مشاهدة تغذيات RSS

طارق شفيق حقي

الاحتمال المتبقي

تقييم هذا المقال
الاحتمال المتبقي


[

في إحدى مقاهي الانترنيت مضت علي أكثر من ساعة وأنا انتقل من موقع لآخر، لا أعرف كيف ساقتني قدماي إلى هذا المقهى ، ولا أعرف إلى أين ستقودني أصابعي، وبعد أن دخلت موقعاً للمحادثة كان الموقع مألوفاً لدي ،بل مألوف جدا ، وكان على الطرف الآخر شاب قد كتب : اسأل عن أي شيء ترغب به وأنا سأجيبك ، لا تسأل أسئلة في مجال الأخبار أو الحيوان أو العلوم أو النباتات بل اسأل عني ، تعجبت كل العجب من كلامه فأردف : قد أعرف الكثير من العلوم والأخبار أو أمور أخرى، لكن لن أعرف فيها أكثر من نفسي، وأنا لست فناناً معروفاً أو سياسياً أو أديباً إنما إنسان عادي،وإنسان عادي جداً فقط






.وأنا جاهز للإجابة عن أي سؤال تطرحه. كانت كلماته تجذبني أكثر من أي شيء اخر ، ربما كنت أحاول حينه الهروب ، الهروب من أي شيء تهرب من مشكلتك مع خطيبتك ، لم تستطع حل مشكلة السكن , وبعد أن حفيت قدماك وأنت تبحث عن منزل مناسب ، ليس مناسباً بالشكل بل بالسعر , لكن حماتي أقصد مستقبلاًً , انهالت علي لوماً بأنه منزل بعيد وصغير لا يناسب ابنتها المصونة , حاولت أن أزيد من دخلي بشتى الوسائل فقررت أن أعمل عملاً إضافياً وهنا تكمن المشكلة لأني لا أعرف مهنة غير هذه المهنة والتي ليس فيها أي مجال للعمل بالقطاع الخاص وهي التنقيب الجيولوجي.


في البداية قررت أن أعمل دهاناً مهنة جيدة وتدر النقود بالإضافة لسهولتها , ساعدني بعض الأصدقاء واتفقت مع أحدهم , كان مختصاً لكنه كان يريد عاملاً مختصاً أيضاً , وحين سألني هل تجيد العمل هززت برأسي بثقة متأملاً تطوري بشكل سريع وقلت في نفسي إن الأمر سهل كلها فرشاة تحركها نحو الأعلى والأسفل , لكنه طردني بعد أن أفسدت الدهان كلياً , حاولت من جديد وعملت



مع أحد النجارين , مهنة النجارة أسهل ,خشب ومسامير،منشار ومطرقة , لعلها أفضل من الدهان , لكنه طردني بعد أن أفسدت خزانة وخلطت مع الغراء قليلاً من الماء، لم أنس بعدُ مهنة الدهان , بعدها صممت على النجاح وعملت عند أحد الخياطين هنا لا يوجد غراء ولا طلاء ولا ماء ولن أخلط شيئاً , وبالفعل لم اطرد هذه المرة بل أنا الذي هربت قبل ذلك حين خطت بدلة بغيابه وكانت المقاسات غريبة وعجيبة .وازداد الهم النفسي وفي كل مرة كانت خطيبتي تحثني على متابعة البحث , وأنا لا أعرف من أين تأتي بكل هذه


العبارات والجمل المنسقة والحماسية وتستشهد بقصص لم أعرف مصدرها، وتبث التفاؤل والعزيمة فيّ , وتتراءى لي أحلام البيت الجديد فأندفع للبحث , كنت هائماً بعد آخر مرة وكلمات خطيبتي ترن في أذني , محّص النظر يا حبيبي وستجد العمل المناسب إننا في مدينة كبيرة. محص , سأمحص . هل أعمل في مجال الكمبيوتر , إن لي خبرة جيدة به , لكن مكاتب الكمبيوتر كثرت وانتشرت وأصبح كل من لا عمل له يعمل بها , لا جدوى , محص النظر يا حبيبي , سأمحص . التصليح , تصليح المسجلات والتلفزيونات ,




مسجلتي القديمة كنت أصلحها بنفسي وأفهم شيئاً بالتصحيح لكنها مسجلة صغيرة وقد خربت الراديو آخر مرة , وإذا خربت أحد الأجهزة سيكبدني ذلك مبلغاً من المال , يا إلاهي ماذا أفعل , محص، من أين لي تظهرلي كلماتها , كانت عيناي تقلبان النظر في الأرض , تمحصان في حجارة الطريق , محص يا حبيبي ،محصت يا حبيبتي وها أنا أتمحص , أصبحت كحبة فستق , تخيلي



حبة الفستق كيف تتحمص في المحمصة، تخيلي حبة فستق كبيرة كحجمي وأصبحت في محمصة كحجم هذا البلد بل كهذه الكرة الأرضية بل كهذا الكون أنا أتمحص أنا أتحمص – أتمحص .ثم دخلت هذا المقهى وأنا أمام هذا الموقع الآن لعلي أضيع فيه وأنسى مشاكلي وهمومي , ماذا تريد أن أسألك يا صديقي الإنسان العادي ،والعادي جداً , طيب كم عمرك ـ ثمانية وعشرين



مثل عمري تماماً ماذا تعمل ـ موظف ـ ما هي شهادتك ـ مهندس جيولوجياـ ما هذه المصادفة , نفس العمر والشهادة والوظيفة , وكيف حال وظيفتك هل أنت مرتاح بها ,ـ إيه , مرتاح يعني بين بين ـولماذا ال إيه هل لك مشكلة احك لي ,ـ وبدأ هذا الإنسان العادي يسرد مشكلته , مشكلتي أني خاطب وكنت



