• الانتفاضات العربية والتعددية الثقافية

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الانتفاضات العربية والتعددية الثقافية

    عوني صادق

    الدماء التي سالت، ولا تزال تسيل في الشوارع العربية منذ مطلع العام الجاري، وهي تعبد الطريق أمام انتفاضات شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية وإسقاط أنظمة الاستبداد والفساد، إنما تهدف في نهاية المطاف إلى خلق وتوفير ظروف تساعد على إدخال تغييرات نوعية وجوهرية على البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، توفر للإنسان العربي فرصة ولو صغيرة لحياة حرة كريمة وإنسانية، سواء سقطت الأنظمة القائمة أو بقيت. وكما نرى، يوضع ذلك كله تحت يافطة "الديمقراطية والتحول الديمقراطي"، والحقيقة أن ما جرى ويجرى فتح الأبواب على آمال وتطلعات كبيرة بقدر ما فتحه على مخاوف ومخاطر ليست قليلة، خصوصا إذا أخذنا "التعثر" الحاصل في الاعتبار. وهناك من الأمور ما كان يتوجب أن يكون واضحا للجميع.



    فالديمقراطية، أولا، ليست نظاما، لكنها آلية، يمكن أن يستخدمها أي نظام. وثانيا، لا يجوز لمن يعتمد الديمقراطية كآلية للعمل أن يكون انتقائيا، يقبل بها في قضية ويرفضها في قضية أخرى، أي أن من يقبل الديمقراطية كآلية لحل قضية معينة عليه أن يقبلها في كل القضايا التي تواجهه. وثالثا، الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كلها مقولات يمكن أن تكون غايات في حد ذاتها بالنسبة لمن يرفعها أو يؤيدها، ويمكن أن تكون مجرد شعارات ليست مقصودة بذاتها أو لذاتها بل أغطية لأهداف وأغراض أخرى، قد تكون بالتضاد التام مع هذه المقولات. وما زلنا نذكر كيف أن الغزو الأنجلو- أميركي للعراق واحتلاله في العام 2003 تم باسم "نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان"، واليوم نرى ما جلبه ذلك على العراق وشعب العراق من مآس ودمار وطائفية ومحاصصة، وضعت العراق أو تضعه أمام التقسيم والتفتيت والتبعية طويلة الأمد.



    والحديث عن الديمقراطية، ثانيا، يفرض الحديث عن حقوق الانسان، وكلاهما يحيل على التعددية الثقافية. والوطن العربي يضم تعددا ثقافيا واسعا في الأقليات الدينية والعرقية يمكن أن يكون، وقد كان بالفعل في ظل الدولة العربية الإسلامية، مصدرا لغنى ثقافي وحضاري خصب، بل وغنى اقتصادي واجتماعي أيضا. لكن التجربة منذ وطأ الغرب الاستعماري الأرض العربية تفيد بأن جهدا دؤوبا بوشر لتحويل مصادر الغنى إلى مصادر وعوامل ضعف قابلة للاستغلال لغير مصالح الشعوب في البلدان العربية في غياب القوة والسيادة. وقد حرصت اتفاقية سايكس- بيكو، مثلا، التي رسمت الحدود بين الدول العربية على أن تبقي "بذور وأسباب الخلاف، وأحيانا بذور وأسباب الصراع" دائمة ومتحركة في هذه البلدان، وكثيرا ما استغلتها الدول الاستعمارية، خصوصا بريطانيا، صاحبة سياسة "فرق تسد"، لتنفيذ "وعد بلفور" الذي أقام الكيان الصهيوني في فلسطين.



    لقد اندلعت الانتفاضات العربية الحالية بعد أن طفح كيل الظلم والاستبداد، وعم الفقر حتى وصل الجوع. وعندما انطلقت الجماهير إلى الشوارع لم تكن لديها قيادة أو خطة تنير لها الطريق، بينما الأنظمة الحاكمة لا تريد التخلي عن امتيازاتها و "مزارعها" ولم يكن لديها إلا الحل العسكري لمواجهة المسالمين العزل، ما جعل الالتفاف على الانتفاضتين الناجحتين في تونس ومصر ممكنا، بينما جعل التدخل الأجنبي في البلدان الأخرى المنتفضة شعوبها في متناول يد العدو الخارجي إن أراد، وترك الأبواب مفتوحة لتشويه التحركات الشعبية أو ركوبها لكل من أراد.



    إن أكثر المتربصين بالأمة العربية، وأكثر المستفيدين من عثراتها، هو الكيان الصهيوني الذي يجهد دائما لاستغلال نقاط الضعف فيها، وتحويل إيجابياتها إلى سلبيات، وهو اليوم ينتظر أن تحمل له هذه الانتفاضات الشعبية ما يتمنى. لقد فرح الصهاينة بانفصال جنوب السودان، وهم يرونه نموذجا لما يجب أن يحدث في بلدان عربية أخرى، مبشرين بما يسمونه "انحلال الأمة العربية" عبر هذه الانتفاضات، ومستندين إلى تعدديتها الثقافية بالذات. من هؤلاء الكاتب الإسرائيلي إلداد باك الذي كتب في صحيفة (يديعوت أحرونوت- 11/7/2011) يقول: "التحول الديمقراطي الحقيقي، إذا ما حدث حقا للشرق الأوسط، يتناقض تناقضا تاما مع فكرة (عالم عربي) في المنطقة. فالتحول الديمقراطي الحقيقي يوجب الاعتراف بوجود جماعات وأقليات دينية وثقافية وبحقوقها الكاملة". المثير للانتباه أن يصدر هذا الكلام عن صهيوني يعيش في كيان لا يعترف بأي من حقوق الشعب الذي يخضع لاحتلاله سواء في أراضي 48 أو أراضي 67، وكأنه لا يسمع بما تفعله حكومته، ولا يقرأ ما يكتبه بعض زملائه في صحفهم.

    لكن القضية الأساسية، بمعزل عما يقوله المأفونون، تبقى كما هي بالنسبة للانتفاضات الشعبية العربية. وبقدر ما يكون الهدف أن يتم التغيير على أسس تعترف وتحترم مبدأ المواطنة، وليس على أسس الدين أو العرق أو الجنس، بقدر ما تكون التحولات الجارية سائرة في الطريق الصحيح. وهذه مسألة يجب أن تكون واضحة قبل وبعد أن تغير الشعوب الأوضاع او تسقط الأنظمة القائمة. ما يحدث في تونس، وكذلك ما يحدث في مصر، وما يطلق فيها من "فزاعات"، يخيف الكثيرين ويسهل عمليات الالتفاف على من نجح، وعمليات التخريب والإجهاض لمن لم ينجح بعد. فمثلا، من تلك "الفزاعات" تأتي قضية "الأسلمة" في المقدمة، وما حدث في ما سمي "جمعة لم الشمل" في ميدان التحرير بالقاهرة مثال على ما يمكن أن تؤدي إليه من فرقة وضياع للأهداف تتيح لكل من يريد أو يلتف أن يحقق غرضه.



    مطلوب أن لا تضيع الدماء التي سالت، وذلك بارتقاء أصحاب المصلحة إلى مستوى المهمة التي سالت من أجلها.

    شبكة البصرة
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.