مشاهدة تغذيات RSS

داود سلمان الشويلي

ايام لا تنسى - ما يشبه المذكرات

تقييم هذا المقال
[I]ايام لا تنسى - ما يشبه المذكرات
[/I]


الولادة والطفولة والصبا

داود سلمان الشويلي

الناصرية مدينة هادئة تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات ، وعلى التخوم الجنوبية لصحراء واسعة تمتد حتى تلتقي بالصحراء السعودية . وهي مدينة انشإت نهاية القرن الثامن عشر بعد ان تم الاتفاق بين الوالي العثماني في بغداد في ذلك الوقت وناصر باشا السعدون لاجل توطين القبائل الرعوية المتنقلة في العراق ، وبعد ان استشار ناصر اخوته حول ذلك طلبوا منه انشاء هذه المدينة في منطقة يمكن ان يغرقوها بمياه الفرات لو حاولت الدولة الهجوم عليهم ، فإختار الموقع الحالي للمدينة القريب من (روف) ابو جداحة. (1)
في هذه المدينة ولدت .
كما يذكر دفتر النفوس الدفتري القديم ، انني ولدت عام 1952 م ، ولا اعرف ان كان هذا التاريخ صحيح ام لا ، في منطقة السراي في زقاق يقع على الجانب الايسر لنهاية شارع الحبوبي (عكد الهوة)(2) في بيت (البناء) حسن هندية – كما تذكر والدتي رحمها الله – وبعدها انتقلت عائلتي الى بيت مبني من القصب والبواري (3) في ارض خاصة للحاج موسى الهايس – وهو ابن عمة والدي – وكان يشاركنا البيت ابن عمتي الحاج مهدي ووالدته المتوفى عنها زوجها (4) وزوجته ، ولا اذكر من هذه الايام سوى ذكرى غائمة عن جرح قدمي بواسطة بقايا قنينة زجاجية لمشروب(السيفون) الذي كان يبيعه الشاب المعوق (دحام) في الشارع الذي نسكن فيه .
في عام 1955 وبعد ولادة اخي مالك انتقلنا الى دارنا الجديدة التي اشترى والدي وابن اخته الحاج مهدي ارضها وتم بناء صريفتين من البواري والقصب ، واذكر انني كنت ارافق والدي عندما كان يبني الواجهة الطابوقية للبيت . وكان مكانه في الشارع الاخر لشارع ثورة العشرين بالقرب من بناية ماكنة انتاج الطاقة الكهربائية للمدينة التي كانت تعمل بالديزل وكان صوت محركاتها عاليا ولا يدعنا ننام . (5)
******
كان والدي- رحمه الله - يتيم الاب و وحيد امه بين فتاتين ، هما زهرة – ام مهدي - ، وروبية – ام صادق – وعرفت من خلال بعض الاحاديث المتفرقة التي كان يروي فيها والدي بعضا من جوانب حياته عندما كنت اسأله ، انه عمل صبيا في صناعة الكعك ، وعامل بناء . وفي يوما ما جاء بإجرته اليومية الى امه وكانت بالقرب منها جارتهم – وحسب اعتقاده انها كانت تحسد – فقالت المرأة لامه انها عندها ولد يأتي بالنقود ، وعندها كما يقول رحمه الله حس بحكة براحة يديه ، وبقيت هذه الحكة الى ان مات – رحمه الله – وكانت راحتي كفيه تتورمان بين فينة واخرى .(6)
عدنما اصبح شابا ذهب الى البصرة للعمل في معسكرات الانكليز ، وهناك تعرف على خالي وعائلته ، ثم اخذ يعمل في البناء ، وكانت والدتي رحمها الله متزوجة من ابن عمها ومطلقة منه ، فتعرف عليها والدي وتزوجها وجاء بها الى الناصرية ، فولدت طفلين – ذكر وانثى – ماتوا وهم اطفال ، بعدها ولدت شقيقتي نظيرة – رحمها الله – ثم ولدتني ، وبعدها ولدت شقيقتي اطال الله في عمرها اميرة ، ثم جاء شقيقي مالك ، ومن بعدها جاء عمار الذي توفي عندما كان صغيرا .
على جلدة رأسي ورأس شقيقتي نظيرة – رحمها الله – اثار (كي) ، ذكر لي والدي ووالدتي- رحمهما الله – اننا مرضنا بالتايفوئيد وعندما ارسلونا الى الطبيب اليهودي الوحيد في الناصرية نصح والدي ان يرسلونا الى من يكوي رأسنا بالعطابة .
