مشاهدة تغذيات RSS

طارق شفيق حقي

البائع الصغير

تقييم هذا المقال
البائع الصغير


وسط المنطقة الراقية كان يضع بسطته يبيع أغراضه القليلة .. في البرد القارس ، في الحر ، في مختلف الأنواء الجوية .. يشعل ناراً.. يدخل يديه في جيبيه ..يراوح مكانه ..


ينام منهكاً من التعب وقد لف نفسه بسترة بالية وقد تقوقع على بعضه .. كنت أراقبه مع سكان حينا الراقي ونشتري منه شيئاً أو شيئين وهو دائم التبسم . قررنا مرة نحن سكان الحي بعد أن تناقشنا بأمره أن نقدم له النصح والإرشاد فهو بالتأكيد يفتقد أصول التربية الحديثة كما رأينا ، كنت أقول لهم : إني رأيته يشرب مرة سيكارة . جاري صاحب المعمل قال: كنت أراه يشتم ويسب ، جاري الفاحش الثراء وأردف وأنا رأيته يعاكس

فتاة ... واتفقنا أن نوجه له النصح فهو بعمر أولادنا . وبعد أن اجتمعنا في مكتبي وقد مثل أمامنا كان كل منا يسأله سؤالاً أو سؤالين ويتكلم طويلاً عن أحوال البيع والشراء وأن السب عيب والكفر حرام وتحدثنا عن الأخلاق والدين والحكمة وأشياء أخرى.


وبكثير من التكلف والتصنع حاولوا الاهتمام به متناقلين النصح بكثير من التأنق وهو واقف بجانب الباب يخفض رأسه .. ينظر نظرات خجلى .. يراقب أحياناً الأثاث في المكتب مبهوراً به ولوهلة شعر الصغير بحنانهم وبدفء هذه الغرفة إذ كان واقفاً
بجانب المدفأة الفارهة.....و هو غير المعتاد على هذه الأجواء فأغلب يومه يمضيه في العراء ... مد جاري يده إلى نقوده وقلب أوراقا كثيرة ثم انتزع ورقة مهترئة من فئة الخمسين ليرة ودسها في يده وقد تظاهر بكثير من الخشوع وبعد أن انتهوا فتح الصغير الباب يريد الخروج وهم يردفون بنصيحة عجلى أو إرشاد متكلف وقد غمرهم الرضا وحين أصبح نصف جسد الصغير خارج المكتب شعر بالفرق بين الجوين خرج وكان يتوقع أن يلسعه البرد بعد دفء الغرفة لكنه شعر فجأة بأن الجو الخارجي قد احتضنه فقال في سره إن الدفء هنا أكبر ، وظل هائماً على وجهه ناسياً بسطته وسط هذا الجو القارس .. في آخر الليل عاد إلى بيته كانت أمه تنتظره على باب البيت حزينة حزناً غير اعتيادي وقد تذكرت زوجها المتوفى ترفع صوتها تسكت صغارها الجائعين وقالت له حين أصبح أمامها : ما بالك يا ولدي ترتجف وضمته إلى صدرها وهو ما زال يردد : دفء ربي أكبر ... دفء ربي اكبر كان يشعر بالدفء بالرغم من أن جسده قد تثلج وكأن هالة أحيطت به وهو يمشي لا جسده الخارجي إنما بروحه.... وأصابته ليلتها حمى شديدة


وظل يردد طيلة الليل دفء ربي أكبر دفء ربي أكبر وأمه محتارة ماذا تفعل بشأنه
في الصباح عرفنا نحن سكان الحي الراقي أمر البائع الصغير فذهبنا إلى بيته كانت أمه تبكي دخلنا إليه كان قد فارق الحياة وقد ترك بسمة على شفتيه الصغيرتين ورنت صدى كلماته في المكان : دفء ربي أكبر بعد أن أنهينا مراسم الدفن عدنا إلى مكتبي لنتناقش بأمره فشاهدنا على باب المكتب ورقة الخمسين ليرة المهترئة.
حلب 15/12/2002
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
قصة

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق

Trackbacks