مشاهدة تغذيات RSS

طارق شفيق حقي

ويبقى صوت الناعورة

تقييم هذا المقال
بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم لكم أول قصة خطتها يدي
للقصة مكانة كبيرة في قلبي
بحكم أنها كانت الباكورة
موقعة بتاريخ

8 آذار 1997

......
ويبقى صوت الناعورة
في تلك البقعة الصفراء تدور تلك الكتلة الخشبية ، تصدر أصوتا كأنها أصوات الجن والعفاريت وكأنها تهزأ بك وأنت تقف أمامها ،حتى إن شكل أخشابها يهيج بك الأفكار فأجدها أشبه برجل عجوز ثيابه أشبه بثياب معدنية وهو محني الظهر يبعث نظراته إليك باشمئزاز وسخرية.

وبين فترة وفترة يدق عصاه المعوجة في الأرض وبصوت عال يتردد صداها في ذرات جسدك ، وإنزمام الشفة العليا توحي لك أنه ذئب يقظ ، وتلك الكومة التي على رأسه أجداها أشبه بجبل كامن على الصدر فوق القلب تخرج تنهدات عميقة وصوت أجش متموج ينفخ في الهواء .. وعينان حسيرتان لا تعيان ما معنى كلمة الزمن ولا تنظران لجوهر الأمور بل كل ما لديها هو العطف والحنان ومن أجل من ؟، من أجل ذلك الذي يهرب منك لقاء كلمات تأخذ نصابها أو من يترك الباب مفتوحاً لتهب منه الرياح الغربية المنشأ فتعيث فوضى في أفكار هذا التائه، ودون أن يدري وتراه يردد في نفسه أيمكن لهذا الشخص أن يكون صادقاً أخبريني أيتها الرياح هكذا كان الزمان .

وسخرية الأقدار تكمن في صوت الرياح حين تدخل في أذان من هم جالسين على الربوع الذهبية لتنتهز تلك الفرصة وتنادي بأعلى صوتها وتصرخ في مسمعه فيدوي صدى صوتها في كل مكان وكأنها جرذ هارب لا يعرف إلا غريزة البقاء فتروق الأصداء لصاحبها الذي كان يجد نفسه مقتدراً، حتى يرتد مغروراً متكبراً لا شيء في عينيه إلا صورته وصور ممتلكاته التي تطول يده فيها إلى أخر حبة مما يزرع الكادحون.

وعدنها يتناهي لك نفس الصوت صوت الجن و العفاريت وتظل تلك الناعورة تصدر نفس الأصوات التي تصم سمعك ويحيلك إلى مياه راكدة أو إلى نافورة ماء مهما علت مياهها وعلت لا سبيل إلا للهبوط ، أما أن تراك على شكل نبع متوقد أو مياه جارية فذلك أمر مستحيل لأنها يجب أن تعمل تلك الناعورة وتنقل الأموال من جيب إلى آخر وفي نفس الوقت تبقى تصدر ضحكاتها الرنانة التي تشبه صوت إبليس قد تربع على كرسي جاثم فوق أحلام الناس وتظل هي تدور وتدور وتدور...

حين مررت بجانب النافذة لم تترك عيني لي مفراً فنظرت إنه جالس هناك في تلك الزاوية المعتمة قرب الموقد الخالي الذي يشبه مرجلاً لصهر الحديد وهو يحني رأسه ويده مستندة على رجله كأنها غصن شجرة مائل أحنته يد الزمان ؟ وفي آخر أطراف يده الهزيلة تجده وبصعوبة ممسك ببقية سيكارة رمادية التي تجد الكثير من مثيلاتها مرمية على الموقد وبعضها على أرض الغرفة التي تربع في وسطها شيء أشبه بالسجادة التي أمست ملعباً للفئران الجائعة.