اذكر من تلك الايام ان والدي كثيرا ما كان يأخذنا لمشاهدة بعض الافلام السينمائية في سينما الاندلس القريبة من المقهى التي كان يجلس فيها ، وايضا- في الليالي التي لم يأخذنا والدي الى السينما - كان ابن عمتي الحاج مهدي يرافقنا ليليا الى المقهى التي كان يجلس فيها والدي ليأخذنا من هناك الى دار السينما .
ومن ذكريات تلك الايام الخوالي ، وعندما كنت في نهاية الدراسة الابتدائية او بداية الدراسة المتوسطة ، اجبرت والدتي – رحمها الله – ان تعطيني مبلغا قدره (6. فلس) للذهاب الى دار سينما الاندلس لمشاهدة الفيلم الهندي الجديد (سنكام) وكان فيلما طويلا بحدود اربع ساعات(7) ، وقد جاء معه مندوبين من شركة الاستيراد من بغداد كي يراقبوا عرضه في السينما كاملا ، وبعد انتهاء عرض الفيلم خرجنا – وكان الفصل شتاء- وقد اظلم الجو ، وعندما وصلت الى بيتنا ضربت بكف يدي على شباك غرفتنا المطل على الشارع – اشارة للذي داخل الدار ليفتح لي باب الدار – فسمعت والدتي تصيح : اشرد ابوك اجاك .
فتركت النعال في الشارع ورحت اركض ووالدي بيده الحزام الجلدي يتبعني لضربي لتأخري عن البيت ولاجبار والدتي على اخذ النقود ، في الشارع واجهني جاري – ابو حميد رحمه الله – فاختبأت خلفه ، فطلب من والدي ان يتركني ، وذهبت مع ابي حميد الى داره وبعد دقائق ارسل والدي بطلبي .
وكذلك من ذكريات تلك الايام ، ان والدي كان يمتلك دراجة هوائية لتوصله الى اماكن عمله ، وكنت انا وشقيقتي – ام حيدر رحمها الله – نخرجها الى الشارع عندما كان يتركها في البيت ، لاقوم ان بركوبها ، وتقوم شقيقتي بمسكها لكي لا اقع ثم تدفعني ، وفي احد المرات دفعتني شقيقتي قويا ، فراحت الدراجة تسير بي وبعد فترة لم استطع السيطرة عليها فوقعت بي الى الارض وانكسر (البايدار) فجئنا بالدراجة الى البيت وكأن شيئا لم يحدث ، بعدها ذهبنا الى دار ابن عمتنا الحاج مهدي وجلسنا بالقرب من عمتنا العمياء ، فسألتنا ان كان هناك قد حدث شيء ما ، لاننا لاول مرة نأتي بمثل هذا الوقت فأخبرتها شقيقتي بما حدث ، في هذه الاثناء عاد والدي الى البيت وعرف بأمر الدراجة من خلال رؤيتها في مكانها في الممر وقد كسرت ، فسأل والدتي وعرف ، عندها جاء الى بيت اخته ، فطلبت عمتي مناان نختبيء تحت السرير ، وطلبت من والدي ان لايضربنا لان الوقت ليلا (ولا يصلح الضرب بالليل ) ، وهكذا تخلصنا من هذه المشكلة.
******
اذكر انه في تلك الايام وفي ليلة التاسع على العاشر من شهر محرم (عاشوراء )، كنت انا واترابي من ابناء الجيران نستعد للسهر في هذه الليلة ( يسمى السهر بالحجة) وذلك بشراء السيكاير (يسمح لنا الاهالي بالتدخين في مثل هذه الليلة من كل عام) والكعك ، وكنا – على شكل مجموعات – ندور في الشارع راكضين وبيدنا الاعلام السوداء ونحن نهتف بأقوال نمجد الامام علي وابنه الامام الحسين ، وبعد منتصف الليل نذهب الى الروف القريب من دارنا لنرى منظرا بانوراميا – كما يتصوره خيالنا - لاشخاص ومعارك تدور بينهم ، حتى يبدأ الفجر الاول بالظهور فنذهب لرؤية مواكب ضرب القامة .
بعد ان تزوجت شقيقتي في محلتنا السابقة – السراي – تعرفت على ابناء المحلة ، مثل : عبد علي شقيق زوج شقيقتي ، صاحب انتيشه (مدرس اللغة الانكليزية فيما بعد)، دعبل ( الان هو الدكتور البيطري امير طالب ويسكن بغداد) وابناء عبد السادة ، والكثير من الصبيان الذين لا اتذكرهم بعد هذه السنوات ،وكنا في ايام عاشوراء نذهب الى منطقة الصابئة ضمن تجمع ونحن نهتف (موتوا قهر يا كفار علي بالجنة مختار ) ، ثم نذهب الى احد الدور التي تسكنها عائلة من المذهب السني ونحن نصيح (موتوا قهر يا سنه علي بالجنه النا) ، واذكر انه خرج الينا رب العائلة وقال لنا : نعم هو لكم ، واذهبوا عنا .

