مشاهدة تغذيات RSS

طارق شفيق حقي

نقد ما لتنوير ما

تقييم هذا المقال
نقد ما لتنوير ما
بينما كنت أبحث في المكتبات عن كتب الحداثة الأدبية اشتريت كتاب " ما بعد الحداثة لديفيد هارفي " واكتشفت أنه لا يتكلم عن الأدب بل الفكر والسياسية والاجتماع ، أعجبت بهذا الكتاب وقرأته ثلاث مرات وكان بوابة اهتمامي بالحداثة الفكرية ، وبحكم الحدث الذي ضرب المنطقة وجدت نفسي مندفعاً لعوالم ليست من تخصصي ، لضمور ما أو ضعف أدوات قد وجدته في الساحة ، ورغم أن الخلاف في الأدب أو الفكر بوابة للتدافع والتنافس والتثاقف ، لكنه في ميادين أخرى أشبه بقطع سلك من بين سلكين يؤدي لإبطال عبوة ناسفة ، لكن مع فارق أنك أحياناً لو نجحت في قطعه وتفادي التفجير لقامت قيامة الجمهور الجالس فوق العبوة الناسفة نكاية في المخالفين بينهم.
من قال بأن الجميع يريد قطع السلك الأحمر ؟
كل نقاش يمكنك أن تستفيد منه ويدفعك للبحث عن الحقيقة إلا النقاش بين أنصار تيار واحد ، ولذلك كنت أستمتع في النقاشات الحارة بين أنصار الحداثة وأنصار الأصالة ، وذات مرة ارتفعت الأصوات في نادي أدبي فخشي أحد الأدباء من ذلك وأراد تخفيف التوتر بين الطرفين، فقلت له دعهم يا رجل في رحم هذا الخلاف تولد الأفكار.

لكني اكتشفت أن ذلك مختلف في مجال غير الأدب حيث تكثر الشكوكية والمواقف المسبقة والتأويل المفرط ، وإن ما يعتبره الرياضيون روح رياضية لا يوجد خارج الملعب الأخضر ، وربما لكل لعبة أدواتها ومهاراتها.

بكل الأحوال ما يهمنا هنا أن المدرستين هما هما في الحداثة الأدبية والحداثة الفكرية بل والسياسية والدينية.
لكني أحب أن ألتزم بقواعد الأدب والنقد في التعاطي مع الخلاف بينهما، مالم يظهر خلاف ذلك .

لذلك نفترض حسن النوايا هنا لدى أنصار كلتا المدرستين الحداثية والتراثية، لكني بقليل من المراقبة والبحث وجدت أن كثيراً من أنصار كل مدرسة يقلد تيار ما فهذا يقلد تيار الحداثة في الغرب وذلك يقلد تيار التراث في الشرق بذلك وجدت نقطة مشتركة بينهما وهي التقليد .
وهذا كان موجود حتى في الرسم والموسيقى وحق لنا أن نطلق عليهما أنصار المدرسة التقليدية.

كل كلاسيكي كان يومياً ما حداثياً، وكل حداثي يضع بصمته ويترسخ في وعي الناس ويتأصل يدخل باب الكلاسيكية ( كلاسية) وما يسمى بالأصالة ، لذا فإن المنافسة الشريفة وإعطاء الفرص المنصفة للطرفين هي الفيصل والحكم في النهاية.
إذن لا حتمية في موقفنا الناقد هذا حتى يتأصل المنقود وهو قد يكون في شطر منه قريب لمبدأ اللاعصمة الذي ينسب للفيلسوف الأمريكي تشارلس بيرس وهو موقف وسط بين الدوغماطيقي الوثوقي وبين الارتيابي الشكوكي : وهو يعني أنه ليس من الضروري أن تكون الاعتقادات يقينية مبنية على اليقين ، فإن لنا أن نقنع باعتقاداتنا في الظروف التي نتشوف فيها إلى دليل جديد يدفعنا إلى مراجعة رأينا ، غير أنه قد يوافينا في أوانه.
وفي الحق أن علينا - ما دام هذا هو حالنا دائماً - أن نعتصم بهذه الروح ، ونتذرع بهذا الموقف وإلا وقعنا في الارتيابية."