عاد بي الزمان إلى أول يوم إشراقة مولودنا الجديد وهو يبث إلى هذه الدنيا تحياته وفي صوت واثق قوي هلموا يا أصحابي هلموا أنا الزائر الجديد، ويبقى هكذا حتى يملئ غبار تنهداته جو الغرفة التي عادت كغابة مهجورة وهو الآن كإنسان يرسل التأملات الأخيرة لهذه الدنيا ، هذه الدنيا التي جال في جوانبها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال أحبها أحياناً وكرهها أحياناً فأصبحت المعادلة موزونة والناتج صفراً وهو الآن يخرج صفر اليدين لا شيء إلا ذكريات أليمة عن دينا ملئها الجوع بأنواعه؟؟

أحب أشخاصاً وأشخاصاً ..لمعت في عينيه صورة جميلة تحمل معاني الحب والولاء والعطف والإخاء ، إلا أن تلك الصورة كانت مرسومة بألوان مائية وهذه الأيام كثيراً ما تمطر السماء ، وتظل الناعورة تدور وتدور...

كان في كل يوم يخرج للعمل وفي نفس الطريق حتى يصل إلى آخره منتظراً الباص الذي ينقله إلى مكان عمله الذي يبعد مئات الأميال وبالكاد ألقى التحية ورمى بالنقود أمام السائق الذي نظر إليها دون أن يحرك عضواً من جسده وفي نفس المقعد المهترئ جلس وأخذ يحدق بعينين نصف مفتوحتين إلى الركاب وهو ينقل عينه ، من هنا إلى هناك وهو يرفع يده ويخفضها.
وبهدوء مد يده يبحث عن تلك العلبة الرمادية ، أخرج شيئاً وضعه في فمه وها هو يبحث عن الولاعة ومن ثم أخذ يخرج ذلك الصوت لعلها تعمل
مرة بعد مرة بيد صبورة إلى أن أخرجت لهباً صغيراً يكفي لإشعال السيكارة، وهاهو يحاول جاهداً أن يبقى يده ثابتة لكي تشتعل ومرة بعد مرة ويده المترتجفة التي تظل ترتفع وتنخفض من التواءات الطريق وتعرجاته وارتفاعاته وانخفاضاته حتى يكاد رأسه أن يضرب بسقف السيارة....

امتدت يد السائق وأخذ يحرك إبرة الراديو حتى ثبتت في نفس المكان ونفس الموعد حتى أنه كانت المذيعة ذاتها تذيع البرامج الصباحية وفي كل يوم وهي تعيد البرامج والأخبار نفسها....
وأخذ ذلك المتكوم في ذلك الكرسي المهترئ ينفخ الدخان المتموج ويخرج معه تنهدات عميقة من ذلك الصدر الممتلئ حتى الثمالة، وأخذ الباص يقترب من مكان عمله بين آبار النفط وشعلة النار تكبر شيئاً فشئياً وهي تحرق مئات الأطنان من الغاز في الهواء في حين أن ولاعته فارغة منه....
وفي نظرات متثاقلة أخذ ينظر من زجاج النافذة وعندها أخذ قطر الحدقة يصغر وتجعدات وجهه التي حفرها الزمان تزداد أكثر فأكثر وانكمش في مكانه وارتفعت يده إلى الزجاج وهو يشد أصابعها بقوة عليها...

ذلك هو البيت الكبير وحوله الحقول المترامية إلى أقصى ما يستطيع النظر، ومدخنة لا تتوقف وسيارة لا تدري طولها، وزجاج معتم لا تعلم ما وراءه وكل ما يعرفه الإنسان العصري ، وها هو المالك ينزل الدرجات بتثاقل وفي تلك اللحظة دارت عجلة الناعورة دورة كاملة وتقابلت الوجوه وتقابلت النظرات ، شخص ذاهب لعمله الذي يبعد مئات الأميال عن بيته وآخر متهدل الكرش والقبعة الأمريكية على رأسه وهو ذاهب لمداراة أمواله الحمراء التي لا تستطيع أن تقرضها تلك الفئران الجائعة
ونفس السيكارة في فم ذلك المترنح في ذلك الباص وذلك الذي يفتح السيارة الفارهة إلا أن الأولى كانت رمادية هزيلة والثانية كانت صفراء ثخينة...

وارتفع صوت الناعورة إلى أطراف السماء ساخرة هازئة ليرن صدى صوتها في جداول الدماء دون أن ينقطع وريد واحد أو يتفجر صوت نائم ويبقى صوت الناعورة يرن في الأذهان وتظل دائماً في مكانها تدور وتدور وتدور

طارق شفيق حقي
8 آذار 1997
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
قصة

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق

Trackbacks