--------------
الهوامش:
1- روف ابو جداحة = أي السدة الترابية اليسرى لنهر الفرات،وسميت بـ ( ابو جداحة) لانها كانت تقدح الماء (الجريان بسرعة) بسرعة عند زيادة مناسيبه في نهر الفرات مكونا الفيضان . وقد حدث مثل هذا الفيضان بعد ولادتي اكثر من مرة ، وقد وصلت مياه الفيضان الى السدة الترابية لنهر اشطيط – حفر هذا النهير الصغير شمالي المدينة لمنع مياه الفيضان عن المدينة ، ولتصب به مجاري المياه الاسنة ، وليكوّن ما اخرج منه من تراب سدا بوجه المياه – في منطقة احياء الصالحية وسومر واريدو والبكر واور، المنطقة التي كانت تسمى قرية فرحان .
2- تتحدث الروايات عن هذه التسمية انها جاءت بسبب عرض الشارع الواسع – نسبة لاتساع الشوارع- وانه كان مزروعا بالاشجار بصفوف جانبية ووسطية ، وكان جوه في حر صيف الناصرية منعشا ، والبعض يقول ان التنظيم الجيد لهذا الشارع جعله مكانا لمواعيد المحبين والسير فيه للتنزه . وسمي بعد ذلك على اسم الشاعر والمرجع الديني النجفي محمد سعيد الحبوبي الذي كان احد قواد الجهاد في معركة الشعيبة ضد القوات الانكليزية التي دخلت العراق اثناء الحرب العالمية الاولى ، وقد اصيب في هذه المعركة ونقل الى بيت العضاض – كما تذكر بعض الروايات حول ذلك – الذي يقع في هذا الشارع قرب القيصرية ، وتوفي فيه .
3- البارية = الواح القصب المضفورة على شكل سجادة .
4- عرفت بعد ذلك واثناء وفاتها في الثمانينات – رحمها الله – عندما سأل الدكتور المنظم لشهادة الوفاة ابنها الحاج مهدي عن حالتها الاجتماعية فأخبره انها مطلقة .
5-تركت هذه المحطة ( كانت تسمى مكينة) بعد انشاء محطة الطاقة الكهروحرارية من قبل الروس، واصبحت كراجا ومخزنا للبلدية ودائرة الدفاع المدني (الاطفاء) .
6- قضية الاعتقاد بالحسد منتشرة بين عامة الناس ، وهناك صور جدارية تركز هذا الاعتقاد ، اذ تبين الصورة عينا مرسومة داخل كف ، وتحت العين اية قرانية ، سورة الفلق:
(( * قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد )) ، وكانت هذه الصورة معلقة على جدار غرفتنا . ويروي العامة من الناس ان الكف في الصورة هو كف النبي محمد عندما حسد .
7 – كانت بطاقة الدخول الى السينما اربعين فلسا ، ولكون هذا الفيلم طويلا جدا زاد اصحاب السينما من سعر البطاقة .



















