مشاهدة تغذيات RSS

سيدة الدفء

أتذكريني

تقييم هذا المقال
[ATTACH=CONFIG]969[/ATTACH]
[B][SIZE=3]حللت بدار البقاء.. وتركتيني في دنيا الفناء.. هل تذكريني يا قصة شموخي.. هل تذكريني وقد كان في وداعنا نظريةً سخيفة من نظريات القدر.. هل تذكريني عندما أبكيكِ وبيدي مسبحتكِ التي لم تفارق عناق أصابع يديك الطاهرتين..

لا أعرف إن كان كان انتصارك حين لحقتِ بقاطرة يحجز القدر لكلّ منا فيها مقعداً مؤكداً.. أم انتصارك حين مضيتِ لمسرح موحش لتراقبي عن كثبٍ ما ستفعله الأيام بنا..
للمرة الأولى أراكِ في صمتٍ قاتل، كحوض دحنون جبلي - بعنفوان صموده- على رحيل حزين.. طويت بيدي ثوبك الأسود المتعب وطويت فوقه غطاء رأسك الأبيض البائس.. وها أنا سأضعهما على رفّ الذاكرة، لأراكِ الآن حاضرة غائبة ترتدين ثوباً من القماش الأبيض الساخر.. تعطرين جلسةً مكتظةٍ بأناسٍ محملين بمهالك الدهر.. والدمـــــوع.

عن بُعد.. بين طيّات مُحيّاكِ الذي يشعُّ نور الفراق.. أفتش عن مصادفةٍ تجمعني بجرأة إجهاش الصراخ وفحش البكاء.. ولكن لحظة الحزن الباهظة لم تسمح لي إلا بتمتمةٍ من الكلمات الراجية التي تدعو لكِ بالغفران...
أتذكريني من بين خِضَمّ أحفادك الذين كانوا كلهم بالنسبة لكٍ "أنـــا" ، تناديهم كلهم باسمي أنا، أتذكريني وقت الضحى أُطلُّ عليكِ فترفعي ذراعيكِ المثقلتين بأوجاع الأيام مرحّبةً.. ومبتسمة لتحقق حلمٍ من أحلامك المتواضعة سهلة التحقق.
أذكركِ حين تتكلمين بنبرة تهكّمٍ لما تركه الزمن عل صرح جسدك الهزيل الذي يزداد ضعفاً وشموخاً مع الأيام...

كم كان جميلا الجلوس بمحاذاتك.. كم كانت جميلةً ممارستك للتهليل والتكبير والاستغفار سرّاً.. كم أحترم جلستك باتجاه القبلة لتصلي ركعةً لله تشكرينه فيها على أُمّيتك التي كانت سلاحك الأقوى تحاربين به الأيام.. مسكينةٌ أنا حين أشتاق لأن أقطع طريق رحلتي الى بيتك الذي يتراكم فيه الصمت.. مسكينة أنا حين لا أجد من أستأذنه لأشاركك جلسةً تتحدثين لي فيها عن مغامرات شبابك وخيبة كهولتك.. وأنا لا يسعني إلا أن أستبيح صبر الاستماع لكِ والاستمتاع بحديثك.. أفتقدك يا نزهتي ورحلتي.. وسيرتي...

لم تكوني الأكثر نصيباً من التعاسة والرحيل.. من الممكن أن أكون قد أهديتُ قدراً أكبر من التعاسة. فأنا من رأى قدر أشياءك بعدك؛ ثيابك.. مجلسك.. مسبحتك.. أنا من رأى الغبار يحط على كل ركنٍ في غرفةٍ هجرتيها وأغلقت بابها خلفكِ إلى الأبد.. أنا من شهد مع الستائر والشراشف مشهد رحيلك المؤلم ولحظات احتضارك الأقسى...

أحسدك على شجاعتك في المكوث بارتياح في ذلك النعش الظالم الذي لا يعرف إلا طريق رحلة واحدة.. إلى حفرةٍ كلٌّ منا يحمل رقماً بانتظار دوره ليسكنها.. أحسد ذلك النعش لأنه سيكون آخر من ترافقه رفاة جسدك الطاهر.. بعد أن كنت رفيقتك نحو كل صوب..

