مشاهدة تغذيات RSS

طارق شفيق حقي

فنجان قهوة

تقييم هذا المقال

فنجان قهوة


-1-





أخذت رائحة القهوة تعبق في أرجاء الغرفة ممتزجة مع شكل نباتات الزينة التي تسلقت على القصب الأصفر بعد أن رشت بالماء فأضاف إلى شكلها الجميل حيوية الماء حيث كانت القطرات تنقط من الأوراق تنقيطاً خلاباً.

دخلت أم حسان حاملة القهوة لضيفتها سوسن وتابعتا حديثهما الذي انقطع فترة إعداد القهوة,قالت سوسن: أيحدث هذا كثيراً لزوجك , هزت أم حسان رأسها بتؤدة وأجابت: نعم وأكثر من ذلك , يا لهذه العادة التي ضقت ذرعاً بها ,اسمعي هذه القصة التي حدثت معه حين كان يتابع أعماله في فرنسا فقد كان ذاهباً إلى مدينة ( تولوز) في القطار, وتعرفين يا سوسن القطارات هناك سريعة وفاخرة , كان قد حجز في مقصورة لاثنين , وحالما دخل المقصورة ,جلس مقابلاً لرجل كان يلبس معطفاً ,ويلف وجهه بوشاح, ويضع قبعة على رأسه ,ويحمل عصاً بيده مخفياً عينيه وراء نظارة سوداء فتح زوجي صحيفته وبدأ يتلذذ كعادته بقراءة إحدى القصص بالرغم من أن لغته ليس قوية جداً لكنه يتفاخر دائماً حين يرطن بكلمات فرنسية لا أعرف معناها , وبدأت عيناه تتابعان الكلمات إلى أن لفت انتباهه خبر عنون بخبر هام ,لقد فر صباح اليوم مجرم خطير عرف بحياة إجرامية طويلة ,وقد كان يقضي عقوبة الحبس مدى الحياة إثر قتله لثلاثة عمال ورميهم في جبلة الإسمنت, وهو رجل ضخم الجثة عريض الكتفين يخفي ملامحه بارتدائه معطفاً طويلاً وقبعة كبيرة....

ارتعدت أوصال أبو حسان وشدت أصابعه على الجريدة حين تذكر أوصاف شريكه في المقصورة ,فأنزل الجريدة قليلاً ورفعها سريعاً يا إلهي إنها نفس الأوصاف أيكون هو ؟ ...ما هذا المأزق الذي وقعت فيه , إنه ذو المعطف الأسود والقبعة السوداء, ولا بد أن يخفي أسلحة تحت هذا المعطف ولا يتوانى أن يغرقني في دمائي قبل أن أنبس ببت شفة ,فهو سفاح فار من عقوبة السجن مدى الحياة , أخذ وجه حسان يصفر ويحمر والعرق يقطر من أنفه , بينما عيناه تتابعان قراءة الخبر وقد اشتهر السفاح بأنه يقضي على ضحاياه بأساليب غاية في الإتقان فهو يصنع أسلحة خاصة به ... عضت أسنان أبو حسان على شفتيه وشدت أصابعه على الجريدة أكثر وتفكيره يتخبط من هذا المآزق الذي وقع فيه ... فألقى نظرة خاطفة .. ياله من سفاح ذكي إنه يخفض رأسه كي لا يشعرني بأي شيء ...ماذا سأفعل قد يأخذني رهينة وفي النهاية يقتلني ويرميني في النهر ,هكذا تكون النهاية في الأفلام الأجنبية... وهذه العصا التي يحملها لعلها من مبتكراته فلربما يضع فيها أداة حادة مشربة بالسم القاتل, أو مسدساً خاصاً يموه به الآخرين...ماذا أفعل...ما الذي جاء بي إلى هنا إنها بلاد خطرة ولا يأمن الواحد على نفسه حتى ولو كان في غرفة مؤصدة بألف قفل وقفل... حسناً سأتابع القراءة فلربما أنسي نفسي بها , رشفت أم حسان رشفة قهوة مغمضة عينيها بطريقة أرستقراطية وهي تضع رجلاً على رجل وتابعت حديثها بثقة.


-2-


وحين توقف القطار في محطة تولوز وقف الرجل الضخم وأخذ يضرب بالعصا أمامه يميناً ويساراً مستدلاً على طريقه بها ... أنزل أبو حسان الجريدة وجحظ بعينيه حين شاهد الرجل يستدل على الطريق بعصاه... وبعد أو وصل إلى الباب قفل راجعاً ,وجلس في مكانه مرة أخرى... لم يتمالك أبو حسان نفسه وشهق شهقة كبيرة أتبعها بسلسة من الضحكات المبتورة , أمسك نفسه بعدها وهو يضع يده على فمه من طرافة الموقف السخيف الذي وضع نفسه فيه جراء وساوس صغيرة لا أصل لها ,وقال في نفسه من أجل أعمى ... كم أنا غبي...نظر إلى الأعمى أمامه ,وحرك يده أمام وجهه ثم حرك يده الأخرى ,وهو يبتسم ابتسامة عارمة بعد ذلك الضغط النفسي الذي حل به , ثم جعل يده على شكل مسدس, وأخذ يؤشر إلى رأس الرجل ويبتسم ابتسامات كبيرة مفرغاً تلك الشحنات ,ويجعل يده الثانية على شكل مسدس يقربها من وجه الأعمى الذي لم يتحرك قيد أنملة, ويهز يده كأنه يطلق الرصاص ثم ينفخ في فوهة مسدسه.
-3-



وفجأة دخل ثلاثة من الشرطة الفرنسية وقبضوا على ذلك الأعمى الذي حاول التملص فلم يستطع ,وبعد أن جرده الشرطي الثالث من الأسلحة التي كانت تحت معطفه وأخذ العصا منه خلع النظارة عن وجهه وقال له : أتحسب نفسك تخدعنا بهذا الأسلوب أيها السفاح, وحالما خرج الشرطة من المقصورة متأبطين ذراعي السفاح نظر أبو حسان المصعوق إلى يده التي كانت على شكل مسدس وانقلب مغمياً عليه.
ضحكت سوسن وقد أنزلت فنجانها إثر بقائه بقرب شفتها دون أن ترشف منه شيئاً حيث كانت تترقب الكلمات من شفتي أم حسان بشغف واضح وتابعت أم حسان حديثها بعد أن حركت فنجان القهوة وقلبته على رأسه.


-4-



تخيلي يا سوسن لقد فاته أن ينزل في ( تولوز) ووصل إلى مدينة ( بوردو) بسبب خياله الذي قاده إلى هذه الأفكار حين كان يقرأ قصة قصيرة بعنوان السفاح...ماذا أفعل معه على هذه العادة يا سوسن لا أدري.
وبعد أن أنهت الصديقتان قراءة فنجان القهوة خرجت سوسن مودعة صديقتها العزيزة مستغربة كل الاستغراب من عادة أبو حسان وما إن وصلت إلى رأس الشارع حتى توقفت أمامها سيارة أجرة , نزل منها أبو حسان
ألقت عليه التحية وقالت: وما أخبار فرنسا والسفاحين يا أبا حسان؟


-5-



قطب أبو حسان حاجبيه وتمتم: فرنسا ... السفاحين ... ثم هز رأسه وقال: لن تترك زوجتي عادتها أبداً !!؟



حلب 17/8/1999
طارق شفيق حقي
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
قصة

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق

Trackbacks