أبحث عن منزل مناسب ليس مناسباً بالشكل بل بالسعر ،لكن حماتي أقصد مستقبلاً انهالت علي لوماً , بأنه منزل بعيد وصغير لا يناسب ابنتها المصونة , ـإنها نفس قصتي , أكمل ـ وحاولت أن أزيد من دخلي بشتى الوسائل ـ فقررت أن تعمل عملاً إضافياً ـ نعم كيف عرفت ـ وعملت دهاناً ـ نعم من قال لك ـوحسبت الأمر سهلاً فرشاة تحركها نحو الأعلى وأخرى نحو الأسفل ثم طردت ـ نعم نعم ـ وعملت نجاراً ثم خياطاً وهربت آخر مرة ـ نعم لكن من أخبرك



كل هذه التفاصيل ـ ثم همت على وجهك وبدأت تمحص النظر مثل كل مرة وأصبحت تتحمص كحبة فستق في محمصة كبيرة ولا تقل لي أيضاًً إنك دخلت مقهى للانترنيت ـ لا هذه الأخيرة لا , لكنك تعرف عني الكثير ـ اصمت كل ما رويته قد حصل معي بالحرف وبأدق التفاصيل من أنت أيها الجاسوس كل أخباري بل حتى أفكاري أخبرني ،ما اسمك فكتب لي سريعاً اسمه عبد الله آدم ـ إنه اسمي حتى اسمي أيها الوقح من أنت، فصمت الآخر ثم كتب لي تمهل



الآن أدركت الأمر لعلك واحد جديد ـ أي جديد وأي قديم ـ قلت تمهل هل تعرف لقد اتصل بي عشرات أل عبد الله آدم أنت في عالم الانترنيت يا صديقي عالم جديد يتيح لك التعرف على الدنيا بسهولة ويسر ويوجد مثلي ومثلك الكثيرون ويحملون الاسم ذاتها وتجري لهم الأحداث نفسها, لكن بفارق صغير, هناك اختلاف طفيف في الأحداث وكل اختلاف يغاير الآخر انتظر



لحظة إن أحدهم يتصل بي, كان كلامه قد شل تفكيري هل أنا في حلم أم ماذا, بعد قليل دعاني إلى حوار مفتوح مع كل أل عبد الله آدم اللذين يعرفهم , المتشابهون كثيراً والمختلفون بمقادير صغيرة وصغيرة جداً وجرى الحديث , كان حديثاً طويلاً مشوقاً كان أشبه بمتاهة ,وقد أضعنا بعضنا فقررنا أن نرقم



أنفسنا أنا عبد الله واحد وهو عبد الله اثنان وهكذا , واندمجت بكل كياني في هذا الحوار العميق جاءني سلام من عبد الله خمسة ثم من ثلاثة وانهالت علي عشرات الترحيبات , سأل كل واحد منا عن حال خطيبة الآخر وانهالت الضحكات بعد جواب : إنني أمحص النظر , لقد كان هذا الحوار بمثابة النظر في مرآة تقابلك , لكنها محرفة قليلاً والأغرب هو أن عليك أن تصدق أن هذا المقابل هو شخص آخر يشبهك كثيراً , وبدأنا نستمع إلى بعضنا , وكل منا



يسرد أخباره , وعندما كان عبد الله السادس عشر يسرد واقعة جرت معه وكيف فكر ومحص ثم اتخذ القرار الذي رآه مناسباً , أضاف كل عبد الله رأيه وكيف كان موقف كل واحد منا , واتخذ قرار يغاير الآخر , لعل بعضنا فكر بكل الاحتمالات ثم اختار ما يناسبه , وكان كل واحد منا يقرأ في سيرة الآخر ماذا كان سيحصل له لو اختار القرار الآخر, كنا نتبادل الخبرات ونعرف ماذا كان سيحصل لنا لو اتخذنا قراراً آخر فكان منا السعيد ومنا الحزين والناجح



والفاشل والمتخبط والمستقر والمفكر والبليد والأهم أن كل واحد كان راض بما جرى خصوصاً بعد أن اطلع على سيرة الآخرين, ومن أمام الجهاز كنت أشعر بنشوة عارمة ونسيت خطيبتي ,وحين تأملت الإجابات أحسست بأن إجابة واحدة مفقودة وانتابني ألم شديد في رأسي و ترأت لي حبيبتي حزينة ,وفجأة طرحت سؤالاً على كل ال عبد الله آدم ,وماذا فعلتم يا شباب بشان التمحيص وبشأن



العمل وبشأن البيت وبشأن حماتكم أقصد مستقبلاً , لم يردني أي جواب ولم تنهال علي الاحتمالات وكأن كل واحد ينتظر الجواب وينتظر الحل , يا شباب لماذا لا تجيبون أتعرفون ماذا يعني هذا, هذا يعني أن هناك عبد الله آدم لم يتصل بنا وانسابت عدة ثواني ثقيلة هذا يعني وجود عبد الله جديد لم نعرفه ولم نجربه وهنا أحس كل واحد منا بوجود هاجس كان يطرق رأسه , قرار لم



يستطع اتخاذه وحل لم يستطع التوصل إليه وتحقيقه , وتجربة لم يجربها هي تجربة عبد الله المفقود في أذهاننا , يا شباب أظن أن عليكم البحث عن عبد الله المفقود عبد الله الذي وجد عملاً وغلب حماته وتزوج حبيبته وانتصر على ظروفه , إنه الاحتمال المتبقي وعليكم أن تمحصوا النظر جيداً لتعثروا عليه . ومن حينه لم أعد أرتاد مواقع المحادثة في الإنترنت.


اليعربية 5/9/2003
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
قصة

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق

Trackbacks