وإن كان كلام تشارلس يحفزنا للخوض في مبدأ الحتمية واللاحتمية لكننا سنكتفي بهذه الإشارة.
بقليل من البحث في ميدان الفكر والفلسفة تكتشف أن جل الجهود الفلسفية في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوربا كانت تابعة للمناهج العلمية المادية ، ولقد اكتشف ذلك أحد العلماء فاستغرب تمسك بعض الفلاسفة بآراء تجاوزها العلم (ناهيك عن أن النظرية العلمية الحديثة تجاوزت النظرية المادية للعلم) ، هذا ما حدث كذلك مع الفيلسوف كارل بوبر الذي رفض تبعية الفلسفة للعلم بل وحين ترسخت نظريته أقبل على فلسفته العلماء ولم تعد الفلسفة تابعة للعلم المادي ، ونظريته ببساطة هي أن كل نظرية علمية يجب أن تكون قابلة للتكذيب، وأن أي نظرية بعد تعرضها للتكذيب تقوم بمحاولة لسد ثغراتها وتطوير نفسها فهذا يقلل من علميّتها وسيدفعنا لتعريضها لنقد أكثر مما كانت عليه لنرى إن كانت ستصمد.

وهذا المبدأ قد ترسخ اليوم بجانب مبادئ عديدة في العلم كمبدأ الاستقراء وقانون عدم التناقض مبدأ الاقتصاد.
وقدم كارل بوبر نقداً دحض بشكل كامل نظرية سادت في حلقة فينا أو الوضعية المنطقية ،وهي جماعة من المفكرين ذوي التوجه العلمي وكانت جهودهم تصب نحو إقصاء الميتافيزيقيا إلى الأبد وتوحيد العلوم ومعنى القضية لديهم هو طريقة تحقيقها ، ومن ثم فلا معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها تحققاً تجريبياً.
لكن بوبر عارض هذه الفكرة رغم صداقته لجماعة فينا وتشجيعهم له على تأليف كتابه الأول ، فكان هذا الكتاب أن دحض هذه النظرية بشكل علمي بشكل نهائي عام 1934 م ولتأخر ترجمة كتاب بوبر فلقد سرت الوضعية المنطقية في إنكلترا عام 1936 م وظلت الوضعية سائدة لسنوات في العالم الغربي حتى تمت ترجمة كتب بوبر والانتهاء منها .
ما حدث مع حقلة فينا وانتشاره مذهبهم في إنكلترا هو درس لدعاة التنوير في المشرق العربي ، إنه بكل بساطة علينا قبل التسرع لتبني فكرة تنويرية ما أن نقرأ النقد الذي تعرضت له.

