئولاً عن تحرير " الوطن " . وحتى الآن ، فإن حلم كافكا يراودنى فى أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتى ، لكى أفرغ لكتابة عمل آخر . حينذاك تكون كل آمالى فى الحياة قد تحققت . *** أستعيد ـ فى لحظات انشغالى ـ قول همنجواى " كلما ازداد الكاتب انغماساً فى عمله ، بعد عن أصدقائه ، وأصبح وحيداً " . ومع أن جابرييل جارثيا ماركيث يؤكد أن لحظات السعادة المطلقة ، والوحيدة ، لم يعشها إلا أثناء الكتابة ، فإن الكتابة ـ فى تقديره ـ أكثر المهن عزلة فى العالم " فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء فى كتابة ما يكتب " . من ناحيتى ، فأنا لا أعتزل الناس حتى فى لحظات الكتابة . إنهم شاغل ما أكتبه ، وسدى كلماته . وإذا كان بوريس بورسوف يؤكد أن أى فنان حقيقى ينطلق فى أعماله من تجربته الروحية الذاتية ، فالواقع أنى لا أكتب لنفسى ، لا أكتب لأودع ما أكتبه أحد الأدراج ، أو أمزقه بعد أن أنتهى منه ، وإنما أدفع به إلى الناشر ، سواء فى صحيفة أو كتاب . يشغلنى أن يرى النور ، أن يقرأه الناس ، ويفيدون ، أو يستمتعون به ، أو يناقشونه ، أو حتى لا يجدون فيه ما يستحق القراءة . نصحت بيرل باك كتاب الرواية ، أو من يريدون كتابة الرواية ، بألا يصبحوا ذلك إذا استطاعوا تجنبه . إن تأليف الروايات يستنفد حياة الروائى كلها ووجوده " وإذا لم يضح بحياته ووجوده وهو جذلان ، فعليه ألا يقدم على التضحية إطلاقاً " .. " لا توطن نفسك أبداً على أنك ستجنى مالاً من تأليفك رواية ، إنها أكبر مغامرة فى العالم ، إذا كنت عجوزاً أو قلقاً ، بل وإذا كنت قلقاً فقط ، أكتب الرواية إذا أحسست بأنه لابد أن تكتب رواية ، لكن اعتبر الأجر مصادفة سعيدة قد لا تحدث . احصل على جزائك من مجرد كتابتك لهذه الرواية ، وحاول أن تقنع بهذا " ( ملحق " المساء " الثقافى 30/12/1964 ) *** (يتبع)
لقد جمعت ألف ليلة موروثاُ هائلاً من الحكايات والخرافات والحواديت . وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلى ، وما سبق ، وإما من الشعوب التى عرفها العرب ، واحتكوا بها ، مثل فارس والهند واليونان وغيرها . لكن الموهبة العربية ـ والمصرية بخاصة ـ تظل غالبة ، ذلك " لأن الهندى يحكى ويبالغ ويكدس مايرويه ، أما العربى فإنه يرسم ويتأنى ، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية " . ويقول حسين فوزى : " أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصرى فى الكثير من قصصه " ( 46 ) . ويذهب المستشرق " نولد كافه " إلى أن حكايات الصعاليك فى ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصرى خالص . بل إن الكاتب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف ـ وإسهاماته فى دراسة الأدب الشعبى رائدة ومتفردة وثرية ، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة ! ـ يؤكد أن القاهرة هى موطن ألف ليلة وليلة ، وفيها صنعت قصص هذا الكتاب وصيغت فى سردها القصصى المعروف . ويقول " جالان " فى مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة ، إن " ألف ليلة وليلة هى الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة ، وانها الصورة الصادقة له ، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق ، ورآه ، ولمسه لمس اليد " . ويقول فون ديرلاين : " هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة " ، فهى حكايات عربية إذن . ـ 3 ـ استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة . أذكّرك بأحلام شهرزاد لطه حسين ، وشهرزاد للحكيم ، وشهرزاد لباكثير ، والقصر المسحور لطه حسين والحكيم ، ورحلات السندباد لخليل حاوى ، وشهريار لعمر النص ، ورحلات السندباد السبع لأحمد هاشم الشريف وغيرها . ومع إن توظيف نجيب محفوظ لليالى الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التى ظفر بها معظم أعمال محفوظ ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب ( 47 ) . يقول : " ألف ليلة تحولت معى ، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات ، إلى الحاضر . ويشبه ذلك ما فعله بعض الكتاب حين تناولوا أسطورة أوديب ، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة " ( 48 ) وإذا كانت معظم الإبداعات التى حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت ـ بداية لأحداثها ـ الليلة الثانية بعد الألف ، فإن روايتى زهرة الصباح تبدأ فى الليلة الأولى بعد الألف ، ثم تمضى أحداث زهرة الصباح فى موازاة أحداث ألف ليلة وليلة . تروى الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلى ، مثلما تروى الثانية حكاية شهرزاد وشهريار .. رواية زهرة الصباح محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة فى عمل معاصر ، وإن ظلت ليالى ألف ليلة إطاراً له . زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار ، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد ، تنتظر دورها ، إما أن يمل شهريار الحكى ، أو تخفق شهرزاد . وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل مايقرأه ويستمع اليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية ، تحفظها حتى تبقى على حياتها لو حل عليها الدور . وأثناء ذلك أيضاً ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلى الملوانى ، الشاب المقيم فى البيت المقابل . ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب ، ويتم زواجهما فى السر ، ويحيا الشاب فى قصر أبيها باعتباره خادماً ، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها ، مما يقرأه ويسمعه ، فى الوقت الذى تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار ، مقابلاً لإصراره على قتل بنات الناس . ويواجه شهريار ـ فى النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة ، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء . وهو ماحدث فى ألف ليلة وليلة بالفعل . ويعود شهريار عن غيه ، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء ، والسؤال يشغل الجميع : هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس ، أو أن الكلمة قد أثرت فيه من خلال حكايات الليالى الألف ، فتبدلت أحواله . أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته . وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد ، ويعترف بأبنائه الثلاثة ، تكون هى حاملاً من زوجها سعد الداخلى *** كانت دنيا زاد هى الفتاة التالية لشهرزاد فى ألف ليلة . أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هى التالية لشهرزاد فى روايتى . ليس ثمة دنيا زاد فى الرواية ، وهذا ـ كما تعرف ـ حق الفنان . الفن اختيار ومخيّلة . وقد حاول كل من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته ، أو يرجئ ـ فى الأقل ـ وصولها إلى بقعة الدم ، ولكن الوسائل اختلفت ، فقد حاول الوزير أن يثبّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك . وهى ـ كما ترى ـ كانت محاولة يائسة ، وإن يفسّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته . أما عبد النبى المتبولى فقد لجأ إلى المتاح ، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكى ، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم ، فى الليلة التى لا تجد فيه ما ترويه ، أو يشعر شهريار بالملل . وفى الليالى الألف تتداخل الحكايات : شهرزاد هى الراوية لحكايات متوالية ، ننسى بعضها ، ونتذكر بعضها . أما رواية زهرة الصباح فهى تروى لنا حكاية واحدة ، هى التى تهمنا ، وليست الحكايات التى ترافق أيامها ، سواء نسبت إلى شهرزاد ، أو إلى قضايا الناس ، أو سير الرواة [ بالنسبة للشكل ، فإنى أتأمل ملاحظة صديقى أحمد درويش ، وأوافق عليها ، بامتزاج الحاكى والراوى فى " زهرة الصباح " ، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم ـ تقنيات الفن القصصى عبر الحاكى والراوى ص 258 ] *** ثمة وصف لشهرزاد بأنها " فتاة فدائية ، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذى فتك ببنات المدينة ، أرادت أن تغويهن ، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف ، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع " ( 49 ) . أما توفيق الحكيم فيجد فى شهرزاد استمراراً لإيزيس . بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه ، وأعادت الحياة إلى انسانيته ، تعلم من أحاديثها وقصصها ، وعادت إليه نفسه ( 50 ) . ولعل ذلك بعض ماعبرت عنه زهرة الصباح ، لكنه لم يكن كل ما حملته . ألحت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة ، اتساقاً مع الثقافة العربية التى يرى جمال الدين بن شيخ انها تحمل مسئولية التعاسة للمرأة ( 51 ) . أما حكايات زهرة الصباح ، فقد قدمت المرأة فى صورة مغايرة ، همها البيت والأسرة والحياة التى تخلو من المعايب ، ومن الخوف .. إن زهرة الصباح تحيا فى الرواية . تسأل ، وتجيب ، وتنظر من الشرفة ، وتخرج إلى السوق ، وإلى الحمام ، وتحب ، وتتزوج . وشهرزاد فى روايتى لها كذلك ملامحها الواضحة التى يتعرف القارئ اليها ، بعكس شهرزاد فى الليالى ، فإنها مجرد صوت يروى . حتى تنتهى الليلة الواحدة بعد الألف ، وان تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التى كانت ترتديها فى كل ليلة لنماذج النساء اللائى كانت تقدمهن فى كل ليلة ( 52 ) أفادت شهرزاد من الحكايات التى جمعتها من الكتب ، وهى كتب فى التاريخ والشعر والطب وأقوال الحكماء والملوك ، أفادت من الذاكرة المكتوبة . أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة ـ والفضل لأبيها عبد النبى المتبولى ـ فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار ، والتى كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح ، فإنه نقل حكايات الرواية فى الأسواق والطريف من القضايا التى عرضت عليه .. جعل عبد النبى المتبولى نفسه فى موضع ابنته زهرة الصباح ، فأدرك أن الراوى الماهر ـ ترقباً لما سيحدث ، أو قد يحدث ـ " من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات ، ويعرف كيف يرويها . الراوى الماهر كذلك هو الذى يعرف من أين يتزود بالحكايات ، ويعرف بالتالى من يقصده فى حالة الخصاصة بغية الحصول على حكايات جديدة " ( 53 ) . وكما يقول رولان بارت فإن " حكايات العالم لا حصر لها . تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته ، الذى يتفرق فى كيانات مختلفة ، كما لو أن كل مادة فى الكون صالحة لأن يودع الإنسان فيها حكاياته . فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة ، شفوية أو كتابية ، أو تحمله الإشارة ، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات ( 54 ) *** شفى شهريار من مرض الحقد والرغبة فى الانتقام ، وشفى المتبولى من أمراض كثيرة كانت هى التى تسيّر حياته ، وتملى عليه أقواله وتصرفاته . وكانت الحكايات ، الكلمات ، هى الدواء الناجع لكلا الرجلين . وتبين أهمية الكلمة فى حياة كل من شهرزاد وشهريار ، عندما روت الحكاية عن الملك الذى أراد أن يضاجع جارية وزيره ، فقالت له الجارية : هذا الأمر لا يفوتنا ، ولكن صبراً أيها الملك ، وأقم عندى هذا اليوم كله ، حتى أصنع لك شيئاً تأكله . وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحكم التى تنهى عن الزنا ، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصى . لذلك كان حرص شهريار على الكتاب ، فهو يعنى بالكتب ، ويسرف فى اقتنائها واقتناء المخطوطات ، ويمضى نهاره فى المكتبة ، يختلى بنفسه ، يطلب دواة وأوراقاً ، وينشغل فى الكتابة والتأليف فى نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث . وصار يعقد الكثير من جلساته فى قاعة المكتبة ، بعد إعادة تأثيثها ، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء ، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق ، ينصت كثيراً ، ولا يتكلم إلاّ قليلاً ، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضع ظاهر ، يبين عن حبه للعلم والعلماء فى هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه . ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النساخين ، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار ، ويكتبونها بماء الذهب ، فتحفظ فى خزائن الدولة .. إن معجزة الإسلام هى القرآن الكريم . لكل نبى معجزاته التى أقنعت المؤمنين به أنه نبى من الله . أما رسول الإسلام ( ص ) فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التى تحدت من يستطيع أن يأتى بمثلها . والقرآن الكريم قوامه الكلمة ، ففى الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة ، وفى الكلمة أيضاً تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحكم وعبر وعظات " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " .. لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات ، لكنها كانت تحاول ـ بتلك الحكايات ـ أن تضيف إلى كل يوم فى حياتها يوماً جديداً ، ولعلها كانت تثق فى داخلها أنها ستموت ، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية . وقد فقدت شهرزاد فى الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكى ، أو الرغبة فيه ، أو لأنها لم تعتد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم ، وترغب فى أن تتعرف على مصيرها نهائياً ، وخلال ليلة تكون هى الليلة الحاسمة ( 56 ) . وإذا كانت الطبعة التى قال فيها شهريار لشهرزاد فى الليلة الحادية بعد الألف : كفى ، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه ، وتتوقعه فى الوقت نفسه ، وهو تسرب الملل إلى نفس شهريار .. إذا كانت تلك الطبعة هى الصحيحة ، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلاً من شهرزاد ، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة . كان الهدف من حكاية القصص فى ألف ليلة وليلة ـ كما يقول يوسف الشارونى ـ هو التغلب على الوقت والزمن . وقد أتاحت الحكايات / الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل ، حتى كسبتها فى النهاية ، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها . أما الهدف من حكاية القصص فى زهرة الصباح فهو تأجيل الموت . لقد تغلب الإنسان على الخوف ، وتغلبت الحياة على الموت . أتذكر قول رامان سلدن : " إن بقاء الراوى ـ شهرزاد ـ فى ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمروى عليه ـ شهريار ـ ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فقد اهتمامه بما ترويه ( 57 ) أفلحت شهرزاد فى تخليص شهريار من جنونه ، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها ، بحيث وضعته فى حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت من شفاء حقده وضغينته ، وتمكنت بالتالى من إنقاذ البشرية ( 58 ) . أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة فى ظل الخوف . تأجل ـ بحكايات شهرزاد ـ ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير ، لكن الحكايات ـ فى الحقيقة ـ لم تستطع أن تزيل الخوف الذى ظل فى نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد .. واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة . أما زهرة الصباح ، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبت وتزوجت ، واستعدت للإنجاب .. *** أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة ، فهى تختلف ـ فى مجموعها ـ عن شخصيات التاريخ العربى المكتوب . إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين ، هؤلاء الذين نلتقى بهم فى البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات . من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم . ثمة الشيالون والإسكافية والصيادون والحلاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة . إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقى للفترات التى عاشوا فيها ، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين إلخ .. إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية زهرة الصباح " ، وكانوا ـ من قبل ـ الأبطال الحقيقيين لروايات الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل ، تخفت ـ أمام جهارة أصواتهم ـ أصوات المقيمين فى القصور . الكاتب العربى أغسطس 1999 ـ فكر وإبداع مارس 2000 ــــــــــ الهوامش : 1 ـ ت . عاصم إسماعيل ـ آفاق عربية مارس 1985 2 ـ الهوية والتراث ص 103 3 ـ العربى مارس 1975 4 ـ ثقافتنا فى مواجهة العصر ص 54 5 ـ الأهرام 3/3/1994 6 ـ زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ص 6 7 ـ المجلة 2/3/1988 8 ـ فؤاد حسنين على : قصصنا الشعبى ص 65 9 ـ رفعت سلام : بحثاً عن التراث العربى ص 20 10 ـ صبرى العسكرى ـ الأهرام 29/5/1988 11 ـ ميلان كونديرا : الطفل المنبوذ ـ ت . رانيا خلاف ص 400 12 ـ البلاغ اليومى 12 يناير 1932 13 ـ مجلة " الأديب " فبراير 1950 14 ـ قصصنا الشعبى ص 31 15 ـ الأعمال الكاملة لشوقى عبد الحكيم ـ جـ 2 ص 65 16 ـ المتواليات ص 72 17 ـ ألان روب جرييه : لقطات ـ ت . عبد الحميد إبراهيم ص 65 18 ـ سامية محرز : روايات عربية ، قراءة مقارنة ص 65 19 ـ أ . ل . رانيلا : الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 258 20 ـ تجديد الفكر العربى ـ ص 292 21 ـ المرجع السابق ص 292 22 ـ الرأى الأردنية 22/3/1983 23 ـ الأهرام 29/5/1988 24 ـ عبد الرحمن مجيد الربيعى : الخروج من بيت الطاعة ص 105 25 ـ روايات عربية ص 17 26 ـ لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعاً ، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام 1704 . كما ترجمت حى بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامى 1671 : 1783 27 ـ الشيراوى ـ مقدمة الطبعة الفارسية 28 ـ هوم وشيكل ـ الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية 29 ـ المصدر السابق 30 ـ المسعودى : مروج الذهب جـ 4 ص 90 31 ـ العربى مايو 1984 32 ـ حوار مع بورخيس ـ الثقافة الأجنبية 2/1984 33 ـ الوطن العربى العدد 277 34 ـ المرجع السابق 35 ـ آفاق عربية مارس 1985 36 ـ الموسوعة الإسلامية طـ 2 جـ 1 ص 209 : 210 37 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 302 38 ـ جمال الدين بن الشيخ : ألف ليلة وليلة ، أو القول الأسير ـ ت . محمد برادة ـ المجلس الأعلى للثقافة ص 28 39 ـ المرجع السابق ص 20 40 ـ مجلة " الأديب " يناير 1954 41 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 94 42 ـ رحلة فى ألف ليلة وليلة ص 8 43 ـ قاسم عبده قاسم : الرؤية الشعبية للحروب الصليبية ـ المأثورات الشعبية إبريل 1987 44 ـ المرجع السابق 45 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 315 46 ـ سندباد مصرى ص 269 47 ـ الأهرام 20/10/1988 48 ـ الرأى الأردنية 22/3/1982 49 ـ الدوحة نوفمبر 1985 50 ـ تحت المصباح الأخضر ص 131 51 ـ ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ص 34 52 ـ نبيلة إبراهيم : المرأة ذات الألف وجه فى ألف ليلة وليلة ـ أدب ونقد مايو 1966 53 ـ عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة ـ ت . مصطفى النحال ص 32 54 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 21 55 ـ الإسراء ـ 88 56 ـ العين والإبرة ص 31 57 ـ رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ـ ت جابر عصفور ص 204 58 ـ العين والإبرة ص 16
Forum Rules