جدتي الفاضلة.. أنهار على منضدتي باكيةً.. أُردّد متمتمةً: اشتقت إليكِ.. تعبرين ذاكرتي عن قصد لأعثر على حُجةٍ دامغةٍ لأبكيكِ فيها... فأضعف الايمان: أنتِ تغمرين ذاكرتي بدقّة.. أحملك في قلبي بحجم المقبرة التي تحملك.. الكثير من موتانا نواريهم التراب.. فإما أن تسكن روحنا معهم.. أو يسكنون روحنا.. ما حادَثتكِ يوماً إلا وبنيتُ مجدي من جديد.. ما جالستك مرّةً إلا كنتِ منديلي الذي يمسح دموعي المحتبسة في جسدي... دائماً كنتُ سبيلاً لتنهمري عليّ بأسرارك الزهيدة التي أوصدتِ بابها أمام الجميع.. إلا أنا.... كنتِ تشرعيها لي على مصراعيها دون حتى أن أطرقها.
أفتقد انحناءة جسدي - وكلّي فخرٌ- حين أتناول حذاءك لأضع فيه قدميكِ الطاهرتين.. أفتقد عناء البحث عن حبة دواء في حقيبة مليئة بالأدوية الكاذبة التي لا تحمل إلا بطولات أسماء جعلت من جسدك رواقاً تلتهم ما تبقى منه.

عندما ينطفئ العُمر.. قطعاً هناك فراق، قطعاً هناك قصةً ستبدأ نهايتها.. ستبدأ بذرة قطيعةٍ بالتنامي فقط لتزيد من ألم الفقدان.. وألمي الأعظم يا جدتي أني حضرتُ بداية نهاية عُمرك.. وكنتُ شاهدةً على تطبيقٍ أحمق لقانون الكون القاسي.
شهدتُ خروجك الأخير محمولةً على نعشٍ يتحدى الحياة.. ودوماً هو المنتصر.. تخرجين وسط غيمةٍ من ضباب حزني وسيل دمعي.. لا أقوى على قول كلمة واحدة لكِ بعد الآن.. ستذهبين حيث ستواصلين بقاءك دوني، فيما أواصل أنا حياتي دونك.. أكره أن أحصل على جواب أكيد حين أسأل: أيــنــكِ؟... أستصعب تقبل فكرة رحيلك.. ولكن دوماً هناك من سيرحل.. فتواصل حياتنا تفاصيلها دونه.. ودون أن تتأثر حتى عقارب الساعة..

جدتي الغالية.. أشتاق الى شيء من حصانة سيل أدعيتك المخضبة بالإيمان.. حين أسند رأسي على كتفك مُجرّدةً نفسي من شيءٍ من التعب.. أشتاق الى دعاءك الذي يرتفع ليصل عنان السماء دون انتقاءٍ متعمد للكلمات.. فما كان يريحني في كلامك إلا عشوائيته المتواصلة الصادقة.
أراني أنزعج حين يأتي حفيد آخر ليقاسمني ما أحظى به من أحاديث نتبادلها.. أو حتى تلقّي أوامرك البسيطة.. فحين يأتي أحدهم أراني أشتدُّ التصاقاً بكِ حتى أحصل على الحظ الأوفر من الاهتمام أو نظرةٍ ألتقيكِ فيها أثناء حديثك...

موجودة لا زلتِ في كل ركنٍ حللتِ فيه.. موجودة روحك في صورتك تلك المعلقة على جدار غرفتي.. أراكِ في كل مرّةٍ تقع عيني على مسبحتك التي احتفظتُ بها بعد رحيلك معلقةً في خزانتي.. فقد أردت أن يكون لي شيءٌ منكِ حملتيه دوماً ومنحتيه اهتماماً أكثر مني أنا فقط.. فلم تكن إلا مسبحتك..

لن أنساكِ جدتي.. سأدعو لكِ دوماً بالغفران.. مع كل هطولٍ للمطر.. الذي لا يذكرني إلا بتهليلك.. حينما ترينه من خلف زجاج النافدة.. سأذكركِ عند كل موسم قطاف زيتون.. سأذكرك على طول ظلال عرائش العنب.. سأقرأ الفاتحة على روحك السامية بعد كل صلاة.. وأبكيكِ في كلّ لحظة سجود...

[/SIZE][/B]


[IMG]http://merbad.net/vb/images/misc/pencil.png[/IMG]
المصغرات المرفقة المصغرات المرفقة اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	www9orcc-mno-6..jpg‏ 
مشاهدات:	1377 
الحجم:	23.3 كيلوبايت 
الهوية:	969  
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

  1. الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    رائعة هي هذه المشاعر

    والنثر بهذا التوجه الجميل يحمل أفقاً إبداعياً جديداً

    لقد مرت في المربد أكثر من قصة تحمل ثيمات جديدة
    ومواضيع جديدة تركت لفترات طويلة من الزمن

    اليوم تعود ويعود الابداع الصادق

    أحسنت وأجدت
  2. الصورة الرمزية سيدة الدفء
    أشكرك أستاذي مصطفى البطران الكريم
    وأشكرك أستاذي طارق شفيق حقّي الكريم

    أحتاج منكم يا سادتي وأساتذتي توجيهاً ونقداً، علّي أصبح محترفةً لا هاوية
    تم تحديثة 14/07/2010 في 01:46 PM بواسطة سيدة الدفء
كتابة تعليق كتابة تعليق