لم يقوض كارل بوبر بشكل علمي الوضعية المنطقية فحسب بل قوض الماركسية والفرويدية ونظرية إدلر وكل نظرية تعميمية غير قابلة للتكذيب.
يرى الباحث و الناقد الجزائري لخضر مذبوح في كتابه: فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر "أنَّ الدعوة لفلسفات مفتوحة تُعتبر خاصية من خصائص فكر وعلم القرن العشرين يكمن في الدرجات والاتجاهات التي يدعو إليها علماء وفلاسفة هذا القرن؛ فمنهم من يدعو إلى التفتح على اللامعقول أكثر. ومنهم من يدعو إلى التفتح على الميتافيزيقا ونبذ النموذج العلموي الطبيعي كدعوة نيتشه وهيدغر؛ وأتباعهما المعاصرين أصحاب الخطاب الحداثي وما بعد الحداثي كـ «ليوتار» مثلاً، ومنهم من يدعو إلى التفتح على المقاربات النفسية والاجتماعية والفلسفية الهامة، كأعضاء مدرسة فرانكفورت في محاولتهم تطوير نظرية البراكسيس الماركسية، بترك الماركسية الدوغمائية، والتفتح على التحليل النفسي الفرويدي، وإعادة قراءة هيغل وماركس بمنظور معاصر، جنباً إلى جنب مع هيدغر ونيتشه"
"فلا تأويلات هيغل للتاريخ ولا ماركس حسب بوبر يمكن اعتبارها علماً، بل هي نبوءات مزيَّفة، ولا حتى دعوة «دلتاي» لتأسيس علم اجتماعي له منهجه الخاص، ولا فرويد، وكذلك موقفه من نيتشه وهيدغر، القطبين الهامين اللذين ينهل منهما الخطاب الحداثي وما بعد الحداثي، الذي ينقده بوبر، فهو تفتَّح على كلِّ شيء إلا على اللامعقول والعدمية"
فكرة بوبر هي أن أي نظرية لا تقبل الدحض هي نظرية لا علمية ، فعدم قابلية الدحض ليس ميزة للنظرية كما يظن غالبية الناس بل عيباً فقابليتها للاختبار هي قابليتها للتكذيب .

بالمقارنة مع نظرية النسبية لإينشتاين فهي في بدايتها لم تكن تلقى تصديقاً لأنه لم تسمح أجهزة القياس وقتها بالبت بنتاجها بشكل قاطع، وهذا يعني أنها قابلة للدحض بمجرد التجربة وهي بعد أن تم تجربتها رسخت لعلميتها ولقد لاحظ بوبر التباين الشديد بين الماركسية والفرو يدية ونظرية النسبية لأينشتاين حيث أن كلاً من ماركس وفرويد كان يرى تأييداً لنظرياتهم أينما التفت وأينما نظر ، لكن أينشتاين صاغ نظريته بشكل محدد وقابلاً للتجربة والدحض.

يقول بوبر : " أما عن النظرية الماركسية في التاريخ فهي على الرغم من الجهود الصادقة التي بذلها بعض مؤسسيها وأتباعها ، قد انتهت إلى تبني هذا الضرب من العرافة . فالماركسية في بعض صياغاتها الأولى ( مثل تحليل ماركس لطبيعة الثورة الاجتماعية القادمة ) كانت تنبؤاتها قابلة للاختبار وتم في الحقيقة تكذيبها ، إلا أنه بدلاً من قبول التفنيدات ، فقد قام أتباع ماركس بإعادة تأويل كل من النظرية والدليل لكي يجعلوهما متوافقين ، بهذه الطريقة يكونون قد أنقذوا النظرية من الدحض ولكنهم دفعوا في ذلك ثمناً باهظاً ، ذلك أنهم تبنوا طريقة من شأنها أن تجعل النظرية غير قابلة للدحض . لقد منحوها " مناورة اصطلاحية وهم بهذه الحيلة قد حطموا مكانتها العلمية التي يدعونها ويكثرون من الترويج لها."
أما عن نظرية فرويد وإدلر فهما غير قابلتان للدحض وغير قابلتان للاختبار وليس بوسع أي سلوك إنساني أن يأتي مناقضاً لهما وكمثال لفهم ذلك لنفسر سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه وسلوك رجل آخر يضحي بحياته لينقذ الطفل .

سيقول لنا فرويد : الرجل الأول يعاني من الكبت بينما الثاني يحقق ضرباً من التسامي أو التصعيد.
وسيقول لنا إدلر فالرجل الأول يعاني من مشاعر الدونية التي دفعته لارتكاب الجريمة فقام بإثبات أن لديه الجرأة لإنقاذ الطفل ، بين الثاني يعاني من الدونية كذلك فضحى بنفسه ليثبت أن لديه الجرأة لإنقاذ الطفل.

بهذه المنطق يمكننا تفسير كل السلوك البشري بكل سهولة كما يفعل المنجمون باستخدام كلمات عامة تصلح لكل زمان ومكان وتمكن المرء من المراوغة واثبات كلامه.
هناك دروس عديدة يمكن الاستفادة منها عبر منهج بوبر في الكتاب الذي قدمه عادل مصطفى " مائة عام من التنوير عن مؤسسة هنداوي.

وكوننا بدأنا مع كتاب الدكتور ديفيد هارفي فإننا سنختم معه ونقارن أطروحته في نقد التنوير مع مقولات من القرن الثامن عشر للوزير الأول للملك وهو مركيز دار جنسون
يقول ول ديورنت في موسوعته قصة الحضارة :

" استمر أسلوب الحياة هذا سائداً في نبلاء الحاشية، حتى ارتقاء لويس السادس عشر عرش فرنسا في وكشف هذا الأسلوب، من جهة فقدان الإيمان بالدين عند الطبقات العليا. وتخلى الناس تماماً عن مفهوم الزواج في المسيحية، مثله ذلك مثل مفهوم الفروسية في العصور الوسطى. وأصبح الجري والمتعة "وثنياً " بشكل أشد سفوراً منه في أي وقت منذ الإمبراطورية المضمحلة.
ونشرت كتب كثيرة في "الأخلاقيات في القرن الثامن عشر"، كانت هناك أيضاً كتب كثيرة البذاءة والفحش بطريقة
مدروسة متعمدة ، وكانت أوسع انتشاراً ورواجاً ولو كانت سرية .

وكتب فردريك الأكبر يقول: إن الفرنسين ولا سيما سكان باريس، أصبحوا الآن مترفين منغمسين في الملذات، أوهنتهم المتعة والدعة"
وحوالي 1749 رأى مركيز دارجنسون في انحطاط الوعي الخلقي نذيراً آخر بكارثة وطنية:
"القلب قوة نسلب أنفسنا إياها كل يوم لأننا لا نروضه ولا ندربه أبداً
على حين أنا نشحذ الذهن ونصقله باستمرار، فنصبح عقلانيين -لا عاطفين أكثر فأكثر .

وإني أتنبأ بأن هذه الملكة لا بد هالكة، نتيجة لإخماد القوى التي تنبع من القلب، إننا لا نكسب أصدقاء، ولم نعد نحب عشيقاتنا، فكيف نحب بلادنا؟ . إن الناس يفقدون يوماً بعد يوم تلك الخلة الحميدة التي نسميها رقة الشعور.
ويختفي الحب والحاجة إلى الحب وحسابات المصلحة تشغلنا وتستنزفنا دائماً ، وكل شيء سبيل إلى الدسيسة والمكيدة وتنطفئ جذوة النار الداخلية ( العواطف ) لأننا لا نغذيها ومن ثم يزحف الشلل إلى القلب."

يقول ديفيد هارفي في كتاب حالة ما بعد الحداثة
الأزمة الأخلاقية لعصرنا هي تحديداً، أزمة فكر التنوير. فإذا كان صحيحاً أن هذا الفكر قد سمح فعلاً للإنسان بتحرير ذاته " من الجماعة ومن تقاليد العصور الوسطى التي حجبت حريته الفردية" إلا أن إصرار الفكر هذا على " الذات بدون الله " قاد إلى تناقض ذاتي، إذ ترك العقل ، وفي غياب حقيقة الله ، مجرد أداة ومن دون أي هدف روحي أو أخلاقي. وإذا كانت الرغبة والقوة " وحدهما لا يحتاج اكتشافهما إلى نور العقل "، فإن العقل بالتالي يصبح أداة إخضاع لما تبقى . وعليه فالمشروع اللاهوتي ما بعد الحداثي هو استعادة الله من دون ترك قدرات العقل "

طارق شفيق حقي

الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
دراسات وبحوث

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق

Trackbacks