2
ايام لا تنسى
ما يشبه المذكرات

الحظ
داود سلمان الشويلي

تنوعت آليات معرفة الحظ ، او قراءة الطالع ، او كما جاء بالمفهوم المعاصر للمصطلحات "قراءة المسقبل " ، وكان الذي يقوم بمثل هذه الاعمال يسمى الكشاف والكشافة ،فكانت هناك آليات تستخدم جسيمات صغيرة كالمحار والخرز والحصو واشياء اخرى في القراءة وتسمى هذه الآلية بـ"الطش= النثر" ويسمى الذي يقوم – او تقوم – بممارسة هذه الآلية بـ" الطاشوش او الطاشوشة"(1) ، وهناك – كالنساء مثلا- من تستخدم الذراع والكف " لقياس الحظ (!)(2)او معرفة الطالع ، اذ تقوم الممارسِة بوضع اصبع الابهام لليد اليمنى في مكان مرفق اليد اليسرى من الداخل ،ثم تمد الكف الى نهايات اطراف اصابع اليد اليسرى ، فإذا تطابق طول الكف اليمنى – من طرف الابهام الى طرف الاصبح الصغير- مع طول الساعد الى نهايات اطراف الاصابع فإن المحاولة تعاد ، واذا قصر فإن النتيجة سلبية ،والعكس صحيح بالنسبة لمن يريد ان يعرف طالعه . وهناك من يستخدم السبحة لمعرفة "الطالع ،البخت" . ومن هذه الآليات ايضا قراءة الكف .
وفي الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي خرجت علينا مطابع بيروت بكتيبات صغيرة تعلم الشباب شتى الفنون :كالضرب على آلة الطابعة ، وتناقل الافكار ،وقراءة الكف ...الخ ، وكنت حينها(3) مغرما بقراءة الكتب ، فإبتعت هذه الكتيبات، ولكنني لم اتعلم منها شيئا سوى انها افادتني في معرفة بعض الاسرار .
******
مرة – كنت وقتها في الصف الثالث متوسط – كنت جالسا على احدى المساطب الخشبيةالتي كانت منتشرة على الرصيف المحاذي لضفاف نهر الفرات في مدينتي الناصرية مساءا ، جلس بالقرب منى شاب عمره في منتصف العشرين ،يحمل في يده حقيبة يدوية جلدية كتب عليها " قارئ كف " ،وبعد ان سلم علي سألني إن كنت اسمح له بقراءة كفي ، فرحت لهذا الطلب وسلمته كف يدي اليسرى كما اراد ، وتحت ضوء مصباح الشارع راح يشرح لي ما تعنيه خطوط الكف ، بعدها راح يقرأ كفي ومما قاله :
انني ساتزوج باكثر من إمرأة (4)، بعدها عرج الى الخطوط القصيرة في اسفل كفي ، وبتمعن دقيق اخبرني انني سانجب اربعة ابناء ، الا انه لم يحدد جنسهم (5) ، ثم وهو ينظر الى خطوط كفي جميعها اخبرني: ان السفر بالبحر خطر علي ّ، وحذرني منه (6) .
هذا كل ما قاله لي ، فهل كان صادقا فيما قاله ؟!

---------------
الهوامش:
1- كانت هناك امرأة تقوم بذلك ، اضافة لبيع بعض الحلويات للصغار امام باب دارها بالقرب من بيت الحاج ناصر في الشارع الذي يقع خلف مدرسة الناصرية الابتدائية ، وكانت والدتي يرحمها الله عندما تذهب يوميا للتسوق - كانت بسطة هذه المرأة في طريقها - تكشف طالعي عندها وذلك بسؤالها : هل داود يتزوج الفتاة التي يحبها ام لا ؟ وكانت المرأة بعد ان تنثر الاجسام الصغيرة التي كانت تحتفظ بها في كيس قماشي صغير ابيض اللون تقول : نعم سيتزوجها ، وكانت امي رحمها الله تفرح لهذا الخبر وبعد ان تمنحها درهما واحدا تأتي لتزف لي الخبر ، وكنت كثيرا ما اغضب لذلك واطلب منها ان تحتفظ بالنقود لان المرأة دجالة ، الاانها لم تقبل بكلامي وترد علي بقولها انها امرأة معروفة بصدق ما تقول .
- لم اتزوج تلك الفتاة .
2- كانت احدى العجائز من معارفنا – وهي ام محسن وكريم العمال الذين يعملون مع والدي في البناء- تمارس هذه الطريقة وكثيرا ما كانت تبشرنا بالنجاح انا وشقيقاتي عندما كنا طلاب في الدراسة الابتدائية ، الا ان شقيقتي الكبرى المرحومة ام حيدر لم تكمل الدراسة الابتدائية بسبب رسوبها ، واما شقيقتي الصغرى فقد ادامت البقاء في الصف الثالث الابتدائي حتى تركت الدراسة .
3- كنت وقتها في الدراسة المتوسطة في النصف الثاني لستينات القرن الماضي.
4– وانا اكتب هذه السطور ، اصبت بجلطتين ادتا الى شبه شلل نصفي في النصف الايمن من جسدي ، علما انني لم اتزوج سوى مرة واحدة ولم يكن في نيتي الزواج من اخرى .
5- لي من الابناء تسعة ، ابنتان وسبعة اولاد .
6- لم ار البحر طيلة حياتي الا من خلال نافذة الطائرة ، ولم ادعى للسفر بحرا ، وانما كانت جميع سفراتي الى بعض الدول العربية والدول الغربية جوا ، اذ سافرت الى :الاتحاد السوفيتي ، اليونان ، فرنس ، ايطاليا ، المانيا الشرقية ، يوغسلافيا ، جيكوسلفاكيا ،بولونيا ، هنكاريا،الاردن ، اليمن ، سلطنة عمان ، السعودية ، مصر،اما سفرتي للكويت و سوريا فكانت براً .
10 